أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت15%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342720 / تحميل: 12229
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد توفي والتدوين مباح للجميع، وامر عبد اللّه بن العاص ان يكتب عنه في حالتي الرضا والغضب، كما يدعون، انه دون صحيفته المسماة بالصادقة من اقواله وافعاله مباشرة(١) ومن البعيد ان تخفى هذه النصوص على الخليفة، واذا افترضنا بانه كان على علم بها، فلماذا منع من التدوين في حين انه لم يرد عن الخليفة الاول ما يشير الى انه نهى عن ذلك.

وجاء في بعض المصادر التي تعرضت لهذا الموضوع انه منعهم عن تدوين الاحاديث حرصاً على كتاب الله، وانه احرق كتبا ً كانت لبعض الصحابة لهذه الغاية.

فقد روى عنه عروة بن الزبير، انه اراد ان يكتب السنن، فاستفتى اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاشاروا عليه ان يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: اني كنت اريد ان اكتب السنن، واني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله، واني لا اشوب كتاب الله بشيء.

وجاء عنه انه لما حدث ابي بن كعب عن بيت المقدس واخباره انتهره عمر بن الخطاب، وهم بضربه، فاستشهد ابي بجماعة من الانصار ولما شهدوا بانهم سمعوا الحديث من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تركه، فقال له ابي بن كعب: اتتهمني على حديث رسول الله، فقال يا ابا المنذر: والله ما اتهمتك، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً الى غير

____________________

(١)لقد تحدثنا عن هذه الصحيفة المزعومة مفصلاً في كتابنا تاريخ الفقه الجعفري، واثبتنا بالارقام انها ليست من احاديث الرسول، بل هي من الكتب التي استولى عليها المسلمون في معركة اليرموك، وكان هو يحدث عن تلك الكتب وينسبها الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد جمع فيها طائفة من الاحاديث وادعى بانه اخذها من الرسول.

٢١

ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أن الخليفة لم يعتمد على الرسول في منعه عن التدوين، وانه قد تفرد بهذا التصرف حرصاً على كتاب الله ، ولكن الرواية التي تنص على انه قد انتهر ابي بن كعب لما حدث عن بيت المقدس، وقوله فيها: اني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً، هذه الرواية تدل على انه كان حريصاً على ان لا ينتشر الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع العلم بان حديث الرسول مكمل للتشريع، ومبين لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته، وقد تكفل لكثير من النواحي الاخلاقية والاجتماعية والتربوية، ولو تقصينا الاسباب التي يمكن افتراضها لتلك الرغبة الملحة في بقاء السنة في طي الكتمان لم نجد سبباً يخوله هذا التصرف، ولا نستبعد انه كان يتخوف من اشتهار احاديث الرسول في فضل علي وابنائه (ع).

ويؤكد ذلك ما رواه عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه، ان علقمة جاء بكتب من اليمن او مكة تحتوي على طائفة من الاحاديث في فضل اهل البيت (ع)، فاستأذنا على عبد الله بن مسعود فدخلنا عليه ودفعنا اليه الكتب، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطشت فيه ماء، فقلنا له: يا ابا عبد الله انظر فيها فان فيها احاديث حساناً، فلم يلتفت، وجعل يمثها في الماء ويقول: نحن نقصّ عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن، القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن، وعبد الله بن مسعود كان منحرفاً عن علي (ع) ويساير المنحرفين عنه، كما تؤكد ذلك النصوص التاريخية.

ولو افترضنا ان الخليفة كان حسن النية في هذا الامر، وانه لم يمنع الا بدافع الحرص على كتاب الله، فقد كان من نتائجه، ان اتسع المجال للكذابين والمنحرفين عن المخطط الاسلامي، والمرتزقة ان يضعوا من الاحاديث ما توحيه اليهم الاهواء والمطامع، بالاضافة الى ما ضاع منها

٢٢

بسبب الحروب والغزوات، التي فتكت بالصحابة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

على ان الذين يحاولون ان يعتذروا عنه، ويقرون المرويات التي تنص على انه خاف ان يختلط الحديث بالقرآن، هؤلاء يسيئون اليه من حيث لا يقصدون، لانه لم يكن قصير النظر ولا محدود التفكير ولا جاهلاً باساليب البيان وبلاغة القول، ويعلم جيداً ان القرآن قد استولى على النفوس وتحكم بمشاعرهم واحاسيسهم، وكان له الاثر البالغ في سير الدعوة وانتشارها، هذا بالاضافة الى وجود الفوارق الكثيرة بين الاسلوبين التي لا تخفى على احد منهم.

ومع التغاضي عن جميع ذلك، فقد كان بالامكان لو كانت النوايا طيبة التفرغ الى جمع الحديث وتدوينه بعد تدوين القرآن الكريم والتثبت من احصائه في مجموعة واحدة بواسطة لجنة مختارة من الامناء المعروفين بالوثاقة والاستقامة، ولو فعلوا ذلك لقطعوا الطريق على كل افاك اثيم، وعلى المرتزقة الذين شوهوا معالم السنة وطمسوا من اضوائها النيرة والصقوا فيها من الموضوعات التي جرت على المسلمين اسوأ انواع البلاء وفرقتهم شيعاً واحزاباً.

ومهما كانت الاسباب التي فرضت على الخليفة ان يقف من السنة هذا الموقف، فالنصوص التاريخية تؤكد بانه لم يكن موفقاً فيه ولم ينجح كل النجاح في هذا التدبير، فقد ظهرت بعض المدونات الاسلامية في فترات متعاقبة من عصر الصحابة وبعده للشيعة وغيرهم، ومن ذلك الجامعة التي الفها علي (ع) وقد تناول فيها جميع ابواب الفقه، واليها كان يرجع الائمة (ع) في احكامهم واقضيتهم في كثير من المناسبات، كما دون عبد الله بن العباس في الفقه والتفسير وغير ذلك من العلوم، وجاء

٢٣

في بعض المرويات انه ترك حمل بعير من مدوناته، وكان يحمل قسماً منها الى مجالسة وحلقات التدريس، وكتب سعيد بن جبير احد تلاميذه كل ما املاه عليه. ومجمل القول ان حركة التدوين بدأت تتسع في الشطر الاخير من عصر الصحابة ولكنها لم تنتشر بين المسلمين الا في اوائل القرن الثاني حينما امر عمر بن عبد العزيز ابا بكر محمد بن حزم بجمع الحديث وتدوينه، وجاء في المذكرة التي وجهها اليه. انظر ما كان من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله او سنة ماضية فاكتبه فاني خفت دروس العلم وضياعه، واكد عليه كما تنص بعض المرويات ان يدون ما روته عمرة بنت عبد الرحمن الانصارية والقاسم بن محمد بن ابي بكر(١) فهب الناس الى التدوين واحسوا بخطر الركود الذي مر عليه في القرن الاول واصبح من الضرورات الملحة بنظر الجميع، لا سيما وقد ندب اليه عمر بن عبد العزيز المعروف بالاعتدال والحرص على الآثار الاسلامية ولكن التدوين الذي كان يومذاك لم يكن مرتباً على ابواب الفقه وفصوله ولم يقتصر الكتاب على موضوع واحد، بل كان المؤلف يحشد في كتابه من جميع المواضيع والاصناف، بما في ذلك التفسير واللغة والادب ونحو ذلك من المواضيع اما التدوين المرتب على الابواب الفقهية فلم يكن قبل اواخر النصف الاول من القرن الثاني، ويدل على ذلك ما اورده الحافظ الذهبي في حوادث ص ١٤٣ قال: وفي هذا العصر شرع علماء الاسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك من المواضيع، فصنف ابن جريح المتوفى ١٥٠ تصانيفه الكثيرة في مكة، وصنف ابن أبي عروبة المكنى بابي النظر العدوي، وفي خلال ذلك صنف ابو حنيفة في الفقه والرأي، كما صنف حماد بن سلمة وسفيان الثوري والاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وغيرهم في فرات متعاقبة تتراوح بين سنة ١٥٠ و ١٧٥ عشرات الكتب

____________________

(١)انظر تاريخ الفقه الجعفري ص ١٧٦ والاضواء ص ٢٢٤

٢٤

في مختلف المواضيع واذا لاحظنا ما انتجته مدرسة الامامين الباقر والصادق (ع) في هذه الفترة من القرن الثاني تقريباً من المدونات التي بلغت ستة آلاف كما احصاها اكثر المؤلفين في هذا الموضوع من الشيعة واشرنا الى مصادرها في كتابنا ( المبادئ العامة في الفقه الجعفري) اذا لاحظنا ذلك ندرك اهمية هذا الدور من ناحية اتساع حركة التأليف وتدوين الآثار الاسلامية وغيرها من آثار الفرس واليونان في مختلف المواضيع، وقد احصى المؤلفون في احوال الرجال والتراجم عدداً كبيراً لجماعة من اصحاب الائمة كصفوان بن يحيى، وشعيب بن اعين الحداد، وهشام بن الحكم، واسماعيل بن موسى بن جعفر (ع) وعبد الله بن المغيرة البجلي الكوفي، وعبد الله بن سنان مولى بني هاشم، ومحمد بن عمير ويونس بن عبد الرحمن، واحمد بن محمد بن عيسى الاشعري، والفضل بن شاذان النيسابوري الى غير ذلك ممن تترواح مؤلفاتهم بين العشرين والثلاثين كتاباً.

وجاء عن محمد بن مسعود العياشي انه انفق على تدوين العلم ثلاثمائمة الف دينار، وان داره كانت تعج بالناس، وهم بين ناسخ وقارئ ومقارن ولو كتب البقاء لمؤلفات الشيعة في القرنين الثاني والثالث، لكانت دور الكتب اغنى ما تكون بالآثار الشيعية، ولكن الظروف التي احاطت بهم، والحروب الدامية التي كانت في الغالب تستهدف دمائهم وآثارهم كل ذلك قد ساهم في تبديد تلك الثورة الغنية بالكنوز والنفائس، وليس ادل على ذلك من اقدام الحكام والغزاة، وبخاصة الايوبيين منهم على حرق المكتبات الشيعية مباشرة. كمكتبة الطوسي، والوزير (نصر سابور بن اردشير) وزير بهاء الدولة، ومكتبة الازهر التي اسسها الفاطميون في مصر وحشدوا فيها مئات الالوف من المجلدات في مختلف المواضيع وبقيت اكثر من قرنين من الزمن منهلاً كريماً لرواد العلم من

٢٥

مختلف الاقطار الى ان جاء عهد الايوبيين الذي استهدف الشيعة وآثارهم اكثر من أي شيء آخر ذلك العهد الذي مثل فيه صلاح الدين وابناؤه الجريمة باقبح صورها واشكالها الى غير ذلك من دور الكتب التي كانت اكثر محتوياتها من كتب الشيعة وآثارهم.

ومهما كان الحال فلم يطرأ على التدوين تطور قبل نهاية القرن الثاني، وبنهايته شرع فريق من العلماء بتطويره فافردوا احاديث الرسول عن آراء الصحابة وأقضيتهم، ووزعوا الاحاديث على ابواب الفقه وفصوله حسب المناسبات ومضى العلماء على ذلك، فألف احمد بن حنبل جامعه، واسحاق بن راهويه وغيرهما عشرات الكتب وظلت حركة التدوين تتسع الى ان دخلت طوراً جديداً، هو طور الاختيار والتنقيح، وكان اول من اتجه الى هذه الناحية من السنة محمد بن اسماعيل البخاريرحمه‌الله .

قال الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري، ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت الصحيح وغيره والكثير منها يشمله التضعيف، حرك همته لجمع الحديث الصحيح، فألف كتابه المعروف بصحيح البخاري، كما الف كل من مسلم، وابو داود سليمان بن الاشعت السجستاني، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، ومحمد بن يزيد كتبهم الستة المعروفة بين اعلام السنة بالصحاح خلال القرنين الثالث واوائل القرن الرابع، وكان لمحمد بن اسماعيل البخاري الفضل الاكبر في هذا الاتجاه من التأليف، لانه اول من حرك همته لتحري الاحاديث الصحيحة ودونها في صحيحه سنة ٢٥٠ تقريباً، وآخرهم النسائي احمد بن شعيب المتوفى سنة ٣٠٣ شهيداً في مكة كما في رواية الذهبي وغيره.

وجاء في سبب وفاته. انه خرج من مصر وافداً على دمشق فاجتمع

٢٦

عليه المحدثون والقراء وغيرهم، وفي بعض مجالسه سأله بعضهم، ايهما افضل علي ام معاوية؟ فقال على الفور: اما رضي معاوية ان يخرج رأساً برأس حتى يفضل، وجاء عنه انه قال: والله لا اعرف له فضيلة الا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله له: (لا اشبع الله بطنك) فداسوه بارجلهم واخرجوه من الشام مضروراً، فتوجه نحو مكة المكرمة وتوفي بها متأثراً بما اصابه، وجاء في ترجمته انه قال: دخلت الشام، والمنحرف عن علي (ع) بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت بذلك ان يهديهم الله(١) .

وفي هذا الدور الذي ظهر فيه اصحاب الصحاح ودونوا صحاحهم، نجد بين المؤلفين من الشيعة من هو اكثر انتاجاً واحسن تنظيماً من غيرهم، كما تؤكد ذلك كتب الرجال والحديث التي تعرضت لمؤلفات الشيعة في الفترة الواقعة بين عصر البخاري والنسائي، وبخاصة المؤلفات الفقهية الموزعة على ابواب الفقه وفصوله، واشتهر من بينهم القميون بتصلبهم وتشددهم على كل متهم بالانحراف عن العقيدة، كمحمد بن عيسى بن عبد الله الاشعري شيخ القميين في القرن الثالث على حد تعبير علماء الرجال ومحمد بن احمد بن ابي قولويه، ومحمد بن اسماعيل بن بشير البرمكي، ومحمد بن خالد الاشعري القمي، ومحمد بن علي بن محبوب احد الشيوخ الاجلاء في قم، وصاحب المؤلفات الكثيرة في مختلف المواضيع وقد احصى له النجاشي والمامقاني في تنقيح المقال نحواً من ثلاثين مؤلفاً وفي كتابه الجامع تعرض لجميع ابواب الفقه من الطهارة الى الديات والحدود، ومن هذه الطبقة محمد بن الحسن بن فروخ الصفار المعروف بالوثاقة وحسن السيرة وسلامة العقيدة، والمعاصر للامامين الهادي والعسكري (ع)، كما عاصر البخاري وغيره من اصحاب الصحاح، الى غير ذلك من العشرات الذين اتجهوا الى تصفية الحديث وتصنيفه على

____________________

(١)انظر شذرات الذهب لابن العماد ج ٢ ص ٢٤٠

٢٧

ابواب الفقه وفصوله، وقد احصى النجاشي لبعضهم اكثر من تسعين كتاباً.

وجاء في الفهرست لابن النديم: ان الفضل بن شاذان النيسابوري ترك نحواً من ١٨٠ كتاباً من مؤلفاته في مختلف المواضيع، وبلغ الحال بالقميين وغيرهم انهم كانوا يخرجون من قم كل متهم بالغلو والانحراف عن التشيع السليم ويرفضون مروياتهم مهما كان نوعها. وبالتالي فقد اتجهوا الى التأليف في احوال الرواة، ووضعوا اصول علم الرجال والدراية حتى لا تختلط مرويات المنحرفين والمتهمين بمرويات الموثوقين من الشيعة المعتدلين في تشيعهم وعقائدهم، ومن هؤلاء علي بن الحسين بن علي بن فضال. فقد جاء في الفهرست للشيخ الطوسي. انه ممن يعتمد على قوله في الرجال، ويستند اليه في الجرح والتعديل، واكد هذه الحقيقة في منتهى المقال، واستنتج بعضهم انه من المؤلفين في الرجال.

ومنهم الفضل بن شاذان، فقد نص جماعة ان له كتباً في الرجال واحوال الرواة، ومنهم محمد بن احمد بن داود بن علي شيخ القميين في زمانه كما نص على ذلك النجاشي، والعلامة في الخلاصة.

وجاء في الفهرست، انه الف كتاباً في الممدوحين، والمذمومين في رجال الحديث.

ومنهم محمد بن الحسن ابو عبد الله المحاربي، قال النجاشي، والعلامة في الخلاصة. انه كان خبيراً باحوال الرواة والف في هذا الموضوع كتاباً عرض فيه احوالهم ومراحل حياتهم.

ومنهم نصر بن الصباح المكني بابى قاسم من اهالي بلخ فقد الف كتاباً في احوال الرواة والناقلين للحديث كما الف في العقائد وغيرها.

٢٨

ومنهم محمد بن خالد البرقي ومحمد بن مسعود السمرقندي المعروف بالعياشي وغيرهم ممن نص اصحاب الفهارس على انهم قد الفوا في احوال الرجال ووضعوا اصول علم الدراية في القرن الثالث واوائل القرن الرابع، وقد اكد ذلك الشيخ الطوسي في العدة، وجاء فيها ان الطائفة ميزت الرجال الناقلين لهذه الاخبار فوثقوا الثقات منهم، وضعفوا الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد عليه، ومدحوا الممدوحين، وذموا المذمومين، وقالوا فلان متهم في حديثه، التي وصفوا وفلان كذاب، وفلان مخلط ومخالف في المذهب والاعتقاد الى غير ذلك من الطعون التي وصفوا بها الرواة والمحدثين، واضاف الى ذلك انهم صنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى ان واحداً منهم اذا انكر حديثاً نظر في اسناده وضعفه بروايته واصبحت هذه الطريقة عادة لهم لا تنخرم ولولا ان العمل بما يسلم من الطعون جائز، لا يكون فائدة لما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق(١) هؤلاء وغيرهم من المؤلفين في الحديث واحوال الرجال وشروط الرواية واقسامها الذين بذلوا كل ما لديهم من الامكانيات لتصفية الحديث من الموضوعات ومن المشتبهات هؤلاء وضعوا الاساس للمتأخرين، وكانوا الركيزة التي اعتمدها المحمدون الثلاثة، محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن بابويه الصدوق، ومحمد بن الحسن الطوسي في اختيار مجاميعهم الاربعة(٢) تلك المؤلفات التي اعتمد مؤلفوها على كتب القميين وغيرهم من اصحاب الائمة وتلاميذهم كالاصول الاربعة التي كانت بمجموعها محلاً لثقة الرواة والمحدثين، من حيث معرفتهم بمؤلفيها ووثوقهم بصحة ما فيها من المرويات، هذا بالاضافة

____________________

(١)ص ٥٣ من العدة.

(٢)الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي.

٢٩

الى القرائن الاُخرى التي اعتمد عليها المحمدون الثلاثة بالنسبة لبعض المرويات، وان لم تكن من حيث اسانيدها مستوفية لشروط العمل بالرواية، ومن جملتها مطابقة مضمون الرواية للنص القرآني، او للسنة الصحيحة، او لما اجمعت الطائفة عليه، او لموافقته لحكم العقل، او لغير ذلك من القرائن التي تؤكد مضمون الخبر وان رواه من لا يصح الاعتماد على مروياته(١) .

ومجمل القول ان المحدثين من الشيعة نشطوا في تصفية الحديث من الموضوعات ومن مرويات المنحرفين في عقائدهم والمندسين بين صفوف الشيعة ووضعوا النواة الاولى لعلمي الرجال والدراية والفوا فيهما، قبل ان يقوم البخاري ورفاقه من اصحاب الصحاح بمهمة تصفية الحديث وتصنيفه، واصبح علم الرجال والدراية من العلوم التي يتوقف عليها استنباط الاحكام من الادلة، لان الحديث هو المصدر الثاني للاحكام بعد كتاب الله، ولولاه لم يتم التشريع ولميبلغ تلك المرتبة العالية من الاحاطة والشمول التي تناولت جميع المواضيع ووضعت الحلول لجميع مشاكل الحياة على اختلاف تطورها ومراحلها.

____________________

(١)العدة للشيخ الطوسي ص ٥٣ .الفصل الثاني : في أصناف الحديث

٣٠

٣١

٣٢

الفصل الثاني: في أصناف الحديث

لقد قسم الباحثون في الحديث واحوال الرواة الخبر الى قسمين متواتر وآحاد، وتحدثوا عنهما من حيث معناهما، واقسامهما وشرائط الاعتماد عليهما باسهاب في مؤلفاتهم الموضوعة لهذه الغاية، واختلفت آراؤهم في كثير من النظريات والافكار المتعلقة بهذه المواضيع كما هو الحال في جميع المباحث التي يدخلها عنصر الاجتهاد، ومما لا شك فيه ان تحديد التواتر وشروطه، واخبار الآحاد واصنافها، وما يتعلق بذلك من المواضيع التي تتصل بعلمي الرجال والدراية مباشرة، هذه المواضيع وما يتعلق بها تتسع لاختلاف الانظار وتضارب الآراء ولذلك لا يصح ان ننسب رأياً الى الشيعة او السنة في هذه المواضيع وغيرها من المواضيع الاجتهادية الا اذا اتفق الاكثر عليه، او كان معبراً عن رأي الاغلبية منهم، اما نسبته الى احد الفريقين الشيعة او السنة لمجرد وجوده في كتاب، او لمجرد كونه يعبر عن رأي بعض الافراد، او الجماعات، فهو من الاغلاط التي وقع فيها اكثر المؤلفين.

وعلى جميع الاحوال فالتواتر هو عبارة عن اخبار جماعة كثيرة يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب، ولو انضمت بعض القرائن الى المخبرين

٣٣

بحيث كان حصول العلم مستنداً الى المجموع لا يمنع ذلك من حجية التواتر.

ولو اخبر جماعة بشيء، ولكنهم لم يبلغوا الحد الموجب للعلم لا يصدق التواتر بالمعنى المصطلح عليه بينهم، كما وان العلم لو لم يستند الى الكثرة بان حصل العلم به من الخارج، او حصل العلم من اخبار ثلاثة او اربعة معروفين بالصدق والامانة، او كان خبر الكثيرين موافقاً لدليل مقطوع به ومعمول بمقتضاه كل ذلك ليس من التواتر المقابل للآحاد.

بل لا بد وان يكون العلم مستفاداً من اخبار جماعة يستحيل عليهم بحسب العادة ان يتفقوا على الكذب وكما ذكرنا لا يمنع من حصول التواتر وجود بعض القرائن المؤيدة لاخبارهم حتى ولو كان العلم الحاصل منه مستنداً الى الجميع.

وقال الشيخ الطوسي في تحديد معنى التواتر: ان الخبر اذا لم يكن من باب ما يجب وقوع العلم عند حصوله، واشتراك العقلاء، وجاز وقوع الشبهة به، هو ان يراد به جماعة قد بلغت من الكثرة حداً لا يصح معه ان يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد، ولا بد بالاضافة الى ذلك من العلم بانه لم يجمعها على الكذب جامع كالتوطؤ وما يقوم مقامه، ولا بد ايضاً من العلم بان المخبر الاول على يقين من امره لم يخبر وهو متردد او غافل عما اخبر به، هذا اذا لم يكن بين الجماعة وبين المخبر الاول واسطة، فان كان بينهما واسطة لا بد من مراعاة هذه الشروط في جميع الوسائط حتى ينتهي الحال الى نفس المخبر الاول(١) .

____________________

(١)انظر العدة للطوسي ص ٣١

٣٤

ولا بد في العلم الحاصل من التواتر من الشروط التالية.

الاول ان لا يكون السامع عالماً بمضمون الخبر، كما لو اخبر الجماعة شخصاً عما شاهده وعلم به مباشرة، وقد عللوا ذلك بان خبر الجماعة لو افاد العلم في هذه الحالة، فاما ان يكون عين العلم الحاصل له بالمشاهدة، او غيره، فان كان عينه، يكون من تحصيل الحاصل، وان كان غيره يلزم اجتماع المثلين، ولا يصح في مثل هذا ان نفترض كون الخبر مؤكداً ومقوياً للعلم الحاصل عن طريق الحس والمشاهدة لان العلم الحاصل للسامع عن هذا الطريق يكون ضرورياً، والضروري لا يقبل الترديد والتشكيك ولا الزيادة والنقصان.

الشرط الثاني ان لا يكون الخبر مسبوقاً بشبهة تخالف مضمونه في ذهن السامع، وان لا يكون السامع معتقداً خلاف مدلوله تقليداً او لسبب آخر، اذ لا يمكن حصول العلم من الخبر غالباً الا اذا كان ذهن السامع خالياً عن الشبهة والمعتقدات المخالفة له مهما بلغ رواته من الكثرة.

الشرط الثالث ان يستند المخبرون الى الحس، فلو كان اخبارهم مستنداً الى حكم عقلي او نص قرآني او غيرهما لا يكون من التواتر المقابل للأحاد.

الرابع، ان تكون جميع الوسائط عالمة بمضمون الخبر، بنحو يستند علم الطبقة الاولى الى الحس والمشاهدة، والثانية الى التواتر الحاصل باخبار الطبقة الاولى، والثالثة من اخبار الثانية، وهكذا بالنسبة الى بقية الطبقات.

اما العدد الذي يتحقق به التواتر، فالظاهر ان اكثر المؤلفين في علم الحديث لا يشترطون عدداً معيناً فيه، وكل ما في الامر لا بد فيه من

٣٥

الكثرة التي يحصل من اخبارها العلم بمضمون الخبر، والعلم قد يحصل احياناً من اخبار العشرة، واحياناً لا يحصل من اخبار العشرين والثلاثين والاكثر من ذلك.

اما تحديدها باكثر من اربعة كما نسب الى القاضي الباقلاني، وباكثر من عشرة كما جاء عن (الاصطخري)، وباثني عشر مخبراً عدد نقباء بني اسرائيل، وباكثر من عشرين كما جاء عن أبي الهذيل العلاف، وبسبعين كما جاء عن بعض المحدثين وبثلاثمائة عدد اصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر كما نص على ذلك بعضهم، هذه التقديرات كلها لاهل السنة، ولا وجود لها في كتب الشيعة، والظاهر اتفاقهم على عدم تحديده بعدد معين(١) .

ومهما كان الحال فالخبر المتواتر، اما ان يكون متواتراً بلفظه ومعناه، كما لو اتفق المخبرون على نقل الحديث بلفظ واحد، واما ان يكون متواتراً من حيث المعنى، كما لو اختلفت الفاظ المخبرين مع وحدة المعنى، وحصل العلم بذلك المعنى من الفاظهم المختلفة بواسطة دلالة الخبر على المعنى بالتضمن او الالتزام، او بالمطابقة اذا كانت الالفاظ المختلفة مشتركة في معنى واحد، وهذا النوع من التواتر الذي اطلقوا عليه اسم التواتر المعنوي موجود ومطّرد بين المرويات في الفروع والاصول، اما التواتر اللفظي في جميع مراحله ووسائطه هذا النوع من التواتر ربما يكون قليلاً ونادراً بين المرويات عن الائمة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يبدو ذلك بعد التتبع والاستقصاء، وقد بالغ بعضهم فانكر وجوده من الاساس.

قال الشيخ عبد الصمد في رسالته التي الفها في علم الدراية: المتواتر

____________________

(١)انظر مقباس الهداية للمامقاني، والعدة للطوسي وغيرهما من مؤلفات الشيعة في علم الحديث.

٣٦

هو ما رواه جماعة يحصل العلم بقولهم، للقطع بعدم امكان تواطؤهم على الكذب عادة، ويشترط ذلك في كل طبقاته صحيحاً كان أوْلا، واضاف الى ذلك: وهذا لا يكاد يعرفه المحدثون في الاحاديث لقلته، وهو كالقرآن وظهور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والقبلة والصلات وعدد الركعات، والحج ونصب الزكوة ونحو ذلك(١) وتشبيه التواتر بهذه الامور الثابتة بالضرورة من دين الاسلام، هذا التشبيه يشعر بان التواتر في الحديث يكاد ان يكون في حكم المعدوم من حيث ندرته وعدم وجوده بين المرويات عن النبي والائمة (ع).

____________________

(١)انظر الوجيزة للشيخ عبد الصمد الحارثي ص ٧٦

٣٧

التواتر عند محدثي السنة

لا يجد المتتبع في المؤلفات الشيعية والسنية حول الحديث واصنافه وحالاته فروقاً جوهرية بين الفريقين في المراد في المتواتر وشروطه واقسامه، واذا استثنينا التقديرات المختلفة التي نقلناها عن السنة تلك التقديرات التي لا يتحقق التواتر باقل منها على حد زعمهم، اذا استثنينا هذه الناحية نجد انهم يلتقون التقاء كاملاً في جميع النواحي المتعلقة به

قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث: فالمتواتر هو الحديث الصحيح الذي يرويه جمع يحيل العقل والعادة تواطئهم على الكذب عن جمع مثلهم في اول السند وآخره ووسطه، واضاف الى ذلك. ان التواتر ينقسم الى لفظي ومعنوي فاللفظي هو ان يتفق المخبرون على الفاظ الحديث في جميع الوسائط، والمعنوي، يرجع الى اتفاقهم على المعنى مع الاختلاف في الالفاظ الحاكية للمعنى، ولم يستبعد الرأي الذي يرجح كثرة الاحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، وعد منها حديث انشقاق القمر، وحديث من كذب عليّ معتمداً فليتبوأ مقعده من النار من حيث ان الذين رووا هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بلغوا اثنين وسبعين صحابياً كما جاء عن بعض المحدثين وحديث الترغيب في بناء المساجد، والشفاعة، وانين الجذع، والمسح على الخفين، والاسراء، والمعراج، ونبع الماء بين اصابعه واطعام الجيش الكبير من الزاد القليل الذي لا يكفي عادة لاثنين

٣٨

او ثلاثة، الى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي نص جماعة من محدثي السنة على تواترها لفظاً ومعنى، كما جاء ذلك عن السيوطي في تدريب الراوي، والحافظ بن حجر في شرح النخبة وغيرهما.

وفي مقابل هؤلاء المغالين في اعطاء هذه المرويات صفة التواتر، نص جماعة على ندرة التواتر اللفظي، وارجع الامثلة التي ذكرناها الى القسم الثاني من قسمي التواتر، وهو المعنوي، نظراً للاختلاف الواقع في الفاظها بين المحدثين.

ومهما كان الحال، فلم اجد فيما ذكره الفريقان ما يشير الى بعد المسافة بينهما في هذه المسألة، وفيما يتعلق بكميات الاخبار المتواترة بين المرويات المدونة في كتب الحديث عند الطرفين، فكل منهما يدعي وجود كمية كبيرة من مروياته تحمل هذا الاسم، ولكن المحدثين من الشيعة يعترفون بندرة التواتر اللفظي بين مروياتهم عن الرسول والائمة (ع) بينما بالغ جماعة من محدثي السنة في كمية هذا النوع من التواتر بين مروياتهم.

٣٩

اخبار الآحاد واصنافها

لقد اصطلح المؤلفون في علم الحديث على تقسيم الخبر من حيث رواته الى متواتر وآحاد، وعدوا كل حديث لا تتوفر فيه شروط التواتر من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحداً، او اكثر.

وخبر الواحد ينقسم من حيث رواته الى مستفيض ومشهور وغريب، وعزيز، كما ينقسم من حيث متنه الى اقسام كثيرة، كما سنبين ذلك في خلال هذا الفصل الذي وضعناه لبيان الحديث واقسامه واصنافه وحد المستفيض عندهم ان يرويه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله، سواء رووه بلفظ واحد، او بالفاظ مختلفة مع وحدة المعنى، كما نص على ذلك اكثر المحدثين.

ونص بعضهم على انه لو اختلفت الفاظه يخرج عن كونه مستفيضاً، وفرق جماعة بين المشهور والمستفيض، بأن الخبر لا يوصف بالاستفاضة الا اذا رواه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله حتى ينتهي الى الطبقة الاخيرة ويوصف بالشهرة ولو كان الراوي الاول له واحداً، على شرط ان يشتهر بين الطبقة الثانية، ويرويه جماعة عن الراوي الاول، وجماعة عن الطبقة الثانية وهكذا.

ومن امثلته الحديث المعروف المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (الاعمال بالنيات) فان هذا الحديث معدود من الاحاديث المشهورة، مع ان الذي

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

واليك نموذجاً من ذلك:

١ - تسامى بشعورِ المسلمين وعواطفهم، أنْ تسترقها النعرات العصبيّة، ونزعاتها المُفرّقة، ووجّهها نحو الهدف الأسمى مِن طاعة اللّه تعالى ورضاه: فالحبّ والبغض، والعطاء والمنع، والنصر والخذلان: كلّ ذلك يجب أنْ يكون للّه عزَّ وجل، وبذلك تتوثّق عرى المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المُفرّقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يَشُدّ بعضُه بعضاً.

وإليك قبَساً مِن آثار أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام:

عن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ( ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه، من أعظم شعب الايمان، ألا ومن أحبّ في اللّه، وأبغض في اللّه، وأعطى في اللّه، ومنع في اللّه، فهو من أصفياء اللّه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ المتحابّين في اللّه يوم القيامة، على منابرَ من نور، قد أضاء نورُ وجوهِهم، ونورُ أجسادِهم، ونورُ منابرهِم، كلّ شيءٍ حتّى يُعرفوا به، فيُقال هؤلاء المتحابّون في اللّه )(٢).

وقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ( إذا جمَع اللّه عزّ وجل الأولين والآخرين، قام منادِ يُنادي بصوتٍ يسمَع الناس، فيقول: أين المتحابّون في اللّه ؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٩ عن الكافي.

(٢) نفس المصدر.

١٠١

بغير حساب ).

قال: ( فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب ).

قال: فيقولون: ( فأيّ ضربٍ أنتم مِن الناس ؟ فيقولون: نحن المتحابّون في اللّه، فيقولون: وأيّ شيءٍ كانت أعمالكم ؟ قالوا: كنّا نحبّ في اللّه، ونبغض في اللّه. قال: فيقولون: نِعم أجرُ العاملين )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ مَن لم يحب على الدين، ولم يَبغَض على الدين فلا دِين له )(٢).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه، ويبغَض أهل معصيته، ففيك خير، واللّه يحبّك، وإنْ كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحَب )(٣).

٢ - رغّب المسلمين فيما يؤلّفهم، ويحقّق لهم العزّة والرخاء، كالتواصي بالحقّ، والتعاون على البِرّ، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصاديّة، فهم في عُرف الشريعة أسرةٌ واحدة، يسعدها ويشقيها

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٩٠ عن الكافي.

١٠٢

ما يسعد أفرادها ويشقيهم.

دستورها:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١).

وشعارها قول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أصبَح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليسَ بمُسلم )(٢).

٣ - حذّر المسلمين ممّا يبعَث على الفُرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب، والنميمة والخيانة والغش، ونحوها مِن مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر مَن هجَر السيئات )(٣) .

٤ - أتاح الفُرَص لإنماء العلاقات الودّية بين المسلمين، كالحث على التزاور، وارتياد المحافل الدينيّة، وشهود المجتمعات الإسلاميّة، كصلاة الجماعة ومناسك الحجّ، ونحو ذلك.

_____________________

(١) الفتح: ٢٩.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٩٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

١٠٣

العصبيّة

هي: مناصرة المَرء قومَه، أو أُسرته، أو وطنه، فيما يُخالف الشرع، ويُنافي الحقّ والعدل.

وهي: مِن أخطر النزَعات و أفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم، الروحيّة والمادّيّة، وقد حاربها الإسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من كان في قلبِه حبّةً مِن خَردَلٍ من عصبيّة، بعثَه اللّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( من تعصّب عصّبه اللّه بعصابة من نار )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهليّة، وتفاخرها بآبائها، ألاّ إنّ الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند اللّه أتقاهم )(٣) .

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٤٩ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٤ ص ٤٨ عن الفقيه.

١٠٤

وقال الباقرعليه‌السلام : ( جلس جماعةٌ مِن أصحابِ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبَك أنت يا سلمان وما أصلك ؟ فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاًّ فهداني اللّه بمحمّد. وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمّدٍ، فهذا حسَبي ونسَبي يا عُمَر.

ثُمّ خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكر له سلمان ما قال عُمَر وما أجابه، فقال رسول اللّه: يا معشَر قريش إنّ حَسبَ المرء دينُه، ومروءته خُلُقَه، وأصلَه عقلُه، قال اللّه تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .

ثُمّ أقبَل على سلمان فقال له: إنّه ليس لأحدٍ مِن هؤلاء عليكَ فضل إلاّ بتقوى اللّه عزَّ وجل، فمَن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه )(١) .

وعن الصادق عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ( وقع بين سلمان الفارسي رضي اللّه عنه، وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان ؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلك فنطفةٌ قذِرة. وأمّا آخري وآخرُك فجيفةٌ منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضِعت الموازين، فمَن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم )(٢).

وأصدق شاهد على واقعيّة الإسلام، واستنكاره النعرات العصبيّة

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٩٥ عن أمالي أبي عليّ الشيخ الطوسي.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٣٤٨ عن أمالي الصدوق (ره).

١٠٥

المفرّقة، وجعله الإيمان والتُقى مِقياساً للتفاضل، أنّ أبا لهب - وهو مِن صميم العرب، وعمّ النبيّ - صرّح القرآن بثَلْبه وعذابه:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ) ، وذلك بكفره ومحاربته للّه ورسوله.

وكان سلمان فارسّياً، بعيداً عن الأحساب العربيّة، وقد منحه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وساماً خالداً في الشرَف والعزّة، فقال: ( سلمان منّا أهل البيت ). وما ذلك إلاّ لسموّ إيمانه، وعِظَم إخلاصه، وتفانيه في اللّه ورسوله.

حقيقة العصبيّة:

لا ريب أنّ العصبيّة الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهليّة.

أمّا التعصّب للحقّ، والدفاع عنه…، و التناصر على تحقيق المصالح الإسلامية العامّة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الإسلامي الكبير، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة للمسلمين، وقد قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أنْ يرى الرجل شِرار قومِه خيراً مِن خيار قومٍ آخرين، وليس مِن العصبيّة أنْ يحبّ الرجل قومه، ولكِن من العصبيّة أنْ يعين

١٠٦

قومه على الظلم )(١).

غوائل العصبية:

من استقرأ التاريخ الإسلامي، وتتّبع العلل والأسباب، في هبوط المسلمين، عَلِم أنّ النزعات العصبيّة، هي المعول الهدّام، والسبب الأوّل في تناكر المسلمين، وتمزيق شملهم، وتفتيت طاقاتهم، ممّا أدّى بهم إلى هذا المصير القاتم.

فقد ذلّ المسلمون وهانوا، حينما تفشّت فيهم النعرات المفرّقة، فانفصمت بينهم عُرى التحابُب، ووهت فيهم أواصر الإخاء، فأصبحوا مثالاً للتخلّف والتبَعثُر والهَوان، بعد أنْ كانوا رمزاً للتفوّق والتماسك والفِخار، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى حيثُ قال:

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) (٢).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٩ عن الكافي.

(٢) آل عمران: ١٠٣.

١٠٧

العدل

العدل ضدّ الظلم، وهو مناعة نفسيّة، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء الحقوق والواجبات.

وهو سيّد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضّر، وسبيل السعادة والسلام.

وقد مجّده الإسلام، وعنى بتركيزه والتشويق إليه في القرآن والسنّة:

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) (١).

وقال سُبحانه:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٢).

وقال عزّ وجل:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العدلُ أحلى مِن الشهد، وأليَن مِن الزبد، وأطيَب ريحاً مِن المِسك )(٤).

_____________________

(١) النحل: ٩٠.

(٢) الإنعام: ١٥٢.

(٣) النساء: ٥٨.

(٤) الوافي ج ٣ ص ٨٩ عن الكافي، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

١٠٨

وقال الراوي لعليّ بن الحسينعليه‌السلام أخبرني بجميع شرائع الدين. قال: ( قولَ الحقّ، والحُكم بالعدل، والوفاء بالعهد )(١).

وقال الرضاعليه‌السلام : ( استعمالُ العدل والإحسان مُؤذنٌ بدوام النعمة )(٢).

أنواع العدل:

للعدل صورٌ مُشرقةٌ تشعُّ بالجمال والجلال، وإليك أهمها:

١ - عدل الإنسان مع اللّه عزّ وجل: وهو أزهى صور العدل، وأسمى مفاهيمه، وعنوان مصاديقه، وكيف يستطيع الإنسان أنْ يؤدّي واجب العدل للمُنعِم الأعظم، الذي لا تُحصى نعماؤه، ولا تُعَدّ آلاؤه ؟!

وإذا كان عدل المكافأة يُقدّر بمعيار النعم، وشرف المنعم، فمن المستحيل تحقيق العدل نحو واجب الوجود، والغنيّ المطلق عن سائر الخلق، إلاّ بما يستطيعه قصور الإنسان، وتوفيق المولى عزّ وجل له.

وجماع العدل مع اللّه تعالى يتلخّص في الإيمان به، وتوحيده والإخلاص له، وتصديق سُفرائه وحُجَجِه على العباد، والاستجابة لمقتضيات ذلك من التولِّه بحبّه والتشرّف بعبادته، والدأب على طاعته، ومجافاة عِصيانه.

٢ - عدل الإنسان مع المجتمع:

وذلك برعاية حقوق أفراده، وكفّ الأذى والإساءة عنهم،

_____________________

(١) البحار م ١٦ كتاب العشرة ص ١٢٥ عن خصال الصدوق (ره).

(٢) البحار م ١٦ كتاب العشرة ص ١٢٥ عن عيون أخبار الرضا.

١٠٩

وسياستهم بكرم الأخلاق، وحُسن المداراة وحبّ الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم، ونحو ذلك من محقّقات العدل الاجتماعي.

وقد لخّص اللّه تعالى واقع العدل العام في آيةٍ من كتابه المجيد:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١).

وقد رسم أمير المومنينعليه‌السلام منهاج العدل الاجتماعي بإيجاز وبلاغة، فقال لابنه:

( يا بنُيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرِك، فأحبب لغيرك ما تُحبّ لنفسك، واكره له ما تَكره لها، ولا تظلِم كما لا تحبّ أنْ تُظلَم، وأحسِن كما تُحِبّ أنْ يُحسَن إليك، واستقبح مِن نفسِك ما تستقبِح مِن غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم مِن نفسك، ولا تقل ما لا تعلَم وإنْ قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تُحِبّ أنْ يُقال لك ).

أوصىعليه‌السلام ابنه الكريم أنْ يكون عادلاً فيما بينه وبين الناس كالميزان، ثُمّ أوضَح له صور العدل وطرائقه إيجاباً وسلباً.

٣ - عدلُ البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات: الذين رحلوا عن الحياة، وخلّفوا لهم المال والثراء، وحُرِموا مِن مُتَعِه ولذائذه، ولم يكسبوا في رحلتهم الأبديّة، إلاّ أذرُعاً مِن أثواب البلى، وأشباراً ضيّقة من بُطون الأرض.

_____________________

(١) النمل: ٩٠.

١١٠

فمن العدل أنْ يستشعر الأحياء نحو أسلافِهم بمشاعر الوفاء والعطف وحُسن المكافاة، وذلك بتنفيذ وصاياهم، وتسديد ديونَهم، وإسداء الخيرات و المبرّات إليهم، وطلب الغفران والرضا والرحمة مِن اللّه عزّ وجل لهم.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الميّت ليفرح بالترحم عليه، والاستغفار له، كما يَفرح الحيّ بالهديّة تُهدى إليه ).

وقالعليه‌السلام : ( من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف اللّه له أجره، ونفع اللّه به الميت )(١).

٤ - عدل الحكام:

وحيث كان الحكّام ساسة الرعيّة، وولاة أمر الأُمّة، فهم أجدَر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلّي به، وكان عدلُهم أسمى مفاهيم العدل، وأروعها مجالاً وبهاءً، وأبلغها أثراً في حياة الناس.

بعدلهم يستتبّ الأمن، ويسود السلام، ويشيع الرخاء، وتسعد الرعيّة.

وبجورهم تنتكِس تلك الفضائل، والأماني إلى نقائضها، وتغدو الأُمّة آنذاك في قلَق وحيرة وضنَكٍ وشقاء.

محاسن العدل:

فطرت النفوس السليمة على حُبّ العدل وتعشّقه، وبُغض الظلم واستنكاره. وقد أجمع البشر عبر الحياة، واختلاف الشرائع والمبادئ

_____________________

(١) هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق.

١١١

على تمجيد العدل وتقديسه، والتغنّي بفضائله ومآثره، والتفاني في سبيله.

فهو سرّ حياة الأُمَم، ورمز فضائلها، وقِوام مجدِها وسعادتها، وضمان أمنِها ورخائها، وأجلّ أهدافها وأمانيها في الحياة.

وما دالت الدول الكُبرى، وتلاشت الحضارات العتيدة، إلاّ بضَياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل، وقد كان أهل البيتعليهم‌السلام المثَل الأعلى للعدل، وكانت أقوالُهم وأفعالهم دروساً خالدة تُنير للإنسانيّة مناهج العدْل والحقّ والرشاد.

وإليك نماذج مِن عدلِهم:

قال سوادة بن قيس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيّام مرضه: يا رسول اللّه إنّك لمّا أقبْلت مِن الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدِك القضيب المَمشوق، فرفَعت القضيب وأنت تُريد الراحلة، فأصاب بطني، فأمره النبيّ أنْ يقتصّ منه، فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أنْ أضع فمي على بطنك، فأذِن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه مِن النار يوم النار.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ ). فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللهمّ أعفُ عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد(١).

وقال أبو سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتقاضاه دَيناً كان عليه، فاشتدّ عليه حتّى قال له: أُحرّج عليك

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦٧١.

١١٢

إلاّ قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري مَن تُكلّم ؟!! قال: إنّي أطلب حقّي. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( هلا مع صاحب الحقّ كنتم )، ثُمّ أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: ( إنْ كان عندك تمر فأقرضينا، حتّى يأتي تمرنا فنقضيك ). فقالت: نعم بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه.

قال: فأقرضَته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى اللّه لك ؟ فقال: ( أولئك خيار الناس، إنّه لا قُدّست أُمّةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير متعتع ).

وقيل: إنّ الإعرابي كان كافراً، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: ( يا رسول اللّه، ما رأيت أصبر منك )(١) .

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام :

قال الصادقعليه‌السلام : ( لمّا ولّيَ عليّ صعد المنبر فحمِد اللّه، وأثنى عليه، ثُمّ قال: إنّي لا أرزؤكم مِن فَيئكم درهماً، ما قام لي عذقٌ بيثرِب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ؟!! قال: فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهَه فقال له: واللّه، لتجعلني وأسود بالمدينة سَواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحدٌ يتكلّم غيرك، وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى )(٢).

وجاء في صواعق ابن حجَر ص ٧٩ قال: وأخرج ابن عساكر أنّ

_____________________

(١) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ج ١ ص ١٢٢ عن صحيح ابن ماجة.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٣٩ عن الكافي.

١١٣

عقيلاً سأل عليّاًعليه‌السلام فقال: إنّي محتاج، وإنّي فقير فأعطني. قال: ( اصبر حتّى يخرج عطاؤك مَع المسلمين، فأعطيك معهم، فألح عليه )، فقال لرجلٍ: ( خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل له دُقّ هذه الأقفال، وخُذ ما في هذه الحوانيت ). قال: تريد أنْ تتّخذني سارقاً ؟ قال: ( وأنت تريد أنْ تتّخذني سارقاً، أنْ آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم ؟ ).

قال: لآتيَنّ معاوية. قال: ( أنت وذاك ). فأتى معاوية فسأله فأعطاه مِئة ألف، ثُمّ قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوّليتك، فصعد فحمِد اللّه، وأثنى عليه، ثُمّ قال: أيّها الناس إنّي أخبركم أنّي أردْت عليّاًعليه‌السلام على دينه فاختار دينه، وإنّي أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه(١).

ومشى إليهعليه‌السلام ثُلّة من أصحابه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثيرٍ منهم إلى معاوية، طلَباً لما في يدَيه مِن الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجَم، ومَن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور، لا واللّه ما أفعل، ما طلعَت شمسٌ، ولاحَ في السماء نجمٌ، واللّه، لو كان مالُهم لي لواسَيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم )(٢).

وقال ابن عبّاس: أتيتُه ( يعني أمير المؤمنين عليّاً ) فوجدته يخصف

_____________________

(١) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج ٣ ص ١٥.

(٢) البحار م ٩ ص ٥٣٣ بتصرّف.

١١٤

نعلاً، ثُمّ ضمّها إلى صاحبتها، وقال لي: ( قوّمها ). فقلت: ليس لهما قيمة.

قال: ( على ذلك ). قلت: كسْر درهم. قال: ( واللّه، لهما أحبّ إليّ مِن أمركم هذا إلاّ أنْ أقيم حدّاً ( حقّاً ) أو ادفع باطلاً )(١) .

وهو القائل: ( واللّه لئن أبيت على حسَك السعدان مُسهّداً، وأُجَرُّ في الأغلال مُصفّداً، أحَبّ إليّ مِن أنْ ألقى اللّه ورسولَه يوم القيامة ظالِماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحُطام، وكيف أظلِم أحداً لنفسٍ يَسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها )(٢).

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٧٠ بتصرف.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٠٦ عن النهج.

١١٥

الظلم

الظلم لغةً: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلمٌ عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.

وعرفاً هو: بخس الحقّ، والاعتداء على الغير، قولاً أو عمَلاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صوَر الظُلامات المادّيّة أو المعنويّة.

والظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس، وقد عانت منه البشريّة في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، ممّا جهّم الحياة، ووسمها بطابعٍ كئيب رهيب.

والظلم مِن شيَم النفوس فإنْ تجِد

ذا عفّة فلعلّة لا يظلِمُ

من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.

وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمّه والتحذير منه:

قال تعالى:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١).

( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٢).

_____________________

(١) الأنعام: ٢١.

(٢) الأنعام: ١٤٤.

١١٦

( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (١).

( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٢).

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) (٣).

وقال تعالى:( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ) (٤).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٥).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( واللّه لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أنْ أعصي اللّه في نملَة أسلُبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإنّ دنياكم لأهوَن عليّ مِن ورقةٍ في فمِ جرادة، ما لعليٍّ ونعيمٍ يفنى ولذّة لا تبقى )(٦) .

وعن أبي بصير قال: ( دخَل رجُلان على أبي عبد اللّهعليه‌السلام في مداراةٍ بينهما ومعاملة، فلمّا أنْ سمِع كلامها قال: ( أما إنّه ما ظفَر أحدٌ بخير من ظفَر بالظلم. أما إنّ المظلوم يأخُذ مِن دين الظالم أكثر ممّا يأخذ الظالم من مال المظلوم ). ثُمّ قال: ( مَن يفعل الشرّ بالناس فلا

_____________________

(١) آل عمران: ٥٧.

(٢) إبراهيم: ٢٢.

(٣) يونس: ١٣.

(٤) إبراهيم: ٤٢.

(٥) يونس: ٥٤.

(٦) نهج البلاغة.

١١٧

ينكر الشر إذا فُعِل به، أمّا إنّه إنّما يحصِد ابن آدم ما يزرَع، وليس يحصد أحدٌ مِن المرِّ حُلواً، ولا مِن الحُلوِ مرَّاً، فاصطلَح الرجلان قبل أنْ يقوما )(١).

وقالعليه‌السلام : ( مَن أكل مال أخيه ظُلماً ولم يردَّه إليه، أكل جذوةً مِن النار يوم القيامة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ظلَم سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقِبَه، أو على عقِب عقِبَه ).

قال ( الراوي ): يظلم هو فيسلّط على عقبه ؟

فقال: ( إنّ اللّه تعالى يقول:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) )( النساء: ٩ )(٣) .

وتعليلاً للخبر الشريف: أنّ مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء إنّما هو في الأبناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجرٌ عاطفيٌّ رهيب، يردع الظالم عن العدوان خَشيةً على أبنائه الأعزّاء، وبشارةً للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام، مشفوعة بثواب ظُلامته في الآخرة.

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أصبح لا يهمّ بظلمٍ غفَر اللّه له ما اجترم )(٤).

أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين اللّه عزَّ وجل في ذلك اليوم.

إلى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.

_____________________

(١)، (٢)، (٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٢ عن الكافي.

١١٨

أنواع الظلم:

يتنوع الظلم صوراً نشير إليها إشارة لامحة:

١ - ظلم الإنسان نفسه:

وذلك بإهمال توجيهها إلى طاعة اللّه عزّ وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضيّ، ممّا يزجّها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.

( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

٢ - ظلم الإنسان عائلته:

وذلك بإهمال تربيتهم تربيةً إسلاميّةً صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوةِ والعُنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، ممّا يُوجب تسيّبهم وبلبلة حياتهم، مادّياً وأدبيّاً.

٣ - ظلم الإنسان ذوي قرباه:

وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزَمات، وحرمانهم مِن مشاعر العطف والبِرّ، ممّا يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.

٤- ظلم الإنسان للمجتمع:

وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم،

_____________________

(١) الشمس: ( ٧ - ١٠ ).

١١٩

وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيّب المجتمع وضعف طاقاته.

وأبشع المظالم الاجتماعيّة، ظُلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صدّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلاّ الشكاة والضراعة إلى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.

فعن الباقرعليه‌السلام قال: ( لمّا حضر عليّ بن الحسينعليه‌السلام الوفاة، ضمّني إلى صدره، ثُمّ قال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضَرَته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه، قال: يا بني، إيّاك وظلم مَن لا يجِد عليك ناصراً إلاّ اللّه تعالى )(١).

٥ - ظلم الحكّام والمتسلّطين:

وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرّيّة الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصّة، مِن أجل ذلك كان ظلم الحكّام أسوأ أنواع الظُلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأُمّة ومقدّراتها.

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيٍّ مِن الأنبياء، في مملكةِ جبّارٍ مِن الجبابرة: أنْ ائت هذا الجبّار فقل له: إنّي لم استعملك على سفك الدماء، واتّخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لنْ أدَع ظلامتهم وإنْ كانوا كفّاراً )(٢).

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٢ عن الكافي.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517