تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه15%

تاريخ الاجتهاد ومناهجه مؤلف:
تصنيف: رسائل وأطاريح جامعية
الصفحات: 249

تاريخ الاجتهاد ومناهجه المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 249 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99238 / تحميل: 13373
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الاجتهاد ومناهجه

تاريخ الاجتهاد ومناهجه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الفصل الخامس:

مناهج الاجتهاد

أُصول الاجتهاد ومناهجه عند أئمة المذاهب الأربعة.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أبي حنيفة.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند مالك.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند الشافعي.

· أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أحمد بن حنبل.

منهج الاجتهاد وتطوُّره عند الإمامية

· المنهج الاجتهادي في الدور الأول: دور التأسيس.

· المنهج الاجتهادي في الدور الثاني: دور الانطلاق.

· المنهج الاجتهادي في الدور الثالث: دور الاستقلال.

· المنهج الاجتهادي في الدور الرابع: دور التطرُّف.

· المنهج الاجتهادي في الدور الخامس: دور الاعتدال.

· المنهج الاجتهادي في الدور السادس: دور الكمال والنضج.

نظرة سريعة لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية على تطوُّر حركة الاجتهاد.

٢٠١

أُصول الاجتهاد ومناهجه عند أئمة المذاهب الأربعة:

لقد وقع الاختلاف بين أئمة المذاهب الأربعة؛ تبعاً لاختلافهم في المصادر التي يعتمد عليها كلٌّ منهم، وترتيب تلك المصادر في أولوية الاعتماد عليها في عملية الاستنباط.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أبي حنيفة:

اعتمد فقه أبي حنيفة على أُسس وقواعد:

١. الكتاب العزيز.

٢. السنَّة: ربَّما تشتمل على أحكام فقهيَّة غير مذكورة في الكتاب، وهي أساس جميع المذاهب الفقهية، كالكتاب العزيز، ولكنَّ المعروف أنّ أبا حنيفة لم يعتمد على السنَّة إلاّ قليلاً.

يقول ابن خلدون: فأبو حنيفة يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها... إلى أن قـال: والإمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته؛ لمّا شدَّد في شروط الرواية والتحمُّل، وضعَّف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي؛ وقلّت من أجلها روايته، فقلَّ حديثه لا أنّه ترك رواية الحديث متعمّداً (١) .

والحق، أنّ أبا حنيفة لأجل هذا التشدّد لم يجد بُدَّاً عن التمسُّك بقواعد، كالقياس والاستحسان، وتوسَّع فيهما وقدّمهما على الأثر المنقول عن الصحابة، وقد نُقل عنه أنّه قال: إنَّما آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجد فيه أخذت بسنَّة رسول الله والآثار الصحاح عنه، التي فشت في أيدي الثقـات، فإذا لم

____________________

(١) مقدّمة ابن خلدون: ٤٤٤ـ٤٤٥، الفصل السادس في علوم الحديث.

٢٠٢

أجد في كتاب الله ولا سنَّة رسول الله، أخذت بقول مَن شئت من أصحابه، وأدع قول مَن شئت، ثمَّ لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن الحسين، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا (١) .

٣. قول الصحابي أو سنَّة الصحابي.

٤. القياس: وهو استنباط حكم موضوع من موضوع آخر لجهة جامعة بينهما.

وقد بلغ أبو حنيفة في الاستنباط بالقياس الذروة.

٥. الاستحسان.

٦. الإجماع: وهو اتِّفاق المجتهدين من الأمَّة الإسلامية في عصر على الحكم في أمر من الأمور، وهو في ذاته حجّة عند الحنفية دون فرق بين الإجماع القولي , أو الإجماع السكوتي , غير أنّ الأول دليل قطعي , والثاني دليل ظنِّي.

٧. العُرف: أن يكون عمل المسلمين على أمر لم يرد فيه نصٌّ، من القرآن أو السنّة أو عمل الصحابة، والمقصود هو العُرف العام الذي لا يخالف الأدلَّة السابقة.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند مالك:

١. القرآن الكريم.

٢. السنّة: وكان يقبل المرسل من الأحاديث ما دام رجاله ثقات، وفي موطّئه كثير من المراسيل ومنقطع الإسناد، ولم يكن يرى التشدُّد المعهود عند أبي حنيفة في الحديث، ومن أهمِّ ميزات مذهبه هو الاعتماد على الحديث، لا سيَّما حديث أهل الحجاز.

٣. عمل أهل المدينة: وقد كتب مالك إلى ليث بن سعد: إنَّ الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن ـ وهذا هو الأساس لاعتباره عمـل أهل المدينـة أساسـاً لفقهه ـ قائلاً: بأنَّ رسول الله أقام في المدينة وأقام أصحابه، فيكون أهل المدينة أعلم الناس بالتنزيل، وليست هذه الميزة لغيرهم.

____________________

(١) تاريخ بغداد ١٣: ٣٦٨.

٢٠٣

٤. قول الصحابي: إذا لم يرد حديث صحيح في المسألة عن النبي , فإنَّ قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف يكون حجّة؛ باعتبار أنّ الصحابة أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد.

وقد روى في كتابه شيئاً من أقوال الصحابة والتابعين، وإذا تعارض قول الصحابي مع عمل أهل المدينة، فهو يقدِّم عمل أهل المدينة على قول الصحابي.

٥. المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشهد لها نصٌّ معيَّن من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار، وكانت ترجع إلى حفظ مقصود شرعي، يعلم كونه مقصوداً بالكتاب أو السنّة أو الإجمـاع، إلاّ إذا عارضته مصلحة أُخرى، فعند ذلك يقوم العمل بالثاني , وإليك مثالين:

الأول: إذا وجد بيد شخص زعفران مغشوش، أفتى مالك بأنّه يتصدّق به على المساكين قلَّ أو كَثُر، يقول الشاطبي: إنّه يُماثل إراقة عمَر اللبَن المغشوش بالماء، ووجَّه بذلك التأديب للغاش، وهذا التأديب لا نصَّ يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاص لأجل العام.

الثاني: ضرب المتَّهم بالسرقة ليقرَّ بالمسروق، فقد جوَّزه مالك، وخالفه غيره؛ لأنَّ هذه مصلحة تُعارض مصلحة أُخرى، هي مصلحة المضروب؛ إذ قد يكون بريئاً.

٦. القياس: حيث لا يوجد نص من كتاب أو سنَّة، أو قول صحابي أو إجماع من أهـل المدينـة، فهو يستخدم القياس في اجتهاده، فقد جاء في الموطِّأ: سئل مالك عن الحائض إذا طهرت ولم تجد ماءً هل تتيمم؟ فقال: نعم، قياساً على الجنُب عند فقْد الماء، الذي ثبت بالنص القرآني (١) .

٧. سدُّ الذرائع: وهو المنع عن التذرُّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، وإن شئت قلت: الحيلولة عن التوصل بأمر مباح إلى فعلٍ محظور، وقد استعمله مالك كثيراً في فقهه.

يقول الشاطبي في الاعتصام: كان مالك (رحمه الله) شديد المبالغة في سدِّ الذرائع.

فمثلاً: لو وقف الحاكم على أنَّ رجلاً يزرع ويغرس كرماً بغية عملها خمراً، فللحاكم إيقافه عن العمل للحيلولة دون الوصول إلى غرضه.

____________________

(١) الموطِّأ: ٦٤ ح ٩١، كتاب الصلاة، باب طهر الحائض.

٢٠٤

أو افترضنا أنَّ رجلاً رأى هلال شوَّال وحده، فليس له الإفطار لئلاَّ يكون ذريعة إلى إفطار الفسَّاق محتجِّين بعمله، إلى غير ذلك من الأمثلة التي وردت في الموطِّأ وغيره.

وفي الحقيقة، أنَّ سدَّ الذرائع أصل مناقض للحيَل تمام المناقضة، فما جوَّزه الأحناف من إعمال الحيَل قد سدَّته المالكية والحنابلة بأصل آخر، وهو سدُّ الذرائع.

٨. الإجماع.

٩. العُرف والعادة.

١٠. الاستحسان: وهو (ما يستحسنه المجتهد بعقله) أو (دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه) (١) .

١١. الاستصحاب.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند الشافعي:

بنى الشافعي أُصول مذهبه على الكتاب والسنّة، والإجماع والقياس، ولم يجنح إلى سائر الأدلة التي اعتمد عليها أبو حنيفة ومالك، فهو يحتجُّ بظواهر القرآن، كما يحتجُّ بالسنّة وإن كان خبراً واحداً، شريطة أن يكون الراوي ثقة ضابطاً والحديث متَّصلاً برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ إذا لم يكن هناك دليل منصوص عمد إلى القياس وترك العمل بالاستحسان، الذي قالت به الحنفية والمالكية، وأنكر الاحتجاج به قائلاً: (مَن استحسن فقد شرّع). وألَّف كتاب إبطال الاستحسان، وردَّ كذلك المصالح المرسَلة (الاستصلاح)، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وأطال في كتـاب الأُمِّ في ردّه.

وأمَّا قول الصحابي , فالظاهر أنّه لا يعمل بقوله إذا صدر عن رأي واجتهاد، ونُقل عنه قوله: (لا يُقلِّد المجتهد صحابياً كما لا يُقلِّد عالماً آخر) (٢) .

____________________

(١) مصادر التشريع: ٥٨.

(٢) نقله العطَّار في حاشيته على جمع الجوامع ٢: ٢٦١، انظر تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد فرَّاج حسين.

٢٠٥

وفي نقل آخر عنه أيضاً أنّه قال: إنّ قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف، يكون خيراً لنا من رأينا لأنفسنا، وإذا اختلف أصحاب رسول الله في مسألة، فإنّه يأخذ من قول بعضهم ما يراه أقرب إلى الكتاب والسنّة، ولا يتجاوز أقوالهم إلى غيرها (١) .

مذهبه القديم والجديد:

ورَد الشافعي إلى العراق عام ١٩٥هـ في خلافة الأمين، وصنَّف كتابه القديم المسمَّى بـ (الحجّة)، ومدَّة إقامته بالعراق سنتان، ثمّ رجع إلى الحجاز، وفي سنة ١٩٨هـ قدم إلى العراق مرَّة أُخرى، فأقام هناك أشهراً، ثمَّ ارتحل إلى مصر، فظهرت فيها مواهبه الفقهية، فأملى على تلاميذه كُتبه الجديدة، التي يعبّر عنها بالقول الجديد، ويجمعها كتاب الأُمِّ، وهو المذهب الذي تغيَّر إليه اجتهاده بمصر، ولعلَّ سبب التغيُّر سماعه بعض الأحاديث من علمائها، ولم يكن واقفاً عليها، وربَّما يكون لتقاليد وعادات الموطن الذي حلَّ فيه تأثير في تغيُّر فتاواه.

وبما ذكرنا في ترتيب الأُصول التي بنى عليها فقهه، يظهر وجه الاختلاف بين الأئمة الأربعة في الفتوى، فمثلاً:

١. أنّ أبا حنيفة يشترط في الحديث الشهرة إذا عمَّت البلوى، بخلاف الشافعي، فهو يعمل على الخبر الصحيح المتَّصل سواء أَبَلَغَ الشهرة أم لا.

٢. أنّ مالكاً يشترط في العمل بالحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة، بخلاف الشافعي فهو يعمل بالحديث الصحيح المتَّصل، وإن كان مخالفاً لعمل أهل المدينة.

٣. أنّ أبا حنيفة ومالكاً يعملان بالاستحسان، في حين أنَّ الشافعي قد نُقل عنه: أنّ مَن استحسن فقد شرَّع.

٤. أنَّ مالكاً يعمل بقاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة، في حين أنَّ الشافعي لا يعتمد عليها.

٥. أنّ أبا حنيفة جعل القياس في الدرجة الثالثة من الاعتبار، حتى اشتهر في الفقه الحنفي (أنّ مَن لا قياس عنده لا فقه عنده، ومَن ردَّ القياس الشرعي سدَّ على نفسه باب الاجتهاد) (٢) .

____________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي للقطّان:٣١٢.

(٢) المقالات الكوثرية: ٢١٦ـ٢٢٥.

٢٠٦

والحال أنّ الشافعي جعل القياس في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، حيث قال: والعلم طبقات:

الأُولى: الكتاب والسنَّة.

الثانية: الإجماع فيما ليس كتاباً ولا سنَّة.

الثالثة: أن يقول صحابي، فلا يُعلم له مخالف من الصحابة.

الرابعة: اختلاف الصحابة.

الخامسة: القياس (١) .

هذه الوجوه وأمثالها أثارت خلافاً واسعاً بين المذاهب الأربعة.

أُصول الاجتهاد ومنهجه عند أحمد بن حنبل:

وقد ذكر ابن القيِّم ـ الذي يُغالي في الإمام أحمد غلوَّاً كبيراً ـ: أنّ الإمام كان يعتمد في تدوين مذهبه على خمسة أُصول هي:

١. النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ومَن خالفه، ثمّ ذكر عدَّة أمثلة، ويقول: ولم يكن يقدِّم على الحديث الصحيح عملاً، ولا رأياً، ولا قياساً، ولا قول صحابـي , ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسمِّيه كثير من الناس إجماعاً، وقد كذَّب أحمدُ مَن ادَّعى هذا الإجماع، ولم يسغْ تقديمه على الحديث الثابت.

٢. ما أفتى به الصحابة، فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعدُها إلى غيرها، ولم يقل: إنَّ ذلك إجماع. وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع من الصحابة لم يقدِّم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.

٣. إذا اختلفت الصحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنَّة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبيَّـن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقوله.

____________________

(١) إعلام الموقعين ٤: ١٢١ - ١٢٢.

٢٠٧

٤. الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن، وهو الذي رجّحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا مَن في رواته متَّهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسِّم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب.

٥. القياس، فهو يقدِّم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس، فإذا لم يكن عنده شيء من هذه يعمل به واستعمله للضرورة. وقد قال في كتاب (الخلال): سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنّما يُصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه.

فهذه الأُصول الخمسة من أُصول فتاويه وعليها مدارها، وقد يتوقَّف في الفتوى لتعارض الأدلَّة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطِّلاعه فيها على أثر، أو قول أحد من الصحابة والتابعين.

وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إيَّاك أن تتكلَّم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان يسوِّغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدلُّ عليهم، ويمنع من استفتاء مَن يُعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوِّغ العمل بفتواه (١) .

____________________

(١) إعلام الموقعين ١: ٣٣.

٢٠٨

منهج الاجتهاد وتطوّره عند الإماميّة:

المنهج الاجتهادي في الدور الأول: دور التأسيس (١) .

يظهر من مراجعة مصنَّفات الفقهاء في العصر المتاخم لعصر الغيبة الصغرى، أنّ عملية الاجتهاد في هذه المرحلة كانت بدائية، وتتمثَّل أوّلاً في توزيع متون الروايات على الأبـواب الفقهيـة، واستظهار النتائج منها بنفس ألفاظ النصوص ومتونها، وعلاج حالات التعارض بينهما بجمعٍ عُرفـي، أو ترجيح أو حمل على التقيَّة أو غير ذلك.

وهذا المنهج يدعى بالفقه المأثور، وكان يدوَّن تارة مبسوطاً ومع ذكر الروايات المأثورة بمتونها وأسانيدها ـ كما نجده في مثل كتاب الكافي للكليني، وكتاب مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (قُدس سرّهما) ـ وأُخرى مع حذف الأسانيد، بل وتقطيع متون الروايات أيضاً، والاقتصار على الفتاوى بألفاظ النصوص موزَّعة على المسائل والأبواب الفقهية، كما نجد ذلك في كتاب الشرائع لابن بابويه (قدس سره) (ت ٣٢٩هـ)، والهداية والمقنع للشيخ الصدوق (قدس سره) (ت ٣٨١هـ).

إلاّ أنَّ تطوُّر الفقه واتِّساع تفريعاته وآفاقه على أساس ما كان يستجدُّ من قضايا وحوادث، وما كان قد حصلت الحاجة إليه والابتلاء به في المذاهب الأُخرى ومدوّناتها الفقهية ـ من تطبيقات وفروض تقديرية، وتقسيمات حديثة للموضوعات والأبواب الفقهيَّة ـ أوجب استقلال المنهج الفقهي في العَرْض والتدوين عن الفقه المأثور.

وقد ساعد على ذلك الاحتكاك والنقد والحوار، الذي كان يجري بصورة مستمرَّة بين فقهائنا وفقهاء المذاهب الأُخرى، سيَّما في الحواضر والجامعات العلمية الرئيسية، كبغداد التي كانت مركزاً تضمُّ كلّ المدارس الفكرية والفقهية في ذلك العصر، وكان جانب الكرخ منها محلَّة الشيعة وملتقى علمائهم وفقهائهم، كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وفيها المكتبة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، والتي كانت من أُمَّهات دُور العلم يومـذاك.

____________________

(١) يُرجع في التحديد الزمني لهذه الأدوار إلى الفصل الرابع (أدوار الاجتهاد عند الشيعة الإمامية) ولا حاجة لتكرار التحديد الزمني هنا.

٢٠٩

وهكذا بدأ الفصل بين المصنَّفات الفقهية وكتب الحديث، وأصبحت الكتب والرسائل الفقهية تدوَّن بمنهجها المستقلِّ ـ كما في فقه العامَّة ـ وكان يستند في مجال الاستدلال عليها وتخريجها بالروايات والآيات، وبإجماع الطائفة ومسلَّماتها، وببعض المسائل الكلامية والاستدلالات العقلية في بعض الأحيان، وهذا ما يُستظهر من كُتب ومصنَّفات القديمَين ـ العماني والإسكافي ـ ومؤلفات الشيخ المفيد والسيد المرتضى وتلامذتهم (١) .

وبالرغم من إرساء عملية الاستنباط على قواعد علمية معيَّنة، وبالرغم من تجاوز تعابير النصوص إلى دلالاتها التضمُّنية والالتزامية، كان التحفُّظ في التفريع وتجاوز نصوص الأحاديث ظاهرة بيِّنة في عملية الاستنباط.

وبالرغم من اعتماد علم الفقه على الأخبار الحاكية عن السنَّة بشكل واسع، نجد ظاهرة إدانة العمل بأخبار الآحاد والاهتمام بالإجماعات أمراً مُلفتاً للنظر.

وبالرغم من تأكيد القرآن الكريم على أهمِّية التعقُّل والاستفادة من العقل، نجد عمليَّات استنباط الأحكام في الفقه الشيعي تجتنب التوغُّل في الاعتماد على العقل، ولا تفسح المجال لتُدخِل العقل في التشريع أو ما يستتبع التشريع، من عمليات استظهار النصوص وتوظيفها للوصول إلى أحكام القضايا المستجدَّة، إذ تتحفَّظ في استخدام العقل تحفُّظاً لا يترك مجالاً لتدخُّله في التشريع، كما يظهر ذلك بيِّناً في (خلاصة التذكرة بأصول الفقه)، باعتباره أوّل كتاب أصولي شيعي يصل إلينا (٢) .

ونلاحظ في هذه المرحلة ثلاثة اتِّجاهات فقهية، تمثّلت في الاتّجاه الروائي البحت، والاتّجاه العقلي، والاتّجاه الذي يُحاول التأليف بينهما ويهتمُّ بالعقل والنقل معاً، ويحدِّد لكلٍّ منهما مساره ومورد الاعتماد عليه، وقد تمثَّل هذا الاتِّجاه في منهج المفيد والمرتضى (٣) .

وقد امتدَّ هذا الاتِّجاه ونما وغلب على المدرسة الفقهية الشيعية، بعد المرتضى حتى يومنا هذا.

____________________

(١) مقدِّمة موسوعة الفقه الإسلامي:٤٩. بتصرُّف واختصار.

(٢) مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٧٨.

(٣) راجع أهمَّ ملامح الدور الأول.

٢١٠

المنهج الاجتهادي في الدور الثاني: دور الانطلاق .

١. اتَّبع الشيخ الطوسي في فتاواه وتآليفه الفقهية نهج أُستاذَيه المفيد والمرتضى، وقد أُتيحت له فرصة الوقوف على الكتب الفقهية أكثر ممَّا وقف عليه أُستاذاه، فأحاط بآراء المذاهب الأُخرى إحاطة تامة، لا يوجد مثيلها في كتب المفيد والمرتضى.

٢. بلغ التفريع والتخريج على يده القمَّة، فما ترك فرعاً إلاَّ خاضه، ويعدُّ كتابه المبسوط خير شاهد على ذلك، وقد مضى على تأليفه قرابة عشرة قرون ومع ذلك لم يؤلَّف كتاب مثله، والكتاب مع كونه يحتوي على دورة فقهية كاملة، لكنَّه سلس الألفاظ، سهل التناول، موجَز في النقل، مختصَر في الاستدلال، على خلاف ما نراه في كتابي (التذكرة) و(المنتهى)، فإنّهما في غاية البسط خصوصاً الأخير.

٣. استخرج الشيخ قواعد عقلية واعتمد عليها في مقام التفريع، وبذلك ردَّ على خصماء الشيعة وصمة العار التي ألصقوها بهم، قال في أوّل (المبسوط): إنِّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا ـ من المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع ـ يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية ويستنزرونه، وينسبونهم إلى قلَّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنَّهم أهل حشو ومناقضة، وإنَّ مَن ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الأُصول؛ لأنَّ جلَّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين. وهذا جهل منهم بمذهبنا، وقلّة تأمُّل لأُصولنا.

ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنَّ جُلَّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، ومنصوص عليه تلويحاً عن أئمتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول النبي (صلَّى الله عليه وآله)، إمّا خصوصاً، أو عموماً، أو تصريحاً، أو تلويحاً (١) .

إنّ الشيخ الطوسي كان يعمل بخبر الواحد تحت شروط خاصّة، وقد أعرب عن رأيه في كتاب (العدَّة)، وبذلك خالف أُستاذيه المفيد والمرتضى، وقال بحجِّيّة الإجماع كأُستاذيه، ويظهر أنّ الإجماع عنده

____________________

(١) المبسوط ١:١-٢.

٢١١

حجَّة لكشفه عن قول المعصوم فقط، وله آراء خاصة في الأُصول يظهر ذلك لمَن راجع كتاب (العدّة) (١) .

ويبيِّن السيد منذر الحكيم منهجية الاجتهاد لهذا الدَور، التي تمَّت على يد الشيخ الطوسي (قدس سره)، فيقول: أخذ الاتِّجاه الذي اتَّخذه المفيد والمرتضى، كمنهج للاجتهاد في الدور الأول بالتطوُّر بعد أن تبنَّاه الشيخ الطوسي، وضمَّنه عناصر القوَّة والإبداع من خلال الاعتناء برفع نقاط الضعف، والدفاع العلمي المتين عنه، وردَّ على الشبهات التي كان يُثيرها بوجه هذا المنهج كلٌّ من أصحاب الاتِّجاهين العقلي والروائي، إضافة إلى فقهاء العامة وهم يرون تطوُّراً ملحوظاً على يد هذا العملاق.

وكان هذا التطوّر في عدة جوانب:

الجانب الأول: تقنين عملية الاستنباط، استمراراً على الخط الذي بدأه المفيد، ثمّ طوّره المرتضى في مجال فصل علم أصول الفقه عن الفقه واستقلاله بالبحث والتدوين، وقد تمثَّل هذا العمل في تدوين كتاب (عدّة الأُصول)، الذي فاق الكتب الأُصولية السابقة عليه، وأصبح محوراً للتدريس إلى قرون متأخِّرة، كما يبدو جليَّاً من خلال الشروح والتعليقات التي كُتبت على هذا الكتاب حتى القرن العاشر الهجري (٢) .

الجانب الثاني: اعتمد البحث الفقهي للاتِّجاه الذي مثله الشيخ المفيد على النقل والعقل معاً، واعتمد النقل على الكتاب والسنَّة، والتي استند لكشفها إلى الأحاديث الواصلة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وتتقوَّم دراسة الأحاديث بدراسة السند والدلالة معاً.

واعتمدت عملية تقويم السند على أدوات التقويم المتمثِّلة في مصادر التوثيق الرجالية، وقد وفَّق الشيخ الطوسي (رحمه الله) لتوفير هذه الأدوات وتقنين عمليه التقويم وتطبيقها، وقد أثمرت هذه الجهود في

____________________

(١) أدوار الفقه الإسلامي:٢٧٤-٢٧٦.

(٢) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠.

٢١٢

تبنِّي اتِّجاه أخبار الآحاد على أساس علمي، خلافاً لما كان يؤكِّد عليه المرتضى والمفيد من قبل، حيث أنكرا حجِّيّة أخبار الآحاد واتَّجها إلى الإجماع والعقل (١) .

فكانت للشيخ الطوسي عدَّة أعمال موسوعية حديثية ورجالية، تمثّلت في تدوين موسوعتين فقهيَّتين حديثيَّتين هما التهذيب والاستبصار، ومجموعة كتب رجالية هي: اختيار معرفة الرجال، والرجال، والفهرست، بالإضافة إلى فهرس النجاشي، الذي ساهم بتوفير المادة اللازمة لغرض إكمال عمليه التوثيق الرجالي، الذي يهمُّ الفقيه الذي يتبنَّى حجِّيّة أخبار الآحاد ويشيِّد فقهه على أساسها (٢) .

الجانب الثالث: قام الشيخ الطوسي ـ في تهذيب الأحكام ـ بتطبيق منهج الاستنباط، الذي قنَّنه سابقاً ووفَّر أدواته، وذلك حينما قرَّر شرح كتاب المقنعة للشيخ المفيد شرحاً استدلالياً، ينحو باتِّجاه إثبات الآراء الفقهية الواردة في المقنعة أو إثبات آرائه الفقهية؛ لذا فتهذيب الأحكام ليس كتاباً حديثيَّاً محضاً (٣) .

فكان الجهد المبذول في تطوير المنهج الذي اتَّبعه على صعيد النظرية والتطبيق.

وعالج الشيخ (قدس سره) مشكلة الأخبار المتعارضة، التي حفلت بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الفقهية في كتاب الاستبصار؛ ومن هنا أصبح هذا الكتاب ممثِّلاً لممارسة فقهيَّة استدلالية بالإضافة إلى تضمُّنه للأخبار.

وبهذا وفَّر الشيخ الطوسي للفقيه كل أدوات الممارسة الفقهية الاجتهادية، نظرية وتطبيقاً، وهذه خطوة كبيرة أخرج فيها الفقه الإمامي من الاستعراض والنقل للحديث إلى إطار أوسع.

____________________

(١) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة ٢: ٥٢٨-٥٥٤.

(٢) انظر منهج الشيخ الطوسي في كتاب عدّة الأصول، فصل مذهب المصنِّف في خبر الواحد. مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠ بتصرُّف.

(٣) نفس المصدر.

٢١٣

الجانب الرابع: وقام الشيخ الطوسي ـ أيضاً ـ بثلاث خطوات أُخرى، كانت رائدة إن لم تكن تأسيسية، فالفقهاء الذين سبقوه بالرغم من تصدِّيهم للتفريع واستنباط أحكام الفروع، التي لم تذكر في نصوص الروايات الواصلة إليهم، لكنَّهم لأجل التحفُّظات الكبيرة، التي كانت تُحيط بهم وتُسيطر على الوسط العلمي السائد آنذاك، لم يجترئوا أو لم تسنح لهم فرصة التفريع وإظهار عظمة الفقه الإمامي من هذه الجهة.

وعلى أيِّ حال، فالمبسوط للشيخ جاء ليعبِّر عن محاولة رائدة للتوسُّع في المسائل الفرعية الفقهية توسعاً كبيراً، يمكن فهم مدى عظمة هذا العمل الريادي، إذا قسنا النهاية للشيخ الطوسي أو المقنعة للمفيد إلى المبسوط الذي كتبه الشيخ، وهو دورة فقهية موسّعة تفوق على أربعة أضعاف النهاية، أو المقنعة من حيث حجم المادة الفقهية المطروحة فيها.

الجانب الخامس: كانت محاولة إثبات الريادة للفقه الشيعي، تتطلَّب من الشيخ الطوسي المبدع والمؤسس لمدرسته الفقهية الرائدة أن يقوم ـ بالإضافة إلى التوسّع والبسط في التفريع ـ بعملية المقارنة بين الفقه الإمامي وسائر المدارس الفقهية، وهذا هو الذي انتهى به إلى أن يكتب (الخـلاف)، وهو كتاب موسَّع يعتمد المقارنة، وهو يشير في آن واحد إلى خصائص الفقه الشيعـي، مقارناً مع الفقه غير الشيعي بشتَّى مذاهبه، كما يشير إلى مدى عظمة الفقه الشيعي، وقدرته على مسايرة الزمن بالرغم من تحفُّظه تجاه استخدام العقل في مجال الاستنباط (١) .

ومما يؤاخذ على منهج الشيخ الطوسي (رحمه الله):

أ. كثرة اعتماده على الإجماعات، فهو يلجأ إلى ذلك عند إعواز الدليل اعتماداً على مذهبه الذي يرى أنَّ الإجماع يوحي بوجود قول في المسألة، وبالرغم من أنّ الاعتماد على الإجماع منهج أساتذة الشيخ الطوسي، أمثال المفيد والمرتضى، ولكن توسَّع الشيخ ومَن جاء من بعده من

____________________

(١) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٠-١٨٣ بتصرُّف.

٢١٤

الفقهاء في استخدامه، حتى (إنّ بعض علماء الشيعة يعمل بالإجماع الذي ينقله (مالك بن أنس إمام المذهب) عن أهل المدينة في (موطّئه) لكشفه عن رأي المعصوم عنده) (١) .

ب. محاكاة الفقه التفريعي السنِّي، فهو بالرغم من الجهود التي بذلها لإحراز الريادة وقصب السبق للفقه الشيعي، ولكن كان لابدَّ من الوقوع في شرك المحاكاة للفقه السائد، ودخول عنصر التقليد في بعض الأحيان، وانطباع الفقه التفريعي الشيعي بطابع ومسحة من الفقه السنِّي، لا سيَّما لو أخذنا بالاعتبار أنَّ الفقه السنِّي هو فقه الدولة آنذاك.

وقد اعتقد بعض كبار فقهاء الإمامية، بأنّ الفقه الشيعي ناظر في انجازاته العلمية إلى الفقه السنّـي، ولا يمكن تحقُّق فهم الفقه الشيعي بشكل تام إلاّ لمَن يفهم الفقه السنِّي بشكل تام؛ وذلك لأنّ الفقه السنِّي كان فقه الدولة وكان الفقه الحاكم على الساحة، ولم يسع الفقهاء الشيعة إلاّ أن يأخذوا هذا الفقه بنظر الاعتبار، وكان لابدَّ لهم من اتِّخاذ المواقف الفقهية المنسجمة مع الأُصول والمباني الفقهية الإمامية في الوسط الذي يعيشون فيه، فإنَّ التعايش كان واقعاً مفروضاً عليهم، ولا أقل من التأثُّر بالفقه الحاكم إلى فترة أو فترات؛ كي يتسنَّى للفقيه الشيعي أن يستقلَّ ويمحو آثار التأثُّر بالفقه الحاكم، والفقه الذي كان يسايره الفقهاء إمّا للدفاع أو لاكتساب مقام الريادة، التي تقتضي وجود موارد الشبه والاشتراك والتقدّم؛ كي يمكن تحقُّق المباراة والاستبـاق والإقناع بالتقـدّم والأفضليـة (٢) .

ولم يكن من الهيِّن الانتقال من جوِّ المحاكاة إلى جوِّ الاستقلال، فقد طالت الفترة الزمنية حوالي قرنين على الأقل لأجل تحقُّق ذلك؛ إذ نرى في كتابات المحقِّق ومَن جاء بعده تطوُّراً ملموساً وتميُّزاً على كتابات الشيخ الطوسي من هذه الجهة.

____________________

(١) مقدّمة جامع المقاصد ١:١٧.

(٢) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٣: ١٨٢.

٢١٥

المنهج الاجتهادي في الدور الثالث: دور الاستقلال .

قد ذكرنا أنَّ رائد هذا الدور هو المحقِّق الحلِّي (قدس سره)، وقد حفلت هذه الفترة بالكثير من كبار فقهاء الشيعة، وقد نلمس آثار المنهج الفقهي المتَّبع في هذه المرحلة في عدَّة نقاط:

أ. إنّ أهمَّ ظاهرة في هذه المرحلة ترتبط بالمحتوى الفقهي، وهي اجتناب حالة المحاكاة التي كنّا قد لاحظناها في المرحلة السابقة؛ وذلك لأنَّ بداية انطلاق الفقهاء نحو التوسُّع في الفقه الاستدلالي والتفريعي، ومحاولة إثبات سعة الفقه الشيعي، بل تفوُّقه على الفقه الآخر كانت بطبيعة الحال تعتمد على شيء من المحاكاة في عناوين المباحث وأدلتها، بما يتناسب مع الاتجاه الأُصولي الشيعي، فالمقارنة الصريحة أو غير الصريحة كانت تستدعي اجترار بعض الفتاوى والأدلة لا محالة (١) .

وحينما أخذ الفقه الشيعي مساره الطبيعي، وبدأ الفقهاء بتنقيح أصول فقههم وأدوات استنباطهم، كان من الطبيعي أن تنعكس النظرة المستقلَّة إلى الفقه الشيعي، والاعتداد بقابليات الفقه الشيعي للتطوُّر والتكامل، وتنقيح الأدوات المستعملة في الميدان الفقهي على النشاط الفقهي الشيعي أولاً، وتنتهي هذه النظرة إلى اجتناب المحاكاة مهما أمكن لا سيما فيما لا اشتراك فيه من الأدوات والمناهـج، وهكذا بدأ النشاط الفقهي والمحتوى الفقهي ينحو باتجاه الاستقلال التام عن التأثر بالفقه غير الشيعي.

وأنتج هذا الاتجاه فقهاً متميزاً بأدواته ومناهجه ومصادره، وعمليات استنباطه ومدوّناته الفقهية، مضموناً وشكلاً معاً.

ب. إنَّ حالة الصحوة لتنقيح التراث الفقهي والأصولي وأدواته ومناهجه ومصادره، قد انعكست على شكل التأليف والتدوين لمسائل علم الفقه أيضاً، بحيث نجد تطوُّراً ملموساً في حقل تنظيم ومنجهة عرض البحوث الفقهية، فمنهج المحقِّق الحلِّي في شرائع الإسلام والمختصر النافع، والعلاّمة في التبصرة والشهيدين في اللمعة والروضة، يعدُّ منهجاً جديداً إذا ما قورن بالنهاية والمبسوط.

____________________

(١) كما يظهر ذلك من تبويب كتاب شرايع الإسلام للمحقِّق الحلّي.

٢١٦

ج. وأثمرت هذه النظرة الاستقلالية للفقه ومستلزماته ظهور موسوعات فقهية استدلالية شتّى، من حيث المستوى العلمي، ومن حيث حجم البحوث الفقهية، وتنوُّع الأبواب واستيعابها لكل مسائل الحياة إلى جانب التنقيح والتهذيب للمباحث الفقهية الموروثة.

د. كما تطوَّر الفقه المقارن ـ الذي كان قد أبدع فيه الطوسي ـ تطوّراً ملموساً، في كيفية العرض والمحتوى معاً، حتى إنَّنا نلاحظ عدَّة مستويات من البحث المقارن، والجديد منها هو الفقه المقارن بين الآراء الإمامية نفسها، كما نجد ذلك في كتاب مختلف الشيعة، وقد كانت لهذه الظاهرة آثار إيجابية على الفقه الإمامي نفسه.

ويمثِّل كلٌّ من تذكرة الفقهاء ومنتهى المطلب تطوّراً ملموساً في مجال الفقه المقارن، ولا سيما إذا قارنَّا كل واحد منهما بالآخر، من حيث المنهج والمحتوى والأسلوب، وهو نشاط متميِّز وفريد للعلاَّمة الحلِّي (قدس سره) في هذا المضمار.

هـ. وتبعاً لتنوُّع الأغراض والأهداف، نلاحظ تنوُّعاً ملموساً في النشاط الفقهي التأليفي، من حيث حجم ومستوى عرض المادة الفقهية، وأعني بالمستوى: المادة الفقهية المجرّدة عـن الاستـدلال، حتى المادة الفقهية المنطوية على أرقى درجات الاستدلال الذي نجده في كل مسألة فقهية، فـالمختصر والتبصرة أصبحا محوراً للتدريس في البحوث الفقهية العليا فيما بعد؛ نظراً لتميّز نصوصهما بالدقَّة والإيجاز والشمول، كما تميّزت نصوص اللمعة الدمشقية، ودخلت حلقات الدرس الفقهي مع المختصر والتبصرة بشكل طبيعي، وبذلك تبلورت كتب التدريس في شتَّى المستويات في حوزاتنا العلمية؛ وذلك لما امتازت به هذه الكتب من خصائص مهمة وفريدة، دعت الفقهاء لاختيارها وإقرارها بشكل طبيعي.

و. إنّ تدوين القواعد الفقهية وإفرادها بالتصنيف بعد استخراجها من بطون المباحث الفقهية، كان خطوة متقدِّمة في حقل النشاط الفقهي بلا ريب، وتمثَّل ذلك بشكل ملموس في القواعد والفوائد ونضد القواعد الفقهية...

ز. إنّ التطوُّر الآخر الذي نلاحظه في هذه المرحلة، هو تطوّر بحوث الفقه المعاملي تطوّراً ملموساً، ويعود ذلك إلى تطوّر البحث الفقهي الذي سببه التطوّر الأُصولي من جهة، وتدوين القواعد الفقهية من جهة أُخرى.

٢١٧

ح. وفي أُخريات هذه المرحلة، وبعد أن اتَّجه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لإقرار حكم إسلامي يعتمد فقه أهل البيت ومنهجهم في الحياة، اشتدّت الحاجة لتدوين فقه الدولة.

وتصدَّى المحقِّق الكركي ـ بعد محاولة الشهيد الأول الرائدة لتدوين فقه الدولة ـ للإشراف على حكومة الدولة الصفوية، وكان هذا عاملاً مهمّاً في اتجاه الفقهاء نحو الاهتمام بقضايا الدولة، والبحث عن الأحكام المتعلِّقة بها ومناقشتها وتنقيحها، وأنتج هذا النشاط التنقيح النظري والتركيز العلمي، لقضية الولاية من قِبل الفقهاء والبحث عن مدى صلاحيَّاتهم.

وتجلَّى هذا النشاط في تأليف مجموعة من الرسائل الفقهية، المرتبطة بقضايا الدولة، كالخراج وصلاة الجمعة وغيرهما.

ط. وقد بلغ الفقه الاستدلالي ذروته في آثار المحقِّق الكركي الفقهية، حيث جسَّدت آثاره الاستدلالية العمق والدقَّة، والابتعاد الكامل عن منهج الفقه غير الإمامي.

ي. ويمثِّل حجم النظريات الحديثة والمبتكرة في مجالي الأُصول والفقه في هذه المرحلة، رفعة المستوى العلمي للمدرسة الفقهية الإمامية، والمسافة الكبيرة التي قطعتها هذه المدرسة، من خلال نشاط عيَّنه فقهائنا في ثلاثة قرون متتالية.

المنهج الاجتهادي في الدور الرابع: دور التطرُّف .

أ. خصائص المنهج العقلي المتطرِّف:

إنّ المحقِّق الأردبيلي، بما كان يتمتَّع به من نبوغ علمي وثقافة فلسفية وعقلية، استطاع أن ينتقد جملة من فتاوى مشهور الفقهاء في العصور المتقدّمة، على صعيد الاستدلال وصناعته.

كما تشدَّد في الأخذ بالروايات من حيث السند والدلالة، أو معارضتها مع روايات أو قواعد أُخرى، ورغم أنّ هذه الطريقة أدَّت إلى إغناء الاستدلال الفقهي الصناعي، وتعميقه فيما بعد، إلاّ أنّها أوجبت وقتئذٍ تحفُّظاً في الاعتماد على الأحاديث والنصوص المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) والميل نحو الأخذ بالقواعد والأُصول العامَّة أو العقلية، وكذلك التوسُّع في الأخذ بإطلاقات وعمومات القرآن الكريم، ومحاولة تخريج المسائل الفقهية على أساسها.

٢١٨

إنَّ عملية تدوين القواعد الفقهية والاعتماد الكبير على العقل، أدّت إلى الاعتماد الكبير على العمومات والمطلقات، التي شكّلت أُسس التشريع الإسلامي في القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن الكريم قطعي الصدور ولا يتطرّق التشكيك إلى سنده، بخلاف أخبار الآحاد الظنيّة الصدور، وقد ظهر هذا الاتجاه من اهتمامٍ بآيات الأحكام في مؤلَّفات المحقِّق الأردبيلي عموماً، وعلى وجه الخصوص في كتاب (زبدة البيان)، الذي حاول فيه تخريج كافّة الأبواب الفقهية على الآيات الشريفة.

وقد ظهر هذا التشدُّد في الأخذ بالروايات واضحاً في منهج تلميذيه، صاحب مدارك الأحكام، وصاحب معالم الدين؛ حيث ذهبا إلى عدم قبول السند إلاَّ إذا تأيّدت عدالة كلِّ راوٍ فيه بشاهدين عدلين، فلم يكتفيا بشهادة العدل الواحد أو خبير رجالي واحد، وهذا منتهى التشدّد والتطرّف في قبول الحديث، ومثال على هذا المنهج المتطرِّف نجد صاحب المعالم يميل ـ في كتابه الأُصولي معالم الدين وملاذ المجتهدين ـ إلى القول بحجيّة مطلق الظن، بعد أن تشدّد في أسانيد الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام).

والحق أنّ هذا التشدّد والتطرّف في تقويم مصادر التشريع والاستنباط أدّى إلى خسارة عملية الاستنباط لكثير من حِسان الأحاديث وموثَّقاتها وصحاحها، والاكتفاء بالنزر القليل منها، وهو الذي خضع للمعيار الجديد فقط من تأييد الحديث بشاهدين عدلين، ممَّا أدّى إلى تقليص مصادر التشريع، والاكتفاء بالقرآن الكريم والعقل، واضطرَّ أصحاب هذا المنهج إلى منح الظنون قيمة ودوراً مهمّاً، أدَّى إلى الاقتراب من اتِّجاه الأخذ بالرأي والقياس والاستحسان، والذي شجبته الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، وطالما وقفت منه المدرسة الفقهية الإمامية موقف الريبة.

ولم يقف هذا التشدُّد عند السند فحسب، بل انسحب إلى مجال الدلالة وطغت عملية مناقشة دلالات النصوص الروائية والتأمُّل العقلي فيها على عملية الاستدلال.

وكان من الواضح تأثير النشاط الفلسفي لمدرسة إصفهان على الاتجاه العقلي، الذي ساد في هذا الدور (١) .

____________________

(١) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٠-١٧٢.

٢١٩

تلخيص لأهمِّ الخصائص:

١. الاهتمام بعلم أُصول الفقه واستخدام الصناعة العقلية والفلسفية في إثبات بعض مسائله.

كما يُلاحظ ذلك من مقدِّمة معالم الدين للشيخ حسن بن زين الدين (ت ١٠١١هـ) والوافية للفاضل التوني (ت ١٠٧١هـ).

٢. تضييق دائرة حجِّيّة أخبار الآحاد.

٣. التشكيك في قيمة كثير من إجماعات القدماء وآرائهم المشهورة أو المسلّمة، ونقدها صناعياً وعقلياً، والتي اعتمدت كثيراً على الروايات.

٤. الاعتماد على القواعد العقلية والفلسفية في الاستدلال الفقهي.

٥. إعداد الأرضية المناسبة للاتجاه نحو حجيّة مطلق الظنّ، بعد التشدّد في البحوث الرجالية وطُرق توثيق الرواة، الموجب لعدم إمكان إحراز وثاقة جملة منهم بتلك الطريقة المتشدّدة؛ وبالتالي فقد جملة من النصوص (١) .

٦. التوسّع في الاعتماد على العمومات والمطلقات، الواردة في آيات الأحكام أو السنَّـة القطعيـة، وتخريج الفتاوى على أساسها، وطرح ما يخصِّصها أو يقيِّدها من الروايات، نتيجة التشدّد في طريقة التوثيق الرجالي لإسنادها (٢) .

ب. خصائص المنهج الأخباري المتطرّف:

لقد أثَّر التمادي الواضح في الاتجاه العقلي من قِبل جملة من الفقهاء الأُصوليين، إلى حدوث ردَّة فعل طبيعية عند مجموعة أُخرى من الفقهاء، ظهرت على شكل تمادي في قبول الأخبار، والاعتماد عليها بشكل كبير في قبال الاتجاه العقلي، الذي ضيّق فرصة وحقَّ الاعتماد على الكثير من هذه الأحاديث.

____________________

(١) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦١-٦٢. انظر معالم الدين وملاذ المجتهدين يظهر لك ذلك جليَّاً.

(٢) انظر منهجية كتاب زبدة الأحكام.

٢٢٠

وهكذا تولَّد اتجاه متطرّف معاكس داخل الطائفة في هذا العصر، وهو الاتجاه الفقهي الأخباري، الذي أفرط في الأخذ والعمل بروايات الكتب الأربعة، وإلغاء تصنيفها إلى قوي وضعيف، أو صحيح وحسن وموثّق وضعيف، بل تعدَّى بعضهم إلى الاعتقاد بقطعية صدور كل ما جاء في الكتب الأربعة من الروايات، ووضوح دلالتها، بل تمادى بعضهم فذهب إلى عدم حجِّيّة الظواهر القرآنيـة، إذا لم يرد تفسير لها في الروايات.

كما أفرط هذا الاتجاه في الحطِّ من قيمة الدليل العقلي , فذهب إلى عدم حجِّيّة الاستدلالات العقلية والفلسفية في إثبات الأحكام مهما كانت برهانيّة.

وقام الاتجاه الأخباري بمناقشة جملة من المباحث الأُصولية، وإلغاء مجموعة من النظريات التي اعتمدها جملة من الفقهاء الأُصوليين، مثل حجيّة الإجماع وحجيّة الكتاب.

وقد ظهر في داخل هذا التيَّار خطٌّ معتدل، مقابل الخطِّ الذي تبنَّى الإفراط في قبول الأحاديث، والتفريط في الاعتماد على العقل والكتاب الكريم.

وكان لاعتدال هذا الخطِّ الداخلي في تيَّار الأخباريين، وتقواهم وتورّعهم وانصياعهم للحق ـ إضافة للجهود التي بذلها المحقِّق البهبهاني ـ الفضل الكبير في القضاء على التطرّف في هذا الخطِّ وعقلنته، إن لم نقل القضاء عليه كلِّياً.

وقد مثَّل الاتجاه الأخباري علماء منهم:

١. الأمين الإسترآبادي (ت ١٠٣٣هـ)، وكان متطرِّفاً متشدّداً في هذا الاتجاه.

٢. الفيض الكاشاني (ت ١٠٩١هـ).

٣. الحرّ العاملي (ت ١١٠٤هـ).

٤. العلاّمة المجلسي (ت ١١١١هـ).

وقد قام هؤلاء الثلاثة الأواخر بجمع الروايات المنقولة في كتُب المتقدّمين، ضمن مجاميع حديثية ضخمة هي:

١ ـ الوافي.

٢ ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة.

٢٢١

٣ ـ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

فقدّموا في هذا المجال خدمة كبيرة للمذهب.

ومثّل المحدِّث البحراني ـ صاحب كتاب الحدائق الناضرة (ت ١١٨٦هـ) الذي كان فقيهاً منصفاً محقِّقاً ورعاً ـ (قدس سره) باعتداله وتوسّعه، ورجوعه عن جملة من متبنّيات الأخباريين نهاية التطرّف الأخباري، والذي أدَّى إلى خمود ضراوة تلك الحركة (١) .

أهمُّ خصائص المنهج الأخباري المتطرّف:

١. عدم اعتماد الأدلّة العقلية والفلسفية في مجال الاستنباط والاجتهاد الفقهي , واعتبارها كاجتهاد الرأي ملغاة في فقه أهل البيت (عليهم السلام) (٢) .

الحقّ أنّ كلمات الأخباريين مضطربة ومختلفة، في أمر اعتماد العنصر العقلي في الاجتهاد، حتى إنّ المحقِّق الخراساني (رحمه الله) استقرب في كتاب (كفاية الأُصول) أن يكون مقصود الأخباريين واحداً من اثنين: أحدهما كبروي، والآخر صغروي، أمّا الأمر الكبروي فهو منع الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي (بين ما يجب بالعقل وما يجب بالشرع)، وأمّا الأمر الصغروي فهو التشكيك في إمكان الوصول إلى نتائج قطعيَّة من المقدِّمات العقليّة، وأنّ نتائج المقدِّمات العقليّة لا تزيد على أن تكون أحكاماً ظنِّيّة (٣) .

ويعتقد المحقِّق الخراساني أنّ كلمات الأخباريين ـ ولا سيّما في كتاب (الفوائد المدنيّة) ـ لا تفقد الدليل على وجود مثل هذا الاتّجاه السلبي تجاه العقل.

ولو أنّ علماء الأخباريين كانوا يستوعبون الموقف السائد في المدرسة الأُصوليّة، في التفريق بين الظنّ والرأي الذي لا يُغني عن الحقّ من جانب، وبين (حكم العقل) القطعي من جانب آخر، لما سلكوا هذا المسلك العسير من الرأي.

____________________

(١) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) راجع كفاية الأصول.

٢٢٢

فإنّ الحجّة عند الأُصوليّين، هي الدليل الذي يثبت متعلّقه ثبوتاً قطعيّاً، سواء كانت حجيّته ذاتيّة وهو القطع (العلم)، أم كانت حجِّيّته عرضيّة وهي الطرق والإمارات التي تثبت حجيّتها بدليل قطعي، وحجيّة القطع ذاتيّة لا يمكن أن تناله يد التشريع لا سلباً ولا إيجاباً؛ فإنّ القطع هو انكشاف المقطوع به للقاطع، وما كان كذلك كانت الحجِّيّة حاصلة له بالذات، ولا معنى لتحصيل ما هو حاصل بالذات، كما لا معنى لسلبها.

وأمّا الإمارات والطُرق الظنيّة، فإنّ حجّيّتها تؤول ـ أخيراً ـ إلى ما يكون حجّة بالذات؛ أخذاً بالقاعدة العقليّة المعروفة القائلة: (إنّ كلّ ما بالعرض لابُدّ أن ينتهي إلى ما بالذات).

ومن لوازم الحجيّة العقلية المنجزيّة والمعذريّة، فيحكم العقل بحسن عقاب العبد على تقدير مخالفة الحجّة إذا أصابت الحجّة الواقع، كما يحكم بقبح عقابه (وإعذاره) على تقدير موافقـة الحجّـة، أصابت الحجّة الواقع أم لا، وهذه القضايا من بديهيّات علم الأُصول.

ولا سبيل للنقاش في شيء من ذلك، والأدّلة العقليّة قائمة على هذه البديهيّة، وأمّا الرأي الذي يستند الظنّ ولا يستند حجّة ذاتيّة أو حجّة مجعولة من قِبل الشارع قطعاً، فلا شأن له في الاستنباط.

ولو أنّ الأخباريين كانوا يستوعبون هذه البديهيّة في الحجيّة، لما حدث هذا الصدع في الإجتهاد، ولما تجاوز الخلاف بينهم وبين الأُصوليّين الخلاف الصغروي في قيام الحجّة وعدمها، لا التشكيك في أصل حجِّية الأحكام العقليّة وملازمتها في الشرع في فرض وقوعها وحصولها.

وهذه هي النقطة الجوهريّة في الخلاف بين الأخباريين والأُصوليّين (١) .

٢.التوسّع في الأخذ بالأخبار المأثورة في أُصولنا ومجاميعنا الحديثية، واعتبارها جميعاً قطعية أو معتبرة، فلا حاجة للبحوث الرجالية ولا الأُصولية في حجيّة الأخبار (٢) .

يذهب الأخباريون إلى قطعيّة صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثّية الأربعة من الروايات، لاهتمام أصحابها بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها، وعليه فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن

____________________

(١) دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦٠-٦١.

(٢) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

٢٢٣

أسناد الروايات الواردة في الكتب الأربعة، ويصحُّ له التمسّك بما ورد فيها من الأحاديث، وهذا هو رأي المدرسة الأخباريّة (١) .

٣. إنكار حجيّة الإجماع، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع في فقه العامّة (٢) .

٤. إنكار حجيّة الظواهر القرآنية فيما يرجع إلى آيات الأحكام، فقد توقّف الأخباريّون عن العمل بالقرآن، ما لم يرد فيه إيضاح من الحديث؛ وذلك لطروء مخصِّصات ومقيّدات من السنّة لعموماته ومطلقاته، ولِما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي (٣) .

٥. لزوم الاحتياط والاجتناب في الشبهة التحريمية عند فقدِ الدليل على الإباحة أو الحرمة، بل نسب إلى الأمين الإسترآبادي القول بذلك في مطلق الشبُهات حتى الوجوبية (٤) .

٦. إلغاء الاجتهاد والتقليد ووجوب الرجوع ابتداءً إلى الأحاديث الصادرة عن المعصومين.

وهذا ما ذهب إليه المتطرِّفون من الأخباريين، ورجع عنه علماؤهم المحقِّقون كالمحدِّث البحراني صاحب الحدائق (قدس سره) (ت١١٨٦هـ)، والشيخ حسين آل عصفور (قدس سره) (ت ١٢١٦هـ) (٥) .

المنهج الاجتهادي في الدور الخامس: دور الاعتدال .

طرأ على علم الأُصول تطوّر واتِّساع في مسائله، وفي أنحاء الاستدلال وفي تقسيم أبحاثه، وقد قسِّمت مباحثه إلى:

أ. مباحث الألفاظ.

ب. مباحث الأدلّة العقلية.

وأيضاً، قسّمت الأدلّة إلى:

____________________

(١) دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦١-٦٢.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٥. والمصدر السابق ١:٦٠-٦١. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٣) للتوسُّع يراجع كتاب مصادر الاستنباط بين الأصوليين والأخباريين، لمحمد عبد الحسن الغراوي: ٧٩.

(٤) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٥: ١٧٥. دور الوحيد البهبهاني في تجديد علم الأصول، محمد مهدي الآصفي/ مجلَّة الفكر الإسلامي ١:٦٠-٦١. مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

(٥) مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٦٣.

٢٢٤

أ. الأدلّة الاجتهادية، والتي تدلّ على الحكم الشرعي الواقعي، وتثبته إثباتاً قطعيّاً أو تعبُّديّاً.

ب. الأدلّة الفقاهتية، التي لا تثبت الحكم الشرعي الواقعي ولا تشخِّصه، وإنّما تقرِّر الوظيفة العملية تجاه الحكم الواقعي المشتبه، فإنّ هذه الفكرة التي هي اليوم من مسلّمات أُصول الفقه الشيعي من مبتكرات المنهج الفقهي للوحيد (قدس سره).

وتوسَّع البحث فيها عن جملة من الأُصول العملية الشرعية، كأصل البراءة الشرعية في الشبهات الوجوبية والتحريمية ـ وقد منعها الأخباري ـ وأصل الاستصحاب في موارد اليقين السابق، وأصل الاحتياط في موارد العلم الإجمالي أو الشك في الامتثال.

واعتدل منهج الفقه الإمامي على يد الوحيد البهبهاني , ووجد مساره الأصيل المستقل عن المناهج الفقهية الأُخرى، وعمَّا كان يُثار بوجهه من الغبار والشبهات المتطرّفة (١) .

لقد أسفرت جهود الوحيد البهبهاني عن ظهور مدرسة جديدة، في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، حيث جمعت ‏بين العقل والنقل وأعطت لكلٍّ منهما دوره ومجاله، ولم تتطرّف لأحدهما على حساب الآخر؛ ومن هنا ميّزت هذه ‏المدرسة بين الأمارات الكاشفة عن الحكم الشرعي، وبين الأُصول العملية أوّلاً كما مرّ، كما ميّزت بين العقل قطعي‏ والإمارات الظنيّة من جهة، وبين أنواع الأُصول العملية نفسها من جهة ثالثة، بعد أن كانت شبهات الأخباريين ضدَّ العقل وقواعد علم الأُصول قد فتحت المجال لعلماء الأُصول؛ لإعادة النظر في الأُسس والمباني التي أُرسيت عليها دعائم هذا العلم من جهة، وإعادة الصياغة‏ والعرض للأفكار والقواعد الأُصولية من جهة أُخرى.

فكانت ولادة ‏جديدة لعلم الأُصول، وبداية لعصر الكمال حيث حدَّدت معالمه واتَّسعت آفاقه، وانعكست هذه الولادة على ‏مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع تطويراً وتعميقاً، من خلال جهود أقطاب مدرسة الوحيد، الذين واصلوا عمل‏ رائدهم حوالي نصف قرن أو أكثر، حتى استكملت هذه المرحلة خصائصها العامة (٢) .

____________________

(١) راجع النقطة الخامسة من أهمِّ ملامح الدور الخامس دور الاعتدال.

(٢) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٦: ١٥٥.

٢٢٥

وهكذا استعادت المدرسة الفقهية الإمامية منهجها القويم، الذي انتهجه كبار علمائنا بعد عصر الغيبة ـ والمستمد من كلمات أهل البيت (عليهم السلام) ـ وهو الاعتماد على العقل والنقل في استنباط الأحكام الشرعية، وقد فتح الصراع المرير، الذي ابتُليت به الطائفة بين الخطِّ الأخباري المتشدّد والخطِّ الأُصولي، آفاقاً واسعة لتطوّر عملية الاجتهاد.

المنهج الاجتهادي في الدور السادس: دور الكمال والنضج .

١. تطوّر علم أُصول الفقه تطوّراً جوهرياً عمَّا كانت عليه بحوثه ومسائله قبل ذلك.

فأوّلاً: هُذِّبت مسائله عن البحوث المرتبطة بعلوم أُخرى، كانت قد دخلت في هذا العلم بشكل استطرادي , فاختلطت مع بحوثه وأصبحت بالتدريج من مسائله أو أدلّته، وهي بحوث كلامية أو أدبية أو فقهية أجنبية عن طبيعة البحث الأُصولي (١) .

وثانياً: اتّضحت طبيعة المسألة الأُصولية وتعريفها الدقيق وميزانها الفنِّي , ومكانة المسألة الأُصولية ودورها العملي في الفقه واستنباط الحكم من أدلّته التفصيلية، حيث اتّضح أنّه العلم بالأدلّة المشتركة للفقه والتي لا تختص بباب دون باب، سواء كانت الدليلية لفظيّة أم شرعيّة أم عقليّة، فأصبح علم الأُصول بمثابة منطق الفقه، الذي له طبيعته المختصّة به وأُسلوبه المتميّز عن سائر العلوم في الموضوع والغاية، وفي منهج الاستدلال والبحث، وليست مجموعة مسائل مقتبسة من هنا وهناك كما كان يُتوهَّم سابقاً.

وثالثاً: قُسِّمت مسائل علم الأُصول تقسيماً فنِّياً وجامعاً، والتقسيم السائد اليوم كما يلي:

أ. مباحث الألفاظ: ويُبحث فيها عن دلالات الألفاظ وأقسامها، وبعض المواد أو الهيئـات العامّـة، التي تقع في الخطابات الشرعية، ويحتاج الفقيه إلى تحديد مدلولها، كالأمر والنهي، وأدوات المفهوم والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد ونحو ذلك.

____________________

(١) راجع نظرة في تطوّر علم الأصول: ٦٤-٦٥.

٢٢٦

ب. مباحث الاستلزامات العقلية: ويُبحث فيها عن علاقات الاستلزام أو التمانع بين الأحكام، كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدِّه، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي , أو الأمر بالضدَّين، أو اقتضاء حرمة عبادة أو معاملة لفسادها، ونحو ذلك.

وتنقيح هذه العلاقات وتحديدها يؤثّر في عملية الاستنباط كثيراً، حيث يشخِّص الدلالات الالتزامية للخطابات الشرعية، كما ينقِّح مدى التنافي والتعارض فيما بينها، وما يترتَّب على ذلك من نتائج فقهية مهمَّة.

ج. مباحث الحجج والأمارات (الأدلّة الاجتهادية): ويُبحث فيها عمَّا يُثبت الحكم الشرعي الواقعي إثباتاً وجدانياً (قطعياً) أو تعبدياً (شرعياً)، ويدخل في هذا القسم البحث عن الإجماع، والشهرة، والسيرة العقلائية والمتشرعية، والظنون المعتبرة شرعاً، كالظهورات وخبر الواحد.

ويُبحث في مقدّمة هذا القسم عن بحوث تمهيدية في غاية الأهمِّية والخطورة، كالبحث عن حجيّة القطع، والفرق بين الحجيّة الذاتية والحجيّة التعبُّدية، وحكم الشكّ في الحجيّة، وحقيقة الحجيّة التعبّدية المعبَّر عنها بالحكم الظاهري، وكيفية اجتماعه مع الحكم الواقعي , وأنواع الحجج والأدلّة، وانقسامها إلى أمارات (أدلّة اجتهادية) أو أُصول عملية (أدلّة فقاهتية)، والفرق بينها وأقسامها.

وقد تطوَّرت هذه البحوث واستُحدثت فيها نظريات جديدة واصطلاحات حديثة، وعلى أساس منها ارتفع الكثير من اللَّبس والاشتباه، الذي كان يقع قبل ذلك في فَهْم الأدلّة أو استخدامها، نتيجة عدم تنقيح هذه البحوث.

د. مباحث الأُصول العملية (الأدلّة الفقاهتية): ويُبحث فيها عن الوظائف المقرَّرة شرعاً أو عقلاً للمكلف عند الشك في التكليف، من استصحاب أو براءة، أو احتياط أو تخيير، وقد توسّع البحث عن هذه الأُصول العملية وأقسامها، ومواردها وأدلّتها، وشروطها والنِسب والعلاقات فيما بينها من ناحية، وبينها وبين الأمارات من ناحية أُخرى، وهي بحوث جليلة وبديعة، فتحت أبواباً جديدة وأنماطاً لم تكن معهودة سابقاً من الاستدلال الفقهي.

هـ. مباحث تعارض الأدلّة: ويبحث فيها عن التعارض بين الأدلّة وما يفترق به عن التزاحم ـ وهو باب ومصطلح استُحدث أخيراً في علم الأُصول ـ وانقسامه إلى:

٢٢٧

١. التعارض غير المستقرِّ، الذي يمكن فيه الجمع العرفي , فيُبحث عن قواعد هذا الجمع.

٢. التعارض المستقرُّ، الذي لا يمكن فيه الجمع العرفي , ويبحث عن أقسامه، ووقوعه تارة بين دليلين قطعيين سنداً، وأُخرى بين دليل قطعي وآخر ظنّي معتبر ـ خبر الثقة ـ وثالثة بين خبرين.

وأحكام كل قسم من هذه الأقسام، من حيث الترجيح، أو التخيير، أو التساقط، وهي أيضاً بحوث مهمَّة يحتاج إليها الفقيه في أكثر الفروع والأبواب الفقهية.

والحقّ، أنّ ما أنجزته المدرسة الأُصولية في الفقه الإمامي من التطوير والتجديد، قد بلغ حدّاً يمكن اعتباره ولادة جديدة لعلم الأُصول في المادّة والصورة والمنهج، يختلف عمّا كان عليه قبل ذلك.

ومنهج البحث في هذا العلم اليوم ـ وإن كان فنياً ودقيقاً ـ إلاّ أنّه ليس عقلياً كما توهَّمه الأخباريون، وخلطوا بينه وبين إعمال العقل في استنباط الأحكام، فضلاً عن كونه إعمالاً للرأي، من قياس أو استحسان، فإنّ الفنِّيّة والدقَّة في فهم الأدلّة الشرعية وتعريفها وتنويعها، وتشخيص العلاقة فيما بينها ولوازمها وآثارها، والتدقيق في تطبيقاتها منهج علمي متَّبع في علم الفقه أيضاً.

ومن دونه لا تكون عملية الاستنباط واكتشاف الحكم من الكتاب والسنّة سليمة ولا دقيقة، بل يكون الاستنباط سطحياً وفي معرض الأخطاء والأخطار، وهذا المنهج هو الذي أمرنا به الشرع المقدَّس، في جملة من الروايات والتعليمات الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث حرَّضت على التدقيق والتعمّق في فهم النصوص ودلالاتها، وتفريع الفروع والتشقيقات، وردّها إلى أصولها وقواعدها العامّة، وهذا هو الذي يقع بشكل فنِّي وعلمي دقيق في المناهج الأُصولية والفقهيـة، ويمكن القول: إنّ المنهجة المميَّزة في بحوث علم الأُصول، هي التي جعلت شيخنا الأعظم عملاق هذه المرحلة، بالرغم من تتابع المحقِّقين والنوابغ الذين انتهلوا من نمير علمه، ونشأوا في أجواء مدرسته الأُصولية الفريدة (١) .

٢. تطوُّر صناعة الاستدلال الفقهي من حيث المضمون ومنهج الفقاهة والاستدلال، فمن ناحية اتَّسعت آفاق البحث في كل مسألة، فشملت أدقَّ التفريعات والشقوق والتقادير المتصوَّرة فيها،

____________________

(١) راجع مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧:١٧٤-١٧٩. ومقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي.

٢٢٨

كما شملت جميع الأقوال والوجوه التي قيلت أو يمكن أن تُقال في المسألة، فتنامت البحوث الفقهية وازداد حجمها وحجم الاستدلالات فيها، خلال حركة الاجتهاد المفتوح بابها عبر مئات السنين إلى عصرنا الحاضر، وكم سمعنا من أساتذتنا المجتهدين ـ حفظهم الله ـ عبارات الانبهار والإعجاب بشموليَّة وسعة تناول الشيخ الأنصاري (قدس سره) للأدلة الداخلة في بحث مسألة معيَّنة؛ حيث لا يغادر شاردة ولا واردة يمكن الاستفادة منها في بحث المسألة واستنباط الحكم الشرعي إلاّ أتى بها.

(وقد صرّح بعض الأساتذة، بأنَّك لا تجد رأياً جديداً بعد عصر الشيخ إلاّ وتجد جذور ذلك الفكر والرأي في بحوث الشيخ نفسه) (١) .

ومن ناحية أُخرى، امتازت عملية الفقاهة في هذا الدور بالاستفادة من المنهج الأُصولي وما أُنجز فيه من تطوّر وعمق، فانعكس ذلك على صعيد الفقه، فأُضفي على بحوثه المتانة والمنهجية والتجديد، بل طبع الشيخ الأعظم بحوثه الفقهية بسمة الانسجام الفكري الأُصولي، والذي يظهر للمتعمِّق في دراسة هذه البحوث، على خلاف النظرة الأوّلية التي يُلاحظ منها أُسلوب الكرِّ والفرِّ.

وإذا كان السلف من الفقهاء حين يدخلون مجال البحث الفقهي يغفلون عن أنّهم أصحاب مبانٍ أصوليـة، فإنّ الشيخ الأعظم تجده أصولياً بارعاً حين يقف على مشارف البحث الفقهي , ولا يكاد ينسى أنّه صاحب مدرسة أُصولية متكاملة، لا يمكن للبحث الفقهي أن يقف على جانب منها، وقد انعكست هذه الميزة على جميع بحوثه الفقهية، وانتقلت إلى تلامذته ومَن تلاهم حتى يومنا هذا.

وقد أصبح لكلّ قسم من أقسام الفقه منهجه المتميِّز والخاص به، فمنهج الاستدلال والبحث في فقه العبادات يختلف عن منهج فقه المعاملات، من حيث نوع الأدلّة المتوفّرة في كلٍّ منهما، ففي العبادات تتوفَّر النصوص والروايات الخاصة، بخلاف العقود والإيقاعات، حيث يستند فيها غالباً إلى العمومات والقواعد الثابتة بها أو بسيرة العقلاء.

كما أنّ طبيعة المناقشات والاستدلالات في فقه العبادات تختلف عنها في المعاملات، وكذلك القواعد والأحكام العامّة التي يُرجَع إليها في العبادات تختلف عنها في العقود والإيقاعات، إلى غير

____________________

(١) مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٧.

٢٢٩

ذلك من الجهات، التي أصبحت اليوم متمايزة ومتَّبعة في مناهج الاستدلال في الأبواب الفقهية الرئيسة، ممّا لم تكن بهذا الوضوح والتمايز والمنهجية في أيِّ عصر مضى، رغم الجهود الجبَّارة والفتوحات العلمية الكبيرة التي قام بها فقهاؤنا المتقدّمون في تطوير علوم الشريعة.

٣. ومن جملة ما يتميَّز به منهج الاستدلال الفقهي المعاصر، هو تقنين عملية الاستدلال بالأدلة اللبِّيّة، المتمثّلة في الإجماعات والشهرات، والسيرة العقلائية أو المتشرعيّة، فإنَّ هذه العناوين وإن لم تكن حجّة شرعية بعناوينها الذاتية، ولكنّها يمكن أن تكشف في بعض الأحيان عمّا هو دليل شرعي على الحكم، أو تؤثِّر سلباً أو إيجاباً على دليلية دليل شرعي , فيكون مؤثِّراً في النتيجة الفقهية المستنبطة.

فبالنسبة للإجماعات والشهرات، إذا كانت من قِبل قدماء الأصحاب، يمكن أن تكشف عن وجود موقف شرعي متسالم عليه في عصر الأئمة عند المتشرعية أو عند أصحـاب الأئمـة (عليهم السلام)، أو يكشف عن وجود سُنَّة غير واصلة إلينا في تلك المسألة، كما يمكن أن تؤثّر في الكشف عن خلل ونقص في بعض شروط حجيّة الرواية المعتبرة بحسب ظاهرها، أو تؤثّر في فهمٍ أدقِّ وقراءة أصحِّ من النص المعتبر الذي يستند إليه، وقد نقَّحت في البحوث الأُصولية والفقهية الحالات والشروط التي يتمَّ فيها أحد هذه الأُمور.

وبالنسبة للسيرة العقلائية أو المتشرعية، تعرَّض الفقهاء إلى توضيح أنحاء الاستدلال بها، سواء في مجال استكشاف كبرى الحكم الشرعي ـ وقد بحثوا شروط ذلك مفصّلاً في أُصول الفقه ـ أمْ استكشاف دلالة بالسيرة في دليل لفظي أو غير لفظي , أمْ تشخيص شرط ارتكازي منها يحقِّق موضوعاً لقاعدة أُخرى، وحكم شرعي ثابت كما في اكتشاف الشروط الضمنيّة، كشرط السلامة وعدم الغبن في عقود المعاوضة، أم استكشاف ما هو المضمون الإنشائي المقرَّر في كل عقد بالسيرة والارتكازات العرفية والعقلائية، إلى غير ذلك من الأُمور.

٢٣٠

فهذه أنحاء من الاستدلال والاستعانة بالسيرة، دخلت في مناهج البحث والاستدلال الفقهي المعاصر، ولم تكن بهذه المثابة سابقاً (١) .

٤. تطوّر بحوث علم الرجال، وظهور نظريات جديدة فيه للتوثيق أو التأكُّد من وثاقة الراوي؛ وبالتالي صحة أسانيد الروايات، وقد تبلورت من خلال ذلك قواعد رجالية عامّة للتوثيق لم تكن معروفة سابقاً، كما أنّه حصلت دراسات مُتقنة وموسَّعة استقرائية لتتبُّع قرائن وشواهد تاريخية أو رجالية، لم تطرح في المدوَّنات الرجالية السابقة، يمكن على أساسها توثيق جملة من الرواة، أو تشخيصهم، أو تشخيص طبقتهم، أو مذهبهم وحالهم، أو غير ذلك من الأمور التي تُفيد في مجال الأخذ برواية أو طرحها، وقد صُنِّفت في ذلك مؤلّفات ومعاجم حديثية تفوق في حجم المعلومات ودقَّتها ما في المصنَّفات الرجالية السابقة.

٥. ومن حيث المادة الفقهية ـ أيضاً ـ انفتح الفقه الاستدلالي على الأفكار والنظريات الحديثة في الفقه الوضعي وغيره، فاستجدَّت موضوعات فقهية مستحدثة عالجها الفقه الإمامي معالجة استدلالية وعلمية، وقد يستلزم ذلك استعراض النظريات الأُخرى والتعرّض لمبانيها وأدلتها؛ من أجل نقدها ومناقشتها، أو تخريج ما يمكن قبوله منها على أساس المنهج الفقهي؛ فنجمت عن ذلك بحوث فقهية مقارنة حديثة، وقد ساعد على ذلك انفتاح باب الاجتهاد لدى الشيعة، واستمرار حركة التجديد فيه؛ حيث تحدَّد وتأصَّل المنهج الفقهي الصحيح، وتشخَّصت معالمه الثابتة والمتغيِّرة، ممَّا وفَّر للفقه الشيعي القدرة على استيعاب كل المسائل المستحدثة ومعالجتها، واستخراج أحكامها من الأدلّة الشرعية، ثمّ وضع النظريات والنُظم الإسلامية من خلالها، دون انسداد في الاجتهاد والاستنباط، ودون تجاوز للمنهج الفقهي السليم.

٦. ومن أهمِّ امتيازات هذا الدور ـ أيضاً ـ اهتمام الفقهاء بشؤون الأُمّة وحاجات الناس الدينية والفقهية وتطبيق الشريعة فيها، فمن ناحية اهتمَّ الفقهاء بربط الأمّة بالشريعة، عن طريق التقليد وإرجاع الناس إلى الفقهاء والمراجع العظام، وتنظيم جهاز المرجعية الدينية وتقويته وتشييد الحوزات العلمية

____________________

(١) راجع مراحل تطوُّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٤ ـ ١٧٩. ومقدمة موسوعة الفقه الإسلامي.

٢٣١

وتربية العلماء والمبلّغين فيها، ونشرهم في أرجاء البلاد ونصب الوكلاء فيها، وجباية الأموال والحقوق الشرعية وإيصالها للمرجعية الدينية، والتصدِّي لما يمكن حلُّه من مشكلاتهـم، وفصل خصوماتهم وتيسير أُمورهم بالطُرق الشرعية، فكان ذلك تطوُّراً اجتماعياً خطيراً، وتجسيداً بديعاً لفكرة النيابة العامَّة عن الإمام المعصوم (عليه السلام) في عصر الغَيبة.

٢٣٢

نظرة سريعة لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية في تطوُّر حركة الاجتهاد:

تطوَّر الفقه واتَّسع من حيث البيان والتدوين، واتّساع شمول كلِّياته لمصاديقه ومِلاكاته، وبعبارة أُخرى: أنّ هذا التطوُّر حدث بلحاظ دليل الكشف لا المنكشف؛ لأنّه مرتبط بواقع الحياة ارتباطاً وثيقاً، يعالج الوقائع والحوادث الداخلية والخارجية، وله ارتباط بأفعال المكلّفين التي تتغيَّر طبيعياً مع تغيُّر الزمن وتطوّر الحياة، فكان لزاماً على الاجتهاد أن يواكب هذا التغيّر والتطوُّر.

ولا يمكن لأيِّ باحث أن يغفل تأثير الظرف السياسي والاجتماعي على الاجتهاد سلباً أو إيجاباً، فخلال المدَّة الزمنية الممتدَّة منذ بداية ونشوء الاجتهاد حتى وصوله لدور الكمال والنضج، المتمثّل بعصرنا الحاضر، كان النتاج الفقهي ـ سواء على صعيد البحث أم التدوين أم المنهجة ـ متأثراً بشكل أو بآخر بما يُحيط به من ظروف وأحداث، حاله حال العلوم الأُخرى، إن لم يكن أكثر لارتباط الفقه والاجتهاد بحياة الناس فرداً أو جماعةً.

ومن أمثلة ذلك: حينما عاش المكلّفون في بيئة تعتمد على الآبار في سقي زروعها، ومرافق حياتها الأُخرى، نجد أنّ مسألة تطهير البئر تأخذ حيّزاً كبيراً ومساحة يعتدُّ بها في أفكار الفقهاء والمجتهدين وتدويناتهم وبحثهم، كما نلاحظ ذلك في كتاب الشرايع للمحقِّق الحلِّي (قدس سره).

وبتطوّر الزمن واعتماد الفقهاء على مبانٍ جديدة لم تكن عند من سبقهم، أو وسائل حديثة لكشف مواضيع الأحكام، نرى أنّ مسألة تطهير البئر انحسرت مساحة بحثها في تأليفات فقهائنا المعاصريـن، إن لم تنقرض.

وعندما يتعرّض المذهب للنقد من قِبل فقهاء الجمهور، ينبري فقهاؤنا للردِّ وكتابة المسائل الخلافية، فينشط الفقه المقارن في فترة من الفترات، بتأثير العامل البيئي أو الاجتماعي.

كما حصل للشيخ المفيد والمرتضى والطوسي، حيث عاشوا في بغداد مركز الخلافة آنذاك، وهي تعجّ بالفقهاء من كلّ المذاهب.

٢٣٣

وحينما يستدعى الفقيه من قِبل السلطان؛ ليؤسِّس لقانون فقهي يتكفّل معاملات الناس وحلّ الخصومات بينهم، نرى أنّ فقه الدولة ينشط وتؤلّف الكتب المتسلسة في فقه المعاملات والقضاء وأمور الإدارات، وهذا ما لمسناه من عصر المحقِّق الكركي (رحمه الله) حين عاصر ملوك الدولة الصفويّة.

وعندما كان الفقه الإمامي يعيش حالة العزلة للظروف السياسية، التي اقتضت أن تعيش الطائفة الشيعية في كفّة الخطِّ المعارض للسياسات الحاكمة الجائرة، نرى أنّ البحوث الفقهية والمسائل الاجتهادية تضيق فتنصبُّ على فعل المكلّف، وتنظر من لحاظه، وتسير حسب الحاجة التي يبتلي بها المكلّف، بينما نراها تتَّسع لتنظر من منظار أوسع هو حاجة المجتمع لا المكلف منفرداً، حينما تقوم للدين دولة وتتبلور حاجة المجتمع لتنظيم علاقاته وبيان كيفية تعامل الفرد مع الدولة، وهذا ما رأيناه في زمننا عند قيام الدولة الإسلامية المباركة في إيران.

فلا يمكن لأحد أن ينفي تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على سير حركة الاجتهاد ونتاجها، فالفقه والفقهاء لا يمكن أن يعيشوا بمعزل عن ما يُحيط بهم من ظروف.

وإلى الآن تمثُل في الذاكرة تلك المواقف المشرقة، التي اتَّخذها فقهاء الطائفة بوجه الحكومات الاستعمارية والمستبدَّة.

لقد تصدَّى الفقهاء لمواجهة الحضارة الغربية ومعطياتها، التي بدأت تغزو العالم الإسلامي، وتستعمر بلاد المسلمين، وتسيطر على ثرواتهم ونفوسهم، وتفسد أنظمتهم وحكوماتهم، فكان لابدَّ للفكر الديني والفقهي أن يواجه هذا المدَّ الحضاري الكافر، وأن ينفتح على قضايا ومشاكل جديدة فكريَّة وقانونية، وسياسية بدأت تدخل بلاد الإسلام، فيُعطي فيها موقفاً شرعياً واضحاً، وعلاجاً عملياً مقنعاً.

وقد تصدَّى جملة من الفقهاء العظام في هذا العصر لأداء هذا الدور الرسالي , فظهرت دراسات علمية ومؤلَّفات معمَّقة وبديعة، في الاقتصاد الإسلامي، والفلسفة الإسلامية والفقه السياسي، ونظرية الحكم في الإسلام وغير ذلك.

كما صدرت ممارسات ميدانية من قِبل المرجعية الدينية للتصدِّي للكفَّار، ومواجهة النفوذ الاستعماري الغربي، وتعبئة طاقات الأمّة ضدَّ المستعمرين، كما نجد ذلك في فتوى الميرزا الشيرازي الكبير بتحريم التنباك ضدَّ مطامح الاستعمار البريطاني في إيران في العهد القاجاري , ونجده أيضاً

٢٣٤

في فتوى الشيخ محمّد تقي الشيرازي (قدس سره) ـ تلميذ الميرزا الكبير ـ بالجهاد في العراق ضدَّ الاحتلال البريطاني، والذي اشترك فيه الفقهاء مع الشعب في الجهاد ضدَّ الانجليز، وموقف المحقِّق الخراساني والميرزا النائيني (قدس سره)، وأفكارهم ضدَّ الاستبداد القاجاري، وطرح نظرية الحكم الدستوري الشرعي.

وكان آخر حلقات هذه الجهود الفقهية والسياسية المباركة، موقف المرجعية العُليا في إيران، وعلى رأسهم السيد الإمام الخميني (قدس سره) من الحكم البهلوي الغاشم، العميل للشيطان الأكبر أمريكا، حيث استطاع الإمام أن يستنهض الأمّة ويعبّئ طاقاتها ضدَّه، حتى سقوطه وإقامة حكم إسلامي يعتمد النظرية الفقهية طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الحكم وهي نظرية (ولاية الفقيه)، التي كان قد شرحها وهذَّبها وأوضح معالمها، في بحوثه الفقهية التي ألقاها على تلامذته في النجف الأشرف، ثمّ وفّقه الله سبحانه وتعالى لتطبيقها وتجسيدها وإخراجها إلى النور في إيران الإسلام، فكانت الجمهورية الإسلامية اليوم وما فيها من دستور وقوانين، مستمدَّة من الفقه الإسلامي حصيلتها وثمرة من ثمرات فكر وجهاد هذا الإمام، الذي كان من أبرز فقهاء ومراجع هذا العصر الفقهي الزاهر (١) .

وخلاصة القول: إنّ للظروف الاجتماعية والسياسية أثراً كبيراً وواضحاً على حركة الاجتهاد، وعلى النتاج العلمي المنبثق عنها.

____________________

(١) انظر مراحل تطوّر الاجتهاد، منذر الحكيم / مجلَّة فقه أهل البيت ١٧: ١٧٤-١٧٩، مقدّمة موسوعة الفقه الإسلامي: ٧١-٧٦.

٢٣٥

الخاتمة

مِن خلال ما عُرض يمكن أن نستخلص النتائج التالية:

١. الاجتهاد مأخوذ من الجُهد بالضم، وهو في اللغة بمعنى الطاقة، أومن الجَهد بالفتح وهو في اللغة بمعنى المشقَّة.

والاجتهاد في الاصطلاح: تحصيل الحجَّة على الحكم الشرعي، واستعمل الاجتهاد في المدرسة السنِّيّة بما يرادف القياس، أو إعمال الفكر لتحصيل الحكم الشرعي في حال غياب الدليل عليه من الكتاب والسنّة والإجماع، بينما استُعمل في المدرسة الإمامية بأنّه: استخراج الأحكام من أدلة الشرع.

وبين المعنين المستعملين بَون شاسع.

وقد مرّ مصطلح الاجتهاد بأدوار عدّة، حيث كان يُطلق على بعض الأفعال التي تصدر من بعض الصحابة، ويراد الاعتذار عنهم فيقال: تأوّل فاخطأ. ثمّ صار المصطلح أجتهد فأخطأ، إلى أن وصل إلى معناه الحالي.

٢. بُذلت محاولات حثيثة، وحُشدت أدلة كثيرة في سبيل إثبات اجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وبذلك تكون مخالفة النبي من قِبل البعض والذي رصدها التاريخ مبرَّرة، ولا لوم فيها على المخالفين؛ لأنّه اجتهاد في قبال اجتهاد.

ووصِفت بعض أفعال الصحابة المخالفة للنص الصريح بأنّها اجتهاد؛ لئلا يقع اللوم على أحد منهم في ذلك، بعد أن بذل الجهد في سبيل إثبات اجتهادهم في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله) وبتشجيع منه.

٢٣٦

وقد وصلنا من خلال العرض والتحليل في هذه الرسالة، إلى أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يدرِّبون أصحابهم على الاجتهاد ـ وإن كان بصورة بسيطة وبدائية ـ وبذلك أرسوا قواعد الاجتهاد عندهم.

٣. ظهر من تتبُّع حركة الاجتهاد عند المدرسة السنيّة، أنّ انسداد باب الاجتهاد كان للأهواء السلطوية والسياسة فيه أكبر الأثر؛ للتخلّص من المجتهدين المنصفين، الذين لا يسكتون عن الجور والاستبداد، فسُدَّ أهمُّ منبع من المنابع الحيوية لهذا الرفض والمقاومة وهو الاجتهاد.

٤. مرَّ الاجتهاد في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بعدّة أدوار كان في بدايتها بدائياً وبسيطاً لقرب الفقهاء من عصر النصّ، ثمّ أخذ بالتطوّر والتعقيد كلّما ابتعد الزمن عن عصر الأئمة (عليهم السلام)، الذين يمثّلون مصدر النص بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله).

وسار الاجتهاد عند الشيعة مساراً تصاعدياً من حيث المادة الفقهية، منذ زمن الغيبة إلى وقتنا هـذا، إلاّ أنّه تعرَّض لبعض العثرات التي كادت أن تقضي على حركته.

منها ما ظهر من جمود بعد عصر الشيخ الطوسي، حيث هيمنت الشخصية العلمية لهذا العَلَم على المجتهدين من بعده؛ فمنعتهم من الجرأة على مخالفته.

ومنها ما ظهر في الدور الرابع (في العقود الأخيرة من القرن العاشر) من حركة نادت بعدم شرعية الاجتهاد، ووقفت بوجه المجتهدين بكل قوَّة، حتى وصل الأمر إلى درجة التشنيع عليهم، وكان نشوؤها ردَّة فعل على التطرُّف الذي ظهر في المنهج الاجتهادي في تلك الفترة، المتمثّل في الإفراط بالاعتماد على المنهج العقلي والفلسفي، والابتعاد عن المنهج الروائي، وكادت هذه الانتكاسة التي حدثت أن تودِّي بحياة الاجتهاد وتؤدِّي إلى سدِّ بابه، لولا جهود المخلصين من فقهائنـا، أمثال الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني (قدس الله أسرارهم).

٥. كان للظروف السياسية والاجتماعية تأثير كبير في حركة الاجتهاد، والنتاج العملي الفقهي الصادر عن هذه العملية.

٢٣٧

٦. لا أدَّعي أنَّني جئت بجديد علمٍ لم يأتي به غيري من الباحثين، ولكن ترتيب مباحث هذه الرسالة تلفيقي استفدنا فيه من المناهج السابقة، فكان ما بين رسالتنا وما سبقها من البحوث عموم وخصوص من وجه، وبهذا استطعت أن أُضفي نوع حداثة عليها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمّد وآله الطاهرين.

يوم الخامس عشر من شعبان المبارك

لسنة ١٤٢٧ هـ

قُم المقدّسة عشّ آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله)

٢٣٨

مصادر البحث

الكتُب:

١) القرآن الكريم، كتاب الله المجيد.

٢) إبراهيم، أحمد، تاريخ التشريع الإسلامي، مصر، ١٤٢٢ هـ ق، الكتاب جلد واحد، ط الأُولى.

٣) ابن إدريس، محمّد بن منصور الحلِّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، إيران١٤١٤هـ ط الثالثة، نشر جماعة المدرسين.

٤) ابن الأثير، المبارك بن محمّد، النهاية في غريب الحديث والأثر، إيران أوفست إسماعيليان، على طبعة دار إحياء التراث العربي لبنان.

٥) ابن الأثير، عليّ بن محمّد الشيباني، أُسد الغابة في معرفة الصحابة، إيران نشر إسماعيليان.

٦) ابن الأثير، عليّ بن محمّد الشيباني، الكامل في التاريخ، لبنان ١٤٠٨هق، دار إحياء التراث العربي، ط الأُولى.

٧) ابن الحاجب، مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل أو مختصر ابن الحاجب.

٨) ابن القيِّم، إعلام الموقعين، نشر دار الجيل الجديد لبنان، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٩) ابن النديم، محمّد بن إسحاق، الفهرست، تحقيق رضا تجدد، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

١٠) ابن حجر، أحمد بن محمّد، الإصابة في تمييز الصحابة، مصر ١٩٣٩م، مطبعة مصطفى محمّد، المعلومات الأُخرى لم تذكر.

١١) ابن حنبل، أحمد بن محمّد، مسند أحمد، لبنان، نشر دار صادر، ط لم تُذكر.

١٢) ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، لبنان١٤١٠ هـ ق، ط الأُولى نشر دار الفكر.

١٣) ابن خلّكان، أحمد بن محمّد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان أو تاريخ ابن خلّكان، تحقيق د. إحسان عباس، لبنان، نشر دار صادر، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٢٣٩

١٤) ابن شهرآشوب، محمّد بن عليّ، معالم العلماء، إيران، لم تُذكر الطبعة والسنة.

١٥) أبو العينين، بدران، تاريخ الفقه الإسلامي ونظرية المِلْكية والعقود، لبنان، الكتاب جلد واحد، الطبعة غير مذكورة.

١٦) الأشقر، د. عمر، تاريخ الفقه الإسلامي، الكويت،١٤١٠ هـ ق،، الكتاب جلد واحـد، ط٢.

١٧) الإصفهاني، الحسين بن محمّد المعروف بالراغب، المفردات في غريب القرآن، إيران ١٤٠٤ هـ ق، ط الأُولى، دفتر نشر الكتاب.

١٨) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة الروضة البهيّة، إيران، ١٣٨٦ هـ ق.

١٩) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة الفوائد الحائرية، لبنان، ١٤١٥ هـ ق، ط الأُولى، نشر مجمع الفكر الإسلامي.

٢٠) الآصفي، محمّد مهدي، مقدّمة رياض المسائل، إيران، ١٤١٨ هـ ق، نشر جماعة المدرسين.

٢١) الأفريقي، ابن منظور، لسان العرب، لبنان ١٤٠٥ هـ ق ط الأُولى نشر أدب الحوزة.

٢٢) الآمدي، عليّ بن محمّد، الإحكام في أصول الأحكام، لبنان ١٤٠٣ هـ ق، ط دار الكتاب العربي.

٢٣) الأميني، عبد الحسين أحمد النجفي، موسوعة الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، نشر مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، إيران، ط ثانية ١٤٢٤ هـ ق.

٢٤) الأندلسي، عليّ بن أحمد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمّد شاكـر، لبنان ١٤٠٠هـ، دار الآفاق الجديدة.

٢٥) الأندلسي، عليّ بن أحمد بن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، لبنان ١٤١٦ هـ ق، ط الأولى.

٢٦) الأنصاري، عبد العليّ محمّد، فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت، مطبوع بهامش المستصفى للغزالي، مصر ١٣٢٢هـ ق، المطبعة الأميرية، أوفسيت دار الذخائر قم.

٢٧) الأنصاري، محمّد عليّ، مقدّمة تاريخ حصر الاجتهاد لآقا بزرك، إيران ١٤١٠ هـ ق، المعلومات الأُخرى لم تُذكر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249