الإمامة في أهم الكتب الكلامية

الإمامة في أهم الكتب الكلامية11%

الإمامة في أهم الكتب الكلامية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 527

الإمامة في أهم الكتب الكلامية
  • البداية
  • السابق
  • 527 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 276797 / تحميل: 9014
الحجم الحجم الحجم
الإمامة في أهم الكتب الكلامية

الإمامة في أهم الكتب الكلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقد اشتد به العطش وأحاط القوم بالعبّاسعليه‌السلام فاقتطعوه عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

ونظر الحسينعليه‌السلام إلى ما حوله، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

وهكذا بقي الإمامعليه‌السلام وحده يحمل سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و بين جنبيه قلب عليعليه‌السلام وبيده راية الحق البيضاء، وعلى لسانه كلمة التقوى.

الحسينعليه‌السلام وحيداً في الميدان:

حينما التفت أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يميناً وشمالاً ولم ير أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟ فخرج الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع. فقال: (يا عمّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وإذا بالحسينعليه‌السلام ينادي: (يا أم كلثوم! خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله )(2) .

ويقول المؤرخون: إنه لما رجع الحسينعليه‌السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه، فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسينعليه‌السلام وضربه على رأسه بالسيف وكان عليه قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 109.

(2) بحار الأنوار: 45 / 46.

٢٠١

فامتلأت القلنسوة دما، فقال له الحسينعليه‌السلام : (لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين).

ثم ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنْسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومن كان معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثم عاد وعادوا إليه وأحاطوا به)(1) .

حمل الإمام الحسينعليه‌السلام سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز، وراح ينازل فرسانهم، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة، فما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة.

قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب(2) .

ولمّا عجزوا عن مقاتلته، لجأوا إلى أساليب الجبناء; فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة، وأمر الرماة أنْ يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص: ويلك يا عمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء، فنادت ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد بشيء. ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال: ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم، فحملوا عليه من كل جانب.

فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 110، إعلام الورى: 1 / 467.

(2) الإرشاد: 2 / 111، إعلام الورى: 1 / 468.

٢٠٢

وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد فقال له شمر: فتَّ الله في عضدك، ما لك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه ثم رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال: إحمله إلى الأمير عمر بن سعد.

ثم أقبلوا على سلب الحسينعليه‌السلام فأخذ قميصه إسحاق بن حَيْوَة الحضرمي، وأخذ سراويله أبجر بن كعب، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد، وأخذ سيفه رجل من بني دارم، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه(1) .

امتداد الحمرة في السماء:

ومادت الأرض واسودَّتْ آفاق الكون وامتدت حمرة رهيبة في السماء كانت نذيراً من الله لأولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله(2) .

وصبغ فرس الحسينعليه‌السلام ناصيته بدم الإمام الشهيد المظلوم وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسينعليه‌السلام ليعلم العيال بمقتله واستشهاده، وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي: (فلما نظرت النساء إلى الجواد مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد العز مذَلَّلات وإلى مصرع الحسين مبادرات).

ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وهي ثكلى: وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء، صريع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 112، إعلام الورى: 1 / 469.

(2) راجع كشف الغمة: 2 / 9، سير أعلام النبلاء: 3 / 312، تاريخ الإسلام للذهبي: 15، حوادث سنة 61، إعلام الورى: 1 / 429.

٢٠٣

بكربلاء، ليت السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!!(1)

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة:

وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام غير حافلين بمن في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدينعليه‌السلام : (والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين!)(2) .

وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوة وعقائل الرسالة فنهبوا ما عليهن من حليّ وحلل، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.

الخيل تدوس الجثمان الطاهر:

لقد بانت خِسّة الأمويين لكل ذي عينين، وعبّرت عن مسخ في الوجدان الذي كانوا يحملونه وماتت الإنسانية فتحولت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ولا يزعها وازع من بقية ضمير إنساني.

فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوةعليهم‌السلام في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة، وما تنطوي عليه نفسه الشريرة من حقد دفين على الرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكل ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة، وقد جاء فيه ما يلي:

أما بعد: فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعقد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرم: 346.

(2) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، نقلاً عن تاريخ المظفري: 238.

٢٠٤

الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئاً، ولكن علي قول، لو قد قتلته فعلت هذا به(1) .

على أن ابن زياد كان من أعمدة الحكم الأموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الأمويين.

وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد، فنادى في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة، فداسوا جسد الحسينعليه‌السلام بخيولهم حتى رضّوا ظهره(2) .

عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم:

ووقفت حفيدة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وابنة أمير المؤمنينعليه‌السلام العقيلة زينبعليها‌السلام على جثمان أخيها العظيم، وهي تدعو قائلةً: (اللهم تقبّل هذا القربان)(3) . إنَّ الإنسانية لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السر الوحيد في خلود تضحية الحسينعليه‌السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4 / 314، إعلام الورى: 1 / 453.

(2) إعلام الورى: 1 / 470، مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 39.

(3) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام : 3 / 304.

٢٠٥

٢٠٦

الفصل الثالث:

نتائج الثورة الحسينية

انبعثت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام من ضمير الأمة الحيّ ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدسة ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما، حتى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوض الذل والاستسلام وتدك عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكل المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظل طاعة الله تعالى.

ولا يمكن لأحد أن يغفل عما تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسنوات التي تلتها رغم كل التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلامية بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً. وأهم تلك الآثار هي:

1 - فضح الأمويين وتحطيم الإطار الديني المزيّف:

بفعل ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام تكشفت للناس حقيقة النزعة الأُموية المتسلطة على الحكم، ونسفت تضحيات الثائرين كل الأطر الدينية المزيّفة

٢٠٧

التي استطاع الأمويون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة، مستعينين بحالة غياب الوعي وشيوع الجهل الذي خلّفته السقيفة. ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوة والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق، ويفتخر بموقفه قائلاً: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته(1) .

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - من قادة الجيش الأموي - يحفّز الناس لمواجهة الإمام الحسينعليه‌السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً: يا أهل الكوفة إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام(2) . فالدين في دعوى الأمويين طاعة يزيد ومقاتلة الحسينعليه‌السلام .

ولكن حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الأمة، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل. فقد وقف الإمام الحسينعليه‌السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي: أمّا بعد فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟!

هذا بالإضافة إلى كل الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثم ما آلت إليه نتيجة المعركة من

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4 / 281.

(2) المصدر السابق: 4 / 331.

٢٠٨

بشاعة في السلوك والفكر فاتضحت خسّة الأمويين ودناءتهم ودجلهم.

وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينية بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو أُمية ومن ثم توضيح رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام .

إنّ جميع المسلمين متفقون - على اختلاف مذاهبهم وآرائهم - بأن الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعياً، وأن يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشرع الإلهي والموازين الدينية.

2 - إحياء الرسالة الإسلامية:

لقد كان استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام هزّة لضمير الأمة وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة وعامل انتباه مستمر للمنحدر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني أُمية ومن سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى من يليهم من الأجيال.

لقد استطاع سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيّن الموقف النظري والعملي الشرعي للأمة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطغاة، فهل انتصر الحسينعليه‌السلام في تحقيق هذا الهدف؟ لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدينعليه‌السلام حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً: من الغالب؟ قالعليه‌السلام : (إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب)(1) .

لقد كان الحسينعليه‌السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السامية بعد محاولات الجاهلية لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : 3 / 440 عن أمالي الشيخ الطوسي.

٢٠٩

3 - الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الأمويين:

اشتعلت شرارة الشعور بالإثم في نفوس الناس، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وزينب بنت عليّ بن أبي طالب وبقية أفراد عائلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله التي ساقها الطغاة الأمويون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.

فقد وقفت زينبعليها‌السلام في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت:

أما بعد:

يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرّنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟).

وتكلم عليّ بن الحسينعليهما‌السلام فقال:

أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي؟ فلستم من أمتي(1) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : 3 / 341 عن مثير الأحزان.

٢١٠

وروي أيضاً أن يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً وأكرم عبيد الله بن زياد ولكن ما لبث أن ندم ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال الناس وسخطهم عليه، ولعنهم وسبّهم(1) .

ولقد كان الشعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الأموي، مما دفع بالكثير في الجماعات الإسلامية إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسينعليه‌السلام بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الأموي الظالم.

صحيح أنه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الأموي وبعده عن الرسالة الإسلامية إلاّ أنه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني، فكان الحكام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبويعليهم‌السلام يحسبون له ألف حساب.

4 - إحياء إرادة الأمة وروح الجهاد فيها(2):

كانت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قوية في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالأمة كيف يشاء، مؤطّراً تحركه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق، وبأيدي وعاظ السلاطين أحياناً وأخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

فتعلم الإنسان المسلم من ثورة الحسينعليه‌السلام أن لا يستسلم ولا يساوم،

____________________

(1) تأريخ الطبري: 4 / 388، تأريخ الخلفاء: 208.

(2) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (النظرية، الموقف، النتائج ) للسيّد محمد باقر الحكيم:100.

٢١١

وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظل حكم يتمتع بالشرعية أو على الأقل برضا الجماهير.

ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح; إلاّ أنها توالت حتى سقط النظام. ورغم أن أهدافها كانت متفاوته إلاّ أنها كانت تستلهم من معين ثورة الحسينعليه‌السلام أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوابين(1) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينية، وثورة المدينة(2) ، وثورة المختار الثقفي(3) الذي تمكن من محاكمة المشاركين في قتل الحسينعليه‌السلام ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة، ثم ثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة زيد بن عليّ ابن الحسينعليهما‌السلام (4) وثورة أبي السرايا(5) .

لقد أحيت الثورة الحسينية روح الجهاد وأجّجتها، وبقي النبض الثائر في الأمة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات. إلاّ أن الأمة الإسلامية أثبتت حيويّتها وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الأمويين أسلافهم.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 4 / 426، 449.

(2) المصدر السابق: 4 / 464.

(3) المصدر السابق: 4 / 487.

(4) مقاتل الطالبيين: 135.

(5) المصدر السابق: 523.

٢١٢

الفصل الرابع:

من تراث الإمام الحسينعليه‌السلام

نظرة عامّة في تراث الإمام الحسينعليه‌السلام :

الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام قائد مبدئي وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته، وجعلهم أمناء على تطبيقها، وطهّرهم من كل رجس ليصونوها من أي تحريف أو تحوير.

إن المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة; لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خط الرسالة; ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشرعي في ممارسة الحكم فحسب; وإنما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمة والشريعة.

إن هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة، ممّا جعلهم يهتمون بإحكام قواعد الشريعة في الأمة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها. ومن هنا كانت تربية الجماعة الصالحة والسهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال

٢١٣

خمسين عاماً بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كل من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً جدّاً. حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهمعليهم‌السلام . وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام ووثائق الثورة الحسينية، وبلاغة الحسين ومجموعة خطبه ورسائله; ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمل ومستفيد. وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث:

في رحاب العقل والعلم والمعرفة:

قالعليه‌السلام :

1 - خمس من لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع: العقل والدين والأدب والحياء وحسن الخلق(1) .

2 - وسُئل عن أشرف الناس، فقال: من اتّعظ قبل أن يوعَظ واستيقظ قبل أن يوقظ(2) .

3 - وقالعليه‌السلام : لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحق(3) .

4 - العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبَه، ولا يَسأل من يخاف منعَه ولا يثِقُ بمن يخافُ غدرَه، ولا يرجو مَن لا يوثقُ برجائه(4) .

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 743 عن حياة الإمام الحسين: 1 / 181.

(2) المصدر السابق: 743 عن إحقاق الحق: 11 / 590.

(3) المصدر السابق: 742 عن اعلام الدين: 298. وورد هذا النص عن الإمام عليعليه‌السلام أيضاً.

(4) المصدر السابق: 742 عن حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 1/181.

٢١٤

5 - العلم لقاحُ المعرفة، وطول التجارب زيادةٌ في العقل، والشرف التقوى، والقنوعُ راحةُ الأبدان، ومن أحبَّكَ نهاكَ ومن أبغضك أغراك(1) .

6 - من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ وعلمه بحقائق فنونِ النظر(2) .

7 - لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لاَوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ، وإنّما العالِمُ مَن يكثرُ صَوابُه.

8 - وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسينعليه‌السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها وقيمة كل سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا:

قالعليه‌السلام :

أ - إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟....

ب - إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء....

ج - إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!. ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً.

د - إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها مَصونَ السرِّ عن النظرِ إلَيْها ومرفوع

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام : 742 و 743 عن بحار الأنوار: 78 / 128، الحديث 11.

(2) المصدر السابق.

٢١٥

الهمّة عن الاعتمادِ عليها.

هـ - منك أطلُبُ الوصول إليك وبك استدلُّ عليك فاهدني بنورك إليك وأقمني بصدْق العبودّية بين يديك.

و - إلهي علّمني من علمك المخزون وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ القُرب....

ز - إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي.

ح - إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة اسرني، فكن أنت النصير لي حتَى تنصرني وتبصرني.

ط - أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتى عرفوك ووحَّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدكَ؟! وما الذي فقد من وجدك؟!.

ي - أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كل شيء... كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟!(1) .

في رحاب القرآن الكريم:

لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون بالقرآن الكريم اعتناء وافراً فعكفوا على تعليمه وتفسيره وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد أثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق، وهي جديرة بالمطالعة والتأمل نختار نماذج منها:

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 803 - 806 عن إقبال الأعمال: 339.

٢١٦

أ - قالعليه‌السلام : (كتاب الله عَزَّ وجَلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارةُ للعوام، والإشارة للخواص واللطائفُ للأولياء، والحقائق للأنبياء)(1) .

ب - (من قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكل حرف مِئةُ حَسَنَة، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكل حرف عَشْراً، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكل حرف حَسَنةٌ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يُصبِحَ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتى يُمسيَ. وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ وكان خيراً له ممّا بين السماءِ والأرضِ)(2) .

ج - وعنهعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) يعني بها (أرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرة)(3) .

د - وسأله رجل عن معنى( كهيعص ) فقال له: لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء(4) .

هـ - وقال النصرُ بن مالك له: يا أبا عبد الله حَدِّثني عن قول الله عزَّ وجَلَّ:( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ، قال: (نحن وبنو أمية اختصمنا في الله عَزَّ وجَلَّ، قلنا صدق الله، وقالوا: كذب اللهُ، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة)(5) .

و - وفي قوله تعالى:( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ ) قالعليه‌السلام : (هذه فينا أهل البيت)(6) .

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 551 عن جامع الأخبار: 48.

(2) المصدر السابق: 551، عن الكافي: 2 / 611، الحديث 3.

(3) المصدر السابق: 560 عن تفسير البرهان: 2 / 323.

(4) المصدر السابق: 561 عن ينابيع المودّة: 484.

(5) المصدر السابق: 563 عن حياة الحسين: 2 / 234.

(6) المصدر السابق: 564 عن بحار الأنوار: 24 / 166.

٢١٧

ز - في قوله تعالى:( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قالعليه‌السلام : (إن القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها وعظم حقّها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم)(1) .

ح - وفسّر النعمة في قوله تعالى:( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (بما أنعم الله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من دينهِ)(2) .

ط - وفسّر الصَمَد بقوله: إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (3) .

ي - وقال: (الصمد: الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد: الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال)(4) .

ك - وروي أن عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسينعليه‌السلام سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاهعليه‌السلام ألف دينار وألف حُلّة وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك، فقالعليه‌السلام : وأين يقع هذا من عطائه؟ يعني بذلك تعليمه القرآن(5) .

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة:

لقد عاصر الحسين جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاش في كنف الوحي والرسالة وارتضع من ثدي الإيمان، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كأمه وأبيه وأخيه، وعلم أن سنة الرسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي،

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 565 عن بحار الأنوار: 23 / 251 الحديث 37.

(2) المصدر السابق: 567 عن المحاسن: 1 / 344 الحديث 11.

(3) المصدر السابق: 568 عن التوحيد: 90 الحديث 5 ثم نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

(4) المصدر السابق: 569 عن معادن الحكمة: 2 / 51.

(5) المصدر السابق: 827 عن بحار الأنوار: 44 / 191.

٢١٨

وأيقن بضرورة الاهتمام بهما وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصحابة وكيف واجهوا جدّه بكل صلف، حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسلطة أو تعكّر عليهم صفوها.

ومن هنا نجد الحسينعليه‌السلام يقف بكل شجاعة أمام هذا التآمر على الدين، ويضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه: (حسين منّي وأنا من حسين)، (ألا وإن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).

وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السيرة النبوية الشريفة، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها، ولو بلغ مستوى الثورة على من يتسلّح بها لمسخها وتشويهها.

قال صلوات الله عليه:

1 - (كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً)(1) .

2 - وروى الحسينعليه‌السلام - كأخيه الحسن وصفاً دقيقاً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ومجلسه وجلسائه، أخذاه من أبيهما عليعليه‌السلام وهو الذي ربّاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السيرة. قال الحسينعليه‌السلام فسألته عن سكوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

(كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر. فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين: 571، عن كنز العمّال: 7 / 217.

٢١٩

الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحَسَن ليُقتدى به، وتركه القبيح ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا والآخرة)(1) .

3 - وروى أيضاً أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح وهو مهموم، فقيل له: ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال: (إني رأيت في المنام كأنّ بني أُمية يتعاورون منبري هذا). فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دُنيا تنالهُمُ، فأنزل الله:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ... ) (2) .

4 - وروى أيضاً أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أكل طعاماً يقول: (اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه)، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول: (اللهم بارك لنا فيه وارزقنا منه)(3) . وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ(4) .

5 - وسُئل عن الأذان وما يقول الناس فيه، قال: (الوحي ينزل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: أهبَطَ الله عَزَّ وجَلََّ ملكاً حين عُرِج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذّن مثنى مثنى، وأقامَ مثنى مثنى، ثم قال له جبرئيل: يا محمّد هكذا أذان الصلاة)(5) .

6 - وروى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مع عليّعليه‌السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل فقال: (يا عليّ أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل):( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ

____________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام : 571 - 575 عن مجمع الزوائد: 8 / 274 ومعاني الأخبار: 79.

(2) المصدر السابق: 575 عن الغدير: 8 / 248.

(3) المصدر السابق: 578 عن عيون أخبار الرضا: 2 / 42.

(4) المصدر السابق: عن بحار الأنوار: 16 / 287.

(5) المصدر السابق: 683 عن مستدرك الوسائل: 4 / 17.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400


وإذا ضممنا إلى ذلك أنّ الأكثر ـ أيضاً ـ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينصّ على خلافة أحدٍ من بعده كما جاء في المواقف وشرحها « والإمام الحقّ بعد النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : أبوبكر ثبتت إمامته بالإجماع ، وإن توقّف فيه بعضهم ولم ينصّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم على أحدٍ خلافاً للبكرية ، فإنّهم زعموا النصّ على أبي بكر ، وللشيعة فإنّهم يزعمون النصّ على ‘لي كرّم الله وجهه ، إمّا نصّاً خفيّاً ، والحقّ عند الجمهور نفيهما »(١) .

وقال المناوي بشرحه : « فإن قلت : هذا الحديث يعارض ما عليه أهل الأصول من أنّه لم ينصّ على خلافة أحدٍ.

قلت : مرادهم : لم ينصّ نصّاً صريحاً ، وهذا كما يحتمل الخلافة يحتمل الاقتداء بهم في الرأي والمشورة والصلاة ونحو ذلك(٢) .

علمنا أنّ المستدلّين بهذا الحديث في جميع المجالات ـ ابتداءً بباب الإمامة والخلافة ، وانتهاءً بباب الاجتهاد والإجماع ـ هم « البكرية » وأتباعهم

إذن فالأكثر يعرضون عن مدلول هذا الحديث ومفاده وإنّ المستدلّين به قوم متعصّبون لأبي بكر وإمامته وهذا وجه آخر من وجوه وضعه واختلاقه

قال الحافظ ابن الجوزي : « قد تعصَّب قوم لا خلاق لهم يدّعون التمسّك بالسُنّة فوضعوا لأبي بكر فضائل »(٣) .

لكن من هم؟

هم « البكرية أنفسهم!!

__________________

(١) شرح المواقف ـ مباحث الإمامة.

(٢) فيض القدير ٢/٥٦.

(٣) الموضوعات ١/٣٠٣.


٤٠١


قال العلاّمة المعتزلي : « فلمّا رأت البكرية ما صنعت الشيعه(١) ، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : ( لو كانت متّخذاً خليلاً ) فإنّهم وضعوه في مقابلة ( حديث الإخاء ). ونحو ( سدّ الأبواب ) فإنّه كان لعليعليه‌السلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر. ونحو : ( إيتني بدواةٍ وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه إثنان ) ثم قال : ( يأبي الله والمسلمون إلاّ أبابكر ) فإنّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : ( إبتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبداً. فاختلفوا عنده وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ) ونحو حديث : ( أنا راضٍ عنك ، فهل أنت عنّي راض؟ ) ونحو ذلك »(٢) .

وبعد ، فما مدلول هذا الحديث ونحن نتكلّم هنا عن هذه الجهة وبغضّ النظر عن السند؟

يقول المناوي : « أمره بمطاوعتهما يتضمّن الثناء عليهما ، ليكونا أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه ».

لكنّ أوّل شيء يعترض عليه به تخلّف أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن تبعه عن البيعة مع أمرهما به ، ولذا قال :

« فإن قلت : حيث أمر باتّباعهما فكيف تخلّف علي رضي الله عنه عن البيعة؟

قلت : كان لعذر ثم بايع ، وقد ثبت عنه الانقياد لأوامرهما ونواهيهما »(٣) .

أقول : لقد وقع القوم ـ بعد إنكار النصّ وحصر دليل الخلافة في الإجماع ـ في مأزق كبير وإشكال شديد ، وذلك لأنّهم قرّروا في علم الاصول أنّه إذا خالف

__________________

(١) الذي صنعته الشيعة أنّها استدلّت بالأحاديث التي رواها أهل السنّة في فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام باعتبار أنّها نصوص جليّة أو خفيّة على امامته كما ذكر صاحب « شرح المواقف » وغيره.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١/٤٩.

(٣) فيض القدير ٢/٥٦.


٤٠٢


واحد من الاُمّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع.

قال الغزّالي : « إذا خالف واحد من الاُمّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه ، فلو مات لم تصر المسألة إجماعاً ، خلافاً لبعضهم. ودليلنا : أنّ المحرّم مخالفة الاُمّة كافّة »(١) .

وفي مسلّم الثبوت وشرحه : « قيل : إجماع الأكثر مع ندرة المخالف بأنْ يكون واحداً أو أثنين إجماع والمختار أنّه ليس بإجماع لانتفاء الكلّ الذي هو مناط العصمة. ثم اختلفوا فقيل : ليس بحجّةٍ أصلاً كما أنّه ليس بإجماع ، وقيل : بل حجّة ظنّية غير الإجماع ، لأنّ الظاهر إصابة السواد الأعظم قيل : ربّما كان الحقّ مع الأقل وليس فيه بعد ».

فقال المكتفون بإجماع الأكثر : « صحّ خلافة أبي بكر مع خلاف علي وسعد ابن عبادة وسلمان ».

فأجيب : « ويدفع بأنّ الإجماع بعد رجوعهم إلى بيعته. هذا واضح في أمير المؤمنين علي ».

فلو سلّمنا ما ذكروه من بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فما الجواب عن تخلّف سعد بن عبادة »؟!

أمّا المناوي فلم يتعرّض لهذه المشكلة وتعرّض لها شارح مسلّم الثبوت فقال بعد ما تقدّم : « لكنّ رجوع سعد بن عبادة فيه خفاء ، فإنّه تخلّف ولم يبايع وخرج عن المدينة ، ولم ينصرف إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة أمير المؤمنين عمر ، وقيل : مات سنة إحدى عشرة في خلافة أمير المؤمنين الصدّيق الأكبر. كذا في الاستيعاب وغيره. فالجواب الصحيح عن تخلّفه : أنّ تخلّفه لم يكن عن اجتهاد ، فإنّ أكثر الخزرج قالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، لئلاّ تفوت رئاستهم ولم يبايع سعد لما كان له حبّ السيادة ، وإذا لم

__________________

(١) المستصفى ١/٢٠٣.


٤٠٣


تكن مخالفته عن الاجتهاد فلا يضرّ الإجماع

فإن قلت : فحينئذٍ قد مات هو رضي الله عنه شاقّ عصا المسلمين مفارق الجماعة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلّم : لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهلية. رواه البخاري. والصحابة لا سيّما مثل سعد برآء عن موت الجاهلية.

قلت : هب أنّ مخالفة الإجماع كذلك ، إلاّ أنّ سعداً شهد بدراً على ما في صحيح مسلم ، والبدريّون غير مؤاخذين بذنب ، مثلهم كمثل التائب وإن عظمت المصيبة ، لما أعطاهم الله تعالى من المنزلة الرفيعة برحمته الخاصة بهم. وأيضاً : هو عقبي ممّن بايع في العقبة ، وقد وعدهم رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلّم الجنّة والمغفرة. فإيّاك وسوء الظنّ بهذا الصنيع. فاحفظ الأدب »(١) .

ولو تنزّلنا عن قضية سعد بن عبادة ، فما الجواب عن تخلّف الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام ؟! وهي من الصحابة ، بل بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فإذا كان الصحابة ـ لا سيّما مثل سعد ـ برآء عن موت الجاهلية ، فما ظنّك بالزهراء التي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني »(٢) وقال : « فاطمة بضعة منّي ، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها »(٣) . وقال : « فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ مريم بنت عمران »(٤) هذه الأحاديث التي استدلّ بها الحافظ السهيلي وغيره من الحفّاظ على أنّها أفضل من الشيخين فضلاً عن غيرهما(٥) .

__________________

(١) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ٢/٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) فيض القدير ٤/٤٢١ عن البخاري في المناقب.

(٣) فيض القدير ٤/٤٢١.

(٤) فيض القدير ٤/٤٢١.

(٥) فيض القدير ٤/٤٢١.


٤٠٤


 ... فإنّ من ضروريّات التاريخ أنّ الزهراءعليها‌السلام فارقت الدنيا ولم تبايع أبابكر وأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يأمرها بالمبادرة إلى البيعة ، وهو يعلم أنّه « لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهليّة »!!

أقول :

إذن لا يدلّ هذا الحديث علي شيء ممّا زعموه أو أرادوا له الاستدلال به فما هو واقع الحال؟

سنذكر له وجهاً على سبيل الاحتمال في نهاية المقال

ثمّ إنّ ممّا يبطل هذا الحديث من حيث الدلالة والمعنى وجوهاً اُخر.

ـ ١ ـ

إنّ أبابكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام ، والأفعال ، واتّباع المختلفين متعذّر غير ممكن فمثلاً : أقرّ أبوبكر جواز المتعة ومنعها عمر. وأنّ عمر منع أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ واحداً ولد في العرب فبمن يكون الاقتداء؟!

ثم جاء عثمان فخالف الشيخين في كثير من أقواله وأفعاله وأحكامه وهو عندهم ثالث الخلفاء الراشدين

وكان في الصّحابة من خالف الشيخين أو الثلاثة كلّهم في الأحكام الشرعية والآداب الدينيّة وكلّ ذلك مذكور في مظانّه من الفقه والاُصول ولو كان واقع هذا الحديث كما يقتضيه لفظه لوجب الحكم بضلالة كلّ هؤلاء!!

ـ ٢ ـ

إنّ المعروف من الشيخين الجهل بكثير من المسائل الإسلاميّة ممّا يتعلّق


٤٠٥


بالاُصول والفروع ، وحتّى في معاني بعض الألفاظ العربية في القرآن الكريم فهل يأمر النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بالاقتداء المطلق لمن هذه حاله ويأمر بالرجوع إليه والانقياد له في أوامره نواهيه كلّها؟!

ـ ٣ ـ

إنّ هذا الحديث بهذا اللفظ يقتضي عصمة أبي بكر وعمر والمنع من جواز الخطأ عليهما ، وليس هذا بقول أحدٍ من المسلمين فيهما ، لأنّ إيجاب الاقتداء بمن ليس بمعصوم إيجاب لما لا يؤمن مِن كونه قبيحاً

ـ ٤ ـ

ولو كان هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا حتجّ به أبوبكر نفسه يوم السقيفة ولكن لم نجد في واحدٍ من كتب الحديث والتاريخ أنّه احتجّ به على القوم فلو كان لَنقل واشتهر ، كما نقل خبر السقيفة وما وقع فيها من النزاع والمغالبة

بل لم نجد احتجاجاً له به في وقتٍ من الأوقات.

ـ ٥ ـ

بل وجدناه في السقيفة يخاطب الحاضرين بقوله : « بايعوا أيَّ الرجلين شئتم » يعني : أبا عبيدة وعمر بن الخطّاب(١) .

__________________

(١) اُنظر : صحيح البخاري ـ باب فضل أبي بكر ، مسند أحمد ١/٥٦ ، تاريخ الطبري ٣/٢٠٩ ، السيرة الحلبية ٣/٣٨٦ ، وغيرها.


٤٠٦


ويلتفت إلى أبي عبيدة الجرّاح قائلاً : « اُمدد يدك اُبايعك »(١) .

ـ ٦ ـ

ثمّ لمّا بويع بالخلافة قال :

« أقيلوني ، أقيلوني ، فلست بخيركم »(٢) .

ـ ٧ ـ

ثمّ لمّا حضرته الوفاة قال :

« وددت أنّي سألت رسول الله لمن هذا الأمر ، فلا ينازعه أحد ، وددت أني كنت سألت : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب »(٣) .

ـ ٨ ـ

وجاء عمر يقول :

« كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه »(٤) .

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣/١٢٨ ، مسند أحمد ١/٣٥ ، السيرة الحلبية ٣/٣٨٦.

(٢) الإمامة والسياسة ١/١٤ ، الصواعق المحرفة : ٣٠ ، الرياض النضرة ١/١٧٥ ، كنز العمّال ٣/١٣٢.

(٣) تاريخ الطبري ٣/٤٣١ ، العقد الفريد ٢/٢٥٤ ، الإمامة والسياسة ١/١٨ ، مروج الذهب ٢/٣٠٢.

(٤) صحيح البخاري ٥/٢٠٨ ، الصواعق المحرقة : ٥ ، تاريخ الخلفاء : ٦٧.


٤٠٧


وبعد :

فما هو متن الحديث؟ وما هو مدلوله؟

قد عرفتَ سقوط هذا الحديث معنىً على فرض صدوره

وعلى الفرض المذكور فلا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا وقوع التحريف في لفظه ، وإمّا صدوره في قضيّة خاصّة

أمّا الأوّل فيشهد به : أنّه قد روي هذا الخبر بالنصب ، أي جاء بلفظ « أبابكر وعمر » بدلاً عن « أبي بكر وعمر » وجعل أبوبكر وعمر مناديين مأمورين بالاقتداء(١) .

فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر المسلمين عامةً بقوله « اقتدوا » ـ مع تخصيصٍ لأبي بكر وعمر بالخطاب ـ « باللذين من بعده » وهما « الكتاب والعترة » ، وهما ثقلاه اللذان طالما أمر بالاقتداء والتمسّك والاعتصام بهما(٢) .

وأمّا الثاني فهو ما قيل : من أن سبب هذا الخبر : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان سالكاً بعض الطرق ، وكان أبوبكر وعمر متأخّرين عنه ، جائيين على عقبه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض من سأله عن الطريق الذي سلكه في اتّباعه واللحوق به : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » وعني في سلوك الطريق دون غيره(٣) .

وعلى هذا فليس الحديث على إطلاقه ، بل كانت تحفّه قرائن تخصّه بمورده ، فأسقط الرّاوي القرائن عن عمدٍ أو سهو ، فبدا بظاهره أمراً مطلقاً بالاقتداء بالرجلين وكم لهذه القضية من نظير في الأخبار والأحاديث الفقهية والتفسيريّة

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣/٣٥.

(٢) راجع حديث الثقلين بألفاظه وطرقه ودلالاته في الأجزاء الثلاثة الأولى من « خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار » بقلم علي الحسيني الميلاني.

(٣) تلخيص الشافي ٣/٣٨.


٤٠٨


والتاريخيّة ومن ذلك ما في ذيل « حديث الاقتداء » نفسه في بعض طرقه وهذا ما نتكلّم عليه بإيجاز ليظهر لك أنّ هذا الحديث ـ لو كان صادراً ـ ليس حديثاً واحداً ، بل أحاديث متعدّدة صدر كلّ منها في موردٍ خاصّ لا علاقة له بغيره

تكملة :

لقد جاء في بعض طرق هذا الحديث :

« اقتدوا باللذين

واهتدوا بهدي عمّار.

وتمسكوا بعهد ابن أُمّ عبد : أو : إذا حدّثكم ابن أُمّ عبدٍ فصدّقوه. أو : ما حدّثكم ابن مسعود فصدّقوه ».

فالحديث مشتمل على ثلاث فقرات ، الاُولى تخصّ الشيخين ، والثانية عمّار ابن ياسر ، والثالثة عبدالله بن مسعود.

أمّا الفقرة الاُولى فكانت موضوع بحثنا ، فلذا أشبعنا فيها الكلام سنداً ودلالة وظهر عدم جواز الاستدلال بها والأخذ بظاهر لفظها ، وأنّ من المحتمل قويّاً وقوع التحريف في لفظها أو لدى النقل لها بإسقاط القرائن الحافّة بها الموجب لخروج الكلام من التقييد إلى الإطلاق ، فإنّه نوع من أنواع التحريف ، بل من أقبحها وأشنعها كما هو معلوم لدى أهل العلم.

وأمّا الفقرتان الاُخريان فلا نتعرّض لهما إلاّ من ناحية المدلول والمفاد لئلا يطول بنا المقام وإن ذكرا في فضائل الرجلين ، وربّما استدلّ بهما بعضهم في مقابلة بعض فضائل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فنقول :

قوله : « اهتدوا بهدي عمار » معناه : « سيروا بسيرته واسترشدوا بإرشاده ».

فكيف كانت سيرة عمار؟ وما كان إرشاده؟

وهل سار القوم بسيرته واسترشدوا بإرشاده؟!!


٤٠٩


هذه كتب السير والتواريخ بين يديك!!

وهذه نقاط من « سيرته » و « إرشاده » :

تخلّف عن بيعة أبي بكر(١) وقال لعبد الرحمن بن عوف ـ حينما قال للناس في قصة الشورى : أشيروا عليَّ ـ « إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً »(٢) .

وقال : بعد أن بويع عثمان ـ : « يا معشر قريش ، أمّا إذ صدفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم هاهنا مرّةً هاهنا مرّةً ، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله »(٣) وكان مع عليعليه‌السلام منذ اليوم الأول حتى استشهد معه بصفّين وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عمار تقتله الفئة الباغية »(٤) و« من عادى عمّاراً عاداه الله »(٥) .

ثم لماذا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاهتداء بهدي عمّار والسير على سيرته؟ لأنّه قال له من قبل : « يا عمّار ، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس كلّهم وادياً غيره فاسلك مع علي ، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى يا عمار : إنّ طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله عزّ وجلّ(٦) .

وقوله : « وتمسّكوا بعهد ابن أُمّ عبد » أو « إذا حدّثكم ابن أُمّ عبد فصدّقوه » ما معناه؟

إن كان « الحديث » فهل يصدّق في كلّ ما حدّث؟

هذا لا يقول به أحد وقد وجدناهم على خلافه فقد منعوه من

__________________

(١) المختصر في أخبار البشر ١/١٥٦ ، تتمّة المختصر ١/١٨٧.

(٢) تاريخ الطبري ٣/٢٩٧ ، الكامل ٣/٣٧ ، العقد الفريد ٢/١٨٢.

(٣) مروج الذهب ٢/٣٤٢.

(٤) المسند ٢/١٦٤ ، تاريخ الطبري ٤/٢ و ٤/٢٨ ، طبقات ابن سعد ٣/٢٥٣ ، الخصائص : ١٣٣ ، المستدرك ٣/٣٧٨ ، عمدة القاري ٢٤/١٩٩٢ ، كنز العمّال ١٦/١٤٣.

(٥) الاستيعاب ٣/١١٣٨ ، الإصابة ٢/٥٠٦ ، كنز العمال ١٣/٢٩٨ ، إنسان العيون ٢/٢٦٥.

(٦) تاريخ بغداد ١٣/١٨٦ ، كنز العمّال ١٢/٢١٢ ، فرائد السمطين ١/١٧٨ ، المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٥٧ و ١٢٤.


٤١٠


الحديث ، بل كذّبوه ، بل ضربوه فراجع ما رووه ونقلوه(١) .

وإنْ كان « العهد » فأيّ عهدٍ هذا؟

لابدّ أنْ يكون إشارةً إلى أمر خاصّ صدر في موردٍ خاصّ لم تنقله الرواة

لقد رووا في حقّ ابن مسعود حديثاً آخر ـ جعلوه من فضائله ـ بلفظ : « رضيت لكم ما رضي به ابن اُمّ عبد »(٢) ولكن ما هو؟

لابدّ أنْ يكون صادراً في موردٍ خاصّ بالنسبة إلى أمرٍ خاصّ لم ننقله الرواة

إنّه ـ فيما رواه الحاكم ـ كما يلي :

« قال النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لعبد الله بن مسعود : إقرأ.

قال : اقرأ وعليك اُنزل؟!

قال : إنّي اُحبّ أن أسمع من غيري.

قال : فافتتح سورة النساء حتى بلغ :( فكيف إذا جئنا من كلّ امّةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) فاستعبر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، وكفّ عبدالله.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : تكلّم.

فحمد الله في أول كلامه وأثنى على الله وصلّى على النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وشهد شهادة الحقّ. وقال :

رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً ، ورضيت لكم ما رضي الله ورسوله.

فقال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : رضيت لكم ما رضي لكم ابن أُمّ عبد.

__________________

(١) مسند الدارمي ١/٦١ ، طبقات ابن سعد ٢/٣٣٦ ، تذكرة الحفّاظ ١/٥ ـ ٨ ، المعارف : ١٩٤ ، الرياض النضرة ٢/١٦٣ ، تاريخ الخلفاء ١٥٨ ، اُسد الغابة ٣/٢٥٩.

(٢) هكذا رووه في كتب الحديث انُظر : فيض القدير ٤/٣٣.


٤١١


هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه »(١) .

فانظر كيف تلاعبوا بأقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصرّفوا في السُنّة الشريفة فضلّوا وأضلّوا ...!!

ونعود فنقول : إنّ السنّة الكريمة بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تحقيق وتمحيص ، لا سيّما في القضايا التي لها صلة وثيقة بأساس الدين الحنيف ، تبنى عليها أُصول العقائد ، وتتفرّع منها الأحكام الشرعيّة.

والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق الحقّ وقبول ما هو به جدير ، إنّه سميع مجيب وهو على كلّ شيء قدير.

* * *

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣/٣١٩.


٤١٢


رسالة

في المتعتين


٤١٣



٤١٤


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

وبعد فإنّ البحث عن المتعتين قديم جدّاً ، وكتابات السلف والخلف عنهما من النواحي المختلفة كثيرة جدّاً أيضاً ، وهذه رسالة وجيزة كتبتها بمناسبة أحاديث رووها في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي حرّم متعة النساء ، وعمدتها ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام منها أنّه قال لابن عبّاس ـ وقد بلغه يقول أنّه بالمتعة ، واللفظ لمسلم ـ : « إنّك رجلّ تائه ، نهانا رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر ، وهي. أحاديث موضوعة مختلفة ، يعترف بذلك كلّ من ينظر في أسانيدها ومداليلها وينصف ، والله هو الموفّق.

تمهيد :

لا خلاف بين المسلمين في نزول القرآن المبين بالمتعتين

أمّا متعة الحجّ ، فقد قال عزّ وجلّ :

( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري


٤١٥


المسجد الحرام ) (١) .

وأمّا متعة النساء ، فقد قال عزّ وجلّ :( فما استمتعتم به منهنَّ فآتوهنّ أُجورهنّ فريضة ) (٢) .

وكان على ذلك عمل المسلمين

حتّى قال عمر بعد شطرٍ من خلافته :

« متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ».

فوقع الخلاف

وحار التابعون له ، الجاعلون قوله أصلاً من الأُصول ، كيف يوجِّهونه وهو صريح في : قال الله وأقول ...؟!

متعة الحجّ :

ومتعة الحجّ : أن ينشئ الإنسان بالمتعة إحرامه في أشهر الحجّ من الميقات ، فيأتي مكّة ، ويطوف بالبيت ، ثمّ يسعى ، ثمّ يقصرّ ، ويحلّ من إحرامه ، حتّى ينشئ في نفس تلك السفرة إحراماً آخر للحجّ من مكّة ، والأفضل من المسجد الحرام ، ويخرج إلى عرفات ، ثمّ المشعر إلى آخر أعمال الحج

فيكون متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ.

وإنّما سمّي بهذا الاسم لما فيه من المتعة ، أي اللذّة بإجابة محظورات الإحرام ، في تلك المدّة المتخلّلة بين الإحرامين

وهذا ما حرّمه عمر وتبعه عليه عثمان ومعاوية وغيرهما

موقف علي وكبار الصحابة من تحريمها :

وكان في المقابل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الحافظ للشريعة المطهّرة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٩٦.

(٢) سورة النساء ٤ : ٢٤.


٤١٦


والذابّ عن السُنّة المكرّمة.

أخرج أحمد ومسلم عن شقيق قال ـ واللفظ للأوّل ـ : « كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان عليّ يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ : إنّك كذا وكذا. ثمّ قال(١) علي : لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول الله عليه [ وآله ] وسلّم؟ فقال : أجل »(٢) .

وعن سعيد بن المسيّب ، قال : « اجتمع عليٌّ وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة والعمرة. فقال له عليٌّ : ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم تنهى عنه؟! فقال عثمان : دعنا عنك! فقال عليٌّ : إنّي لا أستطيع أن أدعك »(٣) .

وعن مروان بن الحكم ، قال : « شهدت عثمان وعليّاً ، وعثمان ينهى عن المتعة وأنْ يجمع بينهما. فلمّا رأى عليٌّ ذلك أهلّ بهما : لبيّك بعمرةٍ وحجّةٍ معاً ، قال : ما كنت لأدع سُنّة النبّي لقول أحد »(٤) .

وعلى ذلك كان أعلام الصحابة

*كابن عبّاس فقد أخرج أحمد أنّه قال : « تمتّع النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، فقال عروة بن الزبير : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عبّاس : ما يقول عُرَيّة(٥) !! قال : يقول : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة.

فقال : ابن عبّاس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي ؛ ويقولون : نهى أبوبكر وعمر! »(٦) .

__________________

(١) لقد أبهم الرواة ما قاله خليفتهم عثمان لعليّعليه‌السلام ، كما أبهموا جواب الإمامعليه‌السلام على كلمات عثمان وفي بعض المصادر : « فقال عثمان لعلّي كلمة ».

(٢) مسند أحمد ١/٩٧.

(٣) مسند أحمد ١/١٣٦. ورواه البخاري ومسلم في باب التمتّع.

(٤) مسند أحمد ١/٩٥. ورواه البخاري أيضاً وجماعة.

(٥) تصغير « عروة » تحقيراً له.

(٦) مسند أحمد ١/٣٣٧.


٤١٧


*وسعد بن أبي وقّاص فقد أخرج الترمذي : « عن محمد بن عبدالله ابن الحارث بن نوفل أنّه سمع سعد بن أبي وقاص الضحّاك بن قيس ـ وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ـ فقال الضحّاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد : بئسما قلت يا ابن أخي. فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى ذلك. فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وصنعناها معه.

هذا حديث صحيح »(١) .

*وأبي موسى الأشعري فقد أخرج أحمد : « أنّه كان يفتى بالمتعة فقال له رجل : رويدك ببعض فُتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك! حتى لقيه أبو موسى بعدُ فسأله عن ذلك ، فقال عمر ، قد علمت أنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد فعله هو وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهنّ معرّسين في الأراك ، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم »(٢) .

*وجابر بن عبدالله ...فقد أخرج مسلم وغيره عن أبي نضرة ، قال : « كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها. قال فذكرت ذلك لجابر ابن عبدالله. فقال : على يدي دار الحديث. تمتّعنا مع رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فلمّا قام عمر(٣) قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله ، فافصلوا حجّكم من عمرتكم ، وأبتوا(٤) نكاح هذه النساء فلنْ أوتى برجلٍ نكح امرأةً إلى أجلٍ إلاّ رجمته بالحجارة »(٥) .

__________________

(١) صحيح الترمذي ٤/٣٨.

(٢) مسند أحمد ١/٥٠.

(٣) أي بأمر الخلافة.

(٤) أي : اقطعوا ، اتركوا.

(٥) صحيح مسلم ، باب جواز التمتع.


٤١٨


*وعبدالله بن عمر فقد أخرج الترمذي : « أنّ عبدالله بن عمر سئل عن متعة الحجّ. فقال : هي حلال. فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها. فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أمر أبي نتّبع أم أمر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم؟‍ فقال الرجل : بل أمر رسول الله. قال : فقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم »(١) .

*وعمران بن حصين (٢) ـ وكان شديد الإنكار لذلك حتّى في مرض موته ـ فقد أخرج مسلم : « عن مطرف قال : بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه فقال : إنّي محدّثك بأحاديث ، لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي. فإن عشت فاكتم علي(٣) وإنْ متّ فحدّث بها إنْ شئت. إنّه قد سُلّم عليَّ. واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد جمع بين حجّ وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبيّ الله. فقال رجل برأيه فيها ما شاء »(٤) .

قال النووي بشرح أخبار إنكاره : « وهذه الروايات كلّها متّفقة على أنّ مراد عمران أنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ جائز ، وكذلك القِران ، وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطّاب منع التمتّع ».

دفاع ابن تيميّة ثمّ إقراره بالخطأ :

وذكر شيخ إسلامهم ابن تيميّة في الدفاع عن عمر وجوهاً ، كقوله : « إنّما

__________________

(١) صحيح الترمذي ٤/٣٨.

(٢) ذكر كلّ من ابن عبدالبرّ في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أنّه كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم ، بل نصّ ابن القيّم في زاد المعاد على كونه أعظم من عثمان ، وذكروا أنّه كان يرى الملائكة وتسلّم عليه وهو ما أشار إليه في الحديث بقوله : « قد سُلِّم عليَّ » توفّي سنة ٥٢ بالبصرة.

(٣) لاحظ إلى أين بلغت التقيّة!!

(٤) صحيح مسلم باب جواز التمتّع. وفي الباب من صحيح البخاري وسنن ابن ماجة ، وهو عند


٤١٩


كان مراد عمر أن يأمر بما هو أفضل » واستشهد له بما رواه عن ابنه من أنّه « كان عبدالله بن عمر يأمر بالمتعة ، فيقولون له : إنّ أباك نهى عنها. فيقول : إنّ أبي لم يرد ما تقولون » وحاصل كلامه ما صرّح به في آخره حيث قال : « فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار ، لا على وجه التحريم ، وهو لم يقل : « أنا أُحرّمهما ».

قلت : أمّا أنّ مراده كان الأمر بما هو أفضل ، فتأويل باطل ، وأمّا ما حكاه عن ابن عمر فتحريف لِما ثبت عنه في الكتب المعتبرة ، وقال ابن كثير : « كان ابنه عبدالله يخالفه فيقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها! فيقول : خشيت أنْ يقع عليكم حجارة من السماء! قد فعل رسول الله ، أفسُنّة رسول الله نتّبع أم سُنّة عمر بن الخطّاب؟! »(١) .

والعمدة إنكاره قول عمر : « وأنا اُحرمّهما ». وسنذكر جمعاً ممّن رواه!

هذا ، وكأنّ ابن تيميّة يعلم بأن لا فائدة فيما تكلّفه في توجيه تحريم عمر والدفاع عنه ، فاضطرّ إلى أن يقول :

« أهل السُنّة متّفقون على أنّ كلّ واحدٍ من الناس يؤخذ بقوله ويترك إلاّ رسول الله ، وإنّ عمر أخطأ ، فهم لا ينزّهون عن الإقرار على الخطأ إلاّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم »(٢) .

لكنّه ليس « خطأ » من عمر ، بل هو « إحداث » كما جاء في الحديث المتقدّم عن أبي موسى الأشعري وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! »(٣) .

__________________

أحمد في المسند ٤/٤٣٤.

(١) تاريخ ابن كثير ٥/١٤١.

(٢) منهاج السنّة ٢/١٥٤.

(٣) أخرجه البخاري وغيره في باب الحوض.


٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527