أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت7%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342634 / تحميل: 12227
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الكلِم الطيّب

مَن استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعيّة، والأزَمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علِم أنّ منشأها في الأغلَب بوادِر اللسان، وتبادل المُهاتَرات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعيّة، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

مِن أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلِم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدَب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيبُ الحديث، وحُسنُ المَقال، مِن سِمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفَر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدَب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً، إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى:( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) ( الإسراء: ٥٣ ).

وقال سُبحانه:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) ( البقرة: ٨٣ ).

وقال عزّ وجل:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ

٢٤١

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( فُصِّلت: ٣٤ ).

وقال تعالى:( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان: ١٩ ).

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

وقال رجلٌ لأبي الحسنعليه‌السلام : أوصني. فقال: ( احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس مِن قيادك فتَذِلّ رقبتك )(١).

وجاء رجلٌ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول اللّه، أوصِني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ). قال: يا رسول اللّه، أوصني. قال: ( احفظ لسانَك ، ويحَك وهل يُكبّ الناسُ على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم !!)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: ( ويحَك يا عبّاد، غرّك أنّ عُفّ بطنُك وفرجُك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ ).

إنّه لا يتقبّل اللّه منك شيئاً حتّى تقول قولاً عدْلاً )(٣).

وقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : ( القول الحسَن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويُحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٤ عن الكافي.

(٢)، (٣) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن الخصال أمالي الصدوق.

٢٤٢

ويُنسب للصادقعليه‌السلام هذا البيت:

عوّد لسانَك قول الخير تحظَ به

إنّ اللسان لِما عوّدت معتادُ

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنِم، أو سكَت عن سُوءٍ فسلِم )(١).

ونستجلي من تلك النصوص الموجّهة ضرورةَ التمسُّك بأدَب الحديث، وصَون اللسان عن البَذاء، وتعويدَه على الكلِم الطيِّب، والقَول الحسَن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقْعُه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبُّ، ويَستديم الودّ، ويمنَع نَزْغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودّة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العِداء، ويُخفّف مِن إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجِد العُظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها مِن العثَرات والفلَتَات.

فقد قيل أنّه اجتمع أربعة ملوك فتكلّموا:

فقال ملك الفُرس:ما ندِمت على ما لم أقُل مرّة، وندِمت على ما قُلت مراراً .

وقال قيصر:أنا على ردِّ ما لم أقُل أقدَر منّي على ردّ ما قُلت .

وقال ملك الصين:ما لَم أتكلّم بكلمةٍ ملكتها، فإذا تكلّمت بها ملكتني .

وقال ملك الهند:العجَب ممّن يتكلّم بكلمةٍ إنْ رُفعت ضرّت، وإنْ

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٨٨، عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٢٤٣

لم تُرفَع لم تنفع(١).

وليس شيءٌ أدلّ على غباء الإنسان، وحماقته، مِن الثرثرة، وفضول القول، وبَذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: ( يا هذا إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودَع ما لا يعنيك )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( مَن كثُر كلامه كثُر خطأه، ومَن كثُر خطأه قلّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قلّ ورَعُه، ومَن قلّ ورَعُه مات قلبُه، ومَن مات قلبُه دخل النار )(٣).

وعن سليمان بن مهران قال: دخلتُ على الصادقعليه‌السلام وعنده نفرٌ مِن الشيعة، فسمعته وهو يقول: ( معاشِر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول )(٤).

وتوقّياً مِن بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمن المرء كبوَتَه وعثَرَاته المدمّرة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( الصمتٌ كنزٌ وافر، وزينُ الحليم،

_____________________

(١) مجاني الأدب.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٧ عن النهج.

(٤) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٩٢ عن أمالي الصدوق.

٢٤٤

وسِترُ الجاهل )(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( كان أبو ذر يقول: يا مُبتغي العِلم إنّ هذا اللسان مفتاح خيرٍ، ومفتاح شرٍّ، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهَبك ووَرَقِك )(٢).

ونُقِل أنّه اجتمع قس بن ساعدة وأكثَم بن صيفي، فقال أحدُهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم مِن العيوب ؟ فقال: هي أكثر مِن أنْ تُحصَر، وقد وجدت خصلةً إنْ استعملها الإنسان ستَرَت العُيوب كلّها. قال: ما هي ؟ قال: حِفظ اللسان.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٨٥ عن الكافي.

٢٤٥

غوائل الذنوب

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما، وسُوء مغبّتهما عليه.

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء، وقايةً وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة، والنُظُم السماويّة، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم.

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة، وآثارٍ سيّئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الإنسان فساداً، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك.

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب،

٢٤٦

وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة:

قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء: ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) ( الأنعام: ٦ ).

وقال تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف: ٩٦ ).

وقال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الأنفال: ٥٣ ).

وقال تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) ( الشورى: ٣٠ ).

وقال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم: ٤١ ).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامّة، وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع، مِن ضروب الأزَمَات، والمِحَن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشُحّ الأرزاق، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام، وإليك طرَفاً منها:

عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه

٢٤٧

عليه وآله ): عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!)(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ، يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف، لسارعت إلى مقته )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء، فإنْ تاب انمَحَت، وإنْ زاد زادَت، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبدُ ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخَطي، واستوجَب الحرمان منّي )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كان أبيعليه‌السلام يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه، حتّى يُحدِث

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٥ عن أمالي الصدوق.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ ص ١٥٦ عن عيون أخبار الرضا للصدوق.

(٣)، (٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

٢٤٨

العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة )(١) .

وقال الرضاعليه‌السلام : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون )(٢).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ، ولَم يُنزِل بها العذاب، غلَت أسعارها، وقَصُرت أعمارها، ولَم يربَح تِجّارُها، ولَم تَزكُ ثِمارها، ولم تَغزَر أنهارها، وحُبِس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( وجدنا في كتاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهَوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(٤).

وعن المفضّل قال: قال الصادقعليه‌السلام : ( يا مفضل، إيّاك

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن التهذيب والفقيه.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

٢٤٩

والذنوب، وحذِّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه، حتّى يقول مَن حضر: لقد غُمّ بالموت ).

فلمّا رأى ما قد دخلني، قال: ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) قلتُ: لا أدري جُعلت فداك.

قال: ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( توقّوا الذنوب، فما مِن بليّةٍ، ولا نقصِ رِزقٍ، إلاّ بذنبٍ، حتّى الخَدْش، والكبوَة، والمصيبة، قال اللّه عزّ وجل:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) )(٢).

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقّت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة.

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنّما يُمهِل العُصاة، ويُؤخّر عقابهم، رعايةً لمصالحهم، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم

_____________________

(١) البحار عن علل الشرائع.

(٢) البحار عن الخصال.

٢٥٠

معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب.

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طُغياناً وإثماً، فيأخُذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( آل عمران: ١٧٨ ).

وقال سُبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ( فاطر: ٤٥ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً، فأذنَب ذنباً، أتبَعهُ بنقمةٍ، ويُذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبدٍ شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمةٍ، ليُنسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم: ٤٤ ) بالنِّعَم عند المعاصي )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي: مهلاً مهلاً، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائمٌ رُتّع، وصبيةٌ رُضّع، وشيوخٌ ركّع، لصُبّ عليكم العذاب صبّاً، تُرَضّون به رضّاً )(٢).

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٧٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

٢٥١

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل.

فرُبّ متعةٍ بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياءعليهم‌السلام هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل:( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل.

٢٥٢

التوبة

لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها الماديّة والروحيّة، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب، ودنَس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعِسرِ تداركها.

وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهَوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة.

حقيقة التوبة:

لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح، إلاّ بعد تبلورها، واجتيازها

٢٥٣

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأوّل: هو طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:

الطور الثاني: وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى:

الطور الثالث: وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات، وتلاشي السيّئات، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبةُ هزلاً عابثاً، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان، وإنّما هي: الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب، كما قال الإمام الرضاعليه‌السلام :

( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ).

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمّة، ومآثر جليلة، صَوّرها القرآن الكريم، وأعربَت عنها آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب، وسفينة النجاة، وصمّام الأمن

٢٥٤

مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه.

وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العِصيان، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوّقهم إلى الإنابة، ومهّد لهم التوبة، فقال سُبحانه:

( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنعام: ٥٤).

وقال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وقال تعالى حاكياً:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح: ١٠ - ١٢ ).

وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ).

قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال: ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيءٌ يشهدُ

٢٥٥

عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(١).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثٍ آخر: ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب، أو مؤمنةٍ تائبة )(٢).

وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفرعليهما‌السلام قال: ( إنّ آدم قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له.

قال: يا ربّ، زدني. قال: جَعلتُ لهم التوبة، حتّى يبلغ النفس هذه. قال: يا ربّ حسبي )(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ٩٨ عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٨٤ عن الكافي.

٢٥٦

يستغفر ربّه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(١).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(٢).

وجوب التوبة وفوريّتها:

لا ريبَ في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أمّا العقل: فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه. لذلك وجَب التحصّن بالتوبة، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأمّا النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته )، ثمّ قال: ( إنّ السنةَ

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٢ عن الكافي.

٢٥٧

لكثير، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الشهرَ لكثير، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: ( إنّ الجُمعة لكثير، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ).

ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(٢).

تجديد التوبة:

مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر.

بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها، فيُقارف المعاصي مِن جديد، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أُخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خَشية النكول

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) البحار م ٣ ص ١٠٠ عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

٢٥٨

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة، وتصميمٍ جازم، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: ٥٣ ).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمّد بن مسلم قال: قال الباقرعليه‌السلام : ( يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ).

قلت: فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة.

فقال: ( يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات،

٢٥٩

فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(١).

وعن أبي بصير قال: ( قلتُ لأبي عبد اللّهعليه‌السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) ( التحريم: ٨ ) ؟ قال: ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ). قلت: وأيّنا لم يعد.

فقال: ( يا أبا محمّد، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(٢).

المراد بالمفتن التوّاب: هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب، ومسؤوليّاتها الخطيرة، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قِسمان: تركُ الواجبات، وفِعل المحرّمات.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٨٣ عن الكافي.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

عليها غلمة من آل فهر

شمائلها أرقّ من الشمال

تمدّ إلى الطعان طوال أيد

إذا قصرت عن الطعن العوالي

تسابق للمنية كالعطاشى

قد استبقت إلى الورد الزلال

وما برحت تحيي البيض حتى

هوت مثلَ البدور على الرمال

تساقط عن متون الخيل صرعى

كما سقطت من السلك اللئالي

غدت أشلاؤهم قطعاً وأضحت

صدورهم جفيراً للنبال

وأصبح مفرداً فرد المعالي

يُثني عضبه جمع الضلال

عدا فأطار قلب الجيش رعباً

ثنى قلب اليمين على الشمال

يكاد الرمح يورق في يديه

لما في راحتيه من النوال

فما بأس ابن غيلٍ وهو طاوٍ

رأى شبليه في أيدي الرجال

بأشجع من حسين حين أضحى

بلا صحب يدير رحى القتال

سطا فاقتضّها بالرمح بكراً

والقحها عوانا عن حيال

ولما اشتاق للاخرى ووفى

بحدّ حسامه حق المعالي

هوى للترب ظامي القلب نهباً

لبيض القضب والأسل الطوال

وثاوٍ في هجير الشمس عارٍ

تظلله أنابيب العوالي

أبى إلا الإبا فقضى عزيزاً

كريم العهد محمود الفعال

قضى عطر الثياب يفوح منها

أريج العزّ لا أرج الغوالي

وأرخص في فداء الدين نفساً

يفدّيها القضاء بكل غالي

وما سلبت عداه منه إلا

رِداً أبلته غاشية النبال

وسيفاً فلّ مضربه قراع

الطلى ومحزّق الدرع المذال

لهيف القلب تُروى من دماه

ـ برغم الدين ـ صادية النصال

تفطر قلبه وعداه ظلماً

تحلئه عن الماء الحلال

صريعاً والعتاق الجرد تقفو

الرعال بجسمه إثر الرعال

٣٢١

وثاكلة تناديه بصوت

يزلزل شجوه شمّ الجبال

عزيز يا بن امّ عليّ تبقى

ثلاثاً في هجير الشمس صال

أخي انظر نساءك حاسرات

تستّر باليمين وبالشمال

سرت أسرى كما اشتهت الأعادي

حواسر فوق أقتاب الجمال

* * *

الشيخ حسن الحمود أديب موهوب يتحدر نسبه من اسرة عربية تنتمي إلى قبيلة ( طفيل ) ووالده العالم الجليل والفقيه الكبير الشيخ علي هاجر من الحلة إلى النجف وهو علي بن الحسين بن حمود توجه وهو في سنّ الكهولة وأكبّ على طلب العلم حتى نال درجة الاجتهاد مضافاً الى تقاه وورعه وموضع ثقة المجتمع على اختلاف طبقاته فكان يقيم الصلاة وتأتم به في الصحن العلوي الشريف مختلف الطبقات إلى أن توفي 7 شوال 1344 بعد مرض ألزمه الفراش أعواماً ولقد رزقه الله ولدين فاضلين هما الحسن والحسين أما الثاني وهو الأصغر فكان من المجتهدين العظام وممن يشار اليهم بالبنان وقد توفي قريباً وهو من المعمرين، وأما الأول وهو المترجم له فقد كان من نوابغ عصره ومولده كان حوالي سنة 1305 في النجف ونشأ بها في كنف والده، ومن أشهر أساتذته الذين اتصل بهم واستفاد منهم في العربية وآدابها هو الشيخ محمد رضا الخزاعي والشيخ عبد الحسين بن ملا قاسم الحلي والسيد مهدي الغريفي البحراني ثم هو من خلال ذلك شديد الملازمة لحضور نادي العلامة الجليل السيد محمد سعيد الحبوبي وقد كتب بخطه الجميل ديوان الشيخ محمد رضا الخزاعي وهناك مخطوطات أدبية كتبها بخطه، توفاه الله يوم الثلاثاء 11 ربيع الثاني سنة 1337 الموافق 1 كانون الثاني 1919 ودفن في الصحن الحيدري أمام الإيوان الذهبي وجزع عليه أبوه جزعاً شديداً بان عليه أثره كما أسف عليه عارفوه وأقام له مجلس العزاء الفاضل الأديب السيد علي سليل العلامة الجليل السيد محمد سعيد الحبوبي ورثاه بقصيدة مطلعها:

أو بعد ظعنك تستطاب الدار

فيقرّ فيها للنزيل قرار

٣٢٢

وظهرت شجاعته الأدبية يوم دعي إلى بغداد لأداء الامتحان في عهد الدولة العثمانية بدل من أن يساق لخدمة الدفاع المصطلح عليها ب‍ ( القرعة ) وكان رئيس اللجنة السيد شكري الألوسي وعندما استجوب بمسائل دينية وعربية نحوية وصرفية أكبره الرئيس الالوسي فمنحه ساعة ذهبية فارتجل المترجم له قصيدة أولها.

يا فكر دونك فانظمها لنا دررا

من المدائح تتلوها لنا سورا

ويا لساني فصّلها عيون ثنى

تزان فيه عيون الشعر والشعرا

ويا قريحة جودي في مديح فتى

تجاوز النيرين الشمس والقمرا

خلف آثاراً منها رسالة في علم الصرف وهي اليوم عند ولده الشيخ أحمد وديوان شعره الذي جمعه ولده المشار اليه يقارب 1500 بيتاً وهو مرتب على حروف الهجاء ومن أشهر قصائد رائعته التي نظمها في الصديقة الطاهرة فاطمة بنت النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وملاؤها شجاء وأولها:

سل أربعا فطمت أكنافها السحب

عن ساكنيها متى عن افقها غربوا

وهي مشهورة محفوظة وقد ترجم له الكاتب المعاصر علي الخاقاني في شعراء الحلة ترجمة ضافية وذكر طائفة من أشعاره ونوادره وغزلياته ومراسلاته أما قصائده الحسينية فاليك مطالعها:

1 ـ هنّ المنازل غيّرت آياتها

أيدي البلى وطوت حسان صفاتها

69 بيتاً

2 ـ لست ممن قضى بحبّ الملاح

لا ولا هائماً بذات الوشاح

54 بيتاً

3 ـ ما شجاني هوى الحسان الغيد

لا ولا همتُ في غزال زرود

58 بيتاً

4 ـ من هاشم العلياء جبّ سنامها

خطب أحلّ من الوجود نظامها

42 بيتاً

٣٢٣

5 ـ ألا دع عيوني لهتانها

وخلّ حشاي لنيرانها

50 بيتاً

وله من قصيدة في الإمام الحسين (ع):

خلت أربع اللذات واللهو والانس

ولم يبق منها غير أطلالها الدرسِ

وقفت بها والوجد ثقّف أضلعي

ومن حرقي كادت تفيض بها نفسي

اسائلها اين الذين عهدتهم

تضيئين فيهم كنت يا دار بالأمس

فلم تطق التعبير عمّا سألتها

لتخبرني آثار أطلالها الخرس

فأجريتُ دمعي في ثراها تذكراً

لأربع طه سيد الجنّ والانس

لقد أقفرت مذ غاب عنها ابن فاطم

وأضحت مزار الوحش خاوية الاسّ

سرى نحو أرجاء العراق تحوطه

أسودٌ لورد الموت أظما من الخمس

أفاعي قناهم تنفث الموت في العدا

إذا اعتقلوها وهي ليّنة اللمس

وبيض ضباهم يدهش الحتف ومضها

ويترك أسد الغاب خافتة الحسّ

تهادى كأمثال النشاوى إلى الردى

إذا غنّت البيض الرقاق على الترس

أباحوا جسوم القوم بيض سيوفهم

فلم تر غير الكف في الأرض والرأس

ولما دعاهم ربهم للقائه

هلموا أحبائي إلى حضرة القدس

هووا للثرى نهب الصفاح جسومهم

عراة على البوغاء تصهر بالشمس

تجول عليها العاديات نهارها

وتأتي عليها الوحش تنحب إذ تمسي

كرام تفانوا دون نصر ابن أحمد

وأقصى سخاء المرء أن يسخ بالنفس

وله في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومصرعه قصيدة مطلعها:

عج بسفح اللوى وحيّ الربوعا

وأذل قلبك المعنّى دموعا

واخرى في الصديقة فاطمة الزهراء (ع) أولها:

لا رعى الله قيلة وعراها

سخط موسى وحلّ منها عراها

٣٢٤

وله من قصيدة في مدح السيد محمد القزويني وهذا غزلها:

أتى زائراً والليل شابت ذوائبه

يرنحه غصن الصبا ويلاعبه

تزرّ على البدر المنير جيوبه

وتضفو على الغصن النضير جلاببه

يقابل ليلاً صدره افق السما

فترسم فيه كالعقود كواكبه

على وجنتيه أنبت الحسن روضة

حمتها أفاعي فرعه وعقاربه

وفي فمه ماء الحياة الذي به

يعيش ـ إلى أن ينقضي الدهر ـ شاربه

( ولعت به غضّ الشبيبة ناشئاً )

جرى الماء في خديه واخضرّ شاربه

فغادرني ( قوساً ) مثقّف قدّه

وصيّرني رهن الكآبة ( حاجبه )

وقلت له زر. قال يفضحني السنا

فقلت له ذا ليل شعرك حاجبه

فقال ظلام الليل لم يخف طلعتي

فقلت له أردى الكرى مَن تراقبه

فجاء وقد مدّ الظلام رواقه

تمانعه أردافه وتجاذبه

فبتنا وأثواب العفاف تلفّنا

وسادته زندي وطوقي ذوائبه

ونروي أحاديث الصبابة بيننا

فيعذلني طوراً وطوراً اعاتبه

إلى أن أغار الصبح في نوره على

دجى الليل وانجابت برغمي غياهبه

فودعني والدمع يغلب نطقه

وقد غمر الأرض البسيطة ساربه

وفارقته لكن قلي من جوى

جرى أدمعاً من غرب عيني ذائبه

بديع جمال عن معانيه قاصر

بياني وقد ضاقت عليّ مذاهبه

غدائره سودٌ وحمر خدوده

وصفر تراقيه وبيض ترائبه

وخطّ يراع الحسن لاماً بخده

فسبحان باريه ويا عزّ كاتبه

رقيق أديم الوجه يجرح خده

إذا ما النسيم الغضّ هبّت جنائبه

إذا مرّ في وادي الأراك تغارُ من

محاسنه أغصانه ورباربه

٣٢٥

الحاج مصطفى ميرزا

المتوفى 1338

يا راكب القود تجوب الفلا

وتقطع الأغوار والأنجدا

عرّج على الطف وعرّس بها

عني وقف في أرضها مكمدا

وانشد بها من كل ترب العلا

من هاشم مَن شئت أن تنشدا

فكم ثوت فيها بدور الدجى

وكم هوت فيها نجوم الهدى

وكم بها للمجد من صارم

عضبٍ على رغم العلى أغمدا

كل فتى يعطي الردى نفسه

ولم يكن يعطي لضيم يدا

يخوض ليل النقع يوم الوغى

تحسبه في جنحه فرقدا

يصدع قلب الجيش إما سطا

ويصدع الظلماء إما بدا

تلقاء مثل الليث يوم الوغى

بأساً ومثل الغيث يوم الندى

إن ركع الصارم في كفه

خرّت له هام العدى سجّدا

لم يعترض يوم الوغى جحفلاً

إلا وثنّى جمعه مفردا

سامهم الذل بها معشر

والموت أحلى لهم موردا

ومذ رأوا عيشهم ذلة

والموت بالعز غدا أرغدا

خاضوا لظى الهيجاء مشبوبة

واقتحموا بحر الردى مزبدا

وقبّلوا خدّ الظبا أحمراً

وعانقوا قدّ القنا أغيدا

وجرّدوا من عزمهم مرهفاً

أمضى من السيف إذا جرّدا

يفدون سبط المصطفى أنفساً

قلّ بأهل الأرض أن تفتدى

٣٢٦

عجبت من قوم دعوه إلى

جند عليه بذله جنّدا

وواعدوه النصر حتى إذا

وافى اليهم أخلفوا الموعدا

وأوقدوا النار على خيمة

وتّدها بالشهب مَن وتّدا

يا بأبي ظمآن مستسقياً

وما سقوه غير كأس الردى

ويا بروحي جسمه ما الذي

جرى عليه من خيول العدا

وذات خدر برزت بعده

في زفرات تصدع الأكبدا

وقومها منها بمرأىً فما

أقربهم منها وما أبعدا

فلتبك عين الدين من وقعة

أبكت دماً في وقعها الجلمدا

وقال من قصيدة في الامام الحسين (ع):

وقائلة لي عزّ قلبك بعدهم

فقلت أصبت القول لو كان لي قلبُ

فقد أرخصت مني الدموع ولم أزل

اغالي بدمعي كلما استامه خطب

رزية قوم يمموا أرض كربلا

فعاد عبيراً منهم ذلك الترب

أكارم يروي الغيث والليث عنهم

إذا وهبوا ملأ الحقائب أوهبّوا

إذا نازلوا الأعداء أقفر ربعها

وإن نزلوا في بلدة عمّها الخصب

تخفّ بهم يوم اللقاء خيولهم

فتحسبها ريحاً على متنها الهضب

إذا انتدبوا يوم الكريهة أقبلوا

يسابق ندباً منهم ما جد ندب

يكلفهم أبناء هند مذلة

وتوصيهم بالعزّ هندية قضب

فيا لهفة الاسلام من آل هاشم

ووا حرباً للدين مما جنت حرب

فأضحى إمام المسلمين مجرداً

وحيداً فلا آل لديه ولا صحب

وظلّ وليل النقع داجٍ تحفه

نصول القنا كالبدر حفّت به الشهب

وقد ولي الهنديّ تفريق جمعهم

فصحّ ( لتقسيم ) الجسوم به الضرب

إلى أن قضى ظمآن والماء دونه

( مباح على الرواد منهله العذب )

بنفسي يا مولاي خدك عافر

وجسمك مطروح أضرّ به السلب

* * *

٣٢٧

الشيخ اغا مصطفى ابن الاغا حسن ابن الميرزا جواد ابن الميرزا أحمد التبريزي من اسرة مجتهد الشهيرة بتبريز، ولد سنة 1295 وتوفي فيها في أواسط شهر رمضان 1337 وجاءت جنازته إلى النجف الاشرف سنة 1338 درس بالنجف مدة حتى نال حظاً وافراً من العلم ورجع لمسقط رأسه.

كان كما يقول الشيخ الأميني في ( شهداء الفضيلة ) أحد أفذاذ الامة وعباقرة العصر الحاظر. ولد بتبريز سنة 1297 وتخرّج على الخراساني وشيخ الشريعة الأصبهاني وآية الله الطباطبائي اليزدي. له حاشية على الكفاية في الاصول لم تتم. رسالة في اللباس المشكوك، أرجوزة في علمي العروض والقافية، رسائل مختلفة في الفلكيات والرياضيات، اما في الأدب فكان فارس ميدانه، ولقد قال فيه الحجة المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

تركت سيوف الهند دونك في الفتك

على العرب العربا وأنت من الترك

تبرّزت من تبريز رب فصاحة

بها مدنياً قد حسبناك أو مكي

فكم لك من نثر ونظم تزيّنت

بنفسهما المسكيّ كافورة المسك

سبكتَ مياه الحسن في حسن سبكها

فيها لأبيك الخير من حسن السبك

لو الملك الضليل يهدى لمثلها

لظلّ يفاديها وإن عزّ بالمسك

وتسليه عن ( ذكرى حبيب ومنزل )

ويضحك إعجاباً بها من ( قفا نبك )

إذا رحت تتلوها غداً وهو قائل

فديتك واللسن الأعاريب يا تركي

لباب معان يسحر اللب لفظها

فيحسبه نظم اللئالي بلا سلك

ولكن آي المصطفى آية العلى

أثارت فآثرت اليقين على الشك

فتى زاد أيام الصبا سمك رفعة

تقاصر شأو الشيب عن ذلك السمك

وتلقاه قبل الاختبار مهذباً

مخائله تغني اللبيب عن المسك

وللعلامة الشيخ محمد رضا الأصبهاني هذه الأبيات كتبها اليه:

علوت في الفضل السهى والسماك

فأنت بدر والمعالي سماك

لاغرو إن فقت الثريا علاً

فأنت في ذلك تقفو أباك

ومذ حللت القلب أكرمته

وكيف لا يكرم مثلي حماك

٣٢٨

وله من الشعر معارضاً قصيدة الشيخ محمد السماوي التي أولها:

وجهك في حسنه تفنن

أنبت حول الشقق سوسن

قال في أولها:

سبحان من صاغه وكوّن

في غصنٍ وردةً وسوسن

أحنّ من ثغره ومَن ذا

رأيته لليتيم ما حن

شطّر بالوجد بيت قلبي

وفيه كل الغرام ضمّن

الله كم من دقيق معنى

للحسن ذاك الوشاح بيّن

ضمّن قلبي الأسى وعهدي

بمتلف الحب لا يضمّن

لولا ثناياه ما حسبنا

أن صغار الجمان أثمن

وكانت بينه وبين الشيخ اغا رضا الأصبهاني والشيخ جواد الشبيبي مراسلات ومما أرسل اليهما قصيدة أولها:

شهدت ليس الشهد غير ريقها

ما ذاقها سواك يا سواكها

وغير أخلاق الرضا فهي التي

ما أدركت أو لو النهى إدراكها

المرتدي ببردة العلم التي

سدى التقى لحمتها وحاكها

تعوّدت أنمله البسط فلو

همّ ببخل لم يطق إمساكها

يابن الاولى قد وطأت أقدامهم

هام السما فشرّفوا أملاكها

وترجم له في ( الحصون المنيعة ) فقال: كان شاباً ظريفاً حسن الأخلاق طيب الاعراق، جميل المعاشرة، عالماً فاضلاً مهذباً كاملاً، أديباً لبيباً، شاعراً ماهراً، وله شعر جيد السبك رائق اللفظ وله مطارحات ومراجعات مع شعراء عصره من شعراء النجف وغيرهم، وكان من أصدقاء الشيخ اغا رضا الأصفهاني فكم دارت بينهما من مطارحات ومراسلات شعرية وأدبية. انتهى

٣٢٩

السيد عبد المطلب الحي

المتوفى 1339

قم بنا ننشد العيس الطلاحا

عن بلاد الذلّ نأياً وانتزاحا

الى ان يتخلص لموقف الحسين وبطولته فيقول:

بأبي الثابت في الحرب على

قدم ما هزّها الخوف براحا

كلما خفّت بأطواد الحجا

زاد حلماً خفّ بالطود ارتجاحا

مسعر إن تخبو نيران الوغى

جرّد العزم وأوراها اقتداحا

لم يزل يرسي به الحلم على

جمرها صبراً وقد شبّت رماحا

كلما جدّت به الحرب رأى

جدّها في ملتقى الموت مزاحا

إن يخنه السيف والدرع لدى

ملتقى الخيل إتقاءً وكفاحا

لم يخنه الصبر والعزم إذا

صرّت الحرب إدّراعاً واتشاحا

رب شهباء رداح فلّها

حين لاقت منه شهباء رداحا

كلما ضاق به صدر الفضا

صدره زاد اتساعاً وانشراحا

فمشى قدماً لها في فتية

كأسود الغاب يغشون الكفاحا

يسيقون الجرد في الهيجا إذا

صائح الحي بهم في الروع صاحا

ويمدّون ولكن أيدياً

للعدى تسبق بالطعن الرماحا

أيدياً في حالة تنشي الردى

وبأخرى تمطر الجود سماحا

فهي طوراً بالندى تحيي الورى

وهي طوراً أجلٌ كان متاحا

بأبي أفدي وجوهاً منهم

صافحوا في كربلا فيها الصفاحا

٣٣٠

أوجهاً يشرقن بشراً كلما

كلح العام ويقطرن سماحا

تتجلى تحت ظلماء الوغى

كالمصابيح التماعاً والتماحا

أرخصوا دون ابن بنت المصطفى

أنفساً تاقت إلى الله رواحا

فقضوا صبراً ومن أعطافهم

أرج العز بثوب الدهر فاحا

لم تذق ماءً سوى منبعثٍ

من دم القلب به غصت جراحا

أنهلت من دمها لو أنه

كان من ظامي الحشا يطفي التياحا

أعريت فهي على أن ترتدي

بنسيج الترب تمتاح الرياحا

وتبقّوا أجدلاً من عزّه

لسوى الرحمن لم يخفض جناحا

يتلقى مرسل النبل بصد

رٍ وسع الخطب وقد سدّ البطاحا

فقضى لكن عزيزاً بعدما

حطم السمر كما فلّ الصفاحا

ثاوياً ما نقمت منه العدى

صرعة قد أفنت الشعر امتداحا

ونواعيها مدى الدهر شجى

يتجاوبن مساءً وصباحا

وآ صريعاً نهبت منه الضبا

مهجة ذابت من الوجد التياحا

يتلظى عطشاً فوق الثرى

والروى من حوله ساغ قراحا

هدموا في قتله ركن الهدى

واستطاحوا عمد الدين فطاحا

بكت البيض عليه شجوها

والمذاكي يتصاهلن نياحا

أيّ يوم ملأ الدنيا أسىً

طبّق الكون عجيجاً وصياحا

يوم أضحى حرم الله به

للمغاوير على الطف مباحا

أبرزت منه بنات المصطفى

حائرات يتقارضن المناحا

أيها المدلج في زيافة

تنشر الأكم كما تطوي البطاحا

فإذا جئت الغريين أرح

فلقد نلتَ بمسراك النجاحا

صل ضريح المرتضى عني وخذ

غرب عتب يملأ القلب جراحا

قل له يا أسد الله استمع

نفثةً ضاق بها الصدر فباحا

٣٣١

كم رضيع لك بالطفى قضى

عاطشاً يقبض بالراحة راحا

أرضعته حُلُم النبل دماً

من نجيع الدم لا الدرّ القراحا

ولكم ربة خدر ما رأى

شخصها الوهم ولا بالظن لاحا

أصبحت ربّة كور وبها

ترقل العيس غدواً ورواحا

سلبت أبرادها فالتحفت

بوقار صانها عن أن تباحا

واكتست برداً من الهيبة قد

ردّ عنها نظر العين التماحا

لو تراها يوم أضحت بالعرى

جزعاً تندب رحلاً مستباحا

حيث لا من هاشم ذو نخوة

دونها في كربلا يدمي السلاحا

* * *

السيد عبد المطلب الحسيني، ابن السيد داود بن المهدي بن داود بن سليمان الكبير. علم من أعلام الأدب، كريم الحسب والنسب، فجدّه لأبيه السيد مهدي بن داود وقد مرت ترجمته وعمّه السيد حيدر بن سليمان الذائع الصيت، تجد مسحة حيدرية على شعره اكتسبها منه، يقول الشيخ اليعقوبي في ترجمته: كان فصيح البيان جري اللسان كثير الحفظ ذكي الخاطر خصب القريحة مرهف الحس، كان يعرض شعره على عمّه في حياته ورثاه بعد وفاته بثلاث قصائد، وقد أطراه الشيخ محمد الجواد الشبيبي ـ شيخ الأدب في العراق ـ واليك نص ما قاله:

وقد أغرب مذ أعرب سيد بطحائها ( عبد المطلب ) عن رثاء لو وعته الخنساء لأذهلها عن صخر. ولد المترجم في الحلة حوالي سنة 1280 ونشأ فيها وكان جلّ تحصيله الادبي من عمه السيد حيدر وخاض المعارك السياسية وكان صوته يجلجل بشعره وخطبه داعياً لجمع الكلمة والوحدة الإسلامية وأثار حماسة العشائر الفراتية بنظمه باللغتين الفصحى والدارجة حتى احرقت داره بعد ما نهبت، وهذه قصائد الوطنية المنشورة يومذاك في صحف بغداد تشهد بذلك.

٣٣٢

آثاره الادبية:

1 ـ جمع ديوان عمه السيد حيدر ووضع له مقدمة ضافية طبعت مع الديوان سنة 1313.

2 ـ جمع ديوان جده السيد مهدي في جزئين كبيرين.

3 ـ ديوانه الذي يجمع مجموعة أشعاره.

4 ـ شرح ديوان المهيار الديلمي بثلاثة أجزاء، وهو من أسمى شروح ديوان المهيار.

اليك نبذة من روائعه فهذه قصيدته التي أنشأها سنة 1331 في الحرب الايطالية:

أيها الغرب منك ماذا لقينا

كل يوم تثير حرباً طحونا

تظهر السلم للأنام وتخفي

تحت طيّ الضلوع داء دفينا

أجهلتم بأننا مذ خلقنا

عرب ليس ينزل الضيم فينا

ولنا نبعة من العزّ يأبى

عودها أن يلين للغامزينا

قد قفونا آباءنا للمعالي

واليها أبناؤنا تقتفينا

علّمونا ضرب الرقاب دراكا

وعلى الطعن في الكلى درّبونا

نحن قوم إذا الوغى ضرستنا

لم نبدّل بشدة البأس لينا

وإذا ما رحى الحروب استدارت

نحن كنا أقطابها الثابتينا

ما شربنا على القذا مذ وردنا

وسوى الصفو لم نكن واردينا

لاندي الوتر للعدا إن وترنا

وعلى الوتر لا نغضّ الجفونا

وإذا ما نسبتنا يوم روع

لوغىً فهي أمّنا وأبونا

شمل الجور شعبنا فائتلفنا

لدفاع العدو متحدينا

قل لايطاليا التي جهلتنا

بثبات الاقدام هل عرفونا

كيف ترجو كلاب ( رومة ) منا

أن ترانا لحكمها خاضعينا

دون أن تفلق الجماجم والهام

بضرب يأتي على الدارعينا

٣٣٣

نبحونا مهوّلين فلما

ان زأرنا عاد النباح أنينا

حيث لم تجدها المناطيد نفعاً

كلما حلّقوا بها معتدينا

سائلوها بنا غداة التقينا

والمنايا يخطرن فيهم وفينا

كيف رعناهم الغداة بضرب

جعل الشك في المنايا يقينا

زاحفونا بجيشهم فزحفنا

وقلبنا على الشمال اليمينا

كشلما صلّت القواضب خروا

للضبا لا لربهم ساجدينا

ملأوا البرّ بالجيوش كما قد

شحنوا مثلها البحور سفينا

كلما صاحت المدافع ثُبنا

بصليل الضبا لها مسكتينا

ونقضنا صفوفهم بطعان

لم يدع للطليان صفاً مكينا

أنكرونا أنا بنو تلكم الأسد

فلما ثرنا لها عرفونا

سل ( طرابلسا ) التي نزلوها

كيف ذاقوا بها العذاب المهينا

كلما بالفرار جدّوا ترانا

بالضبا في رؤوسهم لاعبينا

يا رسولي للمسلمين تحمّل

صرخة تملأ الوجود رنينا

وتعمّد بطحاء مكة واهتف

ببني فاطم ركينا ركينا

وعلى الحي من نزار وقحطان

فعج وامزج الهتاف حنينا

الحراك الحراك يا فئة الله

إلى الحرب لا السكون السكونا

أبلغا عني الخليفة قولاً

غثّه في المقال كان سمينا

أبجدٍّ بالصلح نرضى فنمسي

نقرع السن بعده نادمينا

كيف ترضى على ( الهلال ) نراهم

وهُم في صليبهم باذخونا

فارفض الصلح يابن مَن دوخوها

بشبا المرهفات روماً و ( صينا )

يا بن ودي عرّج بإيران فينا

إنها اليوم نهزة الطمعينا

قف لنبكي استقلالها بعيون

ننزف الدمع في الخدود سخينا

وعلى مشهد الرضا عج ففيه

فَعلَ الروس ما أشاب الجنينا

تركوا المسلمين فيه حصيداً

واستباحوا منه الرواق المصونا

لا تحدّث بما جرى فيه إعلا

ناً فإن الحديث كان شجونا

٣٣٤

وشعره بهذا المستوى العالي سواءاً نظم في السياسة أو في الغزل أو المدح والرثاء، ودّع الحياة بضواحي الحلة يوم 13 ربيع الأول سنة 1339 وعمره قد قارب الستين ونيران الثورة العراقية لم تخبو بعد في الفرات الأوسط. وحمل نعشه إلى النجف ودفن بوادي السلام، كتب عنه السيد محمد علي كمال الدين في كتابه ( الثورة العراقية الكبرى ) وذكر قصيدة عبد الكريم العلاف في رثائه وهنا نورد رائعة اخرى من روائعه في رثاء جده الإمام الحسين (ع):

أيقظته نخوة العزّ فثارا

يملأ الكون طعاناً ومغارا

مستميتاً للوغى يمشي على

قدم لم تشك في الحرب عثارا

يسبق الطعنة بالموت الى

أنفس الأبطال في الروع ابتدارا

ساهراً يرعى ثنايا غزّه

بعيون تحتسي النوم غرارا

مفرداً يحمي ذمار المصطفى

وأبيّ الضيم من يحمي الذمارا

منتضٍ عزماً إذا السيف نبا

كان أمضى من شبا السيف عرار

ثابت إن هزت الأرض به

قال قِريّ تحت نعليّ قرارا

طمعت أبناء حرب أن ترى

فيه للضيم انعطافاً وانكسارا

حاولت تصطاد منه أجدلاً

نفض الذل على الوكر وطارا

ورجت للخسف أن تجذبه

أرقماً قد ألف العزّ وِجارا

كيف يعطي بيد الهون إلى

طاعة الرجس عن الموت حذارا

فأبى إلا التي إن ذكرت

هزّت الكون اندهاشاً وانذعارا

تخلق الأيام في جدّتها

وهي تزداد علاءً وفخارا

فأتى من بأسه في جحفل

زحفه سدّ على الباغي القفارا

وليوث من بني عمرو العلى

لبسوا الصبرَ لدى الطعن دثارا

كل مطعام إذا سيل القرى

يوم محل نَحرَ الكوم العشارا

وطليق الوجه يندى مشرقاً

كلما وجه السما جفّ اغبرارا

هو ترب الغيث إن عامٌ جفا

وأخو الليث إذا ما النقع ثارا

أشعروا ضرباً بهيجاء غدا

لهم في ضنكها الموت شعارا

٣٣٥

غامروا في العز حتى عبروا

للعلى من لجج الموت غمارا

وعلى الأحساب غاروا فقضوا

بالضبا صبراً لدى الهيجا غيارى

فقضوا حق المعالي ومضوا

طاهري الأعراض لم يدنسن عارا

قصرت أعمارهم حين غدا

لهم القتل على العزّ قصارا

عقدوا الاخرى عليهم ولها

فارقوا الدنيا طلاقاً وظهارا

جعلوا أنفسهم مهراً لها

والرؤوس الغالبيات نثارا

والمصابيح التي تجلى بها

صيروهنّ رماحاً وشفارا

يا له عقداً جرى في كربلا

بجزيل الأجر لم يعقب خسارا

أقدموا في حيث آساد الشرى

نكصت عن موكب الضرب فرارا

وتدانوا والقنا مُشرعة

يتلمظنّ إلى الطعن انتظارا

بذلوها أنفساً غالية

كبرت بالعز أن ترضى الصغارا

أنفساً قد كضّها حرّ الظما

فاسالوها عن الطعن حرارا

تاجروا لله بها في ساعة

لم تدع فيه لذي بيع خيارا

أيها المرقل فيها جسرة

كهبوب الريح تجتاب القفارا

صل إلى طيبة وأعقلها لدى

أمنع الخلق حريماً وجوارا

وأنخها عنده موقرةً

بالشجا قد خلعت عنها الوقارا

وله لا تعلن الشكوى وإن

كبر الفادح أن يغدو سرارا

حذراً من شامت يسمعها

كان بالرغم لخير الرسل جارا

فلقد أضرم قدماً فتنة

كربلا منها غدت تصلى شرارا

قل له عن ذي حشاً قد نفذت

أدمعاً سال بها الوجد انهمارا

يا رسول الله ما أفضعها

نكبةً لم تبق للشهم اعتذارا

كم لكم حرّ دم في كربلا

ذهبت فيه المباتير جُبارا

يوم ثار الله في الأرض به

آلُ حربٍ أدركت بالطف ثارا

والذي أعقب كسراً في الهدى

ليس يلقى أبد الدهر انجبارا

حرم التنزيل والنور الذي

بسناه غاسق الشرك استنارا

٣٣٦

وصفاياك اللواتي دونها

ضرب الله من الحجب ستارا

أبرزت حاسرةً لكن على

حالةٍ لم تبق للجلد اصطبارا

لا خمارٌ يستر الوجهَ وهل

لكريمات الهدى أبقوا خمارا

لا ومن ألبسها من نوره

أُزراً مذ سلبوا عنها الأزارا

لم تدع أيدي بني حرب لها

من حجاب فيه عنهم تتوارى

لو تراها يوم فرّت وعلى

خدرها في خيله الرجس أغارا

يتسابقن إلى الحامي وهل

يملك الثاوي على الترب انتصارا

تربط الأيدي من الرعب على

مهجٍ طارت من الرعب انذعارا

تتوارى بثرى الرمضا أسىً

لقتيل بالعرا ليس يوارى

وهو ملقى بثرى هاجرة

يصطلى من وهج الرمضا أوارا

كلما صعّدت الوجدَ أبى

دمعها من لوعةٍ إلا انحدارا

لم تجد من كافل إلا فتى

مضّه السقم وأطفالا صغارا

بالظما أعينها غارت وما

ذاقت الماء فليت الماء غارا

تحرق البوغاء منهم أرجلاً

أنعلتها أرؤوس النجم فخارا

أفزعتها هجمة الخيل فرا

حت تتعادى بثرى الرمضا فرارا

كل مذعور كبا رعباً على

حرّ وجهٍ كسنا البدر أنارا

كلما كضّ الظما أحشاءها

ألصقت بالترب أكباداً حراراً

كلما يلذعها حرّ الثرى

راوحت فيها يميناً ويسارا

يا لها فاقرة قد قصمت

من نبيّ الله ظهراً وفقارا

بكر خطبٍ كل آنٍ ذكرها

للورى يبتكر الحزن ابتكارا

وله مرثية من غرر الشعر جاء في أولها:

لتبق الضبا مغمودة آل هاشم

فما هي بعد الطف منها لقائم

وتلقي القنا منزوعة النصل عن يد

ستقرع منها حسرة سنّ نادم

ومجموعها 77 بيتاً.

٣٣٧

السيد ميرزا آل سليمان

المتوفى 1339

حتى مَ هاشم لا يرف لواها

فالسيل قدبلغ الزبى وعلاها

والخيل من طوال الوقوف قد اشتكت

فبأي يوم هاشم ترقاها

سل اسرة الهيجاء من عمرو العلى

مَن يوقد الحرب العوان سواها

ما نومها عن كربلا وعميدها

نهبته بيض امية وقناها

في يوم حرب فيه حرب ألّبت

أو غادها واستنهضت حلفاها

واستنفرت جيش الضلال وقصدها

يوم النفير تذكرت آباها

وسرت به للطف حتى قابلت

فيه الحسين وضاق فيه فضاها

وعلى الشريعة خيّمت بجموعها

كي لا تذيق بني النبي رواها

ظنت بعدة جيشها وعديدها

والماء في يدها بلوغ مناها

يلوي الحسين على الدنية جيده

لطليقها خوف الردى ولقاها

فأبى أبيّ الضيم أن يعطي يداً

للذل أو يهوي صريع ثراها

وسطا بعزم ما السيوف كحدّه

يوم اللقا هو في الطلى أمضاها

وترى الكماة تساقطت من سيفه

فوق البسيطةقبل أن يغشاها

وأمات شمس نهارها بقتامها

وبسيفه ليل القتام ضحاها

وثنى الخيول على الرجال ولفّها

ورجالها فوق الخيول رماها

يسطو ونيران الظما في قلبه

ما بين جنبيه تشبّ لظاها

حتى دعاه الله أن يغدو له

ويجيب داعيه لأمر قضاها

فهوى على وجه الثرى لرماحها

وسهامها نهباً وطعم ظباها

ومضى الجواد إلى المخيم ناعياً

لبنات فاطم كهفها وحماها

٣٣٨

فبكت بنات المصطفى مذ جاءها

وبكت ملائكة السما لبكاها

وفررن للسجاد من خوف العدى

تشكو فصدّعت الصفا شكواها

( دع عنك نهباً صيح في أبياتها )

والنارلما أضرمت بخباها

لكن لزينب والنساء تلهفي

من خدرها من ذا الذي أبداها

أُبرزن من حجب النبوة حاسراً

( وتناهبت أيدي العدو رداها )

لهفي لربة خدرها مذعورة

أنى تفرّ إذ العدى تلقاها

إن تبكي أطفال لها أو تشتكي

بالسوط زجر في المتون علاها

مَن مخبر عني بني عمرو العلى

أين الشهامة يا ليوث وغاها

نهضاً فآل الوحي بين عداكم

لا كافل من قومها يرعاها

تحدو حداة اليعملات بثقلكم

للشامتين بها وهم طلقاها

وإلى أبن هند للشئام سروا بها

أفهل علمتم كيف كان سراها

ويزيد يهتف تارة في أهله

ويسب اخرى قومها وأباها

* * *

السيد مرزه ابن السيد عباس مشهور بشرف النسب والحسب، ولد حوالي سنة 1265 بالحلة وتدرج على الكمال والأدب، واسرة آل سليمان الكبير يتوارثون الشعر والنبوغ. كان ابوه العباس من وجوه هذه الاسرة وأعيان ساداتها، وأبو السيد عباس هو السيد علاوي ـ جدّ المترجم له ـ زعيم مطاع في الحلة وأطرافها، ترأس فيها بعد عمه وأبيه السيدين: علي والحسين ولدي السيد سليمان الكبير. وله مكانة سامية عند حكام الحلة وولاة بغداد وخاصة في عهد الوزير داود باشا، وشاعرنا الذي نتحدث عنه نبعة من تلك الدوحة فهو أبو مضر مثال الاباء والسيادة حيث أنه من تلك القادة، محترم الجانب له مكانة عالية في الأوساط، يسحرك بحديثه ويعجبك بطلعته وهندامه، شديد المحافظة على تقاليده ومعتقداته، ساهم مساهمة كبرى في الثورة العراقية وجاهد الانكليز بيده ولسانه، في طليعة الثوار المحاربين، وعندما تدرس الثورة العراقية تعرف الموقف البطولي للسيد ميرزا حتى احرقت داره ونهب

٣٣٩

ما فيها وهو يواصل الهتاف بخطابه وبشعره باللغتين الفصحى والدارجة فقد كان فيهما وفي الخطابة المنبرية له القدح المعلّى، يقول الشيخ اليعقوبي: وله باللغة العامية مطولات في أهل البيت بأوزان شتى من البحور الدارحة التي لا يكاد يجاريه فيها احد من معاصريه فقد كان يجيد فيها إجادة ابن عمه السيد حيدر الحلي في الفصحى. مدحه الحاج عبد المجيد المشهور بالعطار بأبيات يهنيه فيها بولادة ولده الأصغر محمد سنة 1329 ويؤرخ ذلك العام، قال:

أبا مضر لا يلحق اللوم من دعا

أبا مضر عند الحفيظة والندا

لأنت وإن طالت قصار معاصم

لأطولها باعاً وأبسطها يدا

وأمنعها جاراً وأبذلها ندى

واقربها رحماً وأبعدها مدى

من الآل آل المصطفى خير معشر

جلت ظلمات الغي بالبأس والهدى

تهنّ به شبلاً نمته ضراغم

تخرّ له الاساد في الحرب سجدا

وفرحاً أصاب المجد أيمن طائر

بميلاده مذ جاور النسر مصعدا

سلالة فخر الكائنات محمد

وأكرم مَن في الكون يدعى محمدا

فما جهلت أعوامه حين أَرخوا

وليلة ميلاد الرسول تولدا

تغيب المترجم له عن وطنه وكان أكثر سكناه في ( الحصين ) قرب الحلة ولما عاد وذلك سنة 1339 علم بوفاة ابني عمّيه: السيد عبد المطلب الحلي الحسيني والسيد حسين ابن السيد حيدر جزع لفقدهما فاختار الله له اللحاق بهما فودّع الحياة وعمره 74 سنة على التقريب. وتأتي في جزء آتٍ من هذه الموسوعة ترجمة ولده السيد مضر، وكل آتٍ قريب.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517