الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة6%

الإنسان والعقيدة مؤلف:
الناشر: باقيات
تصنيف: المعاد
الصفحات: 292

الإنسان والعقيدة
  • البداية
  • السابق
  • 292 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57937 / تحميل: 7503
الحجم الحجم الحجم
الإنسان والعقيدة

الإنسان والعقيدة

مؤلف:
الناشر: باقيات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الله سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) (١) ؛ لما ترى من تفاوت الجزاءين في الآية .

وكذا قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٢) .

والاعتبار العقلي أيضاً يساعده ، فإنّ الحبّ أو الشوق إلى الشيء هو الموجب للتوجّه إليه فالتوجّه ، وهو العمل ، يثبت الحبّ والشوق ، وذلك العلم وكلّما تأكّد ثبوت الشيء ، ثمّ ظهور آثاره وكلّ ما يرتبط به ويتعلّق عليه .

وبالجملة فهذه المعرفة المحتاجة إلى العمل ، والتي يتصوّر تحصيلها على أحد وجهين : سير آفاقي ، وسير أنفسي .

والأوّل هو التفكّر والتدبّر ، والاعتبار بالموجودات الآفاقية الخارجة عن النفس ، من صنائع الله وآياته في السماء والأرض ؛ ليورث ذلك اليقين بالله وأسمائه وأفعاله ، لأنّها آثار وأدلّة ، والعلم بالدليل يوجب العلم بالمدلول بالضرورة .

والثاني هو الرجوع إلى النفس ، ومعرفة الحقّ سبحانه من طريقها ؛ إذ هي غير مستقلّة الوجود محضاً ، ومعرفة ما هو كذلك من حيث هو كذلك ، لا تنفكّ عن معرفة المستقلّ الذي يقوّمه ، أو المعرفتان واحدة بوجه .

فهذان طريقان ، إلاّ أنّ الحقّ أنّ السير الآفاقي وحده لا يوجب معرفة حقيقة ، ولا عبادة حقيقة ؛ لأنّ إيجاب الموجودات الآفاقيّة للمعرفة ، إنّما هو لكونها آثاراً وآيات ، لكنّها توجب علماً حصوليّاً بوجود الصانع تعالى وصفاته وهذا العلم متعلّق بقضيّة ذات موضوع ومحمول واقع عليها ، وهما من المفاهيم ، والحقّ سبحانه قد قام البرهان على أنّه سبحانه وجود محض ، لا مهيّة له ، فيستحيل دخوله في الذهن ؛ لاستلزام ذلك مهيّة خالية في نفسها عن الوجودين ، موجودة تارة بوجود خارجي ، وأُخرى بوجود ذهني ، وهي مفقودة هاهنا .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٢٠ .

(٢) سورة فاطر : الآية ١٠ .

٢٢١

فكلُّ ما وضعه الذهن وتصوّره واجباً ، وحكم عليه بمحمولاته من الأسماء والصفات ، فهو غيره سبحانه البتّة ، وإلى ذلك يشير ما في توحيد الصدوق : مسنداً عن عبد الأعلى ، عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث :(ومَن زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ؛ لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره ، وإنّما هو واحد موحّد ، فكيف يُوحِّد مَن زعم أنّه عرفه بغيره ؟َ إنّما عرف الله مَن عرفه بالله فمَن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يعرف غيره والله خالق الأشياء لا من شيء يسمّى بأسمائه ، فهو غير أسمائه ، والأسماء غيره ، والموصوف غير الواصف فمَن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف ، فهو ضالّ عن المعرفة لا يدرك مخلوقٌ شيئاً إلاّ بالله ، والله خِلوّ من خلقه ، وخلقه خِلوّ منه) (١) ـ الحديث .

قولهعليه‌السلام :(وإنّما هو واحد موحّد) ، أي : واحد محض لا كثرة فيه ، ففيه إشارة إلى (برهان امتناع أن يكون معرفة الغير مستلزمة لمعرفته سبحانه) ، بأن يقال : إنّ العلم عين المعلوم بالذات ، كما برهن عليه في محلّه ، فيمتنع أن يكون العلم بالشيء علماً بشيء آخر مباين له ، وإلاّ كان المتباينان واحداً ، هذا خلف .

فاستلزام العلم بشيء علماً بشيء آخر ؛ موجب لوجود اتّحاد ما بين الشيئين ، وحيث فرضا شيئين ففيهما جهة اتّحاد وجهة اختلاف ، فكلّ منهما مركّب من جهتين ، والحقّ سبحانه واحد بسيط الذات ، لا تركّب فيه بوجه ، فيمتنع أن يعرف بغيره ، وإليه يشيرعليه‌السلام بقوله :( ليس بين الخالق والمخلوق شيء ) ، وقولهعليه‌السلام :

(فمَن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف ، فهو ضالّ عن المعرفة ...) ، تفريع لقولهعليه‌السلام السابق :(إنّما عرف الله مَن عرفه بالله ...) .

ـــــــــــــ

(١) التوحيد : ١٣٨ ، باب صفات الذات وصفات الأفعال ، الحديث ٧ ، و : ١٨٧ ، باب أسماء الله تعالى والفرق بين معانيها ، الحدث ٦ ، باختلاف يسير .

٢٢٢

وقوله :(لا يدرك مخلوق شيئاً إلاّ بالله) بمنزلة البرهان عليه ، بأنّ كلّ شيء معروف بالله ، الذي هو نور السموات والأرض ، فكيف يعرف بغيره ؟! لأنّه مقوِّم كلِّ ذات غير متقوّم بالذات والعلم بغير المستقلّ ذاتاً بعد العلم بالمستقلّ الذي يقوّمه ؛ لأنّ وقوع العلم يقتضي استقلالاً في المعلوم بالضرورة ، فالعلم بغير المستقلّ إنّما هو يتبع المستقلّ الذي هو معه .

هذا ، وحيث أوهم ذلك حلولاً أو اتّحاداً (تعالى الله عن ذلك) ، أعقبعليه‌السلام ذلك بقوله :(والله خِلوّ من خلقه ، وخلقه خِلوّ منه ...) .

والقول بكون إدراك المخلوق كلَّ شيء بالله ، لا ينافي صدر الرواية من نفي استلزام العلم بالشيء علماً بغيره ؛ لأنّ العلم الذي في صدر الرواية علم حصولي ، والذي في الدليل حضوري .

هذا ، والروايات في نفي أن تكون المعرفة الفكريّة معرفة بالحقيقة كثيرة جدّاً .

فقد تحصّل أنّ شيئاً من هذه الطرق ، غير طريق معرفة النفس ، لا يوجب معرفة بالحقيقة .

وأمّا طريق معرفة النفس ، فهو المنتج لذلك ، وهو أن يوجّه الإنسان وجهه للحقّ سبحانه ، وينقطع عن كلّ صارف شاغل عن نفسه إلى نفسه ، حتّى يشاهد نفسه كما هي ، وهي محتاجة بذاتها إلى الحقّ سبحانه .

وما هذا شأنه لا ينفكّ مشاهدته عن مشاهدة مقوّمه كما عرفت فإذا شاهد الحقّ سبحانه ، عرفه معرفة ضروريّة ، ثمّ عرف نفسه به حقيقة ؛ لكونها قائمة الذات به سبحانه ، ثمّ يعرف كلِّ شيء به تعالى .

٢٢٣

وإلى هذا يشير ما في (تحف العقول) عن الصادقعليه‌السلام ـ في حديث : (مَنْ زعم أنّه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك ومَن زعم أنّه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن ؛ لأنّ الاسم محدث ومَن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكاً ومن زعم أنّه يعبد [المعنى]بالصفة لا بالإدراك ، فقد أحال على غائب ومَن زعم أنّه يعبد الصفة والموصوف ، فقد أبطل التوحيد ؛ لأنّ الصفة غير الموصوف ومَن زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة ، فقد صغَّر بالكبير ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ) (١) .

قيل له : فكيف سبيل التوحيد ؟

قالعليه‌السلام :(باب البحث ممكن ، وطلب المخرج موجود إنَّ معرف عين الشاهد قبل صفته ، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه) .

قيل : وكيف تعرف عين الشاهد قبل صفته؟

قالعليه‌السلام :(تَعْرِفُهُ ، وتَعْلَمُ عَلَمه ، تعرف نفسه به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أنّ ما في له وبه ، كما قالوا ليوسف : ( قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي ) (٢) ، فعرفوه به ، ولم يعرفوه بغيره ، ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب) (٣) ـ الخبر .

قولهعليه‌السلام :(وتعلم عَلَمه ...) (بفتح العين واللام) بمعنى العلامة ، أو خصوص الاسم ، أي تعرفه ثمّ تعلم علائمه وأوصافه به ونفسك به ، لا بغيره ، وكونه بكسر العين وسكون اللام وجب تكلّفاً في التوجيه .

وأنت بعد التأمّل في معنى هذه الرواية الشريفة التي هي من غرر الروايات ، وخاصّة في تمثيله بمعرفة إخوّة يوسفعليه‌السلام له ، تقدر أن تستخرج جميع الأُصول الماضية في الفصول السابقة من هذه الرواية وحدها ، فلا نطيل البيان .

ـــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : الآية ٩١ .

(٢) سورة يوسف : الآية ٩٠ .

(٣) تحف العقول : ٢٣٨ ، ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ـ كلامهعليه‌السلام في وصف المحبّة لأهل البيت والتوحيد والإيمان .

٢٢٤

وبالجملة ، فإذا شاهد ربّه ، عرفه وعرف نفسه وكلّ شيء به ، وحينئذٍ يقع التوجّه العبادي موقعه ، ويحلّ محلّه ؛ إذ بدونه كلُّ ما توجّهنا إليه فقد تصوّرنا شيئاً ، كائناً ما كان وهذا المفهوم المتصوّر ، والصورة الذهنيّة ، وكذا مطابقة المحدود المتوهّم ، غيره سبحانه ، فالمعبود غير المقصود .

وهذا حال عباده غير العارفين من العلماء بالله ، وقبول هذا النحو من العبادة ـ مع ما عرفت من شأنها ـ من فضل الله تعالى محضاً ، قال سبحانه :( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَداً ) (١) .

وهذا بخلاف عبادة العارفين بالله المخلصين له ، فإنّهم لا يتوجّهون في عبادتهم لا إلى مفهوم ، ولا إلى مطابق مفهوم ، بل إلى ربّهم جلّت عظمته وبهر سلطانه ، قال سبحانه :( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالمخلَصين هم الذين أُخلصوا (بالبناء للمجهول) لله سبحانه ، فلا حجاب بينهم وبينه ؛ وإلاّ لم يقع وصفهم موقعه وحيث إنّ الخلق هم الحجاب ، كما قال سيّدنا موسى بن جعفرعليه‌السلام :(ليس بينه وبين خلقه حجاب إلاّ خَلْقه) (٣) ـ الحديث ، فهم لا يرون الخلق وإنّما يقصدون الحقّ سبحانه .

وفي ( تفسير العسكريعليه‌السلام ) :(وقال محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام : لا يكون العبد عابداً لله حقّ عبادته حتّى ينقطع عن الخَلق كلّهم إليه ، فحينئذٍ يقول : هذا خالص لي فيقْبَله بكرمه) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) سورة النور : الآية ٢١ .

(٢) سورة الصافات : الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٣ / ٣٢٧ ، باب ١٤ ـ نفي الزمان والمكان والحركة والانتقال عنه تعالى ، الحديث ٢٧ .

(٤) تفسير الإمامعليه‌السلام : ٣٢٨ ، التواضع وفضل خدمة الضيف ، الحديث ١٨١ .

٢٢٥

وقال جعفر بن محمّدعليه‌السلام : (ما أنعم الله على عبد أجلَّ من أن لا يكون في قلبه مع الله غيره) (١) .

وقال محمّد بن علي ، يعني الجوادعليه‌السلام :(أفضل العبادة الإخلاص) (٢) .

وممّا مرّ من البيان أيضاً ؛ يظهر معنى قوله سبحانه حكاية عن إبليس :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) ، وقوله سبحانه :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) (٤) الآيات ؛ إذ هؤلاء مستغرِقون فيه سبحانه ، ولا يرون إبليس ، ولا وسوسته ، ولا إحضاراً ، ولا حساباً وإليه الإشارة في الحديث القدسي :(أوليائي تحت قبائي ، أو ردائي) (٥) ، وإلى ذلك يرجع حديث الأمن المتقدّم [راجع : ص ٢٤٢] عن يونس .

والمحصّل أنّ طريق معرفة النفس هي الموصلة إلى هذه الغاية ، وهي أقرب الطرق فحسب ؛ وذلك بالانقطاع عن غير الله ، والتوجّه إلى الله سبحانه بالاشتغال بعرفة النفس كما يحصل من خبر موسىعليه‌السلام المتقدّم :(ليس بينه وبين خلقه حجاب إلاّ خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور) (٦) ـ الحديث .

وهذا الحديث الشريف أجمل بيان لأحسن طريق ؛ فيبتدئ بالأسباب الواردة شرعاً للانقطاع ، من التوبة والإنابة ، والمحاسبة والمراقبة ، والصمت والجوع ، والخلوة والسهر ، ويجاهد بالأعمال والعبادات ، ويؤيّد ذلك بالفكر والاعتبار ، حتّى يورث ذلك انقطاعاً منها إلى النفس ، وتوجّهاً إلى الحقّ سبحانه ، ويطلع من الغيب طالع ، ويتعقّبه شيء من النفحات الإلهيّة والجذبات الربّانية ، ويوجب حبّاً وإشرافاً ، وذلك هو الذِّكر .

ـــــــــــــ

(١) مستدرك الوسائل : ١ / ١٠١ ، باب وجوب الإخلاص في العبادة والنيّة ، الحديث ٩١ / ٨ .

(٢) بحار الأنوار : ٦٧ / ٢٤٩ن باب ٤٥ ـ الإخلاص ومعنى قربه تعالى ، الحديث ٢٥ .

(٣) سورة ص : الآيتان ٨٢ و ٨٣ .

(٤) سورة الصافّات : الآيتان ١٢٧ و ١٢٨ .

(٥) راجع : فهرست النسخ الخطّية / مكتبة آية الله الگلپايگاني : ١ / ٣٩ ، ٦ ـ تلازم بين رجعت وولايت : ٧٨ پ ـ ٨٣ ر (اعتقادات فارسي) ، وشرح الأسماء الحسنى / الملاّ هادي السبزواري : ٢ / ٦٦ ، ولكن ورد فيها : (أوليائي تحت قبابي) .

(٦) تقدّم ذكره في الصفحة ٢٤٩ ، الهامش رقم ٣ .

٢٢٦

ثمّ لا يزال بارق يلمع ، وجذبة تطلع ، وشوق يدفع ، حتّى يتمكّن سلطان الحبّ في القلب ، ويستولي الذِّكر على النفس ، فيجمع الله الشمل ، ويختم الأمر وإنّ إلى ربّك المنتهى .

واعلم أنّ مثل هذا السائر الظاعن مثل مَن يسلك طريقاً قاصداً إلى غاية ، فإنّما الواجب عليه أن لا ينسى المقصد ، وأن يعرف من الطريق مقدار ما يعبر منه ، وأن يحمل من الزاد قدر ما يحتاج إليه فلو نسي مقصده آناً ما ، هام على وجهه حيران ، وضلّ ضلالاً بعيداً ولو ألْهَاه الطريق ومشاهدته وما فيه ، بطل السير وحصل الوقوف ولو زاد حمل الزاد تعوّق السعي وفات المقصد ، والله المستعان سبحانه .

فإن قلت : هب أنّه ثبت بهذا البيان ـ على طوله ـ أن أقرب الطرق إلى الله سبحانه طريق معرفة النفس ، لكن لم يثبت بذلك وجود بيان خاصّ في الشريعة لهذا الطريق ، يتبيّن به كيفيّة الدخول والخروج فيه ، وشئون سلوكه على دقّته وخطره وكثرة أهواله ومخاطره وعظم تهلكته وبواره فأين البيان الوافي بجميع هذه الخصوصيات ، والفارق بين المنجيات والمهلكات ؟

قلت : قد أشرنا في الفصل الثاني من هذه الرسالة إلى أنّ البيانات الواردة في الكتاب والسنّة بيان واحد ، وإنّما الاختلاف في ناحية الأخذ والتفاوت في إدراك المدركين .

والسير إليه سبحانه الذي هو أيضاً نتيجة الفهم والعلم ، يختلف باختلافه ، وينشعب بانشعابه ولعمري هو من الوضوح بمكان ، وقد ذكرنا هناك أنّ الناس على طبقات مختلفة ، كلّ طبقة تأخذ على طِبْق فهمها ، وتعمل على وتيرتها .

فإذا فرضنا واحداً من العامّة بغيته الدنيا وزخارفها ، يبيت وهو يفكّر في تدبير معاش غده ، كيف يبيع ويشتري ، وأين يذهب غداً ، ومَن يلاقي ، ويصبح همّه تدبير أمر يومه ، وإصلاح شأنه في الدنيا إذا سمع داعي الله ، بشيراً ونذيراً ، يبشّر بمغفرة من الله ورضوان وجنّات لهم فيها نعيم مقيم ، ويُنذر بنار وقودها الناس والحجارة وسائر ما أعدّ الله للظالمين ، فلقصور همّته ، واختصاص همّه بما يشبعه ويرويه ، لا يجد مجالاً للغور في آيات الله وكلماته ، وإنّما يؤمن بإجمال ما سعى ، ويدين من الأعمال الصالحة بما لا يزاحم ما يبتغيه من الدنيا فالدنيا عنده هي الأصل ، والدين تبع ، فلذلك يضادُّ فعلُه قولَه ، وعملُه علمَه .

٢٢٧

تراه يقول : إنّ الله سميع بصير ، وهو يقترف كلّ منكر ، ويترك كلّ واجب وتراه يؤمن بأنّ الله سمع بصير ، وهو يقترف كلّ منكر ، ويعبد كلّ وليّ من دون الله يهرع إلى كلّ شيطان يدعوه إلى عذاب السعير ، إذا استشعر هناك يسير شيء من زخارف الدنيا ولا يرقى فهمه ـ إن استفهمته ـ أنّه لا يرى غير الجسم والجسمانيّات شيئاً وفوق هذه الأوهام الدائرة أمراً .

يؤمن بأنّ لله عرشاً يصدر عنه أحكام خلقه ، ويُجريه عمّال ملائكته في السموات والأرض ، وهي مُلكه ، وأُولوا العقل من الخلق رعيّته ، وهم هذه الأبدان المحسوسة ، كلّفهم بتكاليف ما دارت الدنيا على الاختيار ، ثمّ يميت الله الخلق ، ويعدمهم بعد الوجود ثمّ يأتي على الدنيا وهي خربة يوم يحيي الله فيه الخلق ، ويجمعهم ليوم الجمع ، ثمّ يجزي الصالحين بجنّة ما فيها غير مشتهى النفس ، وهي البدن الدنيوي ، والظالمين بنار ما فيها غير اللهب والشرر كلّ ذلك على نسق ما يتّخذه المَلِك منّا من لوازم الأُبّهة والعزّة وإجراء الحكم ومجازاة الرعيّة وسياسة المُلك ، لا شيء أرفع من ذلك .

فهذه طبقة ، وذلك مقامه في العمل والعلم .

وإذا فرضنا واحداً من الزاهدين والعابدين ـ وهم الناظرون بنظر الاعتبار إلى فناء الدنيا وزخارفها وغرورها ونفادها ، وبقاء ما عند الله سبحانه ، المستعدّون للزهد والعبادة ـ سمع داعيَ الحقّ يدعوه إلى الانسلال من أكاذيب مشتهيات الدنيا ، والإقبال إلى عبادة الله ، لتحصيل النجاة من أليم العذاب ، والفوز بنعمة لا تفنى ومُلك لا يبلى ، تمكّنت خشية الله في قلبه ، وصار الموت نصب عينه ، فأخرجتْ حبَّ الدنيا وهمَّ المعاش من قلبه ، ولم يكن له همّ إلاّ الزهد عن الدنيا ، أو صالح العمل لله طمعاً في مرضاته فيهذّب صفات نفسه ، ويصلح جهات عمله ، ويتّقي ما يسخط الله سبحانه فيما يستقبله ، كلّ ذلك طمعاً في نعيم مخلّد ، وحذراً من عذاب سرمد .

ولو أجدت التأمّل في حاله ، وما يريده في مجاهدته ، وجدته لا يريد إلاّ مشتهى نفسه ، فهو يحبّ نفسه لِمَا سمع من الحقّ أنّها خُلقت للبقاء لا للفناء ، فيحبُّها ، ويحبّ مشتهاها ، ويزهد في الدنيا لِمَا يرى من فنائها وزوالها .

فلو أنّ الدنيا دامت بأهلها ، وتخلّدت نعمها ومشتهياتها ، وانمحت عنها مكارهها ، لم ينقص من مبتغى هذا العامل المجاهد شيئاً ومن هنا تعلم أنّ الكمال عند هذا الرجل هو مشتهيات النفس من النعم الدنيويّة المادّية ، لكنّه يراها مقرونة بالنواقص والموانع ، فيطلب مشتهيات من جنسها خالية من كدورتها فيرى الدار الآخرة من عرصات الدنيا وخواتمها ، ويعتقد أنّ يوم القيامة من أيّامها .

٢٢٨

فنفسه واقفة على هذه المرتبة الجسميّة ، لم ترقَ عنها ليأسها عما هو أشرف منها فلا يريد كمالاً اشرف من الكمال الجسمي ، إذا لم يعهده ولم يعتقد به ، فهو نازل عن مرتبة العلم بالله ، واقف في مرتبة العمل ، يتقلّب بين أطوار الحياة من قول وعمل ، وخلق حسن ، كأنّ أستار الغيب مرتفعة عنه ، وكأنّ ما وراء الحجاب مكشوف له ، لا يستفزُّ عن عينه ، وليس كذلك .

وهو المأيوس عن مشاهدة ما وراء الحجاب ، وقد وطّن نفسه لِمَا بعد الموت فإنّما له صالح العمل وجزيل الثواب فحسب ، لا يرزق خيراً من ذلك :( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) (١) .

وهؤلاء أيضاً طبقة ، وذلك مقامهم في العلم والعمل ، يشتركون مع الطبقة الأُولى في العلم ، ويفترقون عنهم في العمل .

وإذا فرضنا واحداً من المحبّين المشتاقين ، وهو رجل أخذته بارقة الحبّ ، وجذبته جذبة الشوق إلى لقاء الله سبحانه ، فانهدّت أركانه ، واضطربت أحشاؤه ، وحار قلبه ، وطار عقله ، وانسلّ عن الدنيا وزخارفها ، ولم يقع همّه على العقبى ونعيمها ، ولا دين للمحبّ إلاّ المحبوب ، ولا مطلوب له إلاّ المطلوب .

إذا سمع الله سبحانه يقول لعباده :( فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) (٢) ، ويقول :( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) (٣) ، ذمّ الدنيا وزخارفها ، وأعرض عن زخارفها لأنّه سبحانه يذمُّها ، ولو أنّه مدحها لمدحها على فنائها وخسّتها .

وإذا سمعه سبحانه يقول : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) (٤) ، مدح الآخرة لأنّه سبحانه يمدحها ، ولو أنّه ذمّها لذمّها على بقائها وشرفها .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشورى : الآية ٢٧ .

(٢) سورة لقمان : الآية ٣٣ .

(٣) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآية ٣٦ .

(٤) سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

٢٢٩

وإذا سمعه يقول :( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) ،( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) (٢) ،( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) ، و( هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) (٤) ، لم يبقَ شيء إلاّ وتعلّق قلبه به ، واعتكفت نفسه عليه ، لا للَعبٍ يلعبه وما للمحبّ الحيران واللعب ؟! بل لأنّ ربّه سبحانه قائم على أعمال كلّ شيء ، قريب منه ومعه ، شهيد عليه ، محيط به ، فهو يسعى نحوه سبحانه ، ويقصده لكن بالأشياء لا وحده .

وإذا سمعه سبحانه يقول :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٥) ، تفطَّن أن تعلّقه بنفسه ليس كتعلّقه بغيرها من الأشياء ، وأنّه الاهتداء إلى مطلوبه البتّة وهو سبحانه جعله (أي المحبّ) سالكاً إليه ؛ إذ قال :( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (٦) .

وإذا سمعه سبحانه يقول :( وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ) (٧) ، ويقول :( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * َإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) (٨) ، ويقول :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (٩) ـ والنسيان ، هو الإعراض عن الذِّكر ـ عرف أنّ نسيان نفسه ، والتعلّق بالأشياء ، علامة نسيان ربّه .

وأنّه لو أعرض عن ذكره وتعلّق بالأشياء ، لسلكه ذلك إلى عذاب صعداً ـ ولا عذاب عند المحبّين إلاّ حجاب البُعد ـ ولأضلّه القرين عن السبيل .

ـــــــــــــ

(١) و (٢) سورة فصّلت : الآيتان ٥٣ و ٥٤ .

(٣) سورة الحديد : الآية ٤ .

(٤) سورة الرعد : الآية ٣٣ .

(٥) سورة المائدة : الآية ١٠٥ .

(٦) سورة الانشقاق : الآية ٦ .

(٧) سورة الجنّ : الآية ١٧ .

(٨) سورة الزُّخرف : الآيتان ٣٦ و ٣٧ .

(٩) سورة الحشر : الآية ١٩ .

٢٣٠

وحينئذٍ يتحقّق أن السبيل هو نفسه ، وطريقة التعلّق به للسلوك إلى ربّه ؛ لأنّ ربّه معه وقائم عليه محيط به فعند ذلك ينقطع عن كلّ شيء إلى نفسه ، ويتعلّق بها ، ويصفّيها ، ويهذّبها بفاضل الأخلاق وصالح الأعمال ، والتحرّز عن الموبقات ، والفرار عن المهلكات ؛ لأنّه سبحانه يأمر بها ، ويحبُّها لا لجنّة يطمع فيها ، ولا لنار يخاف منها ، بل لوجه الله ، لا يريد بذلك جزاء ولا شكوراً .

كلّ ذلك وهو متعلّق بنفسه ابتغاء لقاء ربه ، محدق بها ، متوجّه القلب إليها ليله ونهاره ، لكنّه لا يعطيها استقلالاً ، ولا يدع لها تمكّناً وحاشاه! وأنّى يقع صادق الحبّ على محبوبين ؟! وحقّ الطلب على مطلوبين؟! بل المحبوب محبوب لذاته ، وكلّ ما يحبّه هو محبوب لأجله ، فهو المحبوب في نفسه وفي غيره .

وأنت تعلم أنّ المحبّ لا يريد إلاّ المحبوب ، يلوي (يفرّ) إليه من كلّ ما يصدّه عنه ، ويميل إليه من كلّ ما يشغله عنه لا همّ له إلاّ الخلوة بمحبوبه والوصول إليه من كلّ حاجب يحجب عنه وكلّما مكث على وصفه ، اشتدّ وجده واشتعل نار شوقه ، وربّما دفعه الشوق إلى الغيبة عن نفسه ، وفنائها عن نظره ، والاشتغال فقط بربّه ، فلا يبقى إلاّ وجهُ ربِّه ذو الجلال والإكرام .

وهؤلاء أيضاً طبقة ، ومقامهم في العلم والعمل ما عرفت .

وقد عرفت أنّ الفارق حقيقة بين هذه الطبقات الثلاث ، اختلاف حالهم في الإدراك ، وبذلك يفترقون في فهم المدلول من كلام واحد إلى مدلولين اثنين أو إلى ثلاث .

فبيان الطريق ليس من شئون الشرع ، وإنّما هو الفهم يختلف اختلافاً .

ولقد سمعت بعض مشايخي ، وقد سُئل عن طريق معرفة النفس : لِمَ لَم يُبيَّن شرعاً ، وهو أقرب الطرق إلى الله سبحانه ؟

فقال مُدّ ظلّه : وأيّ بيان في الشرع لا يروم هذا المقصد ، ولا يشرح هذا الطريق ؟!

ومن هنا ربّما يذكر بعض هذه الطبقة في تفسير بعض الآيات والأخبار ، معاني بعيدة عن فهم العادي كلّ البعد .

هذا ، والذي ينبغي أن يعلم هاهنا أنّ هذا الطريق مركّب من فعل وترك ، وهو رفض غير الله ، والتوجّه إلى الله سبحانه ، وهما كالمتلازمين أو متلازمان ؛ إذ قد مرّ أنّ العلم بالله أبده البديهيات ، وإنّما الحاجب عنه هو الغفلة دون الجهل ، وذلك بالاشتغال بحطام الدنيا ، وعرَض هذا الأدنى ، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

٢٣١

فالاشتغال بها يوجب حبّاً وتعلّق الهمّة كلّها بها ، فيشغل ذلك حيّز القلب ، فلا يصفو مرآته حتّى ينعكس فيها جمال الحقّ سبحانه ، وتحصل المعرفة ، فإنّ الأمر أمر القلب .

وإن شئت اختبار صدق ما ذكرناه ، أمكنك اعتباره بأن تأخذ لنفسك مكاناً خالياً ، لا يكون فيه شاغل زائد من النور والصوت والأثاث وغيرها .

ثمّ تقعد قعوداً لا يشغلك بفعل زائد مع غمض العين .

ثمّ تتوجّه إلى صورة ما خياليّة ، بأن تشخص بعين خالك إلى صورة (أ) مثلاً ، وتتنبّه لكلّ صورة خيالية تطرقك لتستعمل الإعراض عنه إلى صورة (أ) ، فإنّك تجد في بادئ الأمر صوراً خياليّة معترضة مزدحمة عندك مظلمة مشوّشة ، لا يتميّز بعضها عن بعض ، من أفكار اليوم والليلة ، ومقاصدك وإرادتك ، حتّى ربّما تتيقّظ بعد مضي نحو ساعة أنّك في مكان كذا ، أو مع شخص كذا ، أو في عمل كذا هذا مع أنّك قد شخصت ببصر خيالك نحو (أ) ، وهذا التشويش يدوم معك مدّة .

ثمّ لو دمت على هذه التخلية أيّاماً ، ترى بعد برهة أنّ الطوارق والخواطر تقلّ فتقلّ ، ويتنوّر الخيال ، حتّى كأنّك ترى ما يخطر في قلبك من هذه الخواطر ببصر الحسّ ، ثمّ تقلّ فتقلّ كلّ يوم تدرُّجاً ، حتى لا يبقى مع صورة (أ) صورة أُخرى البتّة .

هذا ، ومن ذلك تعرف صحّة ما قلنا: إنّ الاشتغال بالمشاغل الدنيويّة توجب نسيانك نفسَك ، والغفلة عمّا وراء هذه النشأة ، وأنّ التخلّص نحو الباطن ، يحصل بالإعراض عن الظاهر ، والإقبال إلى ما ورائه فلو رمت نحو مشاهدة نفسك بمثل الطريق المذكور مثلاً ، وجدت أضعاف ما ذكرناه من الخواطر المانعة ، وهي صور المشتهات والمقاصد الدنيويّة .

فالطريق المتعيّن للمعرفة أن تصفّي قلبك عن الدنيا ، وكلّ حجاب غير الله سبحانه فكلّما ذُكر من الأسباب ، من المراقبة والخلوة وغيرهما ، إنّما هو لتحصيل هذه الحالة القلبيّة ، ثمّ تتوجّه بقلبك نحو الحقّ سبحانه ، وتشرف عليه عزّ اسمه .

٢٣٢

وهذا هو الذكر ، وهو الإشراف على الحقّ سبحانه ، وهو آخر المفاتيح ، والله الهادي .

واعلم أنّ الذكر بهذا المعنى كثير الورود في الكتاب والسُّنّة :

قال سبحانه :( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ) (١) .

وفي قوله سبحانه :( فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) (٢) ، فمن المعلوم أنّ الشدّة لا يوصف به الذكر اللفظي .

وقال سبحانه :( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآية ٢٨ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٠٠ .

(٣) سورة غافر : الآية ١٣ .

٢٣٣

وقال سبحانه :( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) (١) .

إلى غير ذلك من الآيات ، وقد مرّ بعض الأخبار المشتملة عليه(٢) .

وفي دعاء كميل ، قالعليه‌السلام :(أسألك بحقّك وقدسك ، وأعظم صافتك وأسمائك ، أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة ، وبخدمتك موصولة ، وأعمالي عندك مقبولة ؛ حتى تكون أعمالي وأورادي كلّها ورداً واحداً ، وحالي في خدمتك سرمداً) (٣) ـ الدعاء .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٦٩ .

(٢) راجع : الصفحة ٢٤٩ وما بعدها من هذا الكتاب .

(٣) المصباح / الكفعمي : ٥٥٩ ، دعاء أمير المؤمنينعليه‌السلام في ليلة نصف شعبان .

٢٣٤

الفصل الخامس : فيما ناله الإنسان بكماله

وهذا الفصل كالتوضيح لما مرّ في الفصل الثاني من الكلام .

نقول : قد عرفت أنّ كمال الإنسان فناؤه بأقسامه الثلاثة ، وبعبارة أُخرى : التوحيد الفعلي والاسمي والذاتي .

وقد عرفت أيضاً أنّ كلّ موجود فقربه من الحقّ سبحانه على قدر حدود ذاته وأعدامه ، فالوسائط التي بين نشأة الإنسان البدنيّة وبين الحقّ سبحانه ، مترتّبة بحسب حدود ذواتها .

فالإنسان في سيره إلى الحقّ سبحانه لا بدّ أن يعبر من جميع مراتب الأفعال والأسماء والذوات ، حتّى ينال التوحيدات الثلاثة وحيث إنّه لا ينال مرتبة من مراتب كماله إلاّ بفنائه وبقاء ذلك الكمال في المحلّ ، فهو في كلّ مرتبة واقف على مجرى جميع أنواع الفيوضات المترشّحة من تلك المرتبة إلى ما دونها ، متحقّق به ، حتّى ينال توحيد الذات ، ولا يبقى له اسم ولا رسم ، والمُلك يومئذٍ لله .

وهذا البرهان على وجازته ، مشتمل على جميع مقامات الأولياء ، منبئ عن شئونهم ، كافٍ لمَن فهمه .

وأمّا خصوصيّات مقاماتهم ، فلا يحيط بها إلاّ ربّهم عزّ اسمه .

٢٣٥

تتمّة :

مقامات الأولياء وخاصّة أسرارهم مع الله سبحانه ؛ حيث إنّ ولاية أمرهم لله سبحانه ، وقد فنت أسماؤهم ورسومهم فيه تعالى ، لا يمكن الإحاطة بها ، وقد قال سبحانه :( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (١) .

وكفى لهم شرفاً أنّ ولاية أمرهم لله سبحانه ، وهو المربّي لهم والمبشّر لهم ، قال سبحانه :( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

ثمَّ عرّفهم سبحانه ، فقالِ :( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (٣) ، فوصفهم بتلبّسهم بالإيمان بعد تلبّسهم بالتقوى ومن المعلوم أنّ التقوى التي هي التحذّر عمّا يسخط الله ، إنّما تتحقّق بعد الإيمان بالله ورسوله .

فعلمنا بذلك أنّ هذا الإيمان المذكور في الآية غير الإيمان الذي يتقدّم على التقوى ، وليس إلاّ تأكّد الإيمان ، بحيث لا يتخلّف عنه مقتضاه فإنّ أصل الإيمان ، وهو الإذعان في الجملة ، يجامع الشرك في الجملة وسائر المعاصي ، قال سبحانه : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (٤) . لكنّ الكامل التامّ منه يلازم الجري على ما توجبه أُصول الدين وفروعه ، فيرجع معناه إلى التسليم للرسول في كلّ ما جاء به ، كما قال سبحانه :( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) سورة طه : الآية ١١٠ .

(٢) سورة يونس : الآية ٦٢ .

(٣) سورة يونس : الآية ٦٣ .

(٤) سورة يوسف : الآية ١٠٦ .

(٥) سورة النساء : الآية ٦٥ .

٢٣٦

وتسليمك لأحد أن تفنى إرادتك في إرادته ، فلا تريد إلاّ ما يريد ، ولا تشاء إلاّ ما يشاء ، وهو التبعيّة التامّة ، كما قال سبحانه :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (١) ، وقال :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ) (٢) .

فقيّد الإيمان ثانياً بالرسول ، وهذا الإيمان هو اليقين التامّ بالله سبحانه وأسمائه وصفاته ، وبحقيّة ما جاء به رسوله ، والتبعيّة والتسليم التامّ للرسول فأفعالهم طبق أفعاله ، وغايتهم غايته ، وهو إمامهم ، ولا غاية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ ابتغاء وجه ربّه ، والإعراض التامّ عن الدنيا ، قال سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) (٣) .

ثمَّ وعدهم سبحانه ، فقال : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) (٤) ، وقَدَمَ الصدق هو المكانة الثابتة والمقام المكِّي ، فبه يكنّى عن ذلك عرفاً ، وهو مرتبتهم من الله سبحانه عنده .

وقد قال سبحانه :( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ) (٥) ، فاخبر بأنّ ما عنده باقٍ دائم ، غير فانٍ ولا هالك .

وقال أيضاً :( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٦) ، فأخبر بالهلاك لكلّ شيء غير وجهه .

ـــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٢) سورة الحديد : الآية ٢٨ .

(٣) سورة الكهف : الآية ٢٨ .

(٤) سورة يونس : الآية ٢ .

(٥) سورة النحل : الآية ٩٦ .

(٦) سورة القصص : الآية ٨٨ .

٢٣٧

فبان بذلك أنّ ما عنده سبحانه وجه له ، ووجه الشيء غر منفصل عن الشيء ، وهو ما يواجهك به ، فهؤلاء متمكّنون بقَدَمهم الصدق في سبحات وجهه تعالى ، مستهلكون في غمار أنواره ، خارجون عن حيطة العمّال ، غير مختصّين بمكان دون مكان( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (١) ، وقال سبحانه أيضاً :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (٢) .

وقد أطبق القرّاء على قراءة (ذو) بالرفع ، وليست صفة مقطوعة ؛ يشهد به قوله تعالى :( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ) (٣) ، و( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (٤) ، فهو صفة وجه .

والجلال والإكرام جامعان لصفات الجلال والجمال جميعاً ، فلا يشذّ عنهما صفة من صفاته العليا ، ولا اسم من أسمائه الحسنى فهؤلاء متمكّنون بينها وفيها ، لا اسم لهم ولا رسم إلاّ صفاته وأسمائه سبحانه ، وارتفع الحجاب ؛ إذ لم يبق منهم ولا معهم ولا دونهم شيء ، ولا غير وجهه ذي الجلال والإكرام شيء ، فافهم .

وبذلك يظهر معنى ما في حديث مجيء الملائكة بالكتاب من الله إلى وليّه بالجنّة ، وفيه مكتوب :(من المَلك الحيِّ القيُّوم إلى المَلك الحيِّ القيُّوم) ـ الحديث .

وقد وعدهم سبحانه بالقرب منه تعالى ، وسمّاهم المقرّبين ؛ إذ عرّف المقرّبين بالسابقين في قوله سبحانه :( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (٥) ، وعرّف السابقين بتقييدهم بالخيرات ، فقال سبحانه :( ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١١٥ .

(٢) سورة الرحمن : الآيتان ٢٦ و ٢٧ .

(٣) سورة الرحمن : الآية ٧٨ .

(٤) سورة الأعلى : الآية ١ .

(٥) سورة الواقعة : الآيتان ١٠ و ١١ .

٢٣٨

اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) (١) ، وقال سبحانه أيضاً : ( إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ) (٢) ، فقد نفى كلّ شرك علماً وعملاً ، إلى أن قال :( أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) (٣) ، فهؤلاء هم المؤمنون حقّاً المستكملون للعلم بالله والعمل لله ، السابقون المقرّبون الموقنون .

ثمَّ وعدهم سبحانه بأنّه يكشف الغطاء عن قلوبهم ، فقال : ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٤) وعلّيّون هو العالم العلوي .

وقال سبحانه :( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٥) ، وهذه الغاية من قبيل قوله تعالى :( وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (٦) ، وقوله :( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) (٧) ، لا من قبيل قوله : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٨) .

فإذن تفيد الآية أنّه سبحانه يُري عباده الموقنين ملكوت السموات والأرض .

ـــــــــــــ

(١) سورة فاطر : الآية ٣٢ .

(٢) سورة المؤمنون : الآيات ٥٧ ـ ٥٩ .

(٣) سورة المؤمنون : الآية ٦١ .

(٤) سورة المطفّفين : الآيات ١٨ ـ ٢١ .

(٥) سورة الأنعام : الآية ٧٥ .

(٦) سورة يوسف : الآية ٢١ .

(٧) سورة آل عمران : الآية ١٤٠ .

(٨) سورة النساء : الآية ١٦٥ .

٢٣٩

وقد أفاد في قوله سبحانه :( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١) ، أنّ الملكوت هو عالم الأمر ، وهو العالم العلو .

وفي الحديث :(لولا أنّ الشياطين يحُومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السموات والأرض) (٢) .

ومن الشاهد على أنّ اليقين يعقّبه الله سبحانه بذلك ، قوله تعالى : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) (٣) ، وقوله : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) سورة يس : الآيتان ٨٢ ـ ٨٣ .

(٢) بحار الأنوار : ٦٠ / ٣٣٢ ، باب ٣ ـ إبليس لعنه الله وقصصه ، وبدء خلقه ، ومكائده ، المسألة الثامنة ، الحديث ١٧٧ .

(٣) سورة التكاثر : الآيات ٥ ـ ٧ .

(٤) سورة المطفّفين : الآية ١٤ .

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ مشاهدة آيات الله المستورة عن أعين غير أهل اليقين ، المضروب عليها بالغطاء والحجاب ، إنّما هي بعين القلب دون عين الحسّ البدني ، فللقلب عين ، كما أنّ له سائر الأعضاء الحسّاسة .

وفي هذا المعنى آيات كثيرة في كتاب الله ، كقوله عزّ وجلّ :( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ) ( يس : ٩ ) ، وقوله :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : ١٧١ ) ، وقوله :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ( الحجّ : ٤٦ ) .

وهذه الآية تفسّر المراد بالعين والأُذن وغيرهما ، وأنّ المراد بهنّ جميعاً في باب الهداية والضلالة ، إنّما هي جوارح القلب الباطن ، دون الجسم المحسوس الظاهر .

ومن هذا الباب سائر المعاني المصرّح بها في حقّ المهتدين والضالّين ، كقوله :

( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) ( البقرة : ٢٥٧ ) ، وقوله :( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً ) ( يس : ٨ ) ، إلى غير ذلك من الآيات فللقلب عالم ، كما أنّ للحسّ عالماً ؛ وله من الأحكام والآثار ما يشبه عالم الحسّ .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292