الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة20%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57943 / تحميل: 7504
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقوله تعالى على لسان إبراهيم: ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) (1) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل: ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) (2) .

فهذه الصيغة الواردة في موثّقة أبي بصير - وغيرها من الصلاة على آل محمد - صيغة نَعت وإقرار لهم بالولاية والسؤدد والخيريّة على البريّة، فهي قريبة من أحد الصيغ التي ذكرها الصدوق في الفقيه للشهادة الثالثة وهي: (آل محمّد خير البريّة)، وكذلك قريبة من الصيغة التي أوردها السيّد المرتضى في مسائله المبافارقيات (محمّد وعلي خير البشر).

* السابعة: الفتوى بالشهادة الثالثة بعد تكبيرة الإحرام

الفتوى بالشهادة الثالثة في دعاء التوجّه إلى الصلاة، والذي يؤتى به بعد تكبيرة الإحرام.

منها: فتوى الشيخ الطوسي في كتاب الاقتصاد، قال في فصل فيما يقارن حال الصلاة: (أوّل ما يجب من أفعال الصلاة المقارنة لها النيّة،... ويستفتح الصلاة بقوله: (الله أكبر)،... فإن أراد السنّة في الفضيلة كبّر ثلاث مرات...

____________________

(1) إبراهيم: 37، 4.

(2) البقرة: 128.

٦١

ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثلما قدّمناه ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين ويقول بعدهما: (وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض على ملّة إبراهيم ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين وما أنا من المشركين، قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين) (1) ، وقريب منه ما جاء في كتاب النهاية (2) .

ومنها: فتوى الحَلَبي في الكافي

قال في الكافي: (فأمّا التوجّه فهو ما يُفتتح به الصلاة من التكبير والدعاء وصفته: أن يقول المتوجّه بعد الفراغ من الإقامة ويداه مبسوطتان تجاه وجهه: اللهمّ إنّي أتوجّه إليك وأتقرّب إليك بمَن أوجبتَ حقّهم عليَّ، آدم، ومحمّد، ومَن بينهما من النبيّين، والأوصياء، والحجج، والشهداء، والصالحين، وآل محمّد المصطفى، علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجّة بن الحسن، اللهمّ فصلِّ عليهم أجمعين، واجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين، اللهمّ اجعل صلاتي بهم مقبولة، وعملي بهم مبروراً، وذنبي بهم مغفوراً، وعيبي بهم مستوراً، ودعائي بهم مستجاباً مَننتَ اللهمّ عليَّ بمعرفتهم، فاختِم لي بطاعتهم وولايتهم، واحشرني عليها وجازني على ذلك الفوز بالجنة، والنجاة من النار برحمتك يا أرحم الراحمين، ثُمّ يكبّر ثلاث تكبيرات،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين ويدعو بعدهما،... ثُمّ يكبّر تكبيرة، ثُمّ ينوي الصلاة ويكبّر تكبيرة الافتتاح مصاحبة للنيّة ويقول بعدها:

____________________

(1) الاقتصاد: ص26 - 261، منشورات جامع جهلستون.

(2) النهاية: ج1، ص294.

٦٢

وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، وولاية أمير المؤمنين والأئمّة من ذريتهم الطاهرين.... (1).

منها: فتوى الشيخ المفيد

قال في المقنعة في باب كيفيّة الصلاة وصفتها: وليستفتح الصلاة بالتكبير فيقول: (الله أكبر ويرفع يديه مع تكبيرة،.... ويكبّر تكبيرة أخرى كالأولى و....، ويكبّر ثالثة،... ثُمّ يكبّر تكبيرة رابعة،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين، إحداهما بعد الأخرى، كما قدّمنا ذكره ويقول: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وما أنا من المشركين،... أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم ثُمّ يقرأ الحمد...)) (2) .

منها: فتوى الشيخ الصدوق في كتابه المقنع في أبواب الصلاة قال: (ثُمّ كبِّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض، عالِم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حنيفاً مسلماً،... (3).

ومنها: فتوى القاضي ابن البرّاج

قال: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج عليّ بن أبي طالب، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي...) (4) .

____________________

(1) الكافي في الفقه: ص121 - 122، طبعة مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(2) المقنعة: ص13، طبعة قم، جماعة المدرّسين.

(3) المقنع: ص93، طبع قم، مؤسّسة الإمام الهادي (عليه السلام).

(4) المهذّب: ج1، ص 92 كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٣

ومنها: فتوى ابن زهرة الحَلَبي

قال: (وأن يقول بعد تكبيرة الإحرام: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين عليّ، والأئمّة من ذرّيتهما وما أنا من المشركين...) (1).

ومنها: الشيخ أبي يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر.

قال: (ثُمّ يكبّر تكبيرتين، الثانية منهما تكبيرة الافتتاح ثُمّ يقول: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)...) (2) .

وغيرها من الفتاوى التي يجدها المتتّبع طبقاً للروايات الواردة في دعاء التوجّه للصلاة، والتي يأتي التعرّض لها لاحقاً، وهي ناصّة على كون الإقرار بالشهادة الثالثة بالصيغة المتقدّمة من أوراد الصلاة الخاصّة، والتي يؤتى بها داخل الصلاة فضلاً عن مقدّماتها الخارجة كالأذان والإقامة، نعم، في بعض فتاوى المتأخّرين تخصيص دعاء التوجّه بما بين الإقامة وتكبيرة الإحرام، وهو الآخر أيضاً نافع في المقام؛ لتوسّطه بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فضلاً عن تخلّلها في الإقامة والأذان ذاتيهما.

____________________

(1) غنية النزوع: ص83 كتاب الصلاة، طبعة قم، مؤسّسة الإمام الصادق.

(2) المراسم العلويّة: ص71 كتاب الصلاة، طبعة أمير، قم.

٦٤

ومنها: فتوى الشيخ الصدوق في الفقيه في وصف الصلاة وأدب المصلي قال، قال الصادق: (إذا قمتَ إلى الصلاة فقل... ثُمّ كبّر تكبيرتين وقل: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهاج علي، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) (1) ، ثُمّ قال الصدوق في ذيلها: (وإن شئتَ كبّرت سبع تكبيرات ولاءً، إلاّ أنّ الذي وصفناه تعبّد، وإنّما جَرت السنّة في افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات لمَا روى زرارة).

ومنها: فتوى الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد قال: (فإذا أراد التوجّه قام مستقبل القبلة وكبّر فقال: الله أكبر، يرفع بها يديه إلى شَحمتي أُذنيه لا أكثر من ذلك، ثُمّ يُرسلهما، ثُمّ يكبّر ثانية وثالثة مثل ذلك ويقول،.... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثل ذلك ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين على ما وصفناه ويقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملّة إبراهيم، ودين محمد، ومنهاج علي حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) (2).

____________________

(1) الفقيه: ج1، ص302 - 34 طبعة جماعة المدرّسين.

(2) مصباح المتهجّد: فصل في سياقه الصلوات الإحدى والخمسين ركعة في اليوم والليلة، ص44 مؤسّسة الأعلمي بيروت.

٦٥

* الثامنة: الفتوى بذكرهم بوصف إمامتهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة

ويراد بذلك: مشروعيّة أو شرطيّة ذِكر أسمائهم بوصف الإمامة في خطبة الجمعة، تضمّن خطبة الجمعة للإمام التي هي عوض ركعتي الظهر، والتي هي شرط في ركعتي صلاة الجمعة، بل هي من الأجزاء الواجبة لتضمنّها لأسماء الأئمّة ففي مفتاح الكرامة (1) قال: وفي الجعفريّة، وكشف الالتباس، وحاشية الإرشاد وجوب الصلاة فيهما على أئمّة المسلمين.

وفي فوائد الشرايع: أنّه أولى واعتمدَ في المدارك والشافية على صحيح محمّد الطويل، وظاهر الدروس أو صحيحها: أنّ الصلاة على أئمّة المسلمين من وظائف الثانية، كالنافع والمعتبر، وكأنّه مالَ إليه في إرشاد الجعفريّات، وفي موضع من السرائر والمنقول عن مصباح السيّد: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين في الثانية، وظاهر النهاية: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين وقد تضمّنت صحيحة (2) محمّد بن مسلم الأمر بذكر أسماءهم (عليهم السلام)، وكذا موثّق سماعة (3).

وقال في الجواهر: (لكنّ ظاهره (الموثّق)، وظاهر صحيح ابن مسلم إيجاب الصلاة على الأئمّة في الثانية، بل في الثاني منهما ذِكرهم (عليهم السلام) تفصيلاً، فمقتضى الجمع بين النصوص ذلك فيهما معاً إلاّ أنّ ندرة الفتوى بها وما سمعتهُ من إجماع الشيخ وغيره على الاجتزاء بدونه، وسوق النصوص للأعم من الواجب والمندوب ونحو ذلك ممّا لا يخفى يمنع من الجرأة على الوجوب، وإن كان الوجوب في الجملة ظاهر ما سمعته في مصباح السيّد، ونهاية الشيخ، والنافع، والمعتبر وغيرها، بل ربّما استُظهرَ من موضع من السرائر إلاّ أنّه استُظهر منه الندب؛ لحصر الواجب في الخطبة في أربعة أصناف (4).

____________________

(1) مفتاح الكرامة: ج3، ص114.

(2) الكافي: ج3، ص422 باب تهيئة الإمام للجمعة وخطبته.

(3) الوسائل: أبواب صلاة الجمعة ب24، ح1.

(4) الجواهر: ج11، ص215.

٦٦

والحاصل: إنّ مشروعيّة ذِكر الأسماء للأئمّة (عليهم السلام) ورجحانه بالخصوص في خطبة الجمعة، لا خلاف فيه والخُطبة - كما مرّ - عِوض الركعتين وبمنزلة الجزء المقدّم على ركعتي صلاة الجمعة، فهي أدخل في الصلاة من الأذان والإقامة، وقد تضمّنت لكلّ من الشهادات الثلاث وإن كانت بصورة الحمد لله والصلاة على النبي بالتوصيف، والصلاة على الأئمّة بوصف الإمامة، لاسيّما وأنّه قد أُمرَ ندباً ووجوباً بذكر الأسماء تفصيلاً في: صحيح محمد بن مسلم، ومجموعاً في موثّق سماعة.

وهذا التشريع الخاص بذكرهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة يدفع كثيراً من الاستبعادات والإشكاليات التي ذكرها جماعة: من أنّ صورة الأذان لو كانت متضمّنة للشهادة الثالثة على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لتوفّرت الدواعي لنقلها ونحوه ممّا ذُكر في استبعاد تضمّن الأذان للشهادة الثالثة كفصل؛ فإنّ هذه الاستبعادات بعينها تتأتّى في خطبة صلاة الجمعة، وليس من وجه في الجواب إلاّ تدريجيّة التشريع وبيان الأحكام ولو بسبب عدم استجابة الناس وتقبّلهم لذلك، كما في إبلاغ أصل الولاية بنحو عام لكلّ المسلمين كما في واقعة غدير خم، حيث كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى تمرّد المنافقين فطمأنَهُ الله تعالى بقوله: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).

____________________

(1) المائدة 67.

٦٧

السيرةُ على عهدِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

بالرغم من كون تشريع الأحكام وإبلاغها من الله تعالى ورسوله الكريم تدريجيّاً، بل إنّ بعض تفاصيل الأحكام تأخّر إبلاغها إلى عهد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعهدٍ معهود من رسول الله، إذ كمال الدين بنصب رسول الله لعلي (عليه السلام) والمطهّرين من ولده أئمّة، إلاّ أنّه يُطرح السؤال:

عن أنّ تشريع الشهادة الثالثة في الأذان هل وقعَ في عهد رسول الله، أم أنّه تمّ بيانه وإبلاغه على يدي أئمّة أهل البيت، الذين يمسّون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ، الذين عهد إليهم النبي العلم الإلهي من بعده، فإنّ الذي يسترعي الانتباه هو ظاهره حذف السلطة بعد رسول الله على عهد الثاني لفصل (حيّ على خير العمل)، فإنّ ظاهره التصرّف في الأذان بالنقيصة أو زيادة (الصلاة خير من النوم)، تثير التساؤل بأنّ الأذان الذي كان على عهد رسول الله قد نقص منه أمور وزيد فيه أموراً أخرى، وهذا التطاول يزيد في احتمال مطروح بدواً، في كون الشهادة الثالثة قد حصلَ التأذين بها في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لاسيّما مع الإعلان عنها في واقعة الغدير وقبلها من الوقائع ونزول آية إكمال الدين (1) ، وأنّه ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ... ) (2) ، وهذا ما يظهر بوضوح من مصحّح ابن أبي عمير الآتي، مع اعتضاد مضمونه وتوافقه مع فتاوى السيّد المرتضى وابن برّاج، وتطابق بعض مضمونه مع بعض الأحاديث النبويّة المرويّة من قِبل الفريقين فهاهنا نقطتان:

____________________

(1) المائدة: آية 3.

(2) المائدة: آية 67.

٦٨

الأولى: فتوى كلّ من: السيّد المرتضى، وابن برّاج بجواز (محمّد وعلي خير البشر) بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان، كما أفتى بذلك السيّد المرتضى في المسائل المبافارقيّة (1) ، وفتوى (2) ابن برّاج بجواز قول: (آل محمّد خير البريّة) مرّتين بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان والإقامة.

ثُمّ إنّ هاتين الفتويين بَنياها العَلَمان على المتون الروائيّة التي أشار إلى روايتها الصدوق في الفقيه، وقد أشار الشيخ الطوسي في المبسوط والنهاية بورودها، فيستفاد إلى أنّ أحد موضعي الشهادة الثالثة في الأذان بعد فصل (حيّ على خير العمل) مضافاً إلى الموضع الأوّل، والذي هو الشهادة الثانية فبضميمة النقطة الثانية وهي:

الثانية: وهي ما ورد في مصحّحة ابن أبي عمير، أنّه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن (حيّ على خير العمل) لمَ تُركت من الأذان؟ قال: (تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة؟ قلت: أريدهما جميعاً، فقال: أمّا العلّة الظاهرة فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة، وأمّا الباطنة؛ فإنّ خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك حيّ على خير العمل من الأذان: أن لا يقع حثٌ عليها ودعاء إليها).

ومراده (عليه السلام) من العلّة الباطنة: السبب الحقيقي الخفي الذي دفعَ الثاني إلى حذفها من الأذان أنّه لكي لا يُدعى إلى الولاية، مع أنّ متن (حيّ على خير العمل) ليس فيه لفظ الولاية فلا يكون هذا الفصل دعوة إلى الولاية إلاّ بضميمة ما ذُكر في النقطة من وجود (آل محمّد خير البريّة)، أو (محمّد وعلي خير البشر)، وأنّ هذا الفصل كان قد قُرأ به في الأذان في بعض أيّام رسول الله أو فترة من الفترات،

____________________

(1) المسائل المبافارقية: ص256.

(2) المهذّب: ج1، ص92، كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٩

وحيث إنّ هذين الفصلين مترابطان، حُذف الفصل الأوّل وهو (حيّ على خير العمل)؛ لئلاّ يُذكر الفصل الثاني وهو (آل محمّد خير البريّة) أو (محمّد وعلي خير البشر)، والذي كان يمارَس في بعض الأحيان في عهد رسول الله، فلكي لا يُذكر هذا الفصل الثاني حُذف الأوّل.

وبهاتين النقطتين يتبيّن سند روائي معتبر على تشريع الشهادة الثالثة منذ عهد رسول الله، وأنّ هذه المصحّحة والروايات المشار إليها في النقطة الأولى سند روائي لتاريخ تشريع الشهادة الثالثة، وأنّها تشريع نبوي، وهذا ما تعطيه تصريح الرواية من أنّ السند الحقيقي من إقدام الثاني بحذف (حيّ على خير العمل) والداعي الأصلي لديه هو: لئلاّ يُدعى بالولاية بتوسّط حيّ على خير العمل، ممّا يستلزم أنّ قَبل عهد الثاني - وهو عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كان يُدعى للولاية بتوسّط (حيّ على خير العمل).

وهذا ما تفسّره الروايات في النقطة الأولى من: أنّ تشريع الشهادة الثالثة قد كان في أصل التشريع الأوّلي للأذان، وأنّ تعبيره (عليه السلام) بالعلّة الباطنة يريد به الوصف للعلّة، أي السبب الخفي الذي حذا بالثاني على أن يَقدِم على حذف (حيّ على خير العمل)، فلا يُتوهم أنّ لفظ الباطن هو وصف للمعنى الخفي لحيّ على خير العمل؛ لأنّه بعيد ممجوج، إذ سؤال الراوي عن سبب ترك وحذف (حيّ على خير العمل) من قِبَل السلطة في الأذان، ولذلك ترك العلّة الظاهرة لهذا الترك والحذف، أي العلّة المُعلنة على السطح من قِبَل السلطة للناس وهو قوله (عليه السلام):

إنّ سلطة الثاني ادّعت (لئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة)، إذ المعروف أنّ حذف (حيّ على خير العمل) هي من بِدع الثاني، فهذه المصحّحة منادية بوجوب الدعاء والحثّ على ولاية آل محمّد في الأذان في التشريع الأوّلي من قِبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلاّ أنّ الثاني قام بحذفه.

٧٠

ويَدعم مضمون هذه المصحّحة - بالإضافة إلى الروايات المشار إليها في النقطة الأولى، والتي أفتى بها كلّ من السيّد المرتضى، وابن برّاج -: ما رواه الفريقان مستفيضاً عن النبي، وما هو مجانس لفظاً لمضمون هذه الروايات في ذلك سورة البيّنة أنّ آل محمّد خير البريّة، وأنّ (محمّداً وعليّاً خير البشر)، فقوالب هذه الألفاظ والجُمل هي أحاديث نبويّة مرويّة عند الفريقين، وهو يشاكل ويجانس لفظاً (حيّ على خير العمل)، وهو عين الفصل الثاني الذي أشارت إليه روايات النقطة الأولى، لاسيّما وأنّ الآية في سورة البيّنة: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) ، فلاحظ ما رواه العامّة من تسمية علي بخير البريّة، فكانوا يقولون له على عهد رسول الله: جاء خير البريّة، وذَهب خير البريّة.

فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور (2) في ذيل الآية، قال: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله (قال: كنّا عند النبي (صلّّى الله عليه وآله وسلّم)، فأقبلَ علي (عليه السلام) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فكان أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا أقبل علي (عليه السلام) قالوا: جاء خير البريّة).

وقال السيوطي: وأخرج ابن عدي، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً (علي خير البريّة).

____________________

(1) البيّنة: الآية 7.

(2) الدرّ المنثور للسيوطي: ج6، ص389.

٧١

وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس، قال: لمّا نَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي: (هو أنتَ وشيعتك يوم القيامة راضيين مرضيين).

وأخرجَ ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال: (قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألم تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جيئت الأمم للحساب، تُدعونَ غرّاً محجّلين) (1).

وروى الطبري ابن جرير، المتوفّى سنة 31 هجريّة في تفسيره جامع البيان: وقد حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا عيسى بن فرقد عن أبي الجارود عن محمّد بن علي ( أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فقال النبي (صلّى الله عليه ((وآله)) وسلّم): (أنت يا علي وشيعتك) (2).

وقد روى الشوكاني في فتح القدير (3) هذه الروايات عن تلك المصادر الحديثيّة، وروى الآلوسي في روح المعاني (4) هذه الروايات أيضاً عن نفس تلك المصادر الحديثيّة.

وروى ابن حسنويه الحنفي في كتابه (دُر بحر المناقب)، ص59 مخطوط فقال: (وعن الإمام فخر الدين الطبري يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بينما نحن بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً في مسجده بالمدينة، فذُكرَ بعض الصحابة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________________

(1) الدرّ المنثور للسيوطي: ج6، ص389.

(2) تفسير الطبري: ج30، ص335.

(3) فتح القدير: ج5، ص477.

(4) روح المعاني للآلوسي: ج3، ص6.

٧٢

(إنّ لله لواءً من نور وعموده من زبرجد، خلقه الله تعالى قبل أن يخلق السماء بألفي عام مكتوب عليه (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، آل محمّد خير البشر، وأنت يا علي إمام القوم، فعند ذلك قال علي: الحمدُ لله الذي هدانا وأكرمنا بك وشرّفنا....) الحديث (1).

____________________

(1) إحقاق الحق، ج4، ص284. فقد أورده إمام الحنابلة احمد بن حنبل الشيباني المروزي في فضائل الصحابة ص46 مخطوط كما حكاه في إحقاق الحق ج4، ص249 إلى ص258.

وروى مُحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص96 وفي الرياض النظرة: ج2، ص220 وابن حجر في لسان الميزان: ج3، ص166، ج6، ص78، ج1، ص175 وأخرجه ابن مردويه في كتابه المناقب وغيرها من المصادر فلاحظ إحقاق الحق.

٧٣

تَقادُم السيرة على الشهادة الثالثة

المحطّةُ الأُولى:

إنّ من أقدم الشهادات التاريخيّة على السيرة في ذِكر الشهادة الثالثة هي: ما ذكرهُ العامّة في كُتب التراجم في ترجمة كدير الضبّي، وهو أحد صحابة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّه ذَكرها في تشهّد الصلاة حيث صلّى على النبي وعلى الوصي بلفظ الوصي، وهو يُنبئ عن السيرة الموجودة لدى صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّن كان يتشيّع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويظهر من التراجم المشار إليها (1) معروفيّة تضعيفه لأجل ذلك.

وروى محمد بن سليمان الكوفي القاضي، المتوفّى بعد الثلاثمائة هجري قمري في كتابه مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (حدّثنا محمد بن منصور، عن عثمان بن أبي شيبه، عن جرير عن المغيرة، عن سمّاك بن سلمة قال: دخلتُ على كدير الضبّي حين صلّيت الغداة فقالت لي امرأته: ادنوا منه؛ فإنّه يصلّي فسمعته يقول: سلام على النبي والوصي (2) ، فقلت: لا والله، لا يراني الله عائداً إليك).

بل إنّ هناك روايات أخرى تُعدّ أقدم من ذلك عن جماعة كثيرة من الصحابة وهي: ما روي عن ابن عبّاس في عدّة روايات بسند متّصل عن

____________________

(1) لاحظ التذييل الثالث في خاتمة الفصل الأوّل.

(2) مناقب الإمام علي أمير المؤمنين: ص386 تصحيح المحمودي، والحديث رواه كلّ من: العقيلي، وابن حجر في ترجمة كدير الضبّي من كتاب الضعفاء ولسان الميزان، ج4، ص486.

٧٤

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (1) ، وسيأتي ذِكرها في الفصل الثاني في الطوائف الروائيّة العامّة، كالطائفة الأولى حيث قرنَ فيها الشهادات الثلاث، وقريب منه ما رواه الصدوق عن ابن عبّاس بسند متصل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) ، وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين - والأصبغ من أوائل التابعين - وهذا ما يُدلّل على أنّ السيرة متقادِمة في الصحابة والتابعين، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان، عن الأعمش، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن العبّاس (3) ، وستأتي في الفصل الثاني في الطائفة الأولى من طوائف الروايات العامّة، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان عن عبد الله بن مسعود (4) ، وكذلك روى عنه الفضل بن شاذان (5) حديث المعراج من اقتران الشهادات الثلاث.

أقول: فيظهر من هذه الروايات وغيرها، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرّضَ على اقتران الشهادات الثلاث في عدّة مواطن؛ لدفع المسلمين على الاعتياد على ذِكر الشهادة الثالثة كلّما ذكروا الشهادتين، وجعلها شعاراً لهم في كلّ المواطن والشعائر العباديّة ومنها الأذان، وقد روى الصدوق بإسناده في كمال الدين (6) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة اقتران الشهادات الثلاث، وهناك روايات أخرى في الفصل الثاني رواها الطبراني،

____________________

(1) الفضائل لابن شاذان: ص93، البحار: ج38، ص318.

(2) توحيد الصدوق: ص279 - 282، ح4، ح1.

(3) الفضائل لابن شاذان: ص83، الخصال للصدوق: ج1، ص323.

(4) الفضائل لابن شاذان: ص152.

(5) الفضائل لابن شاذان: ص153.

(6) كمال الدين: ص294 - 296، ح3.

٧٥

والحافظ ابن عساكر، والسيوطي، وابن عدي وغيرهم، عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي الحمراء خادم الرسول، وغيرهم من الصحابة في اقتران الشهادات الثلاث وكلّها من كُتب ومصادر العامّة (1).

المحطّةُ الثانية:

ما يظهر من سيرة الطالبيين في حلب، والشام، ومصر من التأذين بالشهادة الثالثة، عندما تسلّموا سدّة الحكم في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع وطواله، وإليك هذه النصوص التاريخيّة:

1 - ما ذكرهُ ابن العديم في كتابه بغية الطلب في تاريخ حلب، روى بسنده عن أبي بكر الصولي: أنّه لمّا أُجلس أحمد بن عبد الله - وهو الخارج بالشام في أيّام المكتفي بالله، وكان ينتمي إلى الطالبيين وهو المعروف بصاحب الخال وقُتل بالدكّة في سنة إحدى وتسعين ومائتين (291 هجري قمري) - على سدّة الحكم، سار أحمد بن عبد الله إلى حمص ودُعي له بها وبكورها، وأمَرهم بأن يُصلّوا الجمعة أربع ركعات، وأن يَخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم: أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهدُ أنّ عليّاً وليّ المؤمنين، حيّ على خير العمل، وضَربَ الدراهم والدنانير وكُتب عليها: (الهادي المهدي، لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، ( جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )) ، وعلى الجانب الآخر: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2).

____________________

(1) ملحقات إحقاق الحق: ج16، ص468 - 493.

(2) بُغية الطلب في أخبار حلب: ج2، ص944.

٧٦

2 - ما ذكرهُ أبو عبد الله محمّد بن علي بن حمّاد في كتابه (أخبار ملوك بني عبيد)، في ترجمة عبيد الله ابن محمد الطالبي (1) المتوفّى سنة (322 هجريّة قمريّة)، مؤسّس الدولة العبيديّة في مصر قال: (وكان ممّا أحدثَ عبيد الله أن: قطعَ صلاة التراويح في شهر رمضان، وأمرَ بالصيام يومين قبله، وقنتَ قبل صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهرَ بالبسملة في الصلاة المكتوبة، وأسقطَ من أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)، وزاد (حيّ على خير العمل)، (محمّد وعلي خير البشر)، ونصّ الأذان طول مدّة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح مرّتين، حيّ على خير العمل، محمّد وعلي خير البشر مرّتين، لا إله إلاّ الله مرّة) (2).

3 - ما رواه القاضي التنوّخي (أبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوّخي (المتوفّى 384 هجريّة قمريّة)، عن أبي الفرج الأصفهاني المتوفّى سنة (356هـ) قال: سمعتُ رجلاً من القطعيّة يؤذِّن: الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ عليّاً وليّ الله، محمد وعلي خير البشر فمَن أبى فقد كفر، ومَن رَضي فقد شكر، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله) (3).

____________________

(1) وهو عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، كما ذُكر في نسبه وولِد سنة (260 هجريّة)، وتوفي يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة واثنان وعشرون (322 هجريّة قمريّة)، كما جاء في أخبار ملوك بني عبيد ج1، ص49.

(2) أخبار ملوك بني عبيد: ج1، ص5.

(3) نشوار المحاضرة للتنوّخي: ج2، ص133.

٧٧

4 - قال المقريزي في (المواعظ والاعتبار): (... وأوّل مَن قال في الأذان بالليل (محمّد وعليّ خير البشر) الحسين المعروف بابن شكنبه، ويقال: اشكنبه، وهو اسم أعجمي معناه: الكرش، وهو: علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن الحسين بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيّام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة (347 هجريّة قمريّة)، قاله الشريف محمد بن أسعد الجوباني النسّابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه (حيّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر) إلى أيّام نور الدين محمود) (1).

5 - ما ذكره المقريزي في حوادث سنة (356) ستة وخمسين وثلاثمائة في مصر، قال: (لمّا دخلَ جوهر (2) القائد لعساكر المُعز لدين الله وقد بنى القاهرة وأظهر مذهب الشيعة، وأذّن في جميع المساجد الجامعة بـ(حيّ على خير العمل)، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره وجهرَ بالصلاة عليه، وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم....) (3).

____________________

(1) خطط المقريزي: ج2، ص271 - 272 (المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار).

(2) وهو جوهر الصيقلي والقائد أبو الحسن، والمعروف بالكاتب الرومي، كان من موالي المُعز بن المنصور.... وفيات الأعيان لابن خلّكان: ج1، ص375 وهو الذي فتح مصر للدولة الفاطميّة.

(3) المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار للمقريزي: ج2، ص34، وذُكرت مصادر أخرى ما هو قريب من ذلك مثل: العِبر في خبر مَن غبر، ج2، ص316 - الذهبي: ص86، ومثل: الوفيان لابن خلّكان، ج1، ص375 - 386، والمنتظم لابن الجوزي في تاريخ الأمم والملوك: ج14، ص197، وكتاب أخبار ملوك بني عبيد: ج1، ص85.

٧٨

وذكرَ ابن العديم في كتابه زبدة الحلب من تاريخ حلب قال: (واستقرّ أمر سعد الدولة بحلب (1) ، وجدّد الحلبيّون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين وثلاثمائة (367هـ)، وغيّر سعدٌ الأذان بحلب وزاد فيه (حيّ على خير العمل، ومحمد وعلي خير البشر) (2).

وذكرَ أبو الفداء (3) في (اليواقيت والضرب في تاريخ حلب) نظير ذلك.

6 - وقال ناصر خسرو في كتابه (سفرنامه)، في عنوان اليمامة التي زارها أثر مُدن سابقة ذكرها سنة 433 هجريّة قمريّة: إنّ أمراؤها علويون منذ القديم ولم يَنتزع أحد الولاية منهم، إذ ليس في جوارهم سلطان أو مَلك قاهر، وهؤلاء العلويون ذو شوكة فلديهم ثلاثمائة أو أربعمائة فارس، ومذهبهم الزيديّة وهم يقولون في الإقامة: محمد وعلي خير البشر، وحيّ على خير العمل، وقيل: إنّ سكّان هذه المدينة شريفيّة خاضعون للأشراف....) (4).

7 - ما ذكرهُ المؤرِّخون من حوادث كثيرة في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس في بغداد، بين سنّة جماعة الخلافة والشيعة، ومن مظاهر تلك الخلافات الحاصلة بين الطرفين:

____________________

(1) وهو من ملوك الدولة الحمدانيّة، وهم من الشيعة الاثنى عشريّة، والتي بدأت من سنة 892 م إلى 991 م.

(2) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم: ج1، ص159 - 160.

(3) اليواقيت والضرب في تاريخ حلب: ص134.

(4) سفرنامه: ناصر خسرو، ص141 - 142.

٧٩

التأذين بحيّ على خير العمل بالأذان من قِبل الشيعة، وبالصلاة خير من النوم في أذان سنّة الجماعة والخلافة، وبالكتابة على أبواب المساجد والدور والدروب (محمّد وعلي خير البشر)، فلاحظ المصادر التاريخيّة في ذلك (1).

____________________

(1) الكامل في التاريخ: ج8، ج9، من سنة 362 هـ.ق إلى سنة 45 هـ.ق، والبداية والنهاية لابن كثير، تاريخ الخلفاء للسيوطي، السيرة الحلبيّة، تاريخ أبي الفداء، المنتظم لابن الجوزي، النجوم الزاهرة، الشذرات لابن عماد الحنبلي.

ومن باب النموذج: لاحظ ما وقعَ قبل سنة 356 هجريّة قمريّة، كالذي مرّ في الإشارة إليه في كتابه نشوار المحاضرة برواية القاضي التنوّخي عن أبي الفرج الأصفهاني، وكذلك سنة 441 هجريّة قمريّة، و442 هجريّة قمريّة، لاحظ: الكامل في التاريخ، والمنتظم، وتاريخ أبي الفداء، والنجوم الزاهرة، وكذلك سنة 443 هجريّة قمريّة، لاحظ المصادر السابقة، وكذلك سنة 444 هجريّة، 445 هجريّة، وسنة 448 هجريّة قمريّة وهي السنة التي تركَ فيها الشيخ بغداد وهاجر إلى النجف بسبب تلك الفتنة، ولاحظ: البداية والنهاية، والسيرة الحلبيّة، وكذلك سنة 450هـ ق، وموقف البساسيري (*)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(*) البساسيري: وهو قائد تركي الأصل، كان من مماليك بني بويه، وقد حكمَ آل بويه من سنة 320 هجريّة قمريّة إلى سنة 448 هجريّة قمريّة جنوب إيران والعراق، وأمّا بغداد فقد حكموها من سنة 334 هجريّة قمريّة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) (١) .

وأمّا أصناف الشهداء ، فمنهم الشهداء الأولياء المقرّبون من البشر ، كالأنبياء والصالحين من الأولياء ، قال سبحانه : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) .

وتمييز النبيّين من الشهداء كأنّه نوع تشريف لهم كما قيل .

وقال سبحانه : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمّة شَهِيداً ثمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢) ، والأُمّة : الجماعة من النّاس ، وإذا أُضيفت إلى شيء كنبيّ أو زمان أو مكان تميّزت به ، فالآية عامّة لجميع الأولياء ولو اجتمع عدّة منهم في أُمّة نبي ، وقال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّة وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (٣) .

والبيان السابق في معنى الشهيد يوضّح أنّ هذه العطيّة والكرامة منه سبحانه ليست عامّة لجميع أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي خاصّة لبعض الأُمّة والخطاب الواقع لجمع الأُمّة بظاهره باعتبار وجودهم فيها ، وهو ذائع دائر في الخطابات كقوله سبحانه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء ) (٤) إلى آخر الآية ، فإنّه شامل بظاهره لجميع مَن معه ، وفيهم المنافقون والفاسقون بإجماع الأُمّة ، وأمثاله كثيرة .

وبالجملة : فالشهداء من هذه الأُمّة شهداء على الناس ، والرسول شهيد عليهم ، فالأُمّة الشهيدة وسط بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّاس كما ذكره سبحانه .

وكذلك قوله سبحانه : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ

ـــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآيتان ٦٩ و ٧٠ .

(٢) سورة النحل : الآية ٨٤ .

(٣) سورة البقرة : الآية ١٤٣ .

(٤) سورة الفتح : الآية ٢٩ .

١٢١

أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) (١) ، وهذه الآية في اختصاص الشهداء أصرح من سابقتها .

وفي قوله سبحانه :( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ) إشارة إلى دعاء إبراهيم مع ولده إسماعيلعليهما‌السلام عند بناء الكعبة :( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمّة مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) .

ودعاؤهعليه‌السلام حيث إنّه لولْد إبراهيم وإسماعيل معاً ، ولمَن في مكّة ؛ فهو لقريش وحيث إنّهعليه‌السلام دعا أوّلاً بإسلامهم لله ، (وإراءة) الله إيّاه مناسكهم وتوبته لهم ، ثمَّ دعا ببعث رسول يطهّرهم ويزكّيهم ، فهم جمع من قريش جمعوا بين طهارة الذات(٣) والهداية والاهتداء إلى عهود الله ، وبين الإيمان برسوله والتزكّي والتطهّر بتزكيته وتطهيره ، فهم أشخاص مخصوصون بكرامة الله سبحانه من بين الأُمّة .

وقوله :( لِيَكُونَ الرَّسُولُ ) ، بيان لغاية قوله :( هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) .

وما ذكرناه في معنى الآية هو الذي تفسّره به الأخبار الواردة عن أئمّة أهل البيت .

ففي (الكافي)(٤) ، و(تفسير العيّاشي)(٥) عن الباقرعليه‌السلام :(نحن الأُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه) .

وعن (شواهد التنزيل) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(إيّانا عنى بقوله : ( وَتَكُونُوا شُهَدَاء

ـــــــــــــ

(١) سورة الحجّ : الآية ٧٨ .

(٢) سورة البقرة : الآيتان ١٢٨ و ١٢٩ .

(٣) أهل السعادة الذاتية والسعادة المكتسبة ، وبعبارة أُخرى : طهارة الذات والتبعيّة (منه قُدِّس سرُّه) .

(٤) الكافي : ١ / ٢١٣ ، الحديث ٢ .

(٥) تفسير العيّاشي : ١ / ٨١ ، الحديث ١١٠ ، مع اختلاف يسير .

١٢٢

عَلَى النَّاسِ ) ، فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه ، ونحن الذين قال الله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّة وَسَطاً ) (١) .

وفي المناقب عن الباقرعليه‌السلام ـ في حديث :(ولا يكون شهداء على الناس إلاّ الأئمة والرُّسل فأمّا الأُمّة ، فإنّه غير جائز أن يستشهدها الله وفيهم مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على خرمة بقل) (٢) .

وفي (تفسير العيّاشي) عن الصادقعليه‌السلام قال :(ظننتَ أنّ الله تعالى عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ؟! افترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟! كلا ، لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأئمّة الذين وجبت لهم دعوة إبراهيم ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس) (٣) .

والأخبار في هذا المعنى كثيرة مستفيضة .

ومن هنا يظهر معنى قوله سبحانه( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) (٤) ، فحيث إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس شاهداً على النّاس من أُمّته بلا واسطة ، بل على الشهداء منهم ، فالمشار إليهم بقوله : ( عَلَى هَـؤُلاء ) هم الشهداء من كلّ أُمّة المذكور في الآية .

وأصرح منها قوله سبحانه :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمّة شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء ) (٥) ؛ وذلك لمكان قوله تعالى :( مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، وقوله : ( نَبْعَثَ ) و( وَجِئْنَا ) .

فرسول الله كما أنّه شهيد على الشهداء من أُمّته ، شهيد على جميع الشهداء .

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل : ١ / ١١٩ ، الحديث ١٢٩ .

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٩٤ .

(٣) تفسير العيّاشي : ١ / ٨٢ ، الحديث ١١٤ .

(٤) سورة النساء : الآية ٤١ .

(٥) سورة انحل : الآية ٨٩ .

١٢٣

وروى القمّي في قوله تعالى : ( شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء ) ، يعني على الأئمّة ، فرسول الله شهيد على الأئمّة ، وهم شهداء على الناس(١) .

وفي (الاحتجاج) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف ، قال :(فيقام الرُّسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أُممهم ، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أُممهم ، ويسأل الأُمم فيجحدون كما قال الله : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) ، فيقولون : ( مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ) (٣) .

فيستشهد الرُّسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيشهد بصدق الرُّسل ويكذِّب مَن جحدها من الأُمم فيقول لكلّ أُمّة منهم : بلى ، قد جاءكم بشير ونذير ، واللهُ على كل شيء قدير ، أي مقتدر بشهادة جوارحكم بتبليغ الرُّسل إليكم رسالاتهم ؛ ولذلك قال الله لنبيّه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) ) (٤) ـ الحديث .

وروى العيّاشي في تفسيره عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفة يوم القيامة ، قالعليه‌السلام :(يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلّم أحد إلاّ مَن أذن له الرحمن وقال صواباً ، فيقام الرُّسل فيسأل ، فذلك قوله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرُّسل) (٥) .

وقد مرّ كلام في معنى الجحد والحلف والكذب الواقع في هذه الأحاديث .

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ١ / ١٦٧ .

(٢) سورة الأعراف : الآية ٦ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٩ .

(٤) الاحتجاج : ١ / ٣١٨ .

(٥) تفسير العيّاشي : ١ / ٢٦٨ ، الحديث ١٣٢ .

١٢٤

ومن الشهداء الملائكة الكَتَبَة ، قال سبحانه :( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) ، وقال :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٢) ، إلى أن قال :( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الشهداء : الجوارح والأعضاء ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٥) ، وقال سبحانه وتعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٦) ، وقال سبحانه :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٦١ .

(٢) سورة ق : الآيات ١٦ ـ ١٨ .

(٣) سورة ق : الآية ٢١ .

(٤) سورة الانفطار : الآيات ١٠ ـ ١٢ .

(٥) سورة يس : الآية ٦٥ .

(٦) سورة النُّور : الآية ٢٤ .

١٢٥

مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

وسياق الآيات واردة في أهل النار ، فشهادة الجوارح مخصوصة بهم ، وهي من الشواهد على شمول خطابات الفروع لغير المؤمنين .

وقوله تعالى : ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ ) ، وجه تخصيصهم السؤال بالجلود دون الجميع ، أنّ السمع والبصر أرفع من المادة ، وأقرب إلى الحياة والفهم ، بخلاف الجلود ـ وهي الفروج وما يتلوها في الحكم ـ فهي أوغل في المادة ، وشهادتها أعجب وأقطع .

وقوله تعالى : ( قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، جوابها لهم .

وقد عدلوا عن الشهادة إلى النطق ، ثمَّ إلى الإنطاق ؛ إشعاراً بأنّ الأمر إلى الله لا إليهم ، فلا وجه لعتابهم له بوضعهم موضع المستقلّ التامّ الاختيار في أمرهم ، بعد ما كان نطق كلّ شيء منه سبحانه وليس لشيء من الأمر شيء ؛ ولذا أردف ذلك بقوله : ( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالبدء والعَوْد كلاهما له سبحانه ، وهو القائم على كلّ نفس فليس سبحانه غائباً عن شيء ، بل هو الرقيب ، وإنّما يرقب الشيء بالشيء ، ويحتجب بالشيء عن الشيء ؛ ولذا أردفه سبحانه بقوله :( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) كأنّه يقول : ما كنتم تحتجبون عن شهادة الجوارح ، لا لأنّكم لا تحذرون منها ، ومن نتيجة شهادتها ، ولكن ظننتم استقلال الأشياء وغيبة الحقّ سبحانه عنها ، وأنّ كلّ واحد منها منفصل عن الحقّ ، ليس مرصاداً له سبحانه ، فظننتم أنّه لا يعلم كثيراً ممّا تعملون .

وهذه هي الغفلة عن الحقّ سبحانه ، وأنّه على كلّ شيء شهيد ، وأنّ كلّ ما يحضر عند شيء أو يعلمه شيء ، فهو حاضر عنده بعينه ، معلوم له بعينه :( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) .

واعلم أنّ هذا الأصل ـ وهو أنّ علم الوسائط وقدرتها وسائر كمالاتها بعينها له سبحانه ـ كثير الفروع في القرآن ، كقوله سبحانه :( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ

ـــــــــــــ

(١) سورة فصّلت : الآيات ١٩ ـ ٢٣ .

١٢٦

فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (١) ، وقوله :( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٢) ، وقوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات ، فترى أنّه سبحانه خلط علمه بعلم الألواح والكتبة .

وبما مرّ من المعنى يظهر معنى قوله : ( ثمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٤) ، وقد تكرّر هذا اللفظ في القرآن كثيراً .

ثمَّ اعلم أنّه يتحصّل من الآيات المزبورة ، أنّ الحياة سارية في جميع الأشياء ؛ إذ إيجاد النطق والكلام عند شيء ليس شهادة منه إلاّ إذا كان الكلام له ، وهو الحياة وكذلك إفاضة الحياة يوم القيامة ـ فحسب ـ لشيء ، وإنبائه عن واقعة قبل اتّصافه بالحياة كوقائع الدنيا ، ليس شهادة منه ؛ إذ لا حضور ولا تحمّل .

وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه وتعالى :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) (٥) ، وقوله تعالى في وصف آلهتهم :( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة يونس : الآية ٦١ .

(٢) سورة الزخرف : الآية ٨٠ .

(٣) سورة ق : الآيات ١٦ ـ ١٧ .

(٤) سورة التوبة : الآية ٩٤ .

(٥) سورة الأحقاف : الآيتان ٥ و ٦ .

(٦) سورة النحل : الآية ٢١ .

١٢٧

وفيما مرّ من المعاني أخبار كثيرة :

ففي (الكافي) عن الباقر في حديث : (وليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على مَن حقّت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن ، فيؤتى كتابه بيمينه) (١) الحديث .

أقول : يشيرعليه‌السلام إلى ما في ذيل آيات الشهادة المذكورة :( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) (٢) .

وفي (تفسير القمّي)(٣) و(الفقيه)(٤) عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى :( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) (٥) الآية ، قال : (يعني بالجلود : الفرج والأفخاذ) .

وفي (تفسير القمّي) ، قالعليه‌السلام :(إذا جمع الله الخلق يوم القيامة ، دُفع إلى كلّ إنسان كتابه ، فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئاً ، فتشهد عليهم الملائكة ، فيقولون : يا ربّ ، ملائكتك يشهدون لك ، ثمَّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً ، وهو قوله : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) . فإذا فعلوا ذلك ، ختم على ألسنتهم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون) (٦) .

ومن الشهداء : الزمان والمكان والأيّام الشريفة والشهور والأعياد والجمع

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ٥٨ ، الباب ٢٠٣ ، الحديث ١ .

(٢) سورة فصّلت : الآية ٢٥ .

(٣) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٨ .

(٤) ورد الحديث في وصيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة (رضي الله عنه) ، حيث استشهد الإمام بقوله تعالى : (( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ) ، يعني بالجلود : الفروج ) راجع : مَن لا يحضره الفقيه : ٢ / ٣٧٠ ، الباب ٢٢٧ ، الحديث ١ .

(٥) سورة فصّلت : الآية ٢٠ .

(٦) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٧ .

١٢٨

والأرض والبقاع والمساجد وغيرها ، قال سبحانه :( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والبيان المذكور آنفاً يوضّح هاهنا أنّ الأيّام من الشهود ، ويظهر به أنّ كلمة (من) في قوله : ( مِنْكُمْ ) ، ابتدائيّة لا تبعيضيّة ، والشهداء هي الأيّام .

وقال سبحانه :( ثمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (٢) ، والبيان السابق عائد هاهنا أيضاً وقال سبحانه : ( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) (٣) .

وفي الكافي : عن الصادق ، قال :(إنّ النهار إذا جاء قال : يا بن آدم ، اعمل فيَّ يومك هذا خيراً أشهدُ لك به عند ربّك يوم القيامة ، فإنّي لم آتكَ فيما مضى ، ولا آتكَ فيما بقي وإذا جاء الليل قال مثل ذلك) (٤) .

وروي هذا المعنى ابن طاووس في كتاب (محاسبة النفس) عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام (٥) .

وروى الصدوق في (العلل) عن عبد الله الزرّاد ، قال : سأل كهمس أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فقال : يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها ؟ فقال : (لا بل هاهنا وهاهنا ،

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٤٠ .

(٢) سورة لقمان : الآيتان ١٥ و ١٦ .

(٣) سورة الزلزلة : الآيات ٢ ـ ٥ .

(٤) الكافي : ٢ / ٤٤٧ ، الباب ٣٨٩ ، الحديث ١٢ .

(٥) محاسبة النفس : ١٥ .

١٢٩

فإنّها تشهد له يوم القيامة) (١) .

ومن الشهداء : القرآن والأعمال والعبادات ، وسيأتي ملخّص الكلام فيها في (فصل : الشفاعة) إن شاء الله .

واعلم أنّ البرهان أيضاً يفيد ما مرّ من شهادة الشهود ؛ فإنّ الأعمال لا تتحقّق بينها وبين شيء من الموجودات نسبة ، إلاّ وهي متحقّقة بين الذات وبين ذلك الموجود ، فإنّ الأعمال من تنزّلاتها ووجوداتها قائمة الذات بتلك الذوات فببقاء الذات تبقى الصادرات عنها بحسب ما يتحقّق بها من الوجود ، وببقائها تبقى النسب التي إلى الأشياء ، وببقاء النسب تبقى الأشياء ؛ ضرورة كون وجوداتها رابطة لا تتحقّق إلاّ بطرفين ، وبحياتها تحيي الجميع ، وبحضورها عن الحقّ سبحانه وبين يديه تعالى بتمام ذاتها وشهادتها وبيانها ما عندها له سبحانه يفعل الجميع ذلك ، والله العالم .

من المعلوم أنّ الحساب ـ وهو : كشف المجهول العددي باستعمال الطرق الموصلة إليه ـ إنّما يتأتّى بلحاظ ظرف العلم والجهل وأمّا إذا فرض نفس الواقع ـ مع الغضّ عن العلم والجهل ـ فلا موضوع لهذا المعنى الذي نسمّيه حساباً وإنّما الذي في الواقع والخارج هو ترتّب النتيجة على المقدّمات ، والمعلوم على العلّة ، فالوضع الذي هو (٦ × ٨ ـ ٣ × ٦) ، يتدرّج فيه باستعمال الأسباب والأعمال الحسابيّة للحصول على النتيجة ، وهي (٣٠) بالنسبة إلينا لجهلنا أوّلاً بذلك ، وتحصيلنا العلم بالحساب ثانياً ، إنّ النتيجة هي الثلاثون .

ـــــــــــــ

(١) علل الشرائع : ٢ / ٣٩ ، الباب ٤٦ ، الحديث ١ .

١٣٠

الفصل العاشر : في الحساب

وأمّا ما في الخارج ، فإنّما هو عدد مع عدد ، لا انفكاك بينهما ولا فصل ، أو ترتّب النتيجة على تراكم أُمور واقعيّة موجودة في الخارج، ليس بينهما فرجة زمانيّة ولا فاصلة مكانيّة .

وعلمه سبحانه بالأشياء الواقعيّة حيث كان عين تلك الأشياء الواقعيّة على ما تعطيه الأُصول البرهانية ، دون الصور المنتزعة عن الخارج مثل علومنا الحصوليّة ، كان القول في علمه سبحانه عين القول في الأُمور الواقعيّة ، فحسابه سبحانه عين حساب الواقع ، وهو ترتّب نتائج الأُمور عليها فيما كان هناك أثر مترتّب .

وقد أخبر سبحانه أنّ لكلّ شيء أثراً في جانبي السعادة والشقاوة يترتّب عليه في الدنيا ، قال سبحانه :( قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، قال :( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٢) ، وقال :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) (٣) ، وقال : ( ثمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ) (٤) ، وقال :( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ) (٥) ، وقال : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٦) .

ومن هذا الباب قوله سبحانه :( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (٧) ، وقوله : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٨) .

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، وهي على كثرتها تفيد : أنّ نتائج الأُمور تتبعها لا محالة في الدنيا والآخرة ، كما أنّ البرهان أيضاً يفيد ذلك .

ـــــــــــــ

(١) سورة يوسف : الآية ٩٠ .

(٢) سورة يوسف : الآية ٥٦ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٩٦ .

(٤) سورة الروم : الآية ١٠ .

(٥) سورة الطلاق : الآيات ٨ ـ ١٠ .

(٦) سورة الزلزلة : الآيتان ٧ و ٨ .

(٧) سورة الشورى : الآية ٣٠ .

(٨) سورة التغابن : الآية ١١ .

١٣١

ثمَّ إنّ الأُمور ونتائجها لا توجد بنفسها ولا بإيجادها ، بل بإفاضة منه سبحانه لوجودها ، فاستتباعها نتائجها استفاضتها منه سبحانه لنتائجها المترتّبة عليها كما أنّ ارتزاق المرزوقين استفاضتها منه سبحانه ما يديم به بقاؤها من الوجود ، فالحساب كالرزق بوجه ، فلا تزال سحابة الفيض تشرب من بحر الرحمة وتمطر مطر الفيض على بحر الإمكان ، فكلّ قطرة لاحقة تستمدّ بها سابقتها ، وهو الرزق ، وترفع بها حاجتها التي تستحقّها وتقتضيها ، وهو الحساب فكما أنّ إفاضة الرزق لها دائم مستمرّ ضروري ، كما قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (١) ، فكلّ الحساب بينهما دائم مستمرّ ضروري .

وفي (النهج) سُئِلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم ؟ فقالعليه‌السلام :(كما يرزقهم على كثرتهم) ، فقيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال : (كما يرزقهم ولا يرونه) (٢) ، وهو أنفس كلام في هذا الباب .

وبالجملة : الأُمور ـ ومنها الأعمال ـ لا تنفكّ عن حسابها عند تحقّقها في الخارج أدنى انفكاك ، قال سبحانه : ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٣) ، وقال سبحانه :( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (٤) ، إذ مع اختصاص الحكم به سبحانه وعدم وجود حاكم غيره يضادّ بحكمه حكمَه ، ويدفع به أمرَه بنحو من الأنحاء : بإبطال وتعويق ، وتضعيف وإنظار ، لا يتصوّر لحكمه سبحانه بطء وتعويض وتأخير ، ولا يمكن فيه مساءة ولا صعوبة ولا يسر ولا عسر ولا غيرها .

فهذه المعاني إذا أُطلقت ، يراد بها حصول معانيها بالنسبة إلى إدراك المحاسَبيِن (بصيغة المفعول) كقوله سبحانه :( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) (٥) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الذاريات : الآية ٢٣ .

(٢) نهج البلاغة : ٥٢٨ ، حِكم أمير المؤمنين ، رقم ٣٠٠ .

(٣) سورة الرعد : الآية ٤١ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ٦٢ .

(٥) سورة الرعد : الآية ٢١ .

١٣٢

وقوله :( فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً ) (١) ، وقوله :( تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٢) .

وروى في (المجمع) عن أبي سعيد الخدري ، قال : قيل : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(والذي نفس محمّد بيده ، إنّه ليخفّف على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا) (٣) .

وفيه ـ أيضاً ـ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(لو وَلِيَ الحساب غيرُ الله ، لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا ، واللهُ سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة) (٤) .

أقول : وبهذين الخبرين يظهر معنى قوله تعالى : ( كَانَ ) الآية .

فيُخفّف ذلك على المؤمنين ؛ لأنّ وجوههم( يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ، فيرون الأمر على حقيقته( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ، ويطول على الكافرين والفاسقين ؛ لـ( إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) . فالاختلاف من جانب الناس وغيره وأمّا بالنسبة إلى سبحانه ، فأمره واحد لا اختلاف فيه .

وبالجملة : فأمر الحساب كما عرفت جارٍ دائماً وأمّا اختصاص يوم القيامة بوقوع الحساب فيه ، فهو من قبيل اختصاصه في كلامه تعالى بخصال أُخرى غير مختصّة به ظاهراً ، كاختصاص المُلك يومئذٍ لله ، وبروز الناس يومئذٍ لله ، وكون الأمر يومئذٍ لله ، وغير ذلك وقد عرفت ـ فيما مرّ ـ معنى ذلك ، فوقوع الحساب فيه هو ظهور النتيجة حقيقةً بتمام المعنى ، فهو ظهور نتيجة الخِلقة ، ووصول الممكن إلى غاية سيره في سبيله من الله إليه ، قال سبحانه :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ

ـــــــــــــ

(١) سورة الطلاق : الآية ٨ .

(٢) سورة المعارج : الآية ٤ .

(٣) و (٤) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٥٣١ .

١٣٣

مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (١) ، وقال :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (٢) ، وقال :( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (٣) .

ومن هنا يظهر أنّ الإنسان كلّما قرب من طريق السعادة ، ملازماً للصراط المستقيم ، كان الحساب عليه يسيراً ، فإنّه أقرب إلى النتيجة المقصودة من الخِلقة ، قال سبحانه :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (٤) .

وكلّما بعد عن الحقّ ونكب عن مستقيم الصراط ، كان الحساب عليه عسيراً ؛ فإنّه أبعد عمّا أودع الله عزّ وجلّ في فطرته من نتيجة الخِلقة وغاية الوجود ، قال سبحانه :( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) (٥) ، وقال :( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ) (٦) ، وقال :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ) (٧) .

وينتهي الأمر من الطرفين إلى مَن لا حساب له ، ممَّن لا يليه إلاّ ربّه ، فلا عمل له ، فلا كتاب ولا حساب ، وهم المخلَصون المقرّبون ، قال سبحانه : ( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٨) .

وممّن لا مولى لهم فحبطت أعماهم ، فلا كتاب لهم فلا وزن ولا حساب .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : الآية ٤٧.

(٢) سورة المؤمنون : الآية ١١٥ .

(٣) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٤) سورة الانشقاق : الآيتان ٧ و ٨ .

(٥) سورة المدّثر : الآيتان ٩ و ١٠ .

(٦) سورة النبأ : الآية ٤٠ .

(٧) سورة الحاقّة : الآيتان ٢٥ و ٢٦ .

(٨) سورة الصافّات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

١٣٤

روي في (المعاني) عن الباقرعليه‌السلام ، قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ محاسَب معذَّب ، فقال قائل : يا رسول الله ، فأين قول الله : ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذلك العرض يعني التصفّح) (١) .

أقول : وهذا حديث أطبق الفريقان على رواية معناه واتّفقوا على صحّته .

وروى العيّاشي وغيره بطُرق متعدّدة عن الصادقعليه‌السلام في قوله سبحانه :( وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) (٢) (إنّ معناه الاستقصاء (والمداقّة) ، وأنّه يحسب لهم السيّئات ، ولا يحسب لهم الحسنات) (٣) .

وممّا مرّ يتّضح أمر السؤال ، وهو من توابع الحساب ، فإنّ السؤال ، وهو استيضاح ما عند المسئول من حقيقة الأمر والأمر يومئذٍ يدور مدار تفريغ ما عند النفس بحسب الحقيقة من تبعاتها ولواحقها وأذنابها ، التي اكتسبتها من السعادة والشقاوة ، وتفريغ حسابها وتوفية نتيجته لها ، قال سبحانه : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٤) ، وهي مكامن النفوس ، وقال سبحانه :( بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ) (٥) ، وقال سبحانه :( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) (٦) ، وقال سبحانه :( وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) (٧) .

ـــــــــــــ

(١) معاني الأخبار : ٢٦٢ ، باب كلّ محاسب معذّب ، الحديث ١ .

(٢) سورة الرعد : الآية ٢١ .

(٣) تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٢٥ ، الحديث ٣٩ .

(٤) سورة الطارق : الآية ٩ .

(٥) سورة الأنعام : الآية ٢٨ .

(٦) سورة النساء : الآية ٤٢ .

(٧) سورة البقرة : الآية ٢٨٤ .

١٣٥

وما ورد أنّ الآية منسوخة بقوله تعالى :( إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) (١) ، فمعنى النسخ هو التفسير والبيان ، دون بيان غاية الكم وانقضائها ، فإنّ ذلك مختصّ بالشرائع والأحكام غير جائز في الحقائق .

وقال سبحانه :( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) ، وقال :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) (٤) .

واعلم أنّ هذه الآيات تعطي عموم السؤال والحساب لجمع الأعمال والنِّعم ، وهو المحصّل من جماعة الأخبار .

ففي نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(كلّ نعيم مسئول عنه يوم القيامة ، إلاّ ما كان في سبيل الله) (٥) .

وفي أمالي المفيد مسنداً عن ابن عيينة ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :(ما من عبد إلاّ ولله عليه حجّة ، إمّا في ذنبٍ اقترفه ، وإمّا في نعمةٍ قصّر عن شكرها) (٦) .

وفي كتاب الحسين بن سعيد ، عن الصادقعليه‌السلام :(الدواوين يوم القيامة ثلاثة : ديوان فيه النِّعم ، وديوان فيه الحسنات ، وديوان فيه الذنوب فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات ، فتستغرق عامّة الحسنات وتبقى الذنوب) (٧) ، والأخبار في هذه المعاني كثيرة .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٣٢ .

(٢) سورة الحجر : الآيتان ٩٢ ـ ٩٣ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٦ .

(٤) سورة الصافّات : الآية ٢٤ .

(٥) نوادر الراوندي : ١٣٧ ، الحديث ١٨٢ .

(٦) ورد في بحار الأنوار نقلاً عن أمالي المفيد : ٧ / ٢٦٢ ، باب ١١ محاسبة العباد ، الحديث ١٣ .

(٧) بحار الأنوار : ٧ / ٢٦٧ ، الباب ١١ كتاب العدل ، ح٣٤ .

١٣٦

وأجمعها معنى ما رواه الصدوق في (التوحيد) عن ابن أُذينة ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : جعلت فداك ، ما تقول في القضاء والقدر؟ قال :(أقول : إنّ الله إذا جمع العباد يوم القيامة ، سألهم عمّا عهد إليهم ، ولم يسألوا عمّا قضي عليهم) (١) الحديث .

نعم ، روى أصحابنا عن عليّ والباقر والصادق والرضاعليهم‌السلام في قوله سبحانه :( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (٢) أنّ المراد بالنعيم هو الولاية ، لا ما ترتفع به الحوائج الإنسانية من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها .

فعن الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة :(بلغني أنّك تفسّر النعيم في هذه الآية بالطعام الطيّب والماء البارد في اليوم الصائف) ، قال : نعم ، قالعليه‌السلام :(لو دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيباً ، وسقاك ماء بارداً ، ثُمَّ امتنّ عليك به ، إلى ما كنت تنسبه؟) قال : إلى البخل ، قالعليه‌السلام :(أفيبخل الله تعالى ؟! ) ، قال : فما هو ؟ قالعليه‌السلام :(حبّنا أهل البيت) (٣) .

وفي (الاحتجاج) عن عليّعليه‌السلام ـ في حديث ـ أن النعيم الذي يسأل عنه العباد :( رسول الله ومَن حلّ محلّه من أصفياء الله فإنّ الله أنعم بهم على من اتّبعهم من أوليائهم) (٤) .

وفي (المحاسن) عن أبي خالد الكابلي ، عن الباقرعليه‌السلام في حديث بعد ذكر الآية ، قالعليه‌السلام :(إنّما تسألون عمّا أنتم عليه من الحقّ) (٥) الحديث .

والاعتبار العقلي يساعد هذا المعنى ، فإنّ الولاية ـ وهي معرفة الله والتحقّق بها ـ

ـــــــــــــ

(١) التوحيد : ٣٥٤ ، الباب ٦٠ ، الحديث ٣ .

(٢) سورة التكاثر : الآية ٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٧ / ٤٩ ، باب ١١ كتاب العدل ، مع اختلاف يسير .

(٤) الاحتجاج : ١ / ٣٣٢ .

(٥) المحاسن : ٢ / ١٦٣ ، الباب ٦ ، الحديث ٨٣ .

١٣٧

حيث كانت غاية الخلقة ، فلا غاية غيرها فكلّ إفاضة إنّما تكون نعمة وملائمة للكمال والراحة إذا وقعت في طريق الغاية ، أو لوحظت من حيث صحّة وقوعها في طريقها ، لكنّها بعينها إذا وقعت في طريق يضادّ الغاية صارت نقمة ، وإذا لم تقع في طريق أصلاً كانت لغواً باطلاً فكلّ شيء نعمة من حيث إيصاله الإنسان إلى ساحة الولاية وأمّا مع الغضّ عن ذلك ، فلا نعمة .

فصحّ أنّ النعمة المطلقة هي التوحيد والنبوّة والولاية كما في بعض الروايات وصحّ أنّ النعمة بالنسبة إلينا هي الولاية كما في بعض آخر ، فافهم والله الولي الحقّ .

الفصل الحادي عشر : في الجزاء

قال سبحانه :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (١) .

ومجازاة المحسن بالجنّة والمسيء بالنّار فيها آيات كثيرة جدّاً ، وقد جعلها سبحانه أحد الدليلين على وقوع الحشر ، فقال :( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٢) .

فإنّ الحكيم من حيث هو حكيم ، كما يستحيل أن يفعل فعلاّ لا غاية له ولا نتيجة متولّدة من فعله كما هو مفاد الدليل الأوّل ، كذلك يستحيل عليه أن يهمل أمر جماعة فيهم الصالح والطالح ، والظالم والمظلوم ، فلا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

ثمَّ إنّك ترى أنّه سبحانه أقرّ النسبة بين العمل والجزاء ، فالإحسان يجزى بالإحسان ، والإساءة تجازى بالإساءة .

ثمَّ جاوز وعده ووعيده مطلق الإحسان والإساءة ؛ فأيّد بذلك أنّ بين الأعمال وجزائها نِسباً خاصّة وارتباطات مخصوصة .

ـــــــــــــ

(١) سورة النجم : الآية ٣١ .

(٢) سورة ص : الآيتان ٢٧ و ٢٨ .

١٣٨

ثمَّ جاز كلامه سبحانه ذلك بأن أخبر بالعينيّة والإتّحاد بين العمل وجزائه ، قال سبحانه : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (١) .

فصدر الآية يحكي عن النسبة المذكورة ، ووسطها عن الاتّحاد بين العمل والجزاء ، وذيلها عن الجزاء العادل ، وهو سبب النسبة والعينيّة المذكورتين .

وما ذكرناه من معنى الحساب وحقيقته في الفصل السابق ، عائد هاهنا أيضاً إليه تعالى ، وقال سبحانه :( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (٢) ، وقال : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) (٣) ، وقال :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ ما يعمله الإنسان من خير أو شرّ سيُرَدّ إليه بعينه .

ثمَّ شرح سبحانه معنى هذه العينيّة فقال :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) ، فبيّن أنّ معصيتهم على كونها في هذه النشأة في صورة كتمان ما أنزل الله وشراء الثمن القليل بذلك ، فهي بعينها متصوّرة في الباطن بصورة أكل النّار كما ورد مثله في أكل مال اليتيم ظلماً .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأحقاف : الآية ١٩ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٨١ .

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٨١ .

(٤٩ سورة الزلزلة : الآيتان ٧ و ٨ .

(٥) سورة البقرة : الآية ١٧٤ .

١٣٩

ثمَّ أردف سبحانه ذلك بقوله : ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (١) ، فبيّن أنّ هؤلاء بدّلوا الهدى والمغفرة بهذا الضلال والعذاب والهدى والمغفرة مرتَّبان على الاستقامة والتقوى ، كما أنّ أكل النّار والضلالة والعذاب تترتّب على الكتمان والشراء المذكورين فالتعرّض منه سبحانه بالتبديل فيما يترتّب على المعاصي ، دون ظاهر نفس المعاصي ، وتبديله سبحانه أكل النّار وأخواته بمعنى عامّ ـ وهو الضلال والعذاب ـ بيان منه تعالى لكون تبديل صورة الأفعال مطّرداً في جانبي الطاعات والمعاصي جميعاً ، فافهم وتدبّر .

ثمَّ بيّن سبحانه ذلك في المؤمنين خاصّة فقال :( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ) (٢) ، وقال :( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (٣) ، وهو روح الإيمان وقال : ( وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) أي النور المنزل على رسول الله ( نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) ، وهو روح القدس وقال :( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٥) ، وقال :( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١٧٥ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٧ .

(٣) سورة المجادلة : الآية ٢٢ .

(٤) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

(٥) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

(٦) سورة الحديد : الآية ١٩ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292