حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي30%

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 200

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50181 / تحميل: 9340
الحجم الحجم الحجم
حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي في الفقه الإمامي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حقوق غير المسلم داخل المجتمع

الإسلامي في الفقه الإمامي

رسالة ماجستير

الباحث: وليد الخزعلي

الأستاذ المشرف: د. عبد الجبار الرفاعي

الأستاذ المساعد: حجة الإسلام والمسلمين سيد منذر الحكيم

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

الإهداء

إلى أمناء الرحمن في دار الفناء

وشفعاء المؤمن في دار البقاء

وروّاد الشريعة الخاتمة السمحاء

سادة الأنام والرحمة الواسعة

محمّد المصطفى وأهل بيته الكرام

أهدي جهدي المتواضع هذا

٣

شكر وتقدير

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد المصطفى وآله المنتجبين.

أتقدّم بشكري وفائق تقديري إلى المسؤولين في المركز العالمي للدراسات الإسلامية ؛ الذي أتاح لنا الفرصة في طي المراحل الدراسية، والانتهال من المصدر العذب، وهي علوم أهل البيتعليهم‌السلام ، من خلال التمهيد للدراسة والبحث، وفي مقدَّمتهم الشيخ الدكتور أعرافي (دامت بركاته).

وكذلك أودّ أن أشكر أساتذتي المحترمين (المدير والمسؤولين) في مدرسة الحُجَّ-تية للفقه والمعارف الإسلامية.

وأوجّه شكري وجزيل امتناني لأستاذي المشرِف الدكتور عبد الجبار الرفاعي ؛ لمواكبته المستمرة لأطروحتي هذه وجهده البالغ وكذلك الشكر الجزيل للأستاذ المساعد السيد الفاضل، حجة الإسلام والمسلمين منذر الحكيم لإرشاداته القيّمة.

وأتقدَّم بالشكر الخالص لجميع الأساتذة والطلبة الأفاضل الذين لم يدّخروا جهداً في مساعدتي وفّقهم الله جميعاً.

٤

خلاصة البحث

موضوع هذا البحث يتركّز حول حقوق غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، وما ينبغي للدولة الإسلامية من الإيفاء بتلك الحقوق التي ضُمنت لهم، مستندين في ذلك إلى الأدلّة الواردة في إطار المذهب الإمامي ورأي فقهائهم.

والبحث يحتوي على أربعة فصول وخاتمة:

الفصل الأوّل : ويتكوّن من مبحثين تمهيديَّين:

المبحث الأوّل: في التعريف لمفهوم غير المسلم - لُغةً واصطلاحاً - مع تفريعاته.

المبحث الثاني: في تقسيمات غير المسلم، والتعريف بماهية كلّ قسم.

الفصل الثاني : ويتكوّن من ثلاثة مباحث في تعامل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام مع غير المسلمين من الناحية التاريخية.

المبحث الأوّل: في التعامل مع المشركين داخل الجزيرة العربية.

المبحث الثاني: تعامل النبي وأهل بيتهعليهم‌السلام مع أهل الكتاب، خصوصاً اليهود ؛ لاحتكاكه المباشر معهم.

المبحث الثالث: سرد لمكاتيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الزعماء والملوك في ذلك الوقت، مع التوضيح والتعليق.

الفصل الثالث : كان استقراءً للحقوق التي أقرّها وأسّسها الإسلام لغير المسلمين وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: المبادئ الأوّلية في العلاقة بين المسلمين وغيرهم.

المبحث الثاني: المساواة الإنسانية.

المبحث الثالث: مدرسة أهل البيت وحقوق غير المسلمين.

الفصل الرابع : يبحث متتبِّعاً أهمّ الشُّبهات والإشكالات، التي أُثيرت في مجال حقوق وواجبات غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، وطريقة معالجتها وحلّها، كشبهة انتشار الدين بالسيف وأنّه دين دمٍ وسيف، وشبهة أنّه يدعو للعنف والإرهاب، وشبهة التضييق في الحريّات في الاعتقاد وغيره.

أمّاالخاتمة : فاحتوت على ثلاث وعشرين نقطة في استنتاجات لكلّ البحث بشكل مفصّل وجامع

٥

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام هو رسالة السِلم، الذي يريد للإنسانية الرقيّ والتقدّم والحضارة، والسكينة والاطمئنان، فإنّ الإنسان غير الآمن في سِربه ومسكنه وحياته ؛ لا يتمكّن من أن يحقّق الازدهار والنموّ، بل كثيراً ما يسبّب فقدان الأمْن تحطيم الإنسان في أبعاده المختلفة، واستنفاد معنويّاته السامية التي تحافظ على كرامته وإنسانيّته، وفقدان الأمْن الناشئ من الخوف ونحوه، نتيجة طبيعية لركون الإنسان، بل المجتمع الإنساني برمّته، إلى المادّة والعزوف عن المعنويات عالية المضامين.

وخاتم الأديان جاء بمبادئه السامية لإنقاذ أهل المعمورة من ظلمات المادّة إلى نور المعاني الروحانية، وعلى رأسها التوحيد ؛ ليصل بالإنسان إلى سعادته الأبدية، ولتنظيم أمره ومجتمعه في دار الدنيا.

ولو طُبّق الإسلام بمبادئه التي نادى بها خاتم الرُسل، لكان المجتمع الإنساني اليوم على غير ما نحن عليه من التشتّت وانبساط الظلم والاضطهاد وهضم الحقوق، وكلّ هذا ناشئ من ظلم الإنسان لنفسه وأبناء جنسه، والتعدّي على حقوق غيره وأخْذ ما ليس له بحقّ.

وعلى أيّة حال، فالإسلام ينطوي في دستوره على مفاهيم ومبادئ راقية لتنظيم الأمر في دار الدنيا لبني الإنسان، ومن تلك المبادئ مبدأ "التعامل الإنساني " فيما بين الناس أنفسهم عامّة، وبين مَن ينتمي لهذا الدين من جهة وبين مَن لا ينتمي له من جهة أخرى خاصّة، وذلك من خلال الالتزام بمنح الحقوق لغير المسلم من جهة الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.

وارتأينا أن نطرق موضوع حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي من وجهة نظر مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ وذلك وِفقاً لطريقة المذهب الإمامي ؛ لنبيّن ما جاء به الإسلام وما دعا إليه في هذا المجال، ولرفع الشبهات التي تُثار على خاتم الأديان من هذه الناحية، لِما يتعرّض له الإسلام اليوم من هجمة شرسة تحاول طمس مبادئه، وإيقاف عجلته السائرة نحو سعادة

٦

الإنسان فقد بيّنا تلك الحقوق لغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، والتي يتّضح من خلالها أنّ حضارة الإسلام لا تضاهيها حضارة في المعمورة قط.

وإليك بعض ما بحثناه خلال هذا الجهد ؛ ليتّضح لغير المسلم خارج المجتمع الإسلامي، ما عليه غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي:

١ - عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه، أو إكراهه على عقيدة معيّنة.

٢ - من حقّ أهل الكتاب ممارسة شعائرهم وطقوسهم بكلّ حرّية.

٣ - تَرك لهم الإسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، وإن كان غير مباح عند المسلمين.

٤ - لهم الحرّية في قضايا الزواج والطلاق والنفقة حسب دينهم.

٥ - حَمى الإسلام كرامتهم وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرّية في الجدل والمناقشة من دون عنف.

٦ - ساوى بينهم وبين المسلمين في القوانين العامّة للبلاد.

٧ - حكم من خلال معظم الفقهاء بطهارة أهل الكتاب، وحلّية طعامهم والتزوّج بنسائهم والمعاملة معهم.

٨ - حبّذ الإسلام زيارتهم وعيادة مريضهم، وتقديم الهدايا لهم وقضاء حوائجهم‏.

بيان الموضوع:

موضوع البحث، هو: حقوق غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، سواء كان غير المسلمين أهل كتاب أم غيرهم، فكان البحث عرْضاً لحقوقهم من وجهة نظر الفقه الإمامي وسعَينا بدايةً التعريف بماهيّة غير المسلم وأقسامه، ثمّ التعامل معهم من قِبل النبيّ وأهل بيتهعليهم‌السلام من الجهة التاريخية، وبعدها عرض شامل للحقوق الممنوحة لهم من قِبل الإسلام بشتّى أنواعها، حقوقاً اقتصادية وفكرية واجتماعية وأخلاقية وسياسية، وردّ أهمّ الشبهات والإشكالات الواردة في هذا الصدد.

السابقة الدراسية:

من خلال الاطّلاع على الكثير من المصادر الفقهية والحقوقية في هذا المجال، لم نجد المصادر الوافي لهذه المسألة في كتُب الفقه الإمامي، إلاّ وهي منتثرة في بطون الكتُب الفقهية والحقوقية،

٧

بشكل إجمالي وإشارات لبعض فروعها، وإن كان الموجود في كتُب المذاهب الأخرى الإسلامية غير الإمامية أوسع، ولكنّ موضوعنا مختصّ بوجهة نظر الفقه الإمامي.

وبعد البحث الدقيق عثرنا على أطروحة ماجستير لأحد الطلبة الأفاضل (جاسم الزيدي)، عنوانها: ( حُكم الأقلِّيَّات الدينية )، ولكنّها مختصّة بأهل الذمّة، ولم يتطّرق فيها للناحية التطبيقية التاريخية، ولم يذكر البحث الكلامي لها في طرح الشُبهات وحلّها، فهي أشبه ما تكون بالبحث الفقهي البَحْت للأحكام الشرعية للأقلِّيَّات.

لذا جَهدْنا لأن نسعى في هذا المجال في لملمة ما هو منتشر في كتُب فقهاء الإمامية وعلماء فقه الحقوق، وتحقيقها وعرض الأدلّة الشرعية في فروعها.

أهمّية البحث:

ممّا تقدّم يتبيّن لنا وللمتتبّع، أهمّية كتابة هذهِ الأطروحة، وذلك لإظهار:

١ - اعتقاد الفرد الإسلامي بما أمره الإسلام في التعامل مع مواطنه غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي، في جميع نواحي الحياة.

٢ - تعامل السلطتَين، التشريعية والتنفيذية، في الحكومة الإسلامية مع الأقليّات الدينية من ناحية الحقوق والواجبات.

٣ - ما يتّسم به القانون الإسلامي الشرعي من العدالة والإنصاف في التعامل مع غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، حتّى يُرفع الغِطاء الذي وضعه أعداء الإسلام على أعْيُن الشعوب غير المسلمة في العالم.

الفرضيّات:

١ - من المفترض لهذه الأطروحة أن تُظهر وتُبيّن ما لغير المسلمين من حقوق، أباحها الشرع الإسلامي وأقرّها على جميع الأصعدة، سواء كانت فكرية اعتقادية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

٢ - بإمكان هذه الأطروحة من الناحية الكلامية والتحليلية، وحسب الأدلّة الفقهية، أن تُفكّك بعض الشبُهات الواردة في مجال حقوق غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي، ورفع التشويه لصورة ديننا في هذا المجال.

٨

غرض الأطروحة:

لعلّ الواجب الكفائي الذي يُطرح في مسائل جهاد أعداء الإسلام عسكرياً، قد سرى لِما نحن فيه من جهادهم فكرياً وعقائدياً، فالهجمة الفكرية والعقائدية التي يتعرّض لها الإسلام في وقتنا الحاضر، خارجياً وداخلياً، من بعض الفِرَق الضالّة، والمحسوبة على المنظومة الإسلامية، والإسلام منهم بَراء ؛ ممّا يدعونا إلى شحذ الأقلام وإظهار ما يتمتّع به النظام الإسلامي من القيَم الحضارية وروح التسامح، وبسط الحقوق للأقليّات غير المسلمة في مجتمعه، ممّا يُزيل الشبهات التي أرادوا بها تشويه وجه الإسلام الحقيقي وأحد أهداف هذهِ الأطروحة هي إزالة هذه الحُجُب التي وضعها أعداء الإسلام لسَتْر حقيقته السامية.

كما أنّ من الأهداف لهذه الأطروحة، أنّه بالإمكان الاستفادة منها للباحثين في حقوق الإنسان في المنظّمات العالمية في الوقت الحاضر، للاطّلاع على شرعيّة معاملة غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي.

أُسلوب التحقيق:

١ - البحث يعتمد في تحقيقه وتدوين مطالبه على ما يطرحه فقه المذهب الإمامي، وليس هو بحثاً مقارناً بين المذاهب من ناحية فقهية.

٢ - وهذا البحث جامع بين الأسلوب التتبّعي الوصفي، من جهة ذِكر التعامل التاريخي للمسلمين مع غيرهم داخل المجتمع الإسلامي، وبين التحليل والاستقراء للأدلّة الواردة لدعم ‏ما يتبنّاه الإسلام في تعامله مع الأقليّات الدينية، وكذلك في دفع الشبهات والإشكالات في هذا الصدد.

وليد حميد الخزعلي

٩

الفصل الأوّل:

المفاهيم، والتعريفات

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: مفهوما (الحقّ) و(غير المسلم).

المبحث الثاني: أقسام (غير المسلم) وماهيّته.

١٠

المبحث الأوّل: المفاهيم.

١ - مفهوم الحقّ.

٢ - مفهوم غير المسلم.

١١

في البدء لا بدّ لنا من التطرّق لمفهوم الحقّ، فنقول:

١- مفهوم الحقّ:

الحقّ في اللغة:

وردت كلمة الحقّ في القواميس والمعاجم بمعانٍ مختلفة، ويمكن إجمال تلك المعاني ب-: (الثابت، الموجود، المِلك، الإيجاب والإلزام، المال ).

قال ابن منظور: ( الحقّ: نقيض الباطل، وجمعه حقوق وحِقَاق )(١) .

ويقول الجرجاني: ( الحقّ في اللغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، ويستعمل في الصدق والصواب أيضاً والحقيقة هي: الشيء الثابت قطعياً ويقيناً، وهو اسم للشيء المستقرّ في محلّه)(٢) .

المعنى الاصطلاحي للحقّ:

هو: اعتبار معنى يترتّب عليه الإسقاط أو النقل بالمعاوضة، فليس هو من الإباحة الشرعية التي ليست موضوعاً لهذه الآثار(٣) .

لذا فالحقّ ليس حكماً شرعياً مجعولاً ؛ لأنّ الأحكام الشرعية المجعولة هي إنشاءات خاصّة بدواعٍ مخصوصة، فالإنشاء بداعي جعل الداعي فِعلاً أو تركاً - لمصلحة لزومية أو غيرها، أو عن مفسدة كذلك - إيجابٌ وتحريمٌ واستحبابٌ وكراهةٌ، أو بداعي إرخاء العنان والترخيص، فهو إباحةٌ(٤) .

وعليه، فالفرق بين الحقّ والحكم: أنّ الشارع جعل سلطنة لذي الحقّ في الحقوق، وحَكَم بحُكم تكليفي في الأحكام من دون جعل سلطة فيها لأحد.

____________________

١ - أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، ص ٩٧ ابن منظور: لسان العرب، المجلّد الأول، ص ٦٨٠ - ٦٨٢ الجوهري، الصحاح، ج٤، ص ١٤٦٠ القاموس المحيط، ج ٣، ص ٢٢٨.

٢ - الجرجاني، التعريفات، ص ١١٢.

٣ - محمّد حسين الأصفهاني، حاشية كتاب المكاسب ( للأنصاري )، ج١، ص١٨.

٤ - نفس المصدر، ص١٧ - ١٨.

١٢

والحكم لا يقبل الانتقال قطعاَ ؛ لأنّ أمر الحكم بيد الحاكم، وليس للمحكوم عليه إسقاطه ولا نقله ؛ لأنّه تدخّل في سلطة الربّ(١) .

أمّا الحقّ، فلأجل السلطنة لصاحب الحقّ، فمقتضى طبيعته جواز نقله وإسقاطه ؛ لأنّه مالك له ويجوز التصرّف به وهذا النقل والإسقاط يكون نافذاً لصاحبه، ما لم يوجد مانعٌ لأحد أمرين:

١- إذا لاحظ الشارع الحكيم مفسدة في النقل أو الإسقاط، كما في مال الشخص ؛ فليس له إفساده وإتلافه عبثاً ؛ لأنّه إسرافٌ محرّم أو في عدم جواز بيع سلاحه - الذي لمالكه الحقّ في بيعه ممّن يشاء - للمحارب للدين، فهذا منهيٌ عنه.

٢ - أن يكون هناك قصور في الحّق بحسب جعل الشارع، كما لو كان الحقّ متقوِّماً بشخصٍ خاصّ، كحقّ التولية في الوقف من الواقف لشخص يتولّى الوقف، أو في الوكيل في حقّ الوكالة، فليس للوكيل ولا للوليّ في الوقف - مثلاً - أن يحوّل هذا الحقّ لغيره إلاّ بتجويز الموكِّل أو الواقف(٢) .

أنواع الحقوق:

قسّم علماء القانون الحقوق إلى عدّة أقسام ؛ وذلك لنظرتهم إليها باعتبارات مختلفة، من وجوه مختلفة، وهذه النظرة عبارة عن بيان وتوضيح لمدلول ومفهوم أنواع الحقوق، فهي وصف لواقع يُظهر ما يدلّ عليه إطلاق كلمة الحقّ، وليست بمنشِئة لحقوق جديدة، والمثال على ذلك تقسيم الحقّ إلى مطلق ونسبي. فالحقّ النسبي: هو الحقّ الذي وُجد لمصلحة شخص أو أكثر تجاه آخر، كالالتزامات بين الأفراد، فالدَيْنُ عبارة عن ارتباط بين دائن و مَدينِه، يلتزم فيه المدين بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل. أمّا الحقّ المطلق: فهو امتياز يُمنح لشخص معيّن، و يكفل القانون حفظ هذا الحقّ، دون أن يكون هناك التزام معيّن من فرد معيّن، بل إنّ الناس جميعاً يلتزمون باحترام هذا الحقّ كحقِّ الملكية مثلاً(٣) .

وقسّم علماء القانون الحقوق إلى حقوق سياسية وحقوق غير سياسية، و إلى حقوق عامّة وحقوق خاصّة، وإلى حقوق الأُسرة، وإلى حقوق مالية، وإلى حقوق شخصية وعينية وذهنية.

____________________

١ - محمد كاظم اليزدي، حاشية على كتاب البيع للأنصاري، ج١، ص٥٥.

٢ - نفس المصدر.

٣ - د عبد الرحمن، صابوني، المدخل لدراسة التشريع الإسلامي، ج٢، ص٩ - ١٥.

١٣

٢ - مفهوم غير المسلم.

أمّا بالنسبة لمفهوم ( غير المسلم )، لا بدّ من التعرّض أوّلاً إلى بعض المفاهيم وتوضيح تعاريفها اللُّغويّة، وشرح معناها الاصطلاحي:

أ - المسلم:

- السِلْم ( بالكسر ): السلام والسلم ( يُفتح ويُكسر ): يعني الصلح السلام: السلامة، والسلام: الاستسلام وأسلمَ أمرَهُ إلى الله أي سَلَّمَ، وأَسْلَمَ أي دخل في السَلْمِ، وهو الاستسلام، وأسلم من الإسلام(١) .

وأسلَمَ الرجل أي انقاد، وقيل: أسلَمَ: دخل في الإسلام، وصار مسلماً وتسلَّم يُقال: كان كافراً ثمّ تسلّم أي أسلم والتسليم يعني: الرضا بما قدَّر الله وقضاه، والانقياد لأوامره وترك الاعتراض(٢) .

أمَّا المعنى الاصطلاحي لكلمتي الإسلام والمسلم، فقد قال الشيخ الصدوق: ( الإسلام، هو: الإقرار بالشهادتين، وهو الذي يُحقن به الدماء والأموال ومَن قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فقد حُقن ماله ودمه إلاّ بحقّيهما، وعلى الله حسابه )(٣) .

وقال المحقّق الحلّي: ( يكفي في الإسلام الإقرار بالشهادتين )(٤) .

كما قال الشهيد الأوّل: ( المسلم: مَن أظهر الشهادتين، ولم يجحد ما عُلم ثبوته من الدين ضرورةً )(٥) .

____________________

١ - إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الصحاح، ج٥، ص١٩٥٢.

٢ - محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ج ٨، ص٣٤٠.

٣ - محمد بن علي الصدوق، الهداية، ص٥٤.

٤ - جعفر بن الحسن الحلّي، شرائع الإسلام، ج٣، ص٦٣٢.

٥ - محمد بن مكي، الشهيد الأول، ذكرى الشيعة، ج١، ص٤٠٢.

١٤

ب - الكافر:

الكُفْرُ ( بالضمّ، ويُفتح ): ضدّ الإيمان.

وأصل الكُفر من الكَفْر ( بالفتح ) مصدر كَفَرَ بمعنى السَّتْر، وكذلك كَفَرَ بها يكْفُر ( كفوراً وكفراناً: جَحَدَها وسَتَرَها ).

كافَرَه حقَّه أي جَحَدَهُ، والمُكَفَّرُ كمُعظَّم: المجحودُ النعمة مع إحسانه.

وكافرٌ: جاحدٌ لأنعم الله تعالى، والجمع كُفَّار ( بالضمّ )، وكَفَرَةٌ محرّكة، وكِفارٌ ككِتاب.

المؤنث: كافِرَةٌ، جمعها كوافِرَ.

كَفَّار وكَفُور يعني كافر.

والكفّار أبلغ مِن الكفور(١) .

قال بعض أهل العلم: الكفر على أربعة أنحاء: كُفر إنكار ( بأن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به )، وكُفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق مَن لقيَ ربَّه بشيء مِن ذلك لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمَن يشاء.

فأمّا كفر الإنكار، فهو يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يُذكر له مِن التوحيد.

وأمّا كفر الجحود، فأنْ يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه، فهو كافر جاحد ككفر إبليس وكفر أُميّة بن أبي الصلت.

وأمّا كفر المعاندة، فهو أنْ يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه، ولا يَدِين به حسداً وبغياً، ككفر أبي جهل وأضرابه.

وأمّا كفر النفاق، فأنْ يقر بلسانه، ويكفر بقلبه ولا يعتقد.

الكُفر صنفان: أحدهما: الكُفر بأصل الإيمان وهو ضدّه، والآخر: الكُفر بفرع مِن فروع الإسلام، فلا يخرج به عن أصل الإيمان(٢) .

____________________

١ - محمد مرتضى الزبيدي، ج٣، ص ٥٢٤ - ٥٢٥ - ٥٢٧.

٢ - جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري، ج٥، ص ١٤٥.

١٥

أمَّا المعنى الاصطلاحي للكافر، فهو: مَن ينكر أو يشكّ في وجود الله أو وحدانيّته، أو نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو المعاد يوم القيامة، أو ضرورة مِن ضروريات الدين كوجوب الصلاة وحرمة الخمر(١) .

وينقسم الكافر كتقسيم أوّلي إلى:

١ - الكافر الحربي: هو الكافر غير الكتابي، أو الكتابي(٢) الذي لم يتعهّد بشرائط الذمّة مطلقاً(٣) .

٢ - الكافر الذِّمِّي: مَن له كتاب كاليهود والنصارى أو شبهة كتاب كالمجوس، وقَبِلَ بشروط الذمّة مع المسلمين والتزم بها(٤) .

٣ - الكافر المستأمَن: هو الذي يدخل إلى دار الإسلام بأمان مؤقت ؛ لتجارة أو رسالة أو حاجة أو للإطلاع على الدين الإسلامي(٥) .

٤ - الكافر المعاهد: وهو ما يُعقد معه معاهدة صلح، أي يعقد المسلمون مع بلاد غير إسلامية معاهدة صلح، والذي يتولّى إبرامها وليّ الأمر أو مَن يمثّله(٦) .

____________________

١ - د أحمد، فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص ٣٤٣.

٢ - المقصود بالكتابي: مَن له كتاب، وهم اليهود والنصارى، ومَن له شبهة كتاب وهم المجوس.

٣ - الميرزا جواد، التبريزي، ج ١، ص ٤٤٨.

٤ - د أحمد، فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص ١٩٨.

٥ - الحسن بن يوسف المطهَّر الحلي، تذكرة الفقهاء، ج ٩، ص ٣٢٢ كذلك: أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي، الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية، ج٢، ص٤٢ كذلك: جعفر بن خضر بن شلال، الحلّي، كشف الغطاء، ج٢، ص ٣٩٦.

٦ - نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، ج١، ص٢٣٥ كذلك: الحسن بن يوسف المطهَّر الحلّي، قواعد الأحكام، ج١، ص ٥١٦ وكذلك: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد، ابن قدامة، المغني، ج١٠، ص٥٢٠.

١٦

المبحث الثاني:

أقسام غير المسلم وماهيَّته

١٧

تمهيد:

يُعتبر غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي أقلّية دينية، وهؤلاء يُقسَّمون حسب التصنيف الديني إلى: أهل كتاب ومَن يُلحق بهم، ومَن ليس لهم كتاب سماوي.

لكن قبل الشروع في هذا التقسيم والحديث عنه، نذكر وجْهة نظر الإسلام حول مفهوم الأقليّات كمقدّمة لهذا المبحث:

نظرة الإسلام إلى مفهوم الأقلّيات:

للإسلام نظرة مغايرة لمفهوم الأقلّية والأكثرية، فهو لا ينظر لبني الإنسان داخل المجتمعات الإسلامية، أنَّ هناك أقلّية وأكثرية مِن ناحية عددية أو دينية أو عِرقية إلخ، بل المعيار الوحيد الذي يذكره ويطرحه - بشكل موسّع - للأقلّية والأكثرية، هو معيار الحقّ فمَن يتبعه فهم الأقلية، ومَن يضادّه هم الأكثرية، وليس لهذين المصطلحَين مِن ذِكر إلاّ في هذا المضمار:( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (١) ،( وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (٢) ،( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) ،( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٤) .

فالمسألة في نظر القرآن الكريم هي تحقّق العدالة للجميع، وإعطاءهم كافّة حقوقهم بصورة متساوية، والفَرق الوحيد داخل المجتمع هو اتِّباع الحقّ وعدمه.

وعليه فالإسلام لا يُفرِّق بين الناس مهما كانت فوارقهم اللُّغَوية والدينية، ومهما كانت عاداتهم وتقاليدهم، فكلّهم متساوون في الحقوق، وأمام القضاء، وأمام الدولة، ومع الناس الآخرين الذين يعيشون معهم في المجتمع،

____________________

١ - الأنعام: ١١٦.

٢ - المائدة: ١٠٣.

٣ - سبأ: ١٣.

٤ - المؤمنون: ٧٠.

١٨

فالحاكمية لله وحده( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (١) ، وذلك عِبر ما نزل في شريعةٍ مقدّسة وخاتمة لكلّ شرائعه السابقة.

أمّا مصطلح الأقلّية الدينية المطروح في المجتمع الإسلامي اليوم، فهو مصطلح معاصر تماشياً مع ما طُرح مِن معاهدات ومواثيق دولية، فدخلت في موسوعة الثقافة الإسلامية حديثاً، وإلاّ فالديانات الأخرى في المجتمع الإسلامي، هي ليست أقليّات حسب نظر الشرع الإسلامي، بل هم أهل ذمّة وعهْد، لهم أحكامهم وحقوقهم الكاملة طبقاً للشريعة المقدّسة، فلهم الحرّية الدينية في الالتزام بدياناتهم واعتقاداتهم ضمن شروط الذمّة فلولا هذه الشروط ؛ لتصدّع المجتمع بكامله وعمَّته الفوضى، واختلَّ النظام الاجتماعي هذا من الناحية الدينية.

أمَّا مِن ناحية اللغة أو اللون، فلا أقليّة في الإسلام مِن هذه الجهة، قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) (٢) ، فكل المجتمعات الإسلامية - بشتّى لُغاتها وألوانها - لا فرق فيما بينها في الشريعة المقدّسة بكلّ الحقوق والواجبات.

كذلك لا فرق في الأعراق والأقوام والقبائل في قاموس الإسلام:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (٣) فالتقوى واتّباع الحقّ هو معيار التكريم عنده عزّ وجلّ.

إذن ؛ فأصحاب الديانات الأخرى متساوون بالحقوق مع المسلمين، ولا يجوز إيذاءهم كما سيأتي في طيّات البحث إنشاء الله وعليه فلا يُطلق في الشريعة المقدّسة عليهم: أقليّة، بل أهل ذمّة، أو معاهدين، أو مستأمنين، لكنّ كلمة ( أقليّات دينية ) جاءت في الوقت الحاضر تماشياً مع المعاهدات والمواثيق الدولية.

____________________

١ - يوسف: ٤٠.

٢ - الروم: ٢٢.

٣ - الحجرات: ١٣.

١٩

المعنى اللُّغَوي للأقليّات:

كلمة الأقليّات - بصيغة النسبة - حديثة الاستعمال في اللغة العربية ؛ لذا فإنّ وجودها - بصيغة ( الأقليّات ) - في القواميس والمعاجم والموضوعات العربية قليل جداً.

ولكنّها استُعملت بتعريفات خاصّة بمؤسّسات دولية متخصّصة، تابعة لمنظّمة الأُمم المتّحدة أو منظّمات حقوق الإنسان.

وكلمة ( أقليّات ) اشتُقّت لغةً مِن مادّة ( قِلّة )، قليل مِن قليل، يقول السموءل مفاخراً:

تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا

فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ

المعنى الاصطلاحي:

ظهر مصطلح ( الأقليّات ) في الوقت المعاصر، حسب معايير عددية وسياسية، تأخذ بعين الاعتبار تطلّعات وآمال وأهداف الأقليّة مِن ناحية ( دينية أو عِرقية أو لُغوية ).

وبدأت التعريفات لهذا المصطلح من سنة ١٩٢٣م في ١٥ أيلول بخصوص شروط اكتساب الجنسية البولونية، حيث جاء في الرأي الاستشاري للمحكمة الدولية للعدْل الدولي، الصادر في ١٥/٩/١٩٢٣م، حول شروط اكتساب الجنسية البولونية، ما يلي:

( إنّ مصطلح الأقلّية يبدو أنّه يخص السكّان الذين يختلفون عن الشعب البولوني، من حيث العِرْق أو اللغة أو الدين، أي السكّان من أصل غير بولوني لهذه الأقاليم، سواء كانوا بولونيين أم لا )(١) .

وتوالت بعد ذلك التعريفات لهذا المصطلح ( الأقليّة ) عِبر المؤتمرات والمعاهدات الدولية، وآخرها تقريباً تعريف للموسوعة الإلكترونية ( ENCARTA ٢٠٠٥ )، وهو كما يلي:

____________________

. cavarel: Ledroit International puplic positif tome I ٣ ed. Editions apedone. Paris ١٩٧٣م p: ٣١٥ - (١)

٢٠

الظنّ انتهاؤها إلى حدّ المساواة ، ومنه إلى الزيادة ؛ لكثرة النفقة. وهذه الصورة عندهم أولى بالمنع(١) .

وإذا حجرنا في صورة المساواة ، فهل لمن وجد عين ماله عند المفلس الرجوعُ؟ فيه وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لإطلاق الحديث(٢) .

والثاني : لا ؛ لتمكّنه من استيفاء الثمن بتمامه(٣) .

وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله وأثمانها في حساب ديونه؟ فيه - عندهم - وجهان(٤) .

وقال بعضهم : إنّ الوجهين مبنيّان على الوجهين في جواز الرجوع في الصورة السابقة إن لم نثبت الرجوع ، أُدخلت(٥) رجاءَ الوفاء. وإن أثبتناه فلا(٦) .

وهذا كلّه ساقط عندنا ، وقد عرفت مذهبنا فيه ، وأنّ الحجر إنّما يثبت مع القصور ، لا مع المساواة.

مسألة ٢٦٧ : يشترط في الحجر التماسُ الغرماء من الحاكم ذلك‌ ، وليس للحاكم أن يتولّى ذلك من غير طلبهم ؛ لأنّه حقٌّ لهم ، وهو لمصلحة الغرماء والمفلس وهُمْ ناظرون لأنفسهم لا يحكم الحاكم عليهم.

نعم ، لو كانت الديون لمن للحاكم عليه ولايةٌ ، كان له الحجر ؛ لأنّه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٥ - ٣٦٦.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (٤)

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٩ - ٤٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦.

(٥) أي الأعيان في الأموال والأثمان في الديون.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨.

٢١

الغريم في الحقيقة ، فله التماسُ ذلك من نفسه وفِعْلُه ، كما لو كانت الديون لمجانين أو أطفال أو لمحجورٍ عليهم بالسفه وكان وليُّهم الحاكمَ ، تولّاه القاضي لمصلحتهم من غير التماسٍ.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْن للغُيّاب ، لم يحجر عليه الحاكم‌ ؛ لأنّ الحاكم لا يستوفي ما للغُيّاب في الذمم ، بل يحفظ أعيان أموالهم.

ب - لو التمس بعضُ الغرماء الحجرَ دون بعضٍ ، فإن كانت ديون الملتمسين قدراً يجوز الحجر بها ، حُجر عليه لذلك القدر‌ ، وأُجيبوا إلى ذلك ، ثمّ لا يختصّ الحجر بهم ، بل يعمّ أثره الجميع.

وإن لم تكن ديونهم زائدةً على أمواله ، فالأقرب : جواز الحجر ، ولا ينتظر التماس الباقين ؛ لئلّا يضيع على الملتمس ماله [ بتكاسل ](١) غيره.

ويُحتمل العدمُ ، وهو أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٢) .

ج - لو لم يلتمس أحد من الغرماء الحجرَ فالتمسه المفلس ، فالأقرب عندي : جواز الحجر عليه‌ ؛ لأنّ في الحجر مصلحةً للمفلس ، كما فيه مصلحة للغرماء ، وكما أجبنا الغرماء إلى تحصيل ملتمسهم حفظاً لحقوقهم ، كذا يجب أن يجاب المفلس تحصيلاً لحقّه ، وهو حفظ أموال الغرماء ليسلم من المطالبة والإثم ، وإذا تحقّق ثبوت غرضٍ للمفلس صحيحٍ في الحجر عليه ، أُجيب إليه ، وقد روي أنّ حَجْر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على معاذ كان بالتماسٍ‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بتكامل ». وذاك تصحيف.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦

٢٢

من معاذ دون طلب الغرماء(١) ، وهو أحد وجهي الشافعي. والثاني : لا يُجاب المفلس إليه ؛ لأنّ الحُرّيّة والرشد ينافيان الحجر ، وإنّما يصار إلى الحجر إذا حقّت طلبة الغرماء(٢) .

‌____________________

(١) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٤.

٢٣

الفصل الثالث : في أحكام الحجر‌

إذا حجر الحاكم على المديون ، ثبتت أحكام أربعة : منعه من التصرّف في ماله ، وبيع ماله للقسمة على الديون ، واختصاص صاحب العين بها ، وحبسه إلى ثبوت إعساره. فهنا مباحث أربعة :

البحث الأوّل : في منعه من التصرّف.

مسألة ٢٦٨ : يستحبّ للحاكم الإعلامُ بالحجر ، والنداء على المفلس ، ويُشهد الحاكم عليه بأنّه قد حجر عليه والإعلان بذلك بحيث لا يستضرّ معاملوه. فإذا حجر عليه ، منعه من التصرّف المبتدأ في المال الموجود عند الحجر بعوضٍ أو غيره ، سواء ساوى العوض أو قصر.

والتصرّف قسمان : إمّا أن يصادف المال أو لا ، والأوّل إمّا إنشاء أو إقرار.

والأوّل ضربان : ما يصادف المال إمّا بتحصيل ما ليس بحاصل ، كالاصطياد والاحتطاب وقبول الوصيّة ، وهذا لا يُمنع منه إجماعاً ؛ لأنّ الغرض من الحجر منعه ممّا يتضرّر به الغرماء. وإمّا تفويت ما هو حاصل ، فإن تعلّق بما بعد الموت - كالتدبير والوصيّة - صحّ ، فإن حصَّل زيادةً على الديون ، نفذت الوصيّة ، وإلّا بطلت. وإن كان غير متعلّقٍ بالموت ، فإمّا أن يكون مورده عينَ مالٍ أو ما في الذمّة. وإمّا أن لا يكون تصرّفه مصادفاً للمال ، فلا بُدَّ من البحث عن هذه الأقسام بعون الله تعالى.

٢٤

مسألة ٢٦٩ : كلّ تصرّفٍ للمفلس غير مصادفٍ للمال فإنّه لا يُمنع منه ؛ لكماليّته ، وعدم المانع من التصرّف فيما تصرّف فيه حيث لم يكُ مالاً ، وذلك كالنكاح ، ولا يُمنع منه. وأمّا مؤونة النكاح فسيأتي إن شاء الله تعالى.

وكذا الطلاق لا يُمنع منه ؛ لأنّ تصرّفه هذا لم يصادف مالاً ، بل هو إسقاط ما يجب عليه من المال ، فكان أولى بالجواز ، وإذا صحّ منه الطلاق مجّاناً ، كان صحّة الخلع - الذي هو في الحقيقة طلاقٌ بعوضٍ - أولى بالجواز.

وكذا يصحّ منه استيفاء القصاص ؛ لأنّه ليس تصرّفاً في المال ، ولا يجب عليه قبول الدية وإن بذل الجاني ؛ لأنّ القصاص شُرّع للتشفّي ودفع الفساد ، والدية إنّما تثبت صلحاً ، وليس واجباً عليه تحصيل المال بإسقاط حقّه.

وكذا له العفو عن القصاص مجّاناً بغير عوضٍ. أمّا لو وجبت له الدية بالأصالة - كما في جناية الخطأ - فإنّه ليس له إسقاطها ؛ لأنّه بمنزلة الإبراء من الدَّيْن.

وكذا له استلحاق النسب ؛ إذ ليس ذلك تصرّفاً في المال وإن وجبت المؤونة ضمناً. وكذا له نفيه باللعان.

وكذا لا يُمنع من تحصيل المال بغير عوضٍ ، كالاحتطاب وشبهه ، وقد سلف(١) .

مسألة ٢٧٠ : لو صادف تصرّفه عينَ مالٍ بالإتلاف إمّا بمعاوضةٍ كالبيع والإجارة ، أو بغير معاوضةٍ كالهبة والعتق والكتابة‌ ، أو بالمنع من الانتفاع‌

____________________

(١) في ص ٢٣ ، ضمن المسألة ٢٦٨.

٢٥

كالرهن ، قال الشيخرحمه‌الله : يبطل تصرّفه(١) . وهو أصحّ قولي الشافعي - وبه قال مالك والمزني - لأنّه محجور عليه بحكم الحاكم ، فوجب أن لا يصحّ تصرّفه ، كما لو كان سفيهاً. ولأنّ أمواله قد تعلّق بها حقّ الغرماء ، فأشبهت تعلّق [ حقّ ](٢) المرتهن. ولأنّ هذه التصرّفات غير نافذة في الحال إجماعاً ، فلا تكون نافذةً فيما بَعْدُ ؛ لعدم الموجب.

والقول الثاني للشافعي : إنّ هذه التصرّفات لا تقع باطلةً في نفسها ، بل تكون موقوفةً ، فإن فضل ما تصرّف به عن الدَّيْن إمّا لارتفاع سعر أو لإبراء بعض المستحقّين ، نفذ ، وإلّا بانَ أنّه كان لغواً ؛ لأنّه محجور عليه بحقّ الغرماء ، فلا يقع تصرّفه باطلاً في أصله ، كالمريض(٣) .

وهذا القول لا بأس به عندي ، والأوّل أقوى.

والفرق بينه وبين المريض ظاهر ؛ فإنّ المريض غير محجور عليه ، ولهذا لو صرف المال في ملاذّه ومأكله ومشروبه ، لم يُمنع منه ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ٢٧١ : إن قلنا ببطلان التصرّفات ، فلا بحث‌. وإن قلنا : إنّها تقع موقوفةً ، فإن فضل ما تصرّف فيه وانفكّ الحجر ، ففي نفوذه للشافعي قولان(٤) .

وإذا لم يف بديونه ، نقضنا الأخفّ فالأخفّ من التصرّفات ، ونبدأ‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٦٩ ، المسألة ١١.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٩٠ - ٤٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، المغني ٤ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩.

٢٦

بالهبة فننقضها ؛ لأنّها تمليك من غير بدلٍ ، فإن لم يف ، نقضنا البيع ، بخلاف الوقف والعتق ؛ لأنّ البيع يلحقه الفسخ ، فإن لم يف ، رددنا العتق والوقف.

قال بعضهم : هذه التصرّفات على الترتيب ، فالعتق أولى بالنفوذ ؛ لقبوله الوقف وتعلّقه بالإقرار ، وتليه الكتابة ؛ لما فيها من المعاوضة ، ثمّ البيع والهبة ؛ لأنّهما لا يقبلان التعليق(١) .

واختلفوا في محلّ القولين :

فقال بعضهم : إنّهما مقصوران على ما إذا اقتصر الحاكم على الحجر ، ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه ، فإن فعل ذلك ، لم ينفذ تصرّفه قولاً واحداً.

وقال آخَرون : إنّهما مطّردان في الحالين ، وهو الأشهر عندهم.

فعلى هذا هل تجب الزكاة عليه؟ فعلى الأوّل لا تجب ، وعلى الثاني تجب ما دام ملكه باقياً(٢) .

وقول الشافعي : « لا زكاة عليه » محمول عند هؤلاء على ما إذا باع المفلس ماله من الغرماء(٣) .

مسألة ٢٧٢ : إذا قلنا بأنّه تنفذ تصرّفاته بعد الحجر ، وجب تأخير ما تصرّف فيه‌ ، وقضي الدَّيْن من غيره فربما يفضل ، فإن لم يفضل ، نقضنا من تصرّفاته الأضعف فالأضعف على ما تقدّم ، ويؤخّر العتق كما قلناه.

فإن لم يوجد راغب في أموال المفلس إلّا في العبد المعتق ، والتمس الغرماء من الحاكم بيعه ليقبضوا حقّهم معجّلاً ، فالأقرب : إجابتهم إلى ذلك ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٧.

٢٧

وإلّا لزم أحد الضررين : إمّا تضرّر الغرماء بالصبر ، وليس واجباً ، وإمّا تضرّر المفلس والغرماء معاً لو بِيعت أمواله بالرخص.

وقال بعض الشافعيّة : يحتمل أن ينقض من تصرّفاته الأخير فالأخير ، كما في تبرّعات المريض إذا زادت على الثلث(١) .

وهو حسن لا بأس به عندي.

فلو وقعت دفعةً ، احتُمل القرعة.

ولو أجاز الغرماء بعض التصرّفات ، نفذ قطعاً ، سواء كان سابقاً أو لاحقاً ، وسواء كان عتقاً أو غيره.

هذا إذا باع من غير الغرماء ، ولو باع منهم ، فسيأتي.

مسألة ٢٧٣ : تصرّفاته الواردة على ما في الذمّة صحيحة‌ ، كما لو اشترى بثمن في الذمّة ، أو باع طعاماً سلفاً ، صحّ ، ويثبت في ذمّته ، وهو أظهر مذهبي الشافعي.

والثاني : أنّه لا يصحّ شراؤه ، كالسفيه(٢) .

والأوّل أقوى ؛ لوجود المقتضي ، وهو صدور العقد من أهله في محلّه ، سالماً عن معارضة منع حقّ الغرماء ؛ لأنّه لم يرد إلّا على أعيان أمواله. وكذا لو اقترض.

وليس للبائع فسخ البيع ، سواء كان عالماً بالحجر أو جاهلاً به ؛ لأنّ التفريط من جهته حيث أهمل الاحتياط في السؤال عن حالة مُعامله.

إذا ثبت هذا ، فإنّ هذه المتجدّدات وشبهها من الاحتطاب وغيره تدخل تحت الحجر.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩ - ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨.

٢٨

مسألة ٢٧٤ : لو باعه عبداً بثمن في ذمّته بشرط الإعتاق‌ ، فإن أبطلنا جميع التصرّفات - سواء وردت على عين المال أو في الذمّة - فالأقوى : بطلان البيع ؛ لأنّه تصرّف في المال وإن كان في الذمّة.

وإن قلنا بالصحّة فيما يكون مورده الذمّة على ما اخترناه ، صحّ البيع والعتق معاً ، ويكون العتق موقوفاً ، فإن قصر المال ، احتمل صرفه في الدَّيْن ، لا رجوعه إلى البائع.

والأقوى عندي صحّة عتقه في الحال.

ولو وهب بشرط الثواب ثمّ أفلس ، لم يكن له إسقاط الثواب.

مسألة ٢٧٥ : لو أقرّ بدَيْنٍ ، فإمّا أن يكون قد أقرّ بدَيْنٍ لزمه‌ وأضافه إلى ما قبل الحجر إمّا من معاملةٍ أو قرضٍ أو إتلاف ، أو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر.

فالأوّل يلزمه ما أقرّ به ؛ لأنّ الحجر ثبت عليه لحقّ غيره ، فلا يمنع صحّة إقراره.

وهل يشارك الـمُقرّ له الغرماء بمجرّد إضافة إقراره إلى سببٍ سابق؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّه عاقل ، فينفذ إقراره ؛ لعموم قولهعليه‌السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز »(١) وعموم الخبر(٢) في قسمة ماله بين غرمائه ، وهو أصحّ قولي الشافعي ، وبه قال ابن المنذر(٣) .

قال الشافعي : وبه أقول(٤) .

____________________

(١) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٧ ، الهامش (٤)

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨ ، المغني ٤ : ٥٣١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠١.

(٤) الأُم ٣ : ٢١٠ ، مختصر المزني : ١٠٤.

٢٩

وقال : لو كان المفلس قصّاراً أو صائغاً وأفلس وحُجر عليه وعنده ثياب الناس وحُليّهم ، أيقال : لا يُقبل قوله في ردّ أموال الناس؟(١) .

ولأنّ هذا دَيْنٌ ثابت عليه مضاف - بقوله - إلى ما قبل الحجر ، فوجب أن يشارك صاحبه الغرماء ، كما لو ثبت بالبيّنة ، وبالقياس على ما إذا أقرّ المريض بدَيْنٍ يزاحم الـمُقرّ له غرماء الصحّة.

والقول الثاني للشافعي : إنّه لا يُقبل في حقّ الغرماء - وبه قال مالك وأحمد ومحمّد بن الحسن - لأنّ حقّ الغرماء تعلّق بما لَه من المال ، وفي القبول إضرار بهم بمزاحمته إيّاهم. ولأنّه متّهم في هذا الإقرار ، فلا يسقط به حقّ الغرماء المتعلّق بماله ، كما لو أقرّ بما رهنه ، فحينئذٍ لا يشارك الـمُقرّ له الغرماء ، بل يأخذ ما فضل عنهم(٢) .

وتُمنع التهمة ؛ لأنّ ضرر الإقرار في حقّه أكثر منه في حقّ الغرماء ، فلا تهمة فيه ، فإنّ الظاهر من حال الإنسان أنّه لا يُقرّ بدَيْنٍ عليه وليس عليه دَيْنٌ.

مسألة ٢٧٦ : لو أقرّ بدَيْنٍ لاحقٍ بعد الحجر وأسنده إلى ما بعد الحجر ، فإن كان قد لزمه باختيار صاحبه - كالبيع والقرض وغيرهما من المعاملات المتجدّدة بعد الحجر - فإنّه يكون في ذمّته ، ولا يشارك الـمُقرّ له الغرماء ؛ لأنّ صاحب المال رضي بذلك إن علم أنّه مفلس ، وإن لم يعلم ، فقد فرّط في ذلك.

وإن كان قد لزمه عن غير رضا صاحبه - كما لو أتلف عليه مالاً أو جنى عليه جناية - فالأقرب : أنّه يُقبل في حقّ الغرماء ، كما لو أسند الدَّيْن‌

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢١٠.

(٢) نفس المصادر في الهامش (٣) من ص ٢٨.

٣٠

إلى [ سببٍ ](١) سابقٍ على الحجر ؛ لأنّ حقّه ثبت بغير اختياره ، وهو أصحّ طريقي الشافعيّة(٢) .

لا يقال : لِمَ لا قُدّم حقّه على حقّ الغرماء كما قُدّم حقّ المجنيّ عليه على حقّ المرتهن؟

لأنّا نقول : الفرق أنّ الجناية لا محلّ لها سوى الرهن ، والدَّيْن متعلّق بالرهن والذمّة ، فقد اختصّ بالعين ، وفي مسألتنا الدَّيْنان متعلّقان بالذمّة فاستويا. ولأنّ الجناية قد حصلت من الرهن الذي علّقه به صاحبه ، فقُدّمت الجناية كما تُقدَّم على حقّ صاحبه ، وهنا الجناية كانت من المفلس دون المال ، فافترقا.

ونظيره في حقّ المفلس أن يجني عبده ، فيقدّم على حقّ الغرماء.

والطريق الثاني : أنّه كما لو قال : عن معاملةٍ(٣) .

ولو أقرّ بدَيْن ولم يُسنده إلى ما قبل الحجر ولا إلى ما بعده ، حُمل على الثاني ، وجُعل بمنزلة ما لو أسنده إلى ما بعد الحجر ؛ لأصالة التأخّر ، وعدم التعلّق.

مسألة ٢٧٧ : لو أقرّ المفلس بعين من الأعيان - التي في يده - لرجلٍ‌ وقال : غصبته منه أو استعرته أو أخذته سَوْماً أو وديعةً ، فالأقرب : النفوذ ، ومضيّ الإقرار في حق الغرماء ، كما لو أقرّ بدَيْنٍ سابقٍ.

وللشافعي قولان ، كالقولين في الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر(٤) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٨.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣١

لكنّ الإقرار بالدَّيْن السابق على الحجر أثره أن يزاحم الـمُقرّ له الغرماء ، وهنا يُسلّم المـُقرّ به على القول بالقبول ، وعلى القول بعدمه إن فضل ، سلّم العين إلى المـُقرّ له ، وإلّا غرم قيمتها بعد اليسار.

فإن كذّبه المـُقرّ له ، بطل إقراره ، وقُسّمت العين بين الغرماء.

وكذا لو أقرّ بدَيْنٍ فكذّبه المـُقرّ له ، لم يُسمع إقراره. ومع عدم قبول إقراره بالعين إن فضلت ، دُفعت العين إلى المـُقرّ له قطعاً ، بخلاف البيع ؛ فإنّ فيه إشكالاً.

وكذا الإشكال لو ادّعى أجنبيّ شراء عين في يده من(١) قبل الحجر فصدّقه.

واعلم أنّ الفرق بين الإنشاءات حيث رددناها في الحال قطعاً وقلنا : الأصحّ أنّه لا يُحكم بنفوذها عند انفكاك الحجر أيضاً ، وبين الأقارير حيث قبلناها في حقّ المفلس جزماً وفي حقّ الغرماء على الأصحّ : أنّ مقصود الحجر منعُه من التصرّف ، فيناسبه إلغاء ما ينشئه ، والإقرار إخبار عمّا مضى ، والحجر لا يسلب العبارة عنه.

مسألة ٢٧٨ : لو أقرّ بما يوجب القصاص عليه أو الحدّ ، قُبِل‌ ، وأُجري عليه حكم إقراره ، سواء أدّى إلى التلف أو لا ؛ لانتفاء التهمة. ولأنّه عاقل أقرّ بما يؤثّر في حقّه حكماً ، ولا مانع له؛ إذ المانع التصرّف في الماليّة وليس ثابتاً ، فثبت موجَب إقراره.

ولو كان الإقرار بسرقةٍ توجب القطع ، قُبِل في القطع ، وأمّا في المسروق فكما لو أقرّ بمالٍ ، والقبول هنا أولى ؛ لبُعْد الإقرار عن التهمة.

____________________

(١) في « ث » : « منه » بدل « من ».

٣٢

ولو أقرّ بما يوجب القصاص فعفا المستحقّ على مالٍ ، فهو كإقرارٍ بدَيْن جناية.

وقال بعض الشافعيّة : يُقطع هنا بالقبول ؛ لانتفاء التهمة(١) .

مسألة ٢٧٩ : لو ادّعى رجل على المفلس مالاً لزمه قبل الحجر فأنكر المفلس‌ ، فإن أقام المدّعي بيّنةً ، ثبت حقّه ، وساوى الغرماء. وإن لم تكن له بيّنة ، كان على المفلس اليمين ، فإن حلف ، برأ ، وسقطت الدعوى. وإن نكل ، رُدّت اليمين على المدّعي ، فإذا حلف ، ثبت الدَّيْن.

وهل يشارك المدّعي الغرماء؟ إن قلنا : إنّ النكول وردّ اليمين كالبيّنة ، زاحَم المدّعي الغرماء ، كما لو ثبت دَيْنه بالبيّنة. وإن قلنا : إنّه كالإقرار ، فكالقولين.

مسألة ٢٨٠ : لا خلاف في أنّ الحجر يتعلّق بالمال الموجود للمفلس حالة الحجر‌ ، وأمّا المتجدّد بعده باصطيادٍ أو اتّهاب أو قبول وصيّة ، الأقرب : أنّ الحجر يتعدّى إليه أيضاً ؛ لأنّ مقصود الحجر إيصال حقوق المستحقّين إليهم ، وهذا لا يختصّ بالموجود عند الحجر ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ الحجر لا يتعدّى إلى المتجدّد ؛ لأنّ الحجر على المفلس لقصر يده عن التصرّف فيما عنده ، فلا يتعدّى إلى غيره ، كما أنّ حجر الراهن على نفسه في العين المرهونة لا يتعدّى إلى غيرها(٢) .

إذا ثبت هذا ، فإذا اشترى شيئاً وقلنا بصحّة شرائه ، ففيه مثل هذا‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

(٢) الوسيط ٤ : ١٠ ، الوجيز ١ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣٣

الخلاف.

وهل للبائع الخيارُ والتعلّق بعين متاعه؟ الأقرب : العدم - وهو أحد وجوه الشافعي(١) - لأنّه إن(٢) كان عالماً ، كان بمنزلة مَن اشترى معيباً يعلم بعيبه. وإن كان جاهلاً ، فقد قصّر بترك البحث مع سهولة الوقوف عليه ؛ فإنّ الحاكم يشهر أمر المحجور عليه بالنداء والإشهاد والإعلان.

والثاني : أنّ البائع إن كان عالماً ، فلا خيار له. وإن كان جاهلاً ، فله الخيار ، والرجوع إلى عين ماله.

والثالث : أنّ للبائع الخيارَ في الرجوع إلى عين ماله وإن كان عالماً ؛ لتعذّر الوصول إلى الثمن(٣) .

وكذا المـُقرض.

ويقرب من هذا ما إذا باع من عبدٍ بغير إذن مولاه وقلنا بصحّة البيع ، فإنّ الثمن يتعلّق بذمّته يتبع به بعد العتق ، فإن كان عالماً ، ففي ثبوت الخيار وجهان(٤) .

وإن كان جاهلاً ، يثبت.

مسألة ٢٨١ : إذا لم يثبت للبائع الرجوعُ في المبيع على المفلس المحجور ، فهل يزاحم الغرماء بالثمن؟ الأقرب : المنع‌ ؛ لأنّه دَيْنٌ حادث بعد الحجر برضا صاحبه ، وكلّ ما هذا شأنه من الديون لا يزاحم مستحقّها الغرماء ، بل إن فضل منهم شي‌ء ، أخذه ، وإلّا صبر إلى أن يجد مالاً ، وهو أصحّ قولي الشافعي.

____________________

(١ و ٣) الوسيط ٤ : ١٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢ - ١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وإن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الوجهان أيضاً للشافعيّة ، راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣.

٣٤

والثاني : أنّه يزاحم ؛ لأنّه وإن كان دَيْناً جديداً فإنّه في مقابلة ملكٍ جديد ، فلمّا زاد المال جاز أن يزيد الدَّيْن ، بخلاف الصداق الذي [ لزمه ](١) بنكاح بعد الفلس ودَيْن ضمنه بعد الفلس ، فإنّه لا مقابل له هناك(٢) .

مسألة ٢٨٢ : أقسام ديون المفلس ، الثابتة بعد الحجر ثلاثة :

أ : ما لزم باختيار مستحقّه‌ ، فإن كان في مقابلته شي‌ء - كثمن المبيع - فقد ذكرنا الخلاف في أنّه هل له المطالبة به أم لا؟ وإن لم يكن في مقابلته شي‌ء ، فلا خلاف في أنّ مستحقّه لا يُضارِب الغرماء ، بل يصبر إلى فكاك الحجر.

ب : ما لزم بغير اختيار المستحقّ‌ ، كأرش الجناية وغرامة الإتلاف ، وفيه وجهان :

[ أحدهما : ] أنّه لا يضارب به ؛ لتعلّق حقوق الأوّلين بأعيان أمواله ، فصار كما لو جنى الراهن ولا مال له غير المرهون ، لا يزاحم المجنيّ عليه المرتهن.

والثاني : أنّه يضارب ؛ لأنّه لم يوجد منه تقصير ، فيبعد تكليفه الانتظار(٣) .

ج : ما يتجدّد بسبب مؤونات المال‌ ، كأُجرة الوزّان والناقد والكيّال والحمّال والمنادي والدلّال وأُجرة البيت الذي يُحفظ فيه المتاع ، فهذه المـُؤن كلّها مقدَّمة على ديون الغرماء ؛ لأنّها لمصلحة الحجر وإيصال أرباب‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣.

(٣) الوجهان أيضاً للشافعيّة ، راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٦٩.

٣٥

الحقوق حقوقهم ، ولو لم تُقدَّم لم يرغب أحد في تلك الأعمال ، وحصل الضرر بالمفلس والغرماء.

وهذا كلّه إذا لم يوجد متطوّعٌ بذلك ، ولا في بيت المال سعة له ، فإن وُجد متطوّعٌ أو كان في بيت المال سعة ، لم يُصرف مال المفلس إليها.

مسألة ٢٨٣ : شرطنا في التصرّف - الذي يُمنع المفلس منه - كونه مبتدأً‌ ، كالابتداء بالبيع والصدقة والوقف والكتابة والهبة ، أمّا ما ليس بمبتدأ فإنّه لا يُمنع منه ، فلو اشترى قبل الحجر شيئاً ثمّ اطّلع على عيبه بعد الحجر ، فله الردّ بالعيب إن كانت الغبطة في الردّ ؛ لأنّه ليس ابتداء تصرّفٍ، بل هو من أحكام البيع السابق ولواحقه ، والحجر لا يمنع من الأحكام السابقة عليه ، وليس ذلك كما لو باع مع الغبطة ؛ لأنّ ذلك تصرّف مبتدأ ، والفسخ ليس تصرّفاً مبتدأً ، فافترقا.

فإن منع من الردّ بالعيب السابق تصرّفٌ أو عيبٌ حادث ، لزم الأرش ، ولم يملك المفلس إسقاطه ؛ لأنّه تصرّف في مالٍ وجب له بالإتلاف إلى غير عوضٍ ، وهو ممنوع من الإتلاف بالعوض فبغيره أولى.

ولو كانت الغبطة في ترك الردّ بأن كان قيمته مع العيب أكثر من ثمن المثل ، لم يكن له الردُّ ؛ لما فيه من تفويت المال بغير عوضٍ.

وكذا المريض لو اشترى حال صحّته شيئاً ثمّ وجد عيبه في مرضه فأمسكه والغبطة في الردّ ، كان المقدار الذي ينقصه العيب معتبراً من الثلث.

وكذا وليّ الطفل إذا وجد ما اشتراه للطفل معيباً وكانت الغبطة في إبقائه ، لم يكن له الردّ.

ويثبت في هذه المواضع كلّها الأرش ؛ لأنّا لا نشترط في وجوب الأرش امتناع الردّ.

٣٦

وقال الشافعي : لا يثبت الأرش في هذه الصور ؛ بناءً على أصله من أنّ الأرش لا يثبت مع إمكان الردّ ، والردّ هنا ممكن غير ممتنعٍ في نفسه ، بل إنّما امتنع لأنّ المصلحة اقتضت الامتناع منه(١) .

مسألة ٢٨٤ : لو تبايعا بخيار ففلّسا أو أحدهما ، لم يبطل خيار المفلس‌ ، وكان له إجازة البيع وردّه ، سواء رضي الغرماء أو سخطوا.

ولا يُعتبر هنا الغبطة ؛ لأنّ ذلك ليس تصرّفاً مبتدأً ، وإنّما مُنع المفلس من التصرّفات المستحدثة.

وفارق الفسخ والإجازة بالخيار الردَّ بالعيب ؛ لأنّ العقد في زمن الخيار متزلزل لا ثبات له ، فلا يتعلّق حقّ الغرماء بالمال ، ويضعف تعلّقه به ، بخلاف ما إذا خرج معيباً ، وإذا ضعف التعلّق جاز أن لا يُعتبر شرط الغبطة ، وهو أظهر وجوه الشافعي.

والثاني : أنّ تجويز الفسخ والإجازة متقيّد بالغبطة ، كالردّ بالعيب.

وهو مخرَّج من عقد المريض في صحّته بشرط الخيار ثمّ يفسخ أو يُجيز حالة المرض على خلاف الغبطة ، فإنّه تصرّف من الثلث.

والفرق : أنّ حجر المريض أقوى ، فإنّ إمضاء الورثة تصرّفَ المريض قبل الموت لا يفيد شيئاً ، وإمضاء الغرماء وإذنهم فيما يفعله المفلس يفيدهم الصحّة والاعتبار.

والثالث : أنّ كلّ واحدٍ من الفسخ والإمضاء إن وقع على وفق الغبطة ، فهو صحيح ، وإلّا فالنظر إلى الخلاف في الملك في زمن الخيار وإلى أنّ الذي أفلس أيّهما هو؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٠.

٣٧

فإن كان المشتري وقلنا : الملك للبائع ، فللمشتري الإجازة والفسخ. أمّا الإجازة : فلأنّها جلب ملك. وأمّا الفسخ : فلا يمنع دخول شي‌ء في ملكه ، إلّا أنّه أزال ملكاً. وإن قلنا : الملك للمشتري ، فله الإجازة ؛ لأنّه يستديم الشي‌ء في ملكه ، فإن فسخ ، لم يجز ؛ لما فيه من إزالة الملك.

وإن أفلس البائع ، فإن قلنا : الملك له ، فله الفسخ ؛ لأنّه يستديم الملك ، وليس له الإجازة ؛ لأنّه يُزيله. وإن قلنا : الملك للمشتري ، فللبائع الفسخ والإجازة ، كما قلنا في طرف المشتري(١) .

وما ذكرناه أولى.

ولو قيل في الردّ بالعيب : إنّه لا يتقيّد بالغبطة كما في الخيار ، كان وجهاً.

مسألة ٢٨٥ : لو جُني على المفلس أو على مملوكه أو على مورّثه جناية ، فإن كانت خطأً ، وجب المال‌ ، وتعلّق به حقوق الغرماء ، ولا يصحّ منه العفو عنه. وإن كانت عمداً توجب القصاص ، تخيّر بين القصاص والعفو.

وليس للغرماء مطالبته بالعفو على مالٍ ؛ لأنّه اكتساب للمال وتملّك ، وهو غير لازمٍ ، كما لا يلزمه الكسب وقبول الهبة.

فإن استوفى القصاص ، فلا كلام. وإن عفا على مالٍ ورضي الجاني ، ثبت المال ، وتعلّق به حقوق الغرماء.

وإن عفا مطلقاً ، سقط حقّه من القصاص ، ولم يثبت له مالٌ - وهو أحد قولي الشافعي(٢) - لأنّ موجَب جناية العمد القصاصُ خاصّةً.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٤ - ١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٠.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٤.

٣٨

وله قولٌ آخَر : إنّ موجَبها أحد الأمرين : إمّا القصاص ، أو الدية(١) .

فإن عفا عن القصاص ، تثبت له الدية ، وتعلّق بها حقوق الغرماء.

وإن عفا على غير مالٍ ، فإن قلنا : الواجب القصاصُ خاصّةً ، لم يثبت له شي‌ء. وإن قلنا : الواجب أحد الأمرين ، ثبتت الدية ، ولم يصح إسقاطه لها ؛ لحقّ الغرماء ؛ لأنّ عفوه عن القصاص يوجب الدية ، فلا يصحّ منه إسقاطها.

مسألة ٢٨٦ : للمفلس المحجور عليه الدعوى‌ ؛ لأنّه ليس تصرّفاً في مالٍ ، بل استيجاب مالٍ ، ولا نعلم فيه خلافاً.

فإذا ادّعى على غيره بمالٍ ، فإن اعترف المدّعى عليه ، أو قامت له البيّنة ، ثبت له المال ، وتعلّق به حقّ الغرماء. وإن أنكر ولا بيّنة فإن حلف ، برئ ، وسقطت الدعوى.

ولو أقام المفلس شاهداً واحداً بدعواه ، فإن حلف مع شاهده ، جاز ، واستحقّ المال ، وتعلّق به حقّ الغرماء. وإن امتنع ، لم نجبره على اليمين ؛ لأنّا لا نعلم صدق الشاهد ، ولو علمناه ، يثبت الحقّ بشهادته من غير يمين ، فلا نجبره على الحلف على ما لا نعلم صدقه. ولأنّه تكسّب ، وليس واجباً عليه.

ولم يحلف الغرماء مع الشاهد عندنا - وهو الجديد للشافعي ، وبه قال أحمد(٢) - لأنّه لا يجوز للإنسان أن يحلف ليُثبت بيمينه ملكاً لغيره حتى يتعلّق حقّه به ، كما لا يجوز للزوجة أن تحلف لإثبات مالٍ لزوجها وإن كان إذا ثبت ، تعلّقت نفقتها به.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٨ - ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٥٢٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥١.

٣٩

وقال في القديم : إنّ الغرماء يحلفون ؛ لأنّ حقوقهم تتعلّق بما يثبت للمفلس كما يحلف الورثة مع شاهدهم بمالٍ(١) لمورّثهم وللوكيل في العقد إذا حالفه مَن العقد معه ، تحالفا وإن ثبت العقد لغيره(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ الورثة يُثبتون بأيمانهم الملكَ لأنفسهم ، والوكيل في العقدِ اليمينُ متعلّقةٌ به ؛ لأنّه هو العاقد ، فيُثبت بيمينه فعلَ نفسه ، ولهذا لا يحلف موكّله على ذلك.

وكذا مَنْ مات وعليه دَيْنٌ فادّعى وارثه دَيْناً له على رجل وأقام عليه شاهداً وحلف معه ، يثبت الحقّ ، وجُعل المال في سائر تركاته. وإن امتنع من اليمين أو لم يكن له شاهد ونكل المدّعى عليه عن اليمين ولم يحلف الوارث اليمينَ المردودة ، فهل يحلف الغرماء؟

أمّا عندنا فلا ؛ لما تقدّم. وأمّا عند الشافعي فقولان له :

الجديد كقولنا ؛ لأنّ حقّه فيما يثبت للميّت ، أمّا إثباته للميّت فليس إليه ، ولهذا لو وصّى لإنسانٍ بشي‌ء فمات قبل القبول ولم يقبله وارثه ، لم يكن للغريم القبولُ.

وقال في القديم : يحلف الغريم ؛ لأنّه ذو حقّ في التركة ، فأشبه الوارث(٣) .

إذا عرفت هذا ، فالقولان أيضاً في اليمين الثابتة بالنكول ، وهو ما إذا‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « على مال » بدل « بمال ».

(٢) نفس المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥ - ١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200