المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية15%

المذاهب الإسلامية مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 377

المذاهب الإسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210599 / تحميل: 9269
الحجم الحجم الحجم
المذاهب الإسلامية

المذاهب الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٤

الماتريدية

في الوقت الّذي ظهر مذهب الإمام الأشعري بطابع الفرعيّة لمذهب أهل الحديث، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها، وإقصاء المعتزلة عن الساحة الإسلامية، وهو مذهب الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى ٣٣٣هـ)؛ أي بعد ٩ أو ثلاثة أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

والداعيان كانا في عصر واحد، ويعملان على صعيد واحد، ولم تكن بينهما أيّة صلة، فالإمام الأشعري كان يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق، متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه، والماتريدي ينازل المعتزلة في أقصى الشرق الإسلامي (ماوراء النهر)، متقلّداً رأي الإمام أبي حنيفة في الفقه، فكانت البصرة يومذاك محط الأهواء والعقائد ومَعْقَلِها، كما كانت أرض خُراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم.

منهج الإمام الماتريدي موروث عن أبي حنيفة:

المنهج الّذي اختاره الماتريدي، وأرسى قواعده، وأوضح براهينه،

٦١

هو المنهج الموروث عن أبي حنيفة (المتوفّى ١٥٠هـ) في العقائد، والكلام، والفقه ومبادئه، والتاريخ يحدثنا أنّ أبا حنيفة كان صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه، وقبل اتّصاله بحمّاد بن أبي سليمان الّذي أخذ عنه الفقه.

وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر، بل معاصره أبو جعفر الطحاوي صاحب (العقيدة الطحاوية) (المتوفّى ٣٢١هـ) مقتفٍ أثر أبي حنيفة، حتّى عَنْوَن صدر رسالته المعروفة (بالعقيدة الطحاوية) بقوله: (بيان عقيدة فقهاء الملّة): أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن. (١)

لمحة إلى سيرة الماتريدي:

اتفق المترجمون له على أنّه توفّى عام ٣٣٣هـ، ولم يعيّنوا ميلاده، لكن القرائن تشهد أنّه من مواليد عام ٢٤٨هـ، وقد ولد بـ (ماتريد)، وهي من توابع سمرقند في بلاد في ماوراء نهر جيحون، ويوصف بالماتريدي تارة، وبالسمرقندي أُخرى، ونسبه ينتهي إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري مضيّف النبيّ في دار الهجرة.

مشايخه:

قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ، هم:

١ - أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

٢ - أبو نصر أحمد بن العياضي.

____________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية: ٢٥.

٦٢

٣ - نصير بن يحيى، تلميذ حفص بن سالم (أبو مقاتل).

٤ - محمد بن مقاتل الرازي.

قال الزبيدي: تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي. ومن شيوخه الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق والتمييز، ومن مشايخه محمد بن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهو من تلاميذ أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني.

وأمّا شيخه الرابع - أعني: محمد بن مقاتل ـ؛ فقد تخرَّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة، وعلى ذلك، فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاثة وسائط، وأُخرى بواسطتين، فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث، وعن طريق الثالث بواسطتين. (١)

تلاميذه:

تخرّج عليه عدة من العلماء، منهم:

١ - أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (المتوفّى ٣٤٠هـ).

٢ - أبو الليث البخاري.

٣ - أبو محمد عبد الكريم بن موسى البزدوي، جدّ محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف (أُصول الدين).

____________________

(١) إتحاف السادة المتّقين: ٢/٥.

٦٣

مصنّفاته:

سجَّل المترجمون للماتريدي كُتُباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والإمعان والتحقيق، غير أنّ الحوادث لعبت بها، ولم يبقَ منها إلاّ ثلاثة:

١ - كتاب (التوحيد) وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريديّة وشيوخها، الّذين جاءوا بعد الماتريدي، واعتنقوا مذهبه، وهو يستمد في دعم آرائه من الكتاب والسنّة والعقل، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل.

وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح الله خليف عام ١٣٩٠هـ، وطبع الكتاب في بيروت مع فهارسه في ٤١٢ الصّفحة.

٢ - (تأويلات أهل السنّة) في تفسير القرآن الكريم، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنّية، وقد مزجه بآرائه الفقهيّة والأُصوليّة وآراء أُستاذه الإمام أبي حنيفة، فصار بذلك تفسيراً عقائديّاً فقهيّاً، وهو تفسير عام لجميع السور، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين إلى آخر القرآن، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية ١١٤ من سورة البقرة.

حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين، وطبع في القاهرة عام ١٣٩٠هـ.

وأمّا كُتبه الأُخرى، فإليك بيانها:

٣ - المقالات.

٤ - مآخذ الشرائع.

٥ - الجدل في أُصول الفقه.

٦٤

٦ - بيان وهم المعتزلة.

٧ - رد كتاب الأُصول الخمسة للباهلي.

٨ - كتاب رد الإمامة.

٩ - الرد على أُصول القرامطة.

١٠ - رد تهذيب الجدل للكعبي.

إذا عرفت مؤسّس المذهب وشيوخه وتلامذته ومؤلّفاته، فلنعرج على أُصول المذهب الماتريدي، فنقول:

إنّ المذهب الأشعري والماتريدي يتحرّكان في فلك واحد، وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة والوقوف في وجه المعتزلة، ومع ذلك لا يمكن أن يتّفقان في جميع الأُصول الرئيسيّة، فضلاً عن التفاريع؛ وذلك لأنّ الأشعري اختار مذهب الإمام أحمد، وطابع منهجه هو الجمود على الظواهر وعدم العناية بالعقل والبرهان.

وأمّا الماتريدي، فقد تربّى على منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة، ويعلو على ذلك المنهج الطابع العقلي والاستدلالي، كيف ومن أُسس منهجه الفقهي هو العمل بالقياس والاستحسان.

وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الأُصول.

والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آراء الماتريدي في كثير من المسائل الكلاميّة، أنّ منهجه كان يتمتّع بسِمَات ثلاث:

١ - إنّ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر، ومجالاً أوسع، وذلك هو الحجر الأساس للسِمَتين الأخيرتين.

٦٥

٢ - إنّ منهج الماتريدي أبعد عن التشبيه والتجسيم من الأشعري، وأقرب إلى التنزيه.

٣ - إنّه وإن كان يّشُنُّ هجوماً عنيفاً على المعتزلة، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

وإليك بيان بعض الفوارق بين المنهجين:

١. معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

اختلف المتكلّمون في وجوب المعرفة، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعي؛ بمعنى أنّه أمَرَ سبحانه بمعرفته، والمعتزلة على أنّه عقلي.

وأمّا الماتريدي، فيقول: هو كالمعتزلة في وجوبها عقلاً، قال البياضي:

ويجب بمجرد العقل في مدَّة الاستدلال، معرفة وجوده تعالى، ووحدته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر والتكذيب به، لا من البعثة (١) وبلوغ الدعوة. (٢)

إنّ القول بوجوب هذه الأُمور من جانب العقل مِن قَبْل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور، يُعرب عن كون الداعي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري له.

____________________

(١) كذا في المصدر، والظاهر زيادة (لا)؛ والصحيح: (من البعثة).

(٢) إشارات المرام: ٥٣.

٦٦

٢. الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليّين:

قد أنكر الشيخ الأشعري التحسين والتقبيح العقليّين حذراً من أنّ القول به تحديد لقدرة الله سبحانه وإرادته، ولكنّ الماتريدي قال بالتحسين والتقبيح العقليّين في الجملة، قال البياضي:

والحسن بمعنى استحقاق المدح والثواب، والقبيح بمعنى استحقاق الذم والعقاب على التكذيب عنده (أبو منصور الماتريدي) إجمالاً عقلي، أي يُعْلَم به حُكْم الصانع - إلى أن قال: ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع ولا العفو عن الكفر عقلاً، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه. (١)

وعلى ضوء ذلك فقد اعترف الماتريدي بما هو المهم في باب التحسين والتقبيح العقليّين؛ أعني:

أوّلاً: استقلال العقل بالمدح والذم في بعض الأفعال .

وثانيا ً: استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً، فلا يجوز عليه تعذيب المُطيع.

نعم أنكر الشيخ الماتريدي إيجاب العقل للحسن والقبح.

٣. التكليف بما لا يطاق:

ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لا يُطاق، ولكن الماتريدي يقول

____________________

(١) إشارات المرام، فصل الخلافيّات بين الماتريدية والأشاعرة، ٥٤.

٦٧

بخلافه، قال البياضي: ولا يجوز التكليف بما لا يُطاق لعدم القدرة أو لعدم الشرط. (١)

هذا ما نقله البياضي عن الماتريدية، وأمّا نفس الإمام أبي منصور الماتريدي، فقد فصَّل في كتابه (التوحيد)، بين مضيّع القدرة فيجوز تكليفه، وبين غيره فلا يجوز.

قال: إنّ تكليف من مُنِع عن الطاقة فاسد في العقل، وأمّا من ضيَّع القوة، فهو حق أن يُكلَّف مثلُه، ولو كان لا يُكلَّف مثلُه، لكان لا يُكلَّف إلاّ من مطيع. (٢)

٤. أفعال الله سبحانه معلّلة بالأغراض:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض، وأنّه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح عليه شيء، واستدّلوا على ذلك بما يلي:

لو كان فعله تعالى لغرض، لكان ناقصاً لذاته، مستكْمِلاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه، وهو معنى الكمال. (٣)

وقالت الماتريدية: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحِكَم؛ تفضّلاً على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح. واختاره صاحب المقاصد. (٤)

____________________

(١) المصدر السابق: ٥٤.

(٢) التوحيد: ٢٦٦.

(٣) المواقف: ٣٣١.

(٤) إشارات المرام: ٥٤.

٦٨

٥. الصفات الخبرية:

إنّ تفسير الصفات الخبرية - كالاستواء واليد والعين - أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين، فأهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها، ولذلك اشتهروا بالصفاتيّة، في مقابل المعتزلة الّذين يؤوّلونها، ولا يثبتونها بما يتبادر منها في ظواهرها.

وأقصى ما عند الأشاعرة في إثباتها لله سبحانه هو إثباتها بلا كيفيّة، وإنّه سبحانه مستوٍ على العرش بلا كيفيّة، وله يد بلا كيفيّة، وهكذا سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنّة. وهم في هذا المقام يتذرّعون بقولهم: (بلا كيف، وبلا تشبيه).

وأمّا الماتريدية، فالظاهر أنّ منهجهم هو التنزيه، ظاهراً وباطناً، ولكنّهم بين مفوِّضٍ معانيها لله سبحانه أو مفسِّرٍ لها مثل العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.

مثلاً؛ يقول أبو منصور - أحد أقطاب الماتريدية: ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان - للجلوس أو القيام - شرف ولا علوّ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء، كمن يعلو السطوح والجبال فإنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه، مع ما فيها من ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: ( إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّماوَاتِ والْأَرْضَ ) (١) ، فذلك على تعظيم العرش. (٢)

____________________

(١) الأعراف: ٥٤.

(٢) التوحيد: ٦٩ و٧٠.

٦٩

وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري أحمد أمين حول عقيدة الأشاعرة في الصفات الخبريّة، قال:

وأمّا الأشاعرة، فقالوا: إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة، والنزول عن البرد والعطاء، والضحك عن عفوه. (١)

وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة، لا الأشاعرة ولا الماتريدية، فالمعتزلة هم المؤوِّلة، يؤوّلون الصفات بما ذكره، والأشاعرة من المثْبِتة، لكن بقيد (بلا كيف)، والماتريدية هم المفوِّضة، يفوّضون معانيها إلى قائلها.

٦. صفاته عين ذاته:

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ صفاته سبحانه زائدة على ذاته، وأمّا الماتريدية فذهبوا إلى ما اختارته العدليّة من عينيّة الصفات للذّات، يقول النسفي - الّذي هو من الماتريدية:

ثُمَّ اعلم أنّ عبارة متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة، أن يقال: إنّ الله تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة؛ احترازاً عمّا تُوهم أنّ العلم آلة وأداة؛ يقولون: إنّ الله تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، والشيخ أبو منصور الماتريدي يقول: إنّ الله عالم بذاته، حيٌّ بذاته، قادر بذاته، ولا يُرِيد منه نفي الصفات؛ لأنّه أَثْبَت الصفات في جميع مصنّفاته، وأتى بالدلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا

____________________

(١) ظهر الإسلام: ٤/ ٩٤، ط الثالثة، عام ١٩٦٤.

٧٠

محيص للخصوم عن ذلك، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأنّ ذاته يستحيل أن لا يكون عالماً. (١)

هذه نماذج ممّا اختلفت فيها الماتريدية والأشاعرة، وإن كان مورد الاختلاف أكثر من ذلك.

وبذلك ظهر أنّ جنوح الماتريدية إلى العدليّة أكثر من الأشاعرة.

أعيان الماتريدية:

قد عَرفت أنّ مؤسّس الماتريدي هو الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى عام ٣٣٣هـ)، وقد ربّى جيلاً وأنصاراً قاموا بنصرة المذهب ونشره وإشاعته، وإليك بعض أعلام مذهبه:

١ - القاضي الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي (٤٢١ - ٤٩٣هـ)، له كتاب (أُصول الدين).

٢ - أبو المعين النسفي (المتوفّى ٥٠٢هـ)، وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب، له كتاب (تبصرة الأدّلة) الّذي مازال مخطوطاً حتّى الآن، ويُعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب (التوحيد) للماتريدية.

٣ - الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي (المتوفّى ٥٣٧هـ)، مؤلّف (عقائد النسفي)، ومازال هذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر إلى يومنا هذا.

____________________

(١) العقائد النسفيّة: ٧٦.

٧١

٤ - الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني (المتوفّى ٧٩١هـ)، أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة والمنطق والكلام، وهو شارح (العقائد النسفيّة).

٥ - الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام (المتوفّى ٨٦١هـ)، صاحب كتاب (المسايرة) في علم الكلام. نشره وشرحه محمد محيي الدين عبد الحميد، وطبع بالقاهرة.

٦ - العلاّمة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي، مؤلّف كتاب (إشارات المرام من عبارات الإمام)، أحد علماء القرن الحادي عشر الهجري، ويُعدّ كتابه هذا أحد مصادر الماتريدية.

٧ - الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري (المتوفّى ١٣٧٢هـ)، وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة، أحد المتضلّعين في الحديث والتاريخ والملل والنحل.

٧٢

٥

المرجئة

وهو مأخوذ من الإرجاء، بمعنى: التأخير، وقد قيل في تسمية هؤلاء بالمرجئة أنّهم يقدّمون الإيمان ويؤخّرون العمل، فالإيمان عندهم عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول، وإن لم يكن مصاحِباً للعمل، فأخذوا منه جانب القول وطردوا جانب العمل، فاشتهروا بالمرجئة؛ أي المؤخِّرة، وشعارهم: (لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة)، وهؤلاء والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الإيمان، وترى العاصي مؤمناً وإن ترك الصلاة والصوم، ولكن الخوارج يضيّقون الأمر، فيرون مرتكب الكبيرة كافراً مخلَّداً في النار.

ويقابلهما المعتزلة؛ فإنّ مرتكب الكبيرة عندهم لا مؤمن ولا فاسق، بل في منزلة بين الأمرين، فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

والمعروف بين المسلمين أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق. وبتقييد الإيمان بالفسق خالفت المرجئةُ، وبوصفه بالإيمان خالفوا الخوارج والمعتزلة.

والحاصل: إنّ تحديد الإيمان بالإقرار دون العمل، أو تحديده بالمعرفة القلبية دون القيام بالأركان، يعدّ ركناً ركيناً لهذه الطائفة، بحيث

٧٣

كلّما أُطلقت المرجئة، لا يتبادر منها إلاّ من تبنّى هذا المعنى.

ثم إنّهم رتّبوا على تلك العقيدة أُموراً:

١ - إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك، وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثُر ويقل.

٢ - إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة؛ لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الاتّصاف بالإيمان. وهؤلاء - في هذه العقيدة - يخالفون[ طائفتي] الخوارج والمعتزلة.

أمّا الأُولى: فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثِّراً في الإيمان؛ بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.

وأمّا الثانية: فلأنّهم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفُّ وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الإيمان.

٣ - إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلَّد في النار وإن لم يتب، ولا يُحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً؛ لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب، وإنّ من مات بلا توبة يدخل النار، وقد كتبه الله على نفسه، فلا يعفو. (١)

____________________

(١) لاحظ: مقالات الإسلاميين، ١٢٦ - ١٤٧.

٧٤

مؤسّس المرجئة:

إنّ التاريخ لم يسجّل مبدأ تكوّن فكرة الإرجاء، والمؤرّخون ينسبونه إلى الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى عام ٩٩هـ)، ولكنّه بعدُ غيرُ ثابتٍ، وعلى فرض ثبوته، فالإرجاء الّذي قال به غير الإرجاء المعروف، فقد نقلوا عنه أنّه تُكُلِّم في عليّ وعثمان وطلحة والزبير في محضره، فأكثروا وهو ساكت، ثم تكلَّم؛ فقال: قد سمعت مقالكم، أرى أن يُرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فلا يُتولّى ولا يُتبرّى منهم. (١)

غير أنّ الإرجاء الّذي تكلّم فيه الحسن بن محمد غير الإرجاء المعروف عند أهل السنّة المتعلّق بالإيمان، فإنّ الإرجاء عند أهل السنّة هو تقديم الإيمان وتأخير العمل، ولعل الحافز لابن الحنفية إلى ترويج الإرجاء بالمعنى المذكور، هو إيقاف الهجمة على جدِّه أمير المؤمنين، والله أعلم.

ولعلّ الإرجاء بالمعنى الأوّل، الّذي صدر عن ابن الحنفية عن غاية صحيحة، صار أساساً للمعنى الثاني، أمّا تقديم الإيمان وتأخير العمل، فقد استعمله الأُمويّون؛ لتبرئتهم حيث كانوا غارقين في العصيان والفساد.

وبذلك يُعلم أنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حق بعض الصحابة، لكن نُسي الإرجاء بهذا المعنى وأخذ أصل آخر مكانه، وهو تحديد الإيمان بالإقرار دون العمل، أو المعرفة القلبية دون القيام بالأركان.

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر: ٤/٣٤٦، ط دمشق، ١٣٣٢هـ.

٧٥

ولمّا كان كلا الأصلين لصالح الأُمويّين؛ حيث يلزم التوقّف في حق عثمان وأعماله؛ كما أنّه يبرِّر ما اقترفه الأُمويّون من الجرائم، أخذوا يروّجونه بحماس.

خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:

إنّ تجريد الإيمان من العمل فكرة خاطئة، تَسير بالمجتمع - وخصوصاً الشباب - إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم، بحجّة أنّه يكفي في اتّصاف الإنسان بالإيمان وانخراطه في مسلك المؤمنين الإقرار باللسان أو الإذعان بالقلب، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة، ولا يضرّه شرب الخمر وفعل الميسر، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.

ولو قُدِّر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع، لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه ومن الدين إلاّ اسمه، ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعيّاً، اتّخذها واجهة لما يكنّ في ضميره.

ولقد شعر أئمَّة أهل البيت (عليهم السّلام) بخطورة الموقف، وعلموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة بين المسلمين عامّة، والشيعة بوجه خاص، سترجعهم إلى الجاهليّة، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة، فقالوا:

«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة». (١)

وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة، تضرُّ بالمجتمع عامّة، وإنّما خصّ الإمام منهم الشباب؛ لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر

____________________

(١) الكافي: ٦/٤٧، الحديث ٥.

٧٦

للشباب باقتراف الذنوب، والانحلال الأخلاقي، والانكباب وراء الشهوات، مع كونهم مؤمنين.

ولو صحّ أنّ ما ادّعته المرجئة في الإيمان والمعرفة القلبيّة، والمحبّة لإله العالم، لوجب أنّ تكون لتلك المحبة القلبيّة مظاهر في الحياة، فإنّها رائدة الإنسان وراسمة حياته، والإنسان أسير الحب وسجين العشق، فلو كان عارفاً بالله محباً له، لاتبع أوامره ونواهيه، وتجنّب ما يسخطه وتبع ما يرضيه، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحب؟!، ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الّذي يتركه الحب والود في نفس المحب في كلام الإمام الصادق (عليه السّلام)؛ حيث قال: «ما أحبَّ الله عزّ وجلّ من عصاه» ، ثُمَّ أنشد الإمام (عليه السّلام)، قائلاً:

تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه

هـذا مـحال في الفعال بديع

لـو كان حبك صادقاً لأطعته

إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مطيع (١)

____________________

(١) سفينة البحار: ١/١٩٩، مادة حبب.

٧٧

٦

القدريّة

إنّ لفظ القدريّة منسوب إلى القدَر، ومقتضى القاعدة النحويّة أن يُفسّر بالمنسوب إلى القدر، أي التقدير والقضاء، فالقدريّة: هم القائلون بالقضاء والقدر. كما أنّ العدليّة هم القائلون بالعدل، لا نُفاته.

ولكن أصحاب المقالات فسّروه بنفاة القدر، وهو في بابه غريب، إذ لم يثبت هذا النوع من الاستعمال.

ثُمَّ إنّ الّذين اتّهموا بالقدرية في أيام الأُمويّين كانوا دعاة الحرّيّة، ويقولون بأنّ الإنسان مخيّر في تفكيره وعمله، وليس بمسيّر، فاستنتج المخالفون لهؤلاء الجماعة أنّهم من نُفاة القضاء والقدر، وكأَنّ القول بالحرّية لا يجتمع مع القول بالتقدير.

ثُمَّ إنّهم لم يقتصروا على ذلك، فرووا عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنّه قال: «القدرية مجوس هذه الأُمّة»، فقالوا المراد هذه الطائفة، أي دعاة الحرّية، ونُفاة الجبر.

إنّ العصر الأُموي كان يسوده القول بالجبر؛ الّذي يصوّر الإنسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد، وسعة

٧٨

وضيق، وجوع وكظّة، وصلح وقتال بين الناس، أمر حتمي قُضي به عليهم، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.

وقد اتّخذت الطغمة الأُمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة؛ حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم، بحجّة أنّ الاعتراض عليهم اعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره، وأنّ الله سبحانه فرض على الإنسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير، فأبناء البيت الأُموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون حياة البؤس والشقاء.

وعلى ذلك، فمن سُجِّلت أسماؤهم في القدريّة، لم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا دعاة الحرّية ونُفاة الجبر، نظراء:

١ - معبد بن عبد الله الجهني البصري (المتوفّى عام ٨٠هـ).

٢ - غيلان بن مسلم الدمشقي، المصلوب بدمشق عام ١٠٥هـ.

٣ - عطاء بن يسار (المتوفّى ١٠٣هـ).

إنّ نضال هؤلاء الثلاثة في العهد الأُموي كان ضد ولاة الجور؛ الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم، وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة، وإلاّ فمن البعيد جداً،من مسلمٍ واعٍ، أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يَسْلِب الحرّية من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.

إنّ هذا التاريخ يدلّنا على أنّ رجال العيث والفساد، إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزّندّقة ومخالفة الكتاب والسنّة.

٧٩

والحاصل: إنّ تفسير القدرية في حق هؤلاء؛ بتفويض الإنسان إلى نفسه وأفعاله، وأنّه ليس لله أي صنع في فعله، هو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء، فلم يكن لمعبد الجهني وغيلان الدمشقي والقاضي عطاء بن يسار وغيرهم إلاّ نقد الفكرة الفاسدة؛ وهي كون الإنسان والمجتمع مسيّراً لا مخيّراً، لا يُسأل عن أفعاله، ومن عجيب الأمر أنّ عبد الله بن عمر روى أنّ رسول الله قال: «إنّ القدرية مجوس هذه الأُمّة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم». (١)

فكلّ من دعاة الحرّية والجبر فسروه بالمخالف، ولكنّ الحديث ضعيف سنداً جداً، ولفظ الحديث حاك أنّه صُنع بعد رحيل الرسول، كما كثُر ما يُروى في هذا المقام.

ثمَّ إنّ للصاحب بن عباد (٣٢٦ - ٣٨٥هـ) رسالة في الردّ على القدريّة بمعنى المجبِّرة، نشرناها في كتابنا (بحوث في الملل والنحل) الجزء الثالث من الصّفحة ١٣٢ إلى ١٣٨؛ كما أنّ للحسن بن محمد بن الحنفية، والقاضي حسن بن يسار المعروف بالحسن البصري، رسالة في نفي القدر بمعنى الجبر نشرناها في نفس الكتاب.

***

ولمّا كانت دعوة معبد الجهني وأضرابه دعوة إلى الحرّية والتفكير، ظهرت آنذاك حركات رجعيّة تُعرقل الأُمّة عن التقدّم، ونشير إلى هذه الدعوات والنحل المخالفة لمبادئ الإسلام بصورة موجزة.

____________________

(١) جامع الأُصول: ١٠/٥٢٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وعلى رأس هؤلاء الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سبق، ومروان بن محمد بن الحكم آخر خلفاء بني مروان والملقب بالجعدي نسبة للجعد بن درهم مؤدبه.

ومن هؤلاء أيضاً - بعد هذا التأريخ - يحيى بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب من مذجح ابن خال الخليفة السفّاح أول خلفاء بني العباس.

ومن هؤلاء معن بن زائدة القائد الأمير المعروف، وهو من سادات بني شيبان وخاله عبد الكريم بن أبي العوجاء الزنديق المعروف من بني سدوس من بكر بن وائل.

ومن هؤلاء روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.

ومنهم واليه بن الحباب الأسدي ومطيع بن إياس الكناني.

ومنهم يعقوب بن الفضل الهاشمي، من أحفاد الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وابن لداود بن علي بن عبد الله بن عباس وآدم بن عبد العزيز بن عمر بن العزيز.

ومن متأخّريهم أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي.

وما أظن بين هؤلاء وكثيرين آخرين لم أذكرهم، وكلهم عرب صرحاء ومن صفوة الأُسر العربية مَن يمكن أن يتهم بالشعوبية إلاّ في أضعف جوانبها أي جانبها الإنساني الذي يقوم على المساواة، وعدم تفضيل جنس على جنس أو أُمّة على أُمّة. وحتى هذا الجانب الضعيف ما أحسبك ستصادفه عند غير أبي العلاء، وربّما والبة ومطيع ويحيى الذين شغلهم الركض وراء اللهو واللذّة، عن العرب والفرس والمقارنة بينهم، وعن التفكير في غير هذه الحياة العابثة الماجنة لا يبغون لها بديلاً. وقد تكون هذه الحياة أو هذا الأسلوب فيها وراء غمز بعض المؤرّخين في نسب والبة العربي.

ويقابل هؤلاء بعض الذين عرفوا بالشعوبية، ولم يعرفوا بالزندقة: كآل طاهر بن الحسين، وآل سهل، وربّما أضيف إليهم البرامكة أحياناً.

١٠١

وكيحيى بن علي المنجم المسلم المعتزلي الشعوبي، وسهل بن هارون، وأبي عبيدة، وعلان الشعوبي، وسعيد بن حميد بن البختكان، والخريمي الشاعر: اسحاق بن حسان، الذين أبغضوا العرب وتعصّبوا ضدّهم، وحاولوا تجريدهم من كل مفاخرهم وتفضيل الفرس عليهم (1) .

وبغض العرب والمغالاة فيه قد يسوق أحياناً إلى ما هو أبعد من مجرّد بغض للعرب، الذي هو في ذاته مرفوض، ليتناول الإسلام نفسه باعتباره إرثاً عربياً نبت وأزهر في صحراء العرب. وربّما كان هذا من بين الأسباب التي أدّت إلى الخلط بين الزندقة والشعوبية.

ولا أريد أن أسير أكثر في هذا الحديث، وليس معي من الوقائع والأسماء والأدلة غير الظن، الذي لا يغني في حديث أردناه خالصاً للعلم، مجرّداً عن الهوى، بعيداً عن التعّصب.

وفي الطرف الأقصى من هؤلاء الشعوبيين، تجد من ضمّ الزندقة إلى شعوبيته: كيونس ابن أبي فروة، وحماد الراوية، الذي لي فيه وفيما نحله وأضافته إلى شعراء الجاهلية، رأي يختلف عمّا يذهب إليه الآخرون، فأنا لا أرى فيه شعوبية وما أحسبه كان يقصد إفساد الشعر الجاهلي كوجه من وجوه الشعوبية، بقدر ما أرى فيه ممارسة لتجربة شخصية، وإظهاراً لبراعة ومقدرة على فهم الشعر والإحاطة بظروف الشعراء ومعرفة البيئة العربية؛ فهو لم يخرج على قواعد الشعر العربي ولا على أغراضه التي نظم فيها الجاهليون، وليس في عدد من الأبيات التي قالها محتذياً حذو الشعراء العرب، وسالكاً طريقهم عن معرفة وعلم، ما يفسد الشعر العربي ويعيبه بالكذب والتزوير، خصوصاً مع اتفاق النقّاد العرب السابقين في أنّه كان يعرف مذاهب الشعراء فيضع البيت أو الأبيات ولا يستطيع إلاّ الناقد البصير أن يميّزها.

فأيّة شعوبية في عدد من الأبيات يسير فيها على طريقة الجاهليين لا يتخطّاهم، يصف ما يصفون ويمدح ما يمدحون ويذم ما يذمّون. ولو تخطّاهم أو خرج على مناهجهم لسهل تمييز شعره وفرزه عمّا أضيف إليه، ولفضح نفسه قبل أن يفضحه النقّاد.

____________________

(1) وألاحظ أنّ ابن الرومي قد أفلت من الاتهام بالشعوبية، مع أنّه لم يكن أقل وضوحاً من غيره في الفخر بآبائه الروم والغمز من العرب، استمع إليه وهو يقول:

آبائِيَ الرومُ توفيلٌ وتُوفَلِسٌ

ولم يلدنيَ رِبعيٌّ ولا شَبَثُ

إنّ حماداً لم يكذب ولم يزوّر فيما تناول من نواحي الحياة الجاهلية، ولكنّه كذب فيمن أضاف إليهم ذلك عندما كان يضيف. ثم إنّه حتى في هذا الذي أضافه، لم يطعن في العرب ولم يسلبهم مزاياهم، ولم يعبهم أو يذمّهم أو ينسب إليهم ما يمكن اعتباره كذلك، ليقال إنّه استخدم قدرته وحذقه في معرفة الشعر العربي لخدمة أغراض شعوبية.

١٠٢

وما أظن ما أضاف، مهما بلغ أو بولغ فيه، يمكن أن يؤثر على صورة الشعر الجاهلي أو يغير في الحكم عليه أو في صدقه. وكل الصعوبة في تمييز شعر حماد متأتية من شدة مشابهته للشعر العربي الجاهلي شكلاً ومضمون.

ثم كم من الأبيات يستطيع هذا الـ (حماد) أن ينظم وينحل ويضيف، حتى لو تجرد لذلك وحده. والشعر الجاهلي شعر أمة كاملة تمتد من اليمن إلى العراق وخلال فترة تبلغ المئات من السنين.

قد يكون حماد شعوبياً يكره العرب ويطعن فيهم ويغض منهم، شأن الشعوبيين الآخرين، ولكن في غير هذا فأنا لا أرى شعوبية فيما ينسب إليه من إضافة شعر إلى بعض شعراء الجاهلية ولم يكن هو الوحيد فيه. فهذا يزيد ابن ضبة. يقول أبو الفرج نقلاً عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم أنه قال ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعاره (1) .

وهذا خلف الأحمر يقول عنه ابن النديم (وكان - يعني خلفاً - من أمرس الناس لبيت شعر وكان شاعراً بعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم) فلم يتهمه أحد (2) .

وأبو عمرو بن العلاء. ينقل عنه النقاد شيئاً مما يأخذونه على حماد وإن لم يكن بنفس الكثرة، ولم يتهم بشيء مما اتهم به حماد ولا ببعضه. وابن داود بن متمم بن نويرة كان ينظم الشعر وينحله جده متمماً لينفق بعد ما استنفد ما قاله جده (3) .

ومن هذه الملاحظات أيضاً - وأظنني بعدت كثيراً عما بدأت - أن عدداً من الشعراء عرباً وغير عرب قد فتنتهم الحياة الجديدة بما تزخر به من فنون اللهو وضروب اللذة وسهولة الاستمتاع بهما وبما تفيض من سحر وجمال وهم المولعون بالسحر والجمال يتصيدونهما ويلهثون وراءهما وقد أتاحتهما هذه الحياة ويسرتها لهم.

____________________

(1) الأغاني ج7 ترجمة يزيد بن ضبة ص103.

(2) الفهرست لابن النديم - الفن الأوّل من المقالة الثانية.

(3) بل إنّ أبا الطيب اللغوي ي ذ كر أنّ أكثر ما يرويه أهل الكوفة من الشعر (مصنوع ومنسوب إلى مَن لم يقله).

١٠٣

فهل سنتهم أهل الكوفة بالشعوبية لنفس السبب الذي اتهمنا من أجله حماداً بها؟!

وقد يكون أبلغ في الدلالة من هذا، ما يرويه ابن سلام في طبقاته قائلاً: (فلمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمَن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم...) طبقات ابن سلام ج1 ص46.

وكانت الحياة الجديدة بكل فنون لهوها ولذّتها وسحرها وجمالها بعيدة عن حياة العرب قريبة من حياة الفرس، أو هي حياة الفرس قد انتقلت إليهم أو انتقلوا إليها. لم يكن الحاضرون في مجالس اللهو عتبة بن الحارث ولا بسطام بن قيس. ولم يكن الحديث عن داحس والغبراء وشعب جبلة.

ولم يكن المكان حمى ضرية ولازرود. ولم يكن الورد شيحاً ولا قيصوماً. ولم تكن الجارية ابنة لربيعة بن مكدم ولا عقيل بن علفة. فماذا تريد أن يقول هؤلاء الشعراء عرباً وغير عرب، وما ذا يصفون وهم يجتمعون على شرب وجَوارٍ ورقص وغناء وورد وريحان.

هل يسوؤك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم يصفون ما يجدون، ويحسون دون كذب ولا تزوير، ودون رحلة كاذبة مزوّرة عبر الزمان والمكان إلى برقة تهمه والدخول وحوقل، وهم لم يروها ولم يعرفوها، ولا تثير لديهم ما كانت تثيره لدى الجاهليين حين يقفون مطيّهم عندها، ويستنطقونها ويذرفون الدمع على مَن فارقوا فيها، وهم في ذلك صادقون يصفون أيضاً ما يجدون ويحسّون دون كذب أو تزوير. إنّهم لو فعلوا ذلك لسخروا من أنفسهم ولسخر الناس منهم، ولما كان لشعرهم هذا الخلود الذي يحظى به حتى اليوم ولما زاد على شعر بعض هؤلاء المعاصرين من المدرسة القديمة، وهم يتغزّلون بسعدى ودعد في شعرٍ غث ميت لا يثير عاطفة عند السامع؛ لأنّه لم يصدر عن عاطفة عند القائل.

قد يكون بين هؤلاء شعوبيون وقد يكون بينهم زنادقة، لكنّ الذي جمع بينهم ليس الشعوبية ولا الزندقة، فلم يكونوا يجتمعون ليسبّوا العرب ويصرفوا شعرهم إلى الطعن عليهم وإظهار معايبهم، ولم يكونوا يجتمعون لتأليف الكتب في إنكار وجود الله أو قول الشعر في التشكيك بنبوّة محمد.

ما جمعهم ليس هذا ولا ذاك بل المجون واللهو وطلب اللذّة بكل أشكالها، وهو مذهب في الحياة سبقوا إليه حتى من بعض عرب الجاهلية. ماذا كان يفعل امرؤ القيس والأعشى وطرفة، مع اختلاف الزمن والبيئة، غير ما كان يفعله والبة وأبو نواس ومطيع مع اختلاف الزمن والبيئة أيضاً؟

وما عليك إلاّ أن تبدل الأسماء هنا وهناك، والأماكن هنا وهناك، والملابس والمطاعم هنا وهناك؛ لتعرف إن كان سيبقى من فرق بين الاثنين.

١٠٤

ثم لماذا هؤلاء الشعراء والأمراء وحدهم. لقد كانت مجالس اللهو والخمر والجواري والغلمان منتشرة في كل مكان في ذلك العهد، يشارك فيها مَن نعرف ومَن لا نعرف، وليست حكراً على عصبة المجّان، وكان الأسبق إليها والأقدر عليها هم الخلفاء أُمراء المؤمنين، فهم الذين بدؤوا هذا اللون من الحياة، وهم الذين شجّعوا عليه وأشركوا الشعراء فيه وأغروا به مَن لم يكن يعرفه، وكان أفضل الخمر وأجمل الجواري وأبرع المغنّين من نصيبهم فخزائنهم - بيوت أموال المسلمين - لا تنضب إن كانت خزائن غيرهم معرّضة للنضوب.

لماذا لا نجد بين زنادقة اللهو والمجون اسماً لواحد من هؤلاء الخلفاء، وهم أولى بالزندقة من كل الذين ذكرت أسماؤهم فيها؟ إلاّ إذا كانوا محصنين لا يجري عليهم ما يجري على مَن دونهم ممّن ليسوا خلفاء ولا أمراء للمؤمنين.

لقد ظلموا كثيراً؛ ظلمهم معاصروهم باتهامهم بالزندقة مرةً، وبالشعوبية مرةً، وبالاثنتين مرّات.

وظلمهم الذين كتبوا عنهم بعد قرون، وكانوا أحرى أن ينصفوهم فلم يفعلوا وربّما زاد بعضهم على معاصريهم.

ظلموهم حين جعلوا منهم زنادقة وهو وصف إن صدق على واحد أو اثنين منهم فإنّه لا يصدق عليهم كلهم.

أين هي كتب الزندقة التي ألّفوهّ.

لقد ذكر المؤرّخون ما وضعه الشعوبيون من كتب في مثالب العرب والطعن فيهم وفي مناقب الفرس وتفضيلهم.

فأين هي كتب الزندقة التي ألّفها: والبة، أو مطيع، أو يحيى، أو حماد، أو عمارة بن حمزة، أو حتى زعيم هذه العصبة وأشهر أفرادها أبو نواس؟ ولو ألّفوا، فما أظنهم كانوا سيؤلّفون في المانوية المحرّمة للذات التي أولعوا بها وعاشوا لها، والتي كانت تمثّل أحد أبرز وجوه الزندقة آنذاك.

أهناك أكثر من أبيات هجاء قالها بعضهم في بعض، أو اتهم بها بعضهم بعضاً بالزندقة والمانوية هزلاً وعبثاً يعكسان حياتهم ويمثّلانها خير تمثيل. ولو صدقناهم لصدقنا ما قاله الشعراء العرب في هجاء بعضهم، ولأعطينا الشعوبية الحق في بعض ما يتهمون به العرب.

والآن لا أدري إن كنت قد استطعت ولو إلى حد ما بيان بعض أسباب الخلط في تأريخنا بين الزندقة أو بشكل أدق صورة من صورها وبين الشعوبية.

لعلّي قد فعلت وإلاّ فلن يضير أولئك (الزنادقة) زيادة واحد من الذين لم يحسنوا النظر إليهم ولا الدفاع عن قضيتهم.

١٠٥

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية

وأخيراً فقد آن لنا أن نضع الزندقة والشعوبية كمصطلحين كان لهما شأن، في إطارهما الصحيح بين الحركات الفكرية والسياسية في تأريخنا دون تعصّب لهما أو عليهما بعد أكثر من ألف عام على اختفائهم.

ولقد رأيت الذين كتبوا عنهما قلّما كتبوا بعمق وحياد. وإذا استثنيت بعضاً منهم: المرحوم أحمد أمين، فأنا لم أجد بين الذين كتبوا من يملك عمق المؤرّخ ولا فهم الأديب ولا حياد العالم وإنّما وضعوا أمامهم الطبري والأغاني، ولا بأس بالنقل عن الجاحظ وابن عبد ربّه، ثم ضمّوا إليهم فان فلوتن فهو اسم غريب قد يوحي للسامع ما لا توحي به أسماء قرأها وسمع عنها.

ومضوا يكتبون، وكان خيراً لهم ألاّ يكتبوا فقد شوهوا تأريخنا - على كثرة ما شوه - وكانوا - لو عرفوا - شعوبيين أكثر من الشعوبيين الذين يهاجمونهم، حين جعلوا من العرب مجموعة من عديمي الإدراك والتمييز، يساقون إلى حيث يراد بهم ويفعلون ما يُخطّط لهم، دون أن يكون لهم من فكرهم ووعيهم ما يمنعهم من إلحاق الأذى بأنفسهم ويحصنهم ضد أعدائهم الذين يتربّصون بهم.

وهم في كل ذلك يكثرون الحديث عن خبث عدوّهم وشدّة كيده، وكأنّهم يحاولون الاعتذار عن العرب.

لقد أرادوا أن تكون لهم كتب في المكتبات يقرؤها القرّاء فكان لهم غباء في المكتبات يواجه القراء، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصفونا لاكتفوا بإحالتنا على مَن نقلوا عنهم، فلم يضيفوا إلى أخطاء وقع فيها المؤلّفون قبل ألف عام، أخطاء جديدة بعد ألف عام.

ولقد تحدثت بالتفصيل عن الظروف التي نشأت فيها الزندقة والشعوبية وعن العلاقة بينهما فلا حاجة للعودة إليها.

ولكن أريد أن أقرّر هنا: أنّ الشعوبية كانت ستظهر يوماً ما ولم يكن ممكناً منعها، وهي قانون من قوانين التأريخ وسنّة الأمم قبل وبعد.

لقد كانت هناك أُمّة غالبة معها الإسلام وأمم مغلوبة دخلت فيه كرهاً أو طوعاً، حرباً أو اقتناعاً ورغبة، وكان الفرس أكثر هذه الأمم وأعلاها شأناً في الجاهلية، وهم إحدى إمبراطوريتين كانت لهما السيادة قبل ظهور الإسلام.

١٠٦

ولم يكن الإسلام يفرض على الداخلين فيه أن ينسلخوا عن أجناسهم ويصبحوا أُمّة واحدة بالمفهوم القومي للأُمة كشرط لقبول الإسلام منهم، والقرآن يقول ( وجعلناكم شعوباً وقبائل... ) ويقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ) ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدة ) .

وكان التعامل مع هؤلاء المسلمين الجدد يجري في كثير من الرفق خلال عهد الراشدين، ووجود الكثير من ذوي الدين والفضل والسابقة من الصحابة الذين رافقوا النبي وعاشوا معه وتعلّموا منه.

وكان هذا التعامل الرفيق الذي لقيه هؤلاء المسلمون، قد ساعدهم على الاندماج في البيئة الإسلامية العربية والابتعاد عن ماضيهم، إذ لم يكن هناك ما يثيرهم ويدفعهم إلى العودة إليه والتفكير فيه.

شاركوا في فتوح المسلمين وكان لبعضهم دور مذكور فيه، ونافسوا العرب المسلمين في الدين حتى كان بينهم مَن يرجع إليه في أُموره.

وانتهى عهد الراشدين باغتيال الإمام علي عام 40 للهجرة.

وقام حكم جديد انحسر فيه الإسلام وقويت العصبية، وقد ساهمت السياسة الأموية في إذكاء العصبية القبلية بين قبائل العرب، والعصبية القومية بين العرب وبين الأُمم الأخرى. والعرب فخورون بطبعهم يتباهون بأنسابهم وقبائلهم وأسرهم حتى على بعضهم. أي عربي يقبل أن يساوي بين تميم وبكر ومذحج وبين باهلة وغني وسلول.

ولأترك الحديث عن العصبية بين القبائل العربية، على خطورة هذا الموضوع، وأحصره بالعصبية القومية بين العرب وبين الموالي، السبب المباشر لظهور الشعوبية.

كان جيل جديد قد نشأ بين العرب، وجيل آخر جديد قد نشأ من الموالي، وكان الإسلام - الدين والسلوك والجامع للعرب والموالي - قد ضعف لدى أولئك وهؤلاء.

وبدأ المتعصّبون من العرب في تحقير الموالي الذين ازداد عددهم، خصوصاً في العراق، وإشعارهم بالاستعلاء عليهم والاستهانة بهم كما سبق أن ذكرنا.

وسكت الموالي الفرس وتجرّعوا الإهانة ولم يستطيعوا الرد؛ إذ كان الحكم عربياً مستبدّاً طاغياً لا يرحم العرب إذ أحس منهم ما يخشى فكيف بالموالي.

لكن سكوتهم كان سكوت الخوف لا سكوت الرضا، فعادوا إلى ماضيهم وهو غير بعيد يتسلّحون به في رد الهجوم عندما يستطيعون، وإلى ماضي العرب يتسلّحون به في الهجوم عندما يستطيعون، وليس هناك ماض أو تأريخ يخلو من مطاعن لمَن يبحث عنها ويتطلّبها.

وكان هجاء العرب لبعضهم أوّل أسلحتهم، ثم جاءت كتب المثالب التي ألّفها العرب ضد العرب وبدأها زياد بن أبيه سلاحاً ماضياً آخر.

١٠٧

وهكذا وجد الفرس بأيديهم سلاحاً عربياً جاهزاً لمهاجمة العرب والنيل منهم، وطعنهم في أكثر ما يعتزّون به من مناقب، وكان العرب كما ترى هم الشعوبيون الأول عن عمد أو غير عمد.

وضعف سلطان الدولة الأموية في بداية القرن الثاني، ثم سقطت في الثلث الأوّل منه لتقوم الدولة العباسية بمساعدة الفرس ودعمهم وتأييدهم.

وزال الخوف الذي كان يمنع الفرس من الرد أو إعلانه، فبدأ شعراؤهم وكتّابهم في نظم مفاخرهم والكتابة عنها وكانوا قبلاً لا يتناولونها إلاّ نادراً، ولم أجد المؤلّفين يذكرون غير إسماعيل بن يسار مثلاً للشعوبي المجاهر بشعوبيته، الفخور بها في العصر الأموي، وقد دفع ثمنها غالياً فكان ما يزال محروماً مطروداً كما يصفه أبو الفرج.

وكان الصدر الأول من الحكم العباسي ساحة صراع لا سياسي فقط بين العرب والفرس، وإنّما كانت الثقافة والأدب شعراً ونثراً ساحة أخرى للصراع بينهم.

لكن الصراع كان مكشوفاً هذه المرّة لا يستره خوف كما هي الحال في العصر الأموي.

وبدأ الشعراء وبدأ الكتّاب الفرس ينظمون ويؤلّفون، ولو وقفوا عند ذكر مآثر الفرس وماضيهم وما كان لهم من سلطان وفكر وفن لما أنكر عليهم أحد. ولقيل قوم ظلموا فثأروا لأنفسهم ودفعوا الظلم وردوا الاتهام، ولكنّهم أفادوا من تلك الفترة التي كانت فيها السلطة الجديدة تراعي الفرس وتترضّاهم وتتجنب سخطهم، فجاوزوا الدفاع إلى الهجوم. ونظم بشّار وكتب أبو عبيدة وكتب علان وكتب غيرهم، لا في مآثر الفرس ولكن في مثالب العرب. حاولوا أن يجرّدوهم من كل فضائلهم بل أن يقلبوا فضائلهم عيوباً. وكان من هؤلاء مَن يجد الدعم والحماية في أسر فارسية ذات سلطة ونفوذ آنذاك كآل طاهر وغيرهم.

وألاحظ أنّ هذه الزندقة والشعوبية الأدبية القائمة على الشعراء والكتّاب والمفاخر والمثالب لم تتجاوز كثيراً حدود العراق، حيث الاحتكاك في ذلك الوقت بين العرب وبين الفرس، وحيث تواجهت لأوّل مرة حضارتان بكل ما تحملان من قيم وعادات وأسلوب في الحياة جديد.

على أنّ من الأمانة أن أضيف: أنّ هاتين الظاهرتين قد ضعفتا كثيراً مع منتصف القرن الثالث الهجري، بعد أن هدأت النفوس وتراجعت حدة العواطف، وأصبح هذا الأسلوب الجديد في الحياة أسلوباً عراقياً قبله العرب وقبله الفرس، ولم يعد سبباً للنزاع بينهما ولم تعد تسمع للزندقة الأدبية ولا للشعوبية الأدبية صوت.

ثم حصل تطوّر خطير آخر غيّر من اتجاه الصراع وشغل العرب عن الفرس، وشغل الفرس عن العرب. فقد دخلت الساحة أمم وأقوام أخرى كالترك والديلم والمغاربة، وتحوّل الصراع إلى صراع بين هذه الأمم والأقوام نفسها ومن بينها الفرس. والى صراع بين زعمائها والبارزين فيها، لكنّه صراع على السلطة والنفوذ في ظل حكم ضعيف.

وتخلّت الشعوبية الأدبية عن مكانها إلى شعوبية سياسية لم يعد العرب والفرس طرفيها، ولا أبو معاذ وأبو عبيدة من قادتها بل شارك فيه، وكان من أطرافها الأمم والأقوام الأخرى، واستبدل فيها ببشّار ومعمر أوزون ونازوك ومؤنس.

وخلال ذلك شهد العراق، وفي القسم الأوسط والجنوبي منه، حركات قوية لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الشعر والأدب والمفاخر والمثالب: كثورة الزنج، وحركات القرامطة.

١٠٨

هذا في العراق الذي حاولت أن أحصر حديثي عن الزندقة والشعوبية فيه، كما هي في جانبهما الأدبي الذي عرفتا به.

أمّا في أطراف الدولة العربية الإسلامية فقد قامت في الجانب الشرقي منها دويلات غير عربية: فارسية أو تركية. احتفظت مع فارسيتها أو تركيتها بدينها الإسلامي، فهي فارسية مسلمة أو تركية مسلمة لم تعرف حركة اسمها الشعوبية، كما عرفها العراق في العصر الذي تحدثت عنه؛ لأسباب منها: أنّ تلك الدويلات قامت على أراضيها بعيداً عن مركز الدولة العربية الإسلامية في العراق، وكان بعدها هذا مانعاً للاحتكاك الذي رأيناه بين العرب والفرس في العراق وما ولّده من كره وكره مقابل. ومنها: أنّ تلك الدويلات لم يكن لها ماض يوازي، أو يقارب ما كان للفرس من ماض، عندما كانت الإمبراطورية الفارسية إحدى أقوى إمبراطوريتين في العالم، فهي لا تستطيع أن تقابل العرب بما يستطيع الفرس أن يقابلوا به العرب. ومنها أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت قد بلغت درجة من الضعف لا تسمح لها بمواجهة ما يجري في العراق نفسه إلاّ بجهد وصعوبة، ناهيك عن مواجهة دويلات منظمة لها جيوش تستطيع القتال وهي في أراضيها على ألوف الكيلو مترات من بغداد. وإذا كانت ثورتا المقنع وبابك الشعوبيتان قد فشلتا؛ فذلك لأنّهما قامتا والدولة المركزية ما تزال قوية بعد، تملك أن تواجه وأن تنتصر؛ ولأنّ الثورتين قد أسقطتا الإسلام وقامتا على أساس قومي فارسي بعيد عن الإسلام، فحاربهما العرب لفارسيتهم، وحاربهما المسلمون غير العرب لابتعادهما عن الإسلام. بقي أن نلاحظ أنّه حتى في العصر العباسي الذي كان نفوذ الفرس هو المسيطر والطاغي، كان النسب العربي ساحراً جذّاباً يتعلّق به من لا يمنعه وضوح نسبه غير العربي من التعلّق به والانتماء إليه. وهذا ما نراه واضحاً في هجاء بعض الموالي الذين تركوا نسبهم الأصلي واستبدلوا به نسباً عربياً. بل هذا ما نجده في هجاء بعض العرب من المغموزين في نسبهم فأشجع السلمي، يريد شاعر أن يهجوه فلا يجد لذلك منفذاً إلاّ عن طريق نسبه فيقول:

إنّما أنت من سليم كواو

ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

والهيثم بن عدي الطائي يهجوه أبو نواس، وهو الذي يسخر من تميم وقيس والعرب كلهم فيقول فيه:

إذا نسبت عدياً في بني ثعل

فقدّم الدال قبل العين في النسبِ

وحتى أبو عمرو بن العلاء يغضب بشّار على ابنه خلف فيقول:

أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته

فإنّه عربي من قوارير

والأمثلة على ذلك كثيرة.

١٠٩

وما أظن النسب العربي كان يحظى بكل هذا الاهتمام من جانب المنتسب أو من جانب النافي له، لو لم يكن له شأن وحساب ولو لم يكن موضع اعتزاز وفخر في ذلك الوقت.

والآن أعود بعد هذه الرحلة الطويلة لأؤكّد ما سبق أن قلته عن الشعوبية في بداية الحديث: من أنّها كانت ستظهر يوماً ما دامت هناك أُمّة غالبة حاكمة وأُمّة وأمم مغلوبة محكومة. فهذا أول أسباب الصراع حتى لو تخلّفت الأسباب الأخرى، ولا بد لهذا الصراع أن ينفجر ثورة عندما تتوفّر ظروف نجاحها، وأحياناً حتى لو لم تتوفّر ظروف نجاحها.

لقد بقي العرب زهاء سبعة قرون تحت الحكم العثماني المسلم، لكن لا طول المدة ولا إسلام العثمانيين أنسيا العرب عروبتهم ومنعهم من المطالبة الدائمة باستقلالهم الذي حصلوا عليه عبر ثورات ودماء وشهداء.

وهذا الاتحاد السوفيتي، ما أسرع ما رجعت كل قومية من قومياتها إلى ذاتها تبني دولتها الخاصة بها، بالرغم ممّا كان يربطها خلال سبعين عاماً من نظام اقتصادي وسياسي واحد.

وحتى يوغوسلافيا، هذا البلد الصغير، لم يسلم من التمزّق وانقسامه إلى دول بعدد القوميات التي كان يتألّف منها.

وأظنني بعد هذا استغرب ممّن يستغرب حركة الشعوبية وكأنّها حركة خارج التأريخ.

١١٠

الفهرس

المقدّمة: 2

الإهداء: 3

القسم الأوّل: فـي الزندقة 4

الفصـل الأوّل: مفهوم الزندقة عند المسلمين .5

الفصـل ا لثاني: الزندقـة في الجاهليـة 10

1 - الزندقة وقريش: 10

2 - المجوسيّة في تميم: 16

الفصل الثا لث: الزندقـة فـي الإسلام 20

الفصـل ال رابع: المجوسيّة 25

الفصل ال خامس: المانويّـة 26

الفصـل ا لسـاد س: المزدكيّـة 27

الفصـل السـا بع: البـرامكـة 32

الفصل ال ث ا من: آل سهل .43

الفصل ال ت ا س ـ ع: عبد الله بن أبي عبيد الله .46

الفصل ال ع ا ش ـ ر: عبد الله بن المقفّع .49

الفصـل ال ح ا دي عشـر: صالح بن عبد القدوس .56

الفصـل ال ث ا ن ي عشـر: عبد الكريم بن أبي العوجاء 59

الفصـل الثا لث عشـر: بشّار بن بُـرْد 63

القسـم الثانـي: الشعوبيّة 75

القسم الثالـث: العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية 98

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية 106

١١١

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377