أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342554 / تحميل: 12225
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ونوّره بالحكمة، وذلّله بذِكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحَذّره صَولة الدهر، وفُحش تقلّب الليالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلَك مِن الأوّلين، وسِر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزَلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليلٍ قد صِرت كأحدِهم، فأصلح مثواك، ولا تبِع آخرتَك بدُنياك )(١).

ومن روائع الحِكَم التشبيه التالي:

( فقد شبّه الحُكماء الإنسان وانهماكه في الدنيا، واغتراره بها، وغفلته عمّا وراءها، كشخصٍ مُدلىً في بئر، ووسَطه مشدودٌ بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثُعبانٌ عظيم، متوجّه إليه، منتظرٌ لسقوطه، فاتحٌ فاهُ لالتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيضٌ وأسود، لا يزالان يقرِضان ذلك الحبل، شيئاً فشيئاً، ولا يفتران عن قرضِه آناً ما، وذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان، ومشاهدته لانقراض الحبل آناً فآناً، قد أقبل على قليلِ عسلٍ، قد لُطِخ به جِدارُ ذلك البئر وامتزج بترابه، واجتمع عليه زنابيرٌ كثيرة، وهو مشغولٌ بلطعه، منهمكٌ فيه، متلذّذٌ بما أصاب منه، مخاصمٌ لتلك الزنابير التي عليه، قد صرف جميعَ باله إلى ذلك، فهو غير ملتفتٍ إلى ما فوقه وما تحته.

فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت،

_____________________

(١) نهج البلاغة في وصيّتهعليه‌السلام لابنه الحسن.

٢٠١

والجرذان هُما الليل والنهار القارضان للأعمال، والعسَل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدَر والآثام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها ).

ومِن العِبر البالغة في تصرّم الحياة وإنْ طالت: ما رُوي أنّ نوحاًعليه‌السلام عاش ألفَين وخمسمِئة عام، ثمّ إنّ ملَك الموت جاءه وهو في الشمس، فقال: السلام عليك. فرّد عليه نوحعليه‌السلام وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت ؟ قال: جئت لأقبض روحك. فقال له: تدَعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ. فقال له: نعم. فتحوّل نوحعليه‌السلام ، ثمّ قال: يا ملك الموت، فكأنّ ما مرّ بي في الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظلّ !! فامضِ لما أُمِرت به. فقبض روحهعليه‌السلام .

ومِن عِبَر الطُّغاة والجبّارين ما قاله المنصور لمّا حضرته الوفاة: ( بعنا الآخرة بنومة ).

وردّد هارون الرشيد وهو ينتقي أكفانه عند الموت:( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) ( الحاقّة: ٢٨ - ٢٩ ).

وقيل لعبدِ الملك بن مروان في مرَضه: كيف تجدك يا أبا مروان ؟ قال: أجدُني كما قال اللّه تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ..) ( الأنعام: ٩٤ ).

ورأى زيتون الحكيم رجُلاً على شاطئ البحر مهموماً محزوناً، يتلهّف على الدنيا، فقال له: يا فتى، ما تلهفك على الدنيا ! لو كنت في غاية الغنى، وأنت راكبٌ لجّةَ البحر، وقد انكسرت بك السفينة،

٢٠٢

وأشرفت على الغرَق، أما كانت غاية مطلوبك النجاة، وإنْ يفوتك كلّ ما بيدك. قال: نعم.

قال: ولو كنت ملِكاً على الدنيا، وأحاط بك مَن يريد قتلك، أما كان مرادك النجاة مِن يده، ولو ذهب جميع ما تملك. قال: نعم.

قال: فأنتَ ذلك الغنيُّ الآن، وأنت ذلك الملكُ، فتسلّى الرجل بكلامه.

وقال بعض العارفين لرجلٍ مِن الأغنياء: كيف طلبك للدنيا ؟ فقال: شديد. قال: فهل أدركت منها ما تريد ؟ قال: لا. قال: هذه التي صرَفت عُمرك في طلبِها لم تحصَل منها على ما تريد فكيف التي لم تطلبها !!

ولا ريب أنّ تلك العِظات لا تنجع إلاّ في القلوب السليمة، والعقول الواعية، أما الذين إسترقّتهم الحياة، وطبعت على قلوبهم، فلا يجديهم أبلغ المواعظ، كما قال بعض العارفين: إذا أُشرب القلبُ حبَّ الدنيا لم تنجع فيه كثرة المواعظ، كما أنّ الجسَد إذا استحكم فيه الداء، لم ينجع فيه كثرة الدواء.

٢٠٣

( ب ) غرور العلم

ومن صوَر الغرور ومفاتنه، الاغترار بالعلم، واتّساع المعارف، ممّا يثير في بعض الفضلاء الزهو والتيه، والتنافس البشِع على الجاه، والتهالك على الأطماع، ونحوها من الخلال المقيتة، التي لا تليق بالجُهّال فضلاً عن العلماء.

وربّما أفرط بعضهم في الزهو والغرور، فَجُنَّ بجنون العظَمَة، والتطاول على الناس بالكِبَر والازدراء.

وفات المغترّين بالعِلم، أنّ العِلم ليس غايةً في نفسه، وإنّما هو وسيلةٌ لتهذيب الإنسان وتكامله، وإسعاده في الحياتين الدنيويّة والأُخروية، فإذا لم يحقّق العِلم تلك الغايات السامية، كان جُهداً ضائعاً، وعَناءً مُرهِقاً، وغروراً خادعاً:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا...) ( الجمعة: ٥ ).

وقد أحسن الشاعر حيث يقول:

ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم

ولو عَظّموه في النفوس لعَظُما

ولكن أهانوه فهان وجهّموا

محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما

فالعلم كالغيث ينهلّ على الأرض الطيبة، فيحيلها جناناً وارفة،

٢٠٤

تزخر بالخير والجمال، وينهلّ على الأرض السبخة فلا يجديها نفعاً.

وهكذا يفيء العلم على الكرام طيبةً وبهاءً، وعلى اللئام خُبثاً ولُؤماً.

وكيف يغترُّ العالِم بعلمه، ولم يكن الوحيد في مضماره، فقد عرَف الناس قديماً وحديثاً عُلماءً أفذاذاً جَلّوا في ميادين العلم، وحَلّقوا في آفاقه، وكانت لهم مآثرهم العلميّة الخالدة.

وعلى مَ الاغترار بالعلم، ومسؤوليّة العالم خطيرة، ومؤاخذته أشدّ من الجاهل، والحجّة عليه ألزَم، فإنْ لم يهتَدِ بنور العلم، ويعمل بمقتضاه، كان العلم وبالاً عليه، وغدا قدوة سيّئة للناس.

أنظر كيف يصوّر أهل البيتعليهم‌السلام جرائر العلماء المنحرفين، وأخطارهم:

فعن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان مِن أُمّتي إذا صلُحا صلُحت أُمّتي، وإذا فسَدا فسدت أُمّتي ) قيل: يا رسول اللّه ومَن هما ؟ قال: الفقهاء والأمراء )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( يُغفر للجاهل سبعون ذنباً، قبل أنْ يُغفَر للعالم ذنبٌ واحد )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يطلع قومٌ من أهل الجنّة إلى قومٍ مِن أهل النار، فيقولون: ما أدخلَكم النار وقد دخلنا الجنّة لفضلِ تأديبكم وتعليمكم ؟ فيقولون: إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله )(٣).

_____________________

(١) البحار م ١ ص ٨٣ عن خصال الشيخ الصدوق.

(٢) الوافي مجلّد العقل والعلم ص ٥٢ عن الكافي.

(٣) الوافي في وصيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٠٥

فجديرٌ بالعلماء والفُضلاء أنْ يكونوا قدوةً حسنةً للناس، ونموذجاً للخُلق الرفيع، وأنْ يتفادوا ما وسعهم مزالِق الغرور، وخلاله المَقيتة، وأنْ يستشعروا الآية الكريمة:

( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص: ٨٣ ).

٢٠٦

( ج ) غرور الجاه

ويُعتبَر الجاه والسُّلطة مِن أقوى دواعي الغرور، وأشدَّ بواعثه، فترى المتسلّطين يتيهون على الناس زهواً وغروراً، ويستذلّون كراماتهم صَلَفاً وكِبراً.

وقد عاش الناس هذه المأساة في غالب العصور، وعانوا غرور المتسلّطين وتحدّيهم، بأسىً ولوعةٍ بالِغَين.

وفات هؤلاء المغرورين بمفاتن السُّلطة والرِّعَة، أنّ الإسراف في الغرور والأنانيّة أمرٌ يستنكره الإسلام ويتوعّد عليه بصنوف الإنذار والوعيد، في عاجل الحياة وآجلها، كما يعرّضهم لمقت الناس وغضبهم ولعنهم، ويخسرون بذلك أغلى وأخلَد مآثر الحياة: حبَّ الناس وعطفَهم، وكان عليهم أنْ يستغلّوا جاههم، ونفوذهم في استقطاب الناس، وتوفير رصيدهم الشعبي، وكسب عواطف الجماهير وودّهم.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبَد الإحسان إنسانا

وأقوى عامل على تخفيف حدّة هذا الغرور، وقمع نَزَواته العارمة، هو التأمّل والتفكّر فيما ينتاب هؤلاء المغرورين مِن صروف الدهر، وسطوة الأقدار، وتنكّر الزمان. فصاحب السلطان كراكب الأسد، لا يدري أمَدَ

٢٠٧

غضَبه وافتراسه.

وقد زخَر التاريخ بصنوف العِبَر والعِظات الدالّة على ذلك:

ومنها: ما ذكره عبد اللّه بن عبد الرحمان صاحب الصلاة بالكوفة،

قال: دخلت إلى أُمّي في يوم أضحى، فرأيت عندها عجوزاً في أطمارٍ رثّة، وذلك في سنة ١٩٠، فإذا لها لسانٌ وبيان، فقلت لأُمّي: مَن هذه ؟ قالت: خالتك عباية أُمّ جعفر بن يحيى البرمكي. فسلّمت عليها، وتحفّيت بها، وقلت: أصارك الدهر إلى ما أرى ؟!

فقالت: نعم يا بني، إنّا كنّا في عواري ارتَجَعها الدهر منّا. فقلت: فحدّثيني ببعض شأنك.

فقالت: خذه جملة، لقد مضى عليّ أضحى، وعلى رأسي أربعمِئة وصيفة، وأنا أزعم أنّ ابني عاق، وقد جئتك اليوم أطلب جلدَتَي شاة، اجعل إحداهما شِعاراً، والأُخرى دِثاراً.

قال فرَفَقت لها، ووهبْت لها دراهم، فكادت تموت فرحاً(١) .

ودخل بعض الوعّاظ على الرشيد، فقال: عِظني، فقال له: أتراك لو مُنِعتَ شربةً من ماء عند عطشِك، بِمَ كنت تشتريها ؟ قال: بنصف مُلكي.

قال: أتراها لو حُبِسَت عند خروجها بِمَ كنت تشتريها ؟ قال: بالنصف الباقي.

_____________________

(١) سفينة البحار م ٢ ص ٦٠٩.

٢٠٨

قال: فلا يغرّنّك مُلك قيمته شربة ماء(١) .

فجديرٌ بالعاقل أنْ يدرك أنّ جميع ما يزهو به، ويدفعه على الغرور من مال، أو علم، أو جاه، ونفوذ، إنّما هي نِعَمٌ وألطافٌ إلهيّة أسداها المنعم الأعظم، فهي أحرى بالحمد، وأجدر بالشكر، منها بالغرور والخُيَلاء.

الجاه بين المدح والذم:

ليس طلب الجاه مذموماً على الإطلاق، وإنّما هو مختلف باختلاف الغايات والأهداف، فمن طلبه لغايةٍ مشروعة، وهدَفٍ سامٍ نبيل، كنصرة المظلوم، وعون الضعيف، ودفع المظالم عن نفسه أو غيره، فهو الجاه المحبّب المحمود.

ومَن توخّاه للتسلّط على الناس، والتعالي عليهم، والتحكّم بهم، فذلك هو الجاه الرخيص الذميم.

وقد تلتبس الغايات أحياناً في بعض صور الجاه، كالتصدّي لإمامة الجماعة، وممارسة توجيه الناس وإرشادهم، وتسنّم المراكز الروحيّة الهامّة.

فتتمّيز الغايات آنذاك بما يتّصف به ذووها من حسن الإخلاص، وسموّ الغاية، وحُبّ الخير للناس، أو يتّسمون بالأنانيّة، والانتهازيّة، وهذا مِن صور الغرور الخادعة، أعاذنا اللّه منها جميعاً.

_____________________

(١) لآلي النركاني.

٢٠٩

(د) غرور المال

وهكذا يستثير المال كوامن الغرور، ويعكِس على أربابه صوَراً مَقيتة من التلبيس والخداع.

فهو يفتن الأثرياء من عشّاق الجاه، ويحفّزهم على السخاء والأريحيّة، بأموالٍ مشوبةً بالحرام، ويحبسون أنّهم يحسنون صنعاً، وهُم مخدوعون مغرورون.

وقد يتعطّف بعضهم على البؤساء والمعوزين جهراً ويشحّ عليهم سرّاً، كسباً للسمعة والإطراء، وهو مغرورٌ مفتون.

ومنهم مَن يمتنع عن أداء الحقوق الإلهية المحَتّمة عليه بُخلاً وشُحّاً، مكتفياً بأداء العبادات التي لا تتطلّب البذل والإنفاق، كالصلاة والصيام، زاعماً براءة ذِمّته بذلك، وهو مفتونٌ مغرور، إذ يجب أداء الفرائض الإلهيّة ماديّة وعباديّة، ولكلِّ فرضٍ أهميّته في عالم العقيدة والشريعة.

ومِن أجل ذلك كان المال من أخطر بواعث الغرور ومفاتنه.

فعن الصادقعليه‌السلام قال: ( يقول إبليس: ما أعياني في ابن آدم فلن يُعييني منه واحدة من ثلاثة: أخذُ مالٍ من غير حلّه، أو مَنعه من حقّه، أو وضعِه في غير وجهه )(١).

_____________________

(١) عن خصال الصدوق (ره).

٢١٠

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الدينار والدرهم أهلَكا مَن كان قبلكم، وهُما مهلكاكم )(١).

المال بين المدح والذم:

للمال محاسنه ومساوئه، ومضارّه ومنافعه، فهو يُسعِد ويُشقي أربابه تبَعاً لوسائل كسبه وغايات إنفاقه.

فمن محاسنه: أنّه الوسيلة الفعّالة لتحقيق وسائل العيش، ونيل مآرب الحياة، وأشواقها الماديّة، والسبب القويّ في عزّة ملاكه واستغنائهم عن لئام الناس، والذريعة الهامّة في كسب المحامد والأمجاد. كما قال الشريف الرضي رحمه اللّه:

اشتر العِزّ بما بِيع

فما العز بغالي

بالقصار الصفر إنْ

شِئت أو السمر الطوالِ

ليس بالمغبون عقلاً

مَن شرى عزَّاً بمالِ

إنما يُدَّخَر المالُ

لحاجاتِ الرجالِ

والفتى مَن جَعل

الأموال أثمان المعالي

كما أنّ المال مِن وسائل التزوّد للآخرة، وكسب السعادة الأبديّة فيها.

ومِن مساوئ المال: أنّه باعثٌ على التورّط في الشُّبُهات، واقتراف المحارم والآثام، كاكتسابه بوسائل غير مشروعة، أو منع الحقوق الإلهيّة

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٥٢ عن الكافي.

٢١١

المفروضة عليه، أو إنفاقه في مجالات الغواية والمنكرات، كما أوضحت غوائله النصوص السالفة.

وهو إلى ذلك من أقوى الصوارف والملهيات عن ذكر اللّه عزّ وجل، والتأهّب للحياة الأخرويّة الخالدة.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ( المنافقون: ٩ ).

فليس المال مذموماً إطلاقاً، وإنّما يختلف باختلاف وسائله وغاياته، فإنْ صحّت ونَبُلَت كان مَدعاة للحمد والثناء، وإنْ هبطت وأسفّت كان مَدعاة للذمّ والاستنكار.

ولمّا كانت النفوس مشغوفةً بالمال، ومولعةً بجمعه واكتنازه، فحريٌّ بالمؤمن الواعي المستنير، أنْ لا ينخدع ببريقه، ويغترّ بمفاتنه، وأنْ يتّعظ بحرمان المغرورين به، والحريصين عليه، من كسب المثوبة في الآخرة، وإفلاسهم ممّا زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا، فإنهم خزّان أمناء، يكدحون ويشقون في ادخاره، ثمّ يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المُهنّى والاغتباط.

٢١٢

( هـ ) غرور النسب

وقد يغترُّ بعضهم برفعة أنسابهم، وانحدارهم من سلالة أهل البيتعليهم‌السلام ، فيحسبون أنّهم ناجون بزلفاهم، وإنْ انحرفوا عن نهجِهم، وتعسّفوا طُرق الغواية والضلال.

وهو غرور خادع حيث إنّ اللّه تعالي يُكرم المطيع ولو كان عبداً حبشيّاً، ويهين العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

وما نال أهل البيتعليهم‌السلام تلك المآثر الخالدة، ونالوا شرف العزّة والكرامة عند اللّه عزَّ وجل، إلاّ باجتهادهم في طاعة اللّه، وتفانيهم في مرضاته.

فاغترار الأبناء بشرف آبائهم وعراقتهم، وهُم منحرفون عن سيرتهم، من أحلام اليقظة ومفاتن الغرور.

أرأيت جاهلاً غدا عالماً بفضيلة آبائه ؟ أو جباناً صار بطلاً بشجاعة أجداده ؟ أو لئيماً عاد سخيّاً معطاءً بجود أسلافه ؟ كلا، ما كان اللّه تعالى ليساوي بين المطيع والعاصي، وبين المجاهد والوادع.

أنظر كيف يقصّ القرآن الكريم ضراعة نوحعليه‌السلام إلى ربِّه في استشفاع وليده الحبيب ونجاته من غَمَرات الطوفان الماحق، فلم يُجده

٢١٣

ذلك لكفر ابنه وغوايته:( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ( هود: ٤٥ - ٤٦ ).

واستمع إلى سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يُملي على أسرته الكريمة درساً خالداً في الحثِّ على طاعة اللّه تعالى وتقواه، وعدم الاغترار بشرف الأنساب والأحساب، كما جاء عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: ( قام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطّلب، إنّي رسول اللّه إليكم، وإنّي شفيقٌ عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلِّ رجلٍ منكم عملُه، لا تقولوا إنّ محمّداً منّا، وسنُدخَل مُدخله، فلا واللّه، ما أوليائي منكم، ولا مِن غيركم، يا بني عبد المطّلب إلاّ المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة، تأتون تحملون الناس على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أُعذِرت إليكم، فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم )(١) .

فجديرٌ بالعاقل أنْ يتوقّى فتنة الغرور بشرف الأنساب، وأنْ يسعى جاهداً في تهذيب نفسه وتوجيهها وجهة الخير والصلاح، متمثّلاً قول الشاعر:

إنّ الفتى مَن يقول ها أنذا

ليس الفتى مَن يقول كان أبي

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٠ عن الكافي.

٢١٤

الحسَد

وهو تمنّي زوال نعمة المحسود، وانتقالها للحاسد، فإنْ لم يتمنَّ زوالها، بل تمنّى نظيرها، فهو غبطة، وهي ليست ذميمة.

والحسَد مِن أبشع الرذائل وألأم الصفات، وأسوَأ الانحرافات الخُلقيّة أثراً وشرّاً، فالحَسود لا ينفكّ عن الهمّ والعِناد، ساخطاً على قضاء اللّه سُبحانه في رعاية عبيده، وآلائه عليهم، حانقاً على المحسود، جاهداً في كيده، فلا يستطيع ذلك، فيعود وبال حسده عليه، ويرتدّ كيده في نحره.

ناهيك في ذمّ الحسَد والحُسّاد، وخطرها البالغ، أنّ اللّه تعالى أمر بالاستعاذة من الحاسد، بعد الاستعاذة من شرّ ما خلَق قائلاً:( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) ( الفلق: ٥ ).

لذلك تكاثرت النصوص في ذمّه والتحذير منه:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ما رأيت ظالماً أشبَهُ بمظلومٍ مِن

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ عن المجازات النبويّة، وجاء في الكافي عن الصادقعليه‌السلام : ( يأكل الإيمان ) بدَل الحسنات.

٢١٥

الحاسد، نَفَس دائم، وقلب هائم، وحُزنٍ لازِم )(١) .

وقال الحسن بن عليّعليه‌السلام : ( هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد.

فالكِبَر: هلاك الدين وبه لُعِن إبليس.

والحرص: عدوّ النفس، وبه أُخرج آدم من الجنّة.

والحسَد: رائد السُّوء، ومنه قَتْلُ قابيل هابيل )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم لأصحابه: ( ألا إنّه قد دبَّ إليكم داءُ الأُمم مِن قبلكم، وهو الحسَد، ليس بحالق الشَّعر، لكنّه حالق الدين، ويُنجي منه أنْ يكُفَّ الإنسان يدَه، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمزٍ على أخيه المؤمن )(٣).

بواعث الحسَد:

للحسَد أسبابٌ وبواعث نجملها في النقاط التالية:

١ - خُبث النفس:

فهناك شِذاذ طُبِّعوا على الخُبث واللؤم، فتراهم يحزنون بمباهج الناس

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٣١ عن كنز الكراجكي.

(٢) عن كشف الغمّة.

(٣) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٣١ عن مجالس الشيخ المفيد وأمالي ابن الشيخ الطوسي.

٢١٦

وسعادتهم، ويُسَرّون بشقائهم ومآسيهم، ومِن ثمّ يحسدونهم على ما آتاهم اللّه من فضله، وإنْ لم يكن بينهم تِرة أو عداء. وذلك لخُبثِهم ولؤم طباعهم.

٢- العِداء:

وهو أقوى بواعث الحسَد، وأشدّها صرامةً على مكايدة الحسود واستلاب نعمته.

٣ - التنافس:

بين أرباب المصالح والغايات المشتركة: كتحاسد أرباب المِهَن المتّحدة وتحاسد الأبناء في الحظوة لدى آبائهم، وتحاسد بطانة الزعماء والأمراء في الزلفى لديهم.

وهكذا تكثر بواعث الحسَد بين فئات تجمعهم وحدة الأهداف والروابط، فلاتجد تحاسداً بين متباينين هدفاً واتجاهاً، فالتاجر يَحسُد نظيره التاجر دون المهندس والزارع.

٤ - الأنانيّة:

وقد يستحوِذ الحسَد عن ذويه بدافع الأثرة والأنانيّة، رغبةً في التفوّق على الأقران، وحبّاً بالتفرّد والظهور.

٥ - الازدراء:

وقد ينجم الحسَد على ازدراء الحاسد للمحسود، مستكثراً نِعَمِ اللّه عليه، حاسداً له على ذلك.

وربّما اجتمعت بواعث الحسَد في شخص، فيغدو آنذاك بُركاناً ينفجر حسَداً وبغياً، يتحدّى محسوده تحدّياً سافراً مليئاً بالحُنق واللؤم، لا يستطيع

٢١٧

كتمان ذلك، ممّا يجعله شريراً مجرماً خطيراً.

مساوئ الحسَد:

يختصّ الحسَد بين الأمراض الخلقيّة بأنّه أشدّها ضرراً، وأسوأها مغبّةً في دين الحاسد ودُنياه.

١ - فمِن أضراره العاجلة في دنيا الحاسِد، أنّه يُكدّر عليه صفوَ الحياة، ويجعله قرين الهمّ والعناء، لتبرّمه بنِعَم اللّه على عباده، وهي عظيمةٌ وفيرة، وذلك ما يُشقيه، ويتقاضاه عِلَلاً صحيحة ونفسيّة ماحقة.

كما يُفجعه في أنفس ذخائر الحياة: في كرامته، وسُمعته، فتَراه ذميماً مُحَقّراً، منبوذاً تمقته النفوس، وتنبذه الطباع.

ويُفجِعه كذلك في أخلاقه، فتراه لا يتحرّج عن الوقيعةِ بمحسوده، بصنوف التُّهم والأكاذيب المحرّمة في شُرعة الأخلاق، ولا يألو جُهداً في إثارة الفتَن المفرّقة بينه وبين أودّائه، وذَوي قُرباه، نكايةً به وإذلالاً له.

وأكثر الناس استهدافاً للحسَد، ومعاناة لشروره وأخطاره، اللامعون المتفوّقون مِن أرباب العلم والفضائل، لما ينفسه الحسّاد عليهم من سموّ المنزلة، وجلالة القدر، فيسعون جاهدين في ازدرائهم واستنقاصهم، وشنّ الحمَلات الظالمة عليهم.

وهذا هو سرّ ظلامة الفضَلاء، وحرمانهم من عواطف التقدير والإعزاز، وربّما طاشت سهام الحسَد، فأخلَفت ظنّ الحاسَد، وعادت

٢١٨

عليه باللوعة والأسى، وعلى المحسود بالتنويه والإكبار كما قال أبو تمام:

وإذا أراد اللّه نصر فضيلة

طُويَت أتاح لها لسان حسُود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العُود

لولا التخوّف للعواقب لم يزل

للحاسِد النعمى على المسحود

ويقول الآخر:

اصبر على حسَد الحسُود

فإنّ صبَرك قاتله

فالنار تأكُل بعضَها

إنْ لم تجِد ما تأكله

٢ - وأمّا أضرار الحسَد الآجلة:

فقد عرفت ما يتذرّع به الحاسِد من صنوف الدس والتخريب في الوقيعة بالمحسود، وهدر كرامته. وهذا ما يعرض الحاسِد لسخط اللّه تعالى وعقابه، ويأكل حسَناته كما تأكل النار الحطب.

هذا إلى تنمّر الحاسد، وسخطه على مشيئة اللّه سُبحانه، في إغداق نعمه على عباده، وتلك جرأة صارخة تبّوئه السخط والهَوان.

علاج الحسَد:

وإليك بعض النصائح العلاجيّة للحسَد:

١ - تَركُ تطلّع المرء إلى مِن فوقه سعادة ورخاءً وجاهاً، والنظر إلى من دونه في ذلك، ليستشعر عناية اللّه تعالى به، وآلائه عليه، فتخفّ بذلك نوازع الحسَد وميوله الجامحة.

٢١٩

٢ - تذكّر مساوئ الحسَد. وغوائله الدينيّة والدنيويّة، وما يُعانيه الحسّاد من صنوف المكاره والأزَمات.

٣ - مراقبة اللّه تعالى، والإيمان بحكمة تدبيره لعباده، والاستسلام لقضائه، متوقّياً بوادر الحسَد، ومقتضياته الأثيمة مِن ثلب المحسود والإساءة إليه، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ويُنجي منه أنْ يكفّ الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمزٍ على أخيه المؤمن ).

ولو لم يكن في نبْذ الحسَد إلاّ استهجانه، والترفّع عن الاتّصاف بمثالبه المقيتة، لوجوب نبذه ومجافاته.

وجدير بالآباء أنْ لا يميّزوا بين أبنائهم في شمول العناية والبِرِّ. فيبذروا في نفوسهم سموم الحسَد، ودوافعه الأثيمة.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517