أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342640 / تحميل: 12228
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ذلك كالحيوان وأخسّ قيمة، وأسوأ حالاً منه، حيث أمكن ترويضه، وتطوير أخلاقه، فالفرس الجموح يغدو بالترويض سلِس المقاد، والبهائم الوحشيّة تعود داجنة أليفة.

فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الإنسان، وتقويم أخلاقه، وهو أشرف الخَلق، وأسماهم كفاءةً وعقلاً ؟؟

من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوادع الخَلُوق، ويغدو عبوساً شرِساً منحرفاً عن مثاليته الخُلقيّة، لحدوث إحدى الأسباب التالية:

(١) - الوهن والضعف الناجمان عن مرض الإنسان واعتدال صحّته، أو طروّ أعراض الهرَم والشيخوخة عليه، ممّا يجعله مرهف الأعصاب عاجزاً عن التصبّر، واحتمال مؤون الناس ومداراتهم.

(٢) - الهموم: فإنّها تذهل اللبيب الخَلُوق، وتحرفه عن أخلاقه الكريمة، وطبعه الوادع.

(٣) - الفقر: فإنّه قد يُسبّب تجهّم الفقير وغلظته، أنَفَةً مِن هوان الفقر وألَم الحِرمان، أو حُزناً على زوال نعمته السالفة، وفقد غناه.

(٤) - الغنى: فكثيراً ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكِبَر والطغيان، كما قال الشاعر:

لقد كشَف الإثراء عنك خلائقاً * من اللؤمِ كانت تحت ثوبٍ من الفقر

(٥) - المنصب: فقد يُحدث تنمّراً في الخُلق، وتطاولاً على الناس، منبعثاً عن ضعة النفس وضعفها، أو لؤم الطبع وخسّته.

(٦) - العزلة والتزمّت: فإنّه قد يُسبّب شعوراً بالخيبة والهوان، ممّا يجعل المعزول عبوساً متجهّماً.

٢١

علاج سوء الخلق:

وحيث كان سُوء الخُلق مِن أسوَأ الخِصال وأخسّ الصفات، فجديرٌ بمَن يرغب في تهذيب نفسه، وتطهير أخلاقه، من هذا الخُلق الذميم، أنْ يتّبع النصائح التالية:

(١) - أنْ يتذكّر مساوئ سُوء الخُلُق وأضراره الفادحة، وأنّه باعِثٌ على سخط اللّه تعالى، وازدراء الناس ونفرتهم، على ما شرحناه في مطلع هذا البحث.

(٢) - أنْ يستعرض ما أسلفناه من فضائل حُسن الخُلق، ومآثره الجليلة، وما ورَد في مدحه، والحثّ عليه، مِن آثار أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) - التريّض على ضبط الأعصاب، وقمع نزَوَات الخُلق السيّئ وبوادره، وذلك بالترّيث في كلّ ما يصدر عنه من قول أو فعل، مستهدياً بقول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفضل الجهاد مَن جاهد نفسَه التي بينَ جنبيه ). يتبّع تلك النصائح من اعتلت أخلاقه، ومرضت بدوافع نفسيّة ؤ، أو خُلقيّة. أما مَن ساء خُلقه بأسباب مرضيّة جسميّة، فعلاجه بالوسائل الطبيّبة، وتقوية الصحّة العامّة، وتوفير دواعي الراحة والطمأنينة، وهدوء الأعصاب.

٢٢

الصـدق

وهو: مطابقة القول للواقع، وهو أشرف الفضائل النفسيّة، والمزايا الخُلقيّة، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامّة في حياة الفرد والمجتمع.

فهو زينة الحديث ورواؤه، ورمز الاستقامة والصلاح، وسبب النجاح والنجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلاميّة، وحرضت عليه، قرآناً وسنةّ.

قال تعالى:( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) . ( الزمر: ٣٣ - ٣٤ )

وقال تعالى:( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) . ( المائدة: ١١٩ )

وقال تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ). ( التوبة: ١١٩ )

وهكذا كرَّم أهلُ البيتعليهم‌السلام هذا الخُلق الرفيع، ودعوا إليه بأساليبهم البليغة الحكيمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا تغترّوا بصلاتهم، ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن إختبروهم عند صِدق الحديث، وأداء الأمانة )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٢٣

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( زينةُ الحديث الصدق )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الزموا الصدق فإنّه منجاة )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صدَق لسانُه زكى عملُه )(٣).

أي صار عمله ببركة الصدْق زاكياً نامياً في الثواب ؛ لأنّ اللّه تعالى( إنّما يقبل من المتّقين )، والصدق من أبرز خصائص التقوى وأهمّ شرائطه.

مآثر الصدق:

من ضرورات الحياة الاجتماعيّة، ومقوّماتها الأصليّة هي:

شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، ومن ثُم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة، وتعايش سلمي.

وتلك غاياتٌ سامية، لا تتحقّق إلاّ بالتفاهم الصحيح، والتعاون الوثيق، وتبادل الثقة والائتمان بين أولئك الأفراد.

وبديهيّ أنّ اللسان هو أداة التفاهم، ومنطلق المعاني والأفكار، والترجمان المفسّر عمّا يدور في خلَد الناس من مختلف المفاهيم والغايات، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع، وتجاوب مشاعره وأفكاره.

_____________________

(١) الإمامة والتبصرة.

(٢) كمال الدين للصدوق.

(٣) الكافي.

٢٤

وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه، فإنْ كان اللسان صادق اللهجة، أميناً في ترجمة خوالِج النفس وأغراضها، أدّى رسالة التفاهم والتواثق، وكان زائد خيرٍ، ورسول محبّةٍ وسلام.

وإنْ كان متّصفاً بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة والإعراب، غدا رائد شرٍّ، ومدعاة تناكر وتباغض بين أفراد المجتمع، ومعول هَدمٍ في كيانه.

من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحّة، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة الناس.

فهو نظام المجتمع السعيد، ورمز خلقه الرفيع، ودليل استقامة أفراده ونُبلهم، والباعث القويّ على طيب السمعة، وحُسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة والائتمان من الناس.

كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسميّة والنفسيّة.

فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم، ارتاحوا جميعاً من عناء المماكسة، وضياع الوقت الثمين في نِشدان الواقع، وتحرّي الصدق.

وإذا تواطأ أرباب الأعمال والوظائف على التزام الصدق، كان ذلك ضماناً لصيانة حقوق الناس، واستتباب أمنهم ورخائهم.

وإذا تحلّى كافّة الناس بالصدق، ودرجوا عليه، أحرزوا منافعه الجمّة، ومغانمه الجليلة.

وإذا شاع الكذِب في المجتمع، وهت قِيَمُه الأخلاقيّة، وساد التبرّم

٢٥

والسخط بين أفراده، وعزَّ فيه التفاهم والتعاون، وغدا عرضةً للتبعثر والانهيار.

أقسام الصدق:

للصدق صوَرٌ وأقسام تتجلّى في الأقوال والأفعال، واليك أبرزها:

(١) - الصدق في الأقوال، وهو: الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تزويرٍ وتمويه.

(٢) - الصدق في الأفعال، وهو: مطابقة القول للفعل، كالبرِّ بالقسَم، والوفاء بالعهد والوعد.

(٣) - الصدق في العزم، وهو: التصميم على أفعال الخير، فإنْ أنجزها كان صادق العزم، وإلاّ كان كاذبه.

(٤) - الصدق في النيّة، وهو: تطهيرها من شوائب الرياء، والإخلاص بها الى اللّه تعالى وحده.

٢٦

الكذِب

وهو: مخالفة القول للواقع. وهو من أبشع العيوب والجرائم، ومصدر الآثام والشرور، وداعية الفضيحة والسقوط. لذلك حرّمته الشريعة الإسلاميّة، ونعت على المتّصفين به، وتوعّدتهم في الكتاب والسنّة:

قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ( غافر: ٢٨ )

وقال تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) ( الجاثية: ٧ )

وقال تعالى:( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ( النحل:١٠٥ )

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنَّ اللّه جعل للشرِّ أقفالاً، وجعَل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذِِب شرّ مِن الشراب )(١).

وقالعليه‌السلام : ( كان عليّ بن الحسين يقول لولدِه: إتّقوا الكذِب، الصغير منه والكبير، في كلّ جدّ وهزْل، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ على الكبير، أما عَلِمتم أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللّه صديّقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّاباً )(٢).

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٢٧

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ الكذب هو خراب الإيمان )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( اعتياد الكذِب يورث الفقر )(٢).

وقال عيسى بن مريمعليه‌السلام : ( من كثُر كذِبه ذهب بهاؤه )(٣).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع: ( قد كثُرت عليَّ الكذّابة وستكثُر، فمَن كذب عليَّ متعمّداً، فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي، فما وافق كتاب اللّه فخذوا به، وما خالَف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به )(٤).

مساوئ الكذِب:

وإنّما حرّمت الشريعة الإسلاميّة ( الكذب ) وأنذرت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة، ومساوئ جمّة، فهو:

(١) - باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، فلا يُصدّق الكذّاب وإنْ نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثَق بمواعيده وعهوده.

ومن خصائصه أنّه ينسى أكاذيبه ويختلق ما يُخالفها، وربّما لفّق

_____________________

(١) الكافي.

(٢) الخصال للصدوق.

(٣) الكافي.

(٤) احتجاج الطبرسي.

٢٨

الأكاذيب العديدة المتناقضة، دعماً لكذبة افتراها، فتغدو أحاديثه هذراً مقيتاً، ولغواً فاضحاً.

(٢) - إنّه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجّس والتناكر.

(٣) - إنّه باعثٌ على تضييع الوقت والجُهد الثمينين، لتمييز الواقع من المزيّف، والصدق من الكذِب.

(٤) - وله فوق ذلك آثار روحيّة سيّئة، ومغبّة خطيرة، نوّهت عنها النصوص السالفة.

دواعي الكذِب:

الكذِب انحراف خُلُقي له أسبابه ودواعيه، أهمّها:

(١) - العادة: فقد يعتاد المرء على ممارسة الكذِب بدافع الجهل، أو التأثّر بالمحيط المتخلّف، أو لضعف الوازع الديني، فيشبّ على هذه العادة السيّئة، وتمتدّ جذورها في نفسه، لذلك قال بعض الحكماء:( من استحلى رضاع الكذِب عسُر فطامه ).

(٢) - الطمع: وهو من أقوى الدوافع على الكذِب والتزوير، تحقيقاً لأطماع الكذّاب، وإشباعاً لنهمه.

(٣) - العِداء والحسَد: فطالما سوّلا لأربابهما تلفيق التُّهَم، وتزويق الافتراءات والأكاذيب، على مَن يُعادونه أو يحسدونه. وقد عانى الصُلَحَاء

٢٩

والنُّبَلاء الذين يترفّعون عن الخوض في الباطل، ومقابلة الإساءة بمثلها - كثيراً من مآسي التُّهَم والافتراءات والأراجيف.

أنواع الكذب:

للكذِب صورٌ شوهَاء، تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها وآثارها السيّئة، وهي:

الأُولى: اليمين الكاذبة

وهي مِن أبشع صور الكذِب، وأشدّها خطراً وإثماً، فإنّها جنايةٌ مزدوجة: جرأةٌ صارخة على المولى عزَّ وجل بالحِلف به كَذِباً وبُهتاناً، وجريمةٌ نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.

من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمّها والتحذير منها:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنّها تدَع الديار مِن أهلها بلاقع )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اليمين الصُّبْر الكاذبة، تورث العقب الفقر )(٢).

الثانية: شهادة الزور

وهي كسابقتها جريمة خطيرة، وظلمٌ سافرٌ هدّام، تبعث على غمط الحقوق، واستلاب الأموال، وإشاعة الفوضى في المجتمع، بمساندة

_____________________

(١)، (٢) الكافي.

٣٠

المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز.

أنظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الأليم:

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدَي الحاكم حتّى يتبوّأ مقعده مِن النار، وكذلك مَن كتم الشهادة )(١).

ونهى القرآن الكريم عنها فقال تعالى:( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحجّ: ٣٠ )

أضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور:

وإنّما حرُمت الشريعة الإسلاميّة اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، وتوعّدت عليهما بصنوف الوعيد والإرهاب، لآثارهما السيّئة، وأضرارهما الماحقة، في دين الإنسان ودنياه، من ذلك:

(١) - أنّ مقترف اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، يُسيء إلى نفسه إساءةً كُبرى بتعريضها إلى سخط اللّه تعالى، وعقوباته التي صوّرتها النصوص السالفة.

(٢) - ويُسيء كذلك إلى مَن سانده ومالأه، بالحِلف كذِباً، والشهادة زوراً، حيث شجّعه على بَخس حقوق الناس، وابتزاز أموالهم، وهدر كراماتهم.

_____________________

(١) الكافي، ومن لا يحضره الفقيه.

٣١

(٣) - و يَسيء كذلك إلى مَن اختلق عليه اليمين والشهادة المزوّرتين، بخذلانه وإضاعة حقوقه، وإسقاط معنويّاته.

(٤) - ويسيء إلى المجتمع عامّة بإشاعة الفوضى والفساد فيه، وتحطيم قِيمه الدينيّة والأخلاقيّة.

(٥) - ويسيء إلى الشريعة الإسلاميّة بتحدّيها، ومخالفة دستورها المقدّس، الذي يجب اتّباعه وتطبيقه على كلّ مسلم.

الثالثة: خُلف الوعد

الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء، ويتحلّى بها النُبلاء، وقد نوّه اللّه عنها في كتابه الكريم فقال:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ( مريم: ٥٤ ).

ذلك أنّ إسماعيلعليه‌السلام وعَد رجلاً، فمكَث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا يُبارحه، وفاءاً بوعده.

وإنّه لمن المؤسف أنْ يشيع خُلف الوعد بين المسلمين اليوم، متجاهلين نتائجه السيّئة في إضعاف الثقة المتبادلة بينهم، وإفساد العلاقات الاجتماعيّة، والإضرار بالمصالح العامّة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( عِدة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفارة له، فمَن أخلَف فبخُلف اللّه تعالى بدأ، ولمَقتهِ تعرّض، وذلك قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٢

وقالعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعَد رجلاً إلى صخرةٍ فقال: أنا لك هاهنا حتّى تأتي. قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ. فقال: قد وعدته إلى هاهنا، وإنْ لم يجئ كان منه إلى المحشر )(١).

الرابعة: الكذِب الساخر

فقد يستحلي البعض تلفيق الأكاذيب الساخرة، للتندّر على الناس، والسخريّة بهم، وهو لهو عابث خطير، ينتج الأحقاد والآثام.

قال الصادقعليه‌السلام ، ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً، يُريد بها شَينه، وهدم مروّته ليَسقط مِن أعيُن الناس، أخرجه اللّه تعالى مِن ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبلُه الشيطان )(٢).

علاج الكذب:

فجديرٌ بالعاقل أنْ يُعالج نفسُه من هذا المرض الأخلاقي الخطير، والخُلُق الذميم، مستهدياً بالنصائح التالية:

(١) - أنْ يتدبّر ما أسلفناه مِن مساوئ الكذِب، وسوء آثاره المادّية والأدبيّة على الإنسان.

(٢) - أن يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة، التي نوّهنا

_____________________

(١) علل الشرائع.

(٢) الكافي.

٣٣

عنها في بحثِ الصدْق.

(٣) - أنْ يرتاض على التزام الصدق، ومجانبة الكذِب، والدأب المتواصل على مُمارسة هذه الرياضة النفسيّة، حتّى يبرأ مِن هذا الخُلق الماحق الذميم.

مسوّغات الكذب:

لا شك أنّ الكذِب رذيلةٌ مقيتة حرّمها الشرع، لمساوئها الجمّة، بَيد أنّ هناك ظروفاً طارئة تُبيح الكذِب وتسوّغه، وذلك فيما إذا توقّفت عليه مصلحةٌ هامّة، لا تتحقّق إلاّ به، فقد أجازته الشريعة الإسلامية حينذاك، كإنقاذ المسلم، وتخليصه من القتل أو الأسر، أو صيانة عرضه وكرامته، أو حفظ ماله المحترم، فإنّ الكذِب والحالة هذه واجبٌ إسلاميّ محتّم.

وهكذا إذا كان الكذِبُ وسيلةً لتحقيق غايةٍ راجحة، وهدفٍ إصلاحي، فإنّه آنذاك راجحٌ أو مباح، كالإصلاح بين الناس، أو استرضاء الزوجة واستمالتها، أو مخادعة الأعداء في الحروب.

وقد صرّحت النصوص بتسويغ الكذِب للأغراض السالفة.

قال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ كذِبٍ مسؤول عنه صاحبُه يوماً إلاّ في ثلاثة: رجلٌ كايَد في حربِه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلَح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا يُريد بذلك الإصلاح فيما بينهما، أو رجلٌ وعَد أهله شيئاً وهو لا يُريد أنْ يتمّ لهم )(١).

_____________________

(١) الكافي.

٣٤

الحِلْم وكظم الغيظ

وهما: ضبط النفس إزاء مثيرات الغصب، وهما من أشرف السجايا، وأعزّ الخصال، ودليلا سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودّة والإعزاز.

وقد مدَح اللّه الحُلَماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في مُحكَم كتابه الكريم.

فقال تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) ( الفرقان: ٦٣ ).

وقال تعالى:( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصّلت: ٣٤ - ٣٥ ).

وقال تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران: ١٣٤).

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيتعليهم‌السلام : قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ اللّه عزَّ وجل يحب الحييّ الحليم )(١).

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أنْ يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك، مُهاناً، تُرضي الرحمن، وتُسخِط الشيطان، وتُعاقب عدوّك، فو الذي فلَق

_____________________

(١) الكافي.

٣٥

الحبّة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخَط الشيطان بمثل الصمت، ولا عُوقِب الأحمق بمثل السكوت عنه )(١).

وقالعليه‌السلام : ( أوّل عِوض الحليم مِن حلمه، أنّ الناس أنصاره على الجاهل )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وقع بين رجُلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلتَ وقلت، وأنت أهلٌ لما قلت، ستُجزى بما قلت. ويقولان للحليم منهما: صبَرت وحلمت، سيغفر اللّه لك، إنْ أتممت ذلك. قال: فإنْ ردَّ عليه ارتفَع الملَكان )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( ما مِن عبدٍ كظم غيظاً، إلاّ زاده اللّه عزَّ وجل عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال اللّه عزَّ وجل: ( والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين ) وأثابه مكانه غيظه ذلك )(٤).

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( اصبر على أعداء النعم، فإنّك لنْ تُكافئ مَن عصى الله فيك، بأفضل مِن أنْ تُطيع اللّه فيه )(٥).

وأحضَرعليه‌السلام وِلده يوماً فقال لهم: ( يا بَنِيّ إنّي موصيكم بوصيّةٍ، فمَن حفظها لم يضِع معها، إنْ أتاكم آتٍ فأَسمَعكم في الإذن اليُمنى مكروهاً، ثُم تحوّل إلى الإذن اليُسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً

_____________________

(١) مجالس الشيخ المفيد.

(٢) نهج البلاغة.

(٣)، (٤)، (٥) الكافي.

٣٦

فاقبلوا عذره )(١) .

وقد يحسب السفهاء أنّ الحلم من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكنّ العقلاء يرونه من سمات النُبل، وسموّ الخُلُق، ودواعي العزّة والكرامة.

فكلّما عظُم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالتهم وطيشهم، معتصماً بالحِلم وكرم الإغضاء، وحُسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار والثناء.

كما قيل:

وذي سفه يخاطبني بجهلٍ

فآنف أنْ أكون له مُجيبا

يَزيد سفاهةً وأزيد حِلماً

كعودٍ زاده الإحراق طيبا

ويقال: إنَّ رجلاً شتَم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك قال: ( لا أدخل حرباً الغالب فيها أشرّ مِن المغلوب ).

ومِن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحِلم، ما رواه الإمام الرضاعليه‌السلام ، حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحِلم، فقالعليه‌السلام :

إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهله

أبَيت لنفسي أنْ تُقابل بالجهل

وإنْ كان مثلي في محلّي مِن النهى

أخذْت بحلمي كي أجلّ عن المثل

وإنْ كنت أدنى منه في الفضل والحِجى

عرفت له حقّ التقدّم والفضل

فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَن قاله ؟ فقال: ( بعض فتياننا )(٢) .

_____________________

(١) كشف الغمّة للأربلي.

(٢) معاني الأخبار، وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق.

٣٧

ولقد كان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرون من أهل بيته، المثل الأعلى في الحِلم، وجميل الصفح، وحسن التجاوز.

وقد زجَزت أسفار السيَر والمناقب، بالفيض الغمر منها، وإليك نموذجاً من ذلك:

قال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى باليهوديّة التي سمَت الشاة للنبيّ، فقال لها: ما حمَلَك على ما صنعت ؟ فقالت: قلت: إنْ كان نبيّاً لم يضرّه، وإنْ كان ملَكاً أرحت الناس منه، فعفى رسول اللّه عنه )(١).

وعفىصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جماعةٍ كثيرة، بعد أنْ أباح دمهم، وأمر بقتلهم.

منهم: هبّار بن الأسود بن المطّلب، وهو الذي روّع زينب بنت رسول اللّه، فألقت ذا بطنها، فأباح رسول اللّه دمه لذلك، فروي أنّه اعتذر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من سوء فعله، وقال: وكنا يا نبيّ اللّه أهلَ شِرك، فهدانا اللّه بك، وأنقذنا بك من الهلَكة، فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عنّي، فإنّي مقرٌّ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبُّ ما قبله.

ومنهم: عبد اللّه بن الربعرى، وكان يهجو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة، ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح، ثّم رجع إلى رسول اللّه

_____________________

(١) الكافي.

٣٨

واعتذر، فقبِلصلى‌الله‌عليه‌وآله عذره.

ومنهم: وحشي قاتل حمزة سلام اللّه عليه، روي أنّه أسلم، قال له النبيّ: ( أَوحشيّ ؟ ) قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمّي ؟ فأخبره، فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ( غيّب وجهك عنّي )(١) .

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أحلَم الناس وأصفحهم عن المُسيء:

ظفر بعبد اللّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهُم ألدّ أعدائه، والمؤلّبين عليه، فعفا عنهم، ولم يتعقّبهم بسوء.

وظفَر بعمرو بن العاص، وهو أخطَر عليه مِن جيش ذي عدّة، فأعرض عنه، وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأَته اتّقاءً لضربته.

وحال جند معاوية بينه وبين الماء، في معركة صفّين، وهُم يقولون له ولا قطرة حتّى تموت عطشاً، فلمّا حمل عليهم، وأجلاهم عنه، سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.

وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، وودعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالاً، وأرسل معها مَن يخدمها ويحفّ بها(٢) .

وكان الحسن بن عليّعليه‌السلام على سرّ أبيه وجدّه صلوات اللّه عليهم أجمعين:

فمن حلمه ما رواه المبرّد، وابن عائشة: أنّ شاميّاً رآه راكباً،

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١.

(٢) عبقريّة الإمام للعقّاد بتصرّف.

٣٩

فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلما فرغ، أقبل الحسنعليه‌السلام فسلّم عليه، وضحك، فقال: ( أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإنْ كنت جائعاً أشبعناك، وإنْ كنت عرياناً كسوناك، وإنْ كنت محتاجاً أغنيناك، وإنْ كنت طريداً آويناك، وإنْ كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعوَد عليك ؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً ).

فلمّا سمِع الرجل كلامه بكى، ثُمّ قال: أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه، اللّه أعلَم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق اللّه إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أنْ ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم(١).

وهكذا كان الحسين بن عليّعليهما‌السلام : جنى غلام للحسينعليه‌السلام جنايةً تُوجِب العقاب عليه، فأمر به أنْ يُضرَب، فقال: يا مولاي، والكاظمين الغيظ. قال: ( خلّوا عنه ). قال: يا مولاي، والعافين عن الناس. قال: ( قد عفوت عنك ). قال: واللّه يحبُّ المحسنين، قال: ( أنت حرٌّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك )(٢).

وإنّي استقرأت سيرة أهل البيتعليهم‌السلام فوجدتها نمطاً فريداً، ومثلاً عالياً، في دنيا السيَر والأخلاق:

_____________________

(١) البحار مجلّد ٩ ص ٩٥.

(٢) كشف الغمّة للأربلي.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والحاصل أنه كان يكبِّر كثيراً من الاُمور الصغيرة وكانت له روحية خاصة تحمله على ذلك.

ويشهد على ذلك أن الشيخ والنجاشي ربّما ضعفا رجلاً ، والغضائري أيضاً ضعفه ، لكن بين التعبيرين اختلافاً واضحاً.

مثلاً ذكر الشيخ في عبدالله بن محمد انه كان واعظاً فقيهاً ، وضعفه النجاشي بقوله : « إنه ضعيف » وضعَّفه الغضائري بقوله : « انه كذاب ، وضّاع للحديث لا يلتفت إلى حديثه ولا يعبأ به ».

ومثله علي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعفه أهل الرجال ، فعرفه الشيخ بأنه واقفّي ، والعلاّمة بأنه احد عمد الواقفة. وقال الغضائري : « عليّ بن أبي حمزة لعنه الله ، أصل الوقف وأشدّ الخلق عداوة للوليّ من بعد أبي إبراهيم ».

ومثله إسحاق بن أحمد المكنّى بـ « أبي يعقوب أخي الاشتر » قال النجاشي : « معدن التَّخليط وله كتب في التخليط » وقال الغضائري : « فاسد المذهب ، كذّاب في الرواية ، وضّاع للحديث ، لا يلتفت إلى ما رواه »(1) .

وبذلك يعلم ضعف ما استدل به على عدم صحَّة نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري من أن النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري عن ابن الغضائري ، انه ضعيف في مذهبه ، ولكن في الكتاب المنسوب اليه : « إنه ضعيف الحديث ، غالي المذهب » فلو صحَّ هذا الكتاب ، لذكر النجاشي ما هو الموجود أيضاً(2) .

وذلك لما عرفت من أن الرجل كان ذا روحيَّة خاصَّة ، وكان إذا رأى

__________________

1 ـ لاحظ سماء المقال : 1 / 19 ـ 21 بتلخيص منّا.

2 ـ معجم رجال الحديث : 1 / 114 ، من المقدَّمات طبعة النجف ، والصفحة 102 طبعة لبنان.

١٠١

مكروهاً ، اشتدَّت عنده بشاعته وكثرت لديه شناعته ، فيأتي بألفاظ لا يصحّ التعبير بها الا عند صاحب هذه الروحية ، ولما كان النجاشي على جهة الاعتدال نقل مرامه من دون غلوّ وإغراق.

وبالجملة الآفة كلّ الآفة في رجاله هو تضعيف الأجلة والموثَّقين مثل « أحمد بن مهران » قال : « أحمد بن مهران روى عنه الكليني ضعيف » ولكن ثقة الاسلام يروي عنه بلا واسطة ، ويترحَّم عليه كما في باب مولد الزهراءعليها‌السلام (1) قال : « أحمد بن مهرانرحمه‌الله رفعه وأحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار الشيباني » إلى غير ذلك من الموارد.

ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على تضعيفاته ، فضلا عن معارضته بتوثيق النجاشي خبير الفنّ والشيخ عماد العلم. نعم ربما يقال توثيقاته في أعلى مراتب الاعتبار ولكنه قليل وقد عرفت من المحقق الداماد من أنه قل أن يسلم أحد من جرحه او ينجو ثقة من قدحه(2) . وقد عرفت آنفاً وسيأتي أن الاعتماد على توثيقه كالاعتماد على جرحه.

النظرية الخامسة

وفي الختام نشير إلى نظرية خامسة وان لم نوعز اليها في صدر الكلام وهي أنه ربما يقال بعدم اعتبار تضعيفات ابن الغضائري لانه كان جراحا كثير الردّ على الرواة ، وقليل التعديل والتصديق بهم ومثل هذا يعدّ خرقاً للعادة وتجاوزاً عنها ، وانما يعتبر قول الشاهد إذا كان انسانا متعارفاً غير خارق للعادة. ولأجل ذلك لو ادعى رجلان رؤية الهلال مع الغيم الكثيف في السماء وكثرة الناظرين ، لا يقبل قولهما ، لان مثل تلك الشهادة تعدّ على خلاف العادة ، وعلى ذلك فلا يقبل تضعيفه ، ولكن يقبل تعديله.

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 458 ، الحديث 3.

2 ـ لاحظ سماء المقال : 22.

١٠٢

وفيه : أن ذلك إنما يتمّ لو وصل الينا كتاب الممدوحين منه ، فعندئذ لو كان المضعفون أكثر من الممدوحين والموثقين ، لكان لهذا الرأي مجال. ولكن يا للأسف! لم يصل الينا ذلك الكتاب ، حتى نقف على مقدار تعديله وتصديقه ، فمن الممكن أن يكون الممدوحون عنده أكثر من الضعفاء ، ومعه كيف يرمى بالخروج عن المتعارف؟

ولأجل ذلك نجد أن النسبة بين ما ضعفه الشيخ والنجاشي أو وثَّقاه ، وما ضعَّفه ابن الغضائري او وثقه ، عموم من وجه. فربَّ ضعيف عندهما ثقة عنده وبالعكس ، وعلى ذلك فلا يصحّ رد تضعيفاته بحجّة أنه كان خارجاً عن الحدّ المتعارف في مجال الجرح.

بل الحقّ في عدم قبوله هو ما أوعزنا اليه من أن توثيقاته وتضعيفاته لم تكن مستندة الى الحسّ والشهود والسماع عن المشايخ والثقات ، بل كانت مستندة الى الحدس والاستنباط وقراءة المتون والروايات ، ثمَّ القضاء في حقّ الراوي بما نقل من الرواية ، ومثل هذه الشهادة لا تكون حجة لا في التضعيف ولا في التوثيق. نعم ، كلامه حجة في غير هذا المجال ، كما إذا وصف الراوي بأنه كوفيٌّ او بصريٌّ أو واقفيٌّ او فطحيٌّ او له كتب ، والله العالم بالحقائق.

١٠٣
١٠٤

الفصل الرابع

المصادر الثانوية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الأربعة

2 ـ الجوامع الرجالية في العصور المتأخرة.

3 ـ الجوامع الرجالية الدارجة على منهج القدماء.

4 ـ تطوّر في تأليف الجوامع الرجالية.

١٠٥
١٠٦

1 ـ الأصول الرجالية الاربعة

* فهرس الشيخ منتجب الدين.

* معالم العلماء.

* رجال ابن داود.

* خلاصة الاقوال في علم الرجال.

١٠٧
١٠٨

الاصول الرجالية الاربعة

قد وقفت بفضل الابحاث السابقة ، على الاصول الاولية لعلم الرجال ، التي تعد امهات الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة ومؤلفو هذه الاصول يعدون في الرعيل الاول من علماء الرجال ، لا يدرك لهم شأو ولا يشق لهم غبار ، لانهم5 قد عاصروا أساتذة الحديث وأساطينه ، وكانوا قريبي العهد من رواة الاخبار ونقلة الآثار ، ولاجل ذلك تمكنوا تمكناً تاماً مورثاً للاطمئنان ، من الوقوف على أحوالهم وخصوصيات حياتهم ، اما عن طريق الحس والسماع ـ كما هو التحقيق ـ أو من طريق جمع القرائن والشواهد المورثة للاطمئنان الذي هو علم عرفي ، كما سيوافيك تحقيقه في الابحاث الآتية.

وقد تلت الطبقة الاولى ، طبقة اخرى تعد من اشهر علماء الرجال بعدهم ، كما تعد كتبهم مصادر له بعد الاصول الاولية نأتي بأسمائهم وأسماء كتبهم ، وكلهم كانوا عائشين في القرن السادس.

ان أقدم فهرس عام لكتب الشيعة ، هو فهرس الشيخ أحمد بن الحسين بن عبيدالله الغضائري ، الذي قد تعرفت عليه وما حوله من الاقوال والآراء.

نعم ، ان فهرست أبي الفرج محمد بن اسحاق المعروف بابن النديم

١٠٩

( المتوفّى عام 385 هـ ) وان كان أقدم من فهرس ابن الغضائري ، لكنه غير مختص بكتب الشيعة ، وانما يضم بين دفتيه الكتب الاسلامية وغيرها ، وقد أشار الى تصانيف قليلة من كتب الشيعة.

وقد قام الشيخ الطوسي بعد ابن الغضائري ، فألف فهرسه المعروف حول كتب الشيعة ومؤلفاتهم ، وهو من احسن الفهارس المؤلفة ، وقد نقل عنه النجاشي في فهرسه واعتمد عليه ، وان كان النجاسي أقدم منه عصراً وأرسخ منه قدماً في هذا المجال.

وقد قام بعدهم في القرن السادس ، العلاّمتان الجليلان ، الشيخ الحافظ ابو الحسن منتجب الدين الرازي ، والشيخ الحافظ محمَّد بن عليّ بن شهرآشوب السروي المازندراني ، فأكملا عمل الشيخ الطوسي وجهوده إلى عصرهما ، وإليك الكلام فيهما إجمالاً :

1 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين

وهو تأليف الحافظ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن الحسين ( أخي الشيخ الصدوققدس‌سره ) بن علي ( والد الصدوق ). عرَّفه صاحب الرياض بقوله : « كان بحراً لا ينزف ، شيخ الاصحاب ، صاحب كتاب الفهرس. يروي عن الشيخ الطبرسي ( المتوفّى عام 548 هـ ) وأبي الفتوح الرازي ، وعن جمع كثير من علماء العامة والخاصَّة. ويروي عن الشيخ الطّوسي ( المتوفّى 460 هـ ) بواسطة عمّه الشيخ بابويه بن سعد.

وهذا الامام الرّافعي ( وهو الشيخ ابو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ، المتوفّى عام 623 ) يعرفه في تاريخه ( التدوين ) : الشيخ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً وحفظاً وجمعاً ، قلَّ من يدانيه في هذه الاعصار في كثرة الجمع والسماع ، قرأت عليه بالرىّ سنة 584 هـ ، وتولد سنة 504 هـ ، ومات بعد

١١٠

سنة 585 هـ ، ثمَّ قال : ولئن اطلت عند ذكره بعض الاطالة فقد كثر انتفاعي بمكتوباته وتعاليقه فقضيت بعض حقه باشاعة ذكره وأحواله »(1) .

وقال الشيخ الحرّ العاملي في ترجمته : « الشيخ الجليل عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه القمّي ، كان فاضلا عالما ثقة صدوقاً محدّثاً حافظاً راوية علاّمة ، له كتاب الفهرس في ذكر المشايخ المعاصرين للشيخ الطوسي والمتأخرين إلى زمانه »(2) .

وقد ألَّفه للسيد الجليل أبي القاسم يحيى بن الصدر(3) السعيد المرتضى باستدعاء منه حيث قال السيد له : « إن شيخنا الموفق السعيد أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي ـ رفع الله منزلته ـ قد صنف كتابا في أسامي مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، ولم يصنف بعده شيء من ذلك » فأجابه الشيخ منتجب الدين بقوله : « لو أخَّر الله أجلي وحقق أملي ، لأضفت اليه ما عندي من أسماء مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، الذين تأخر زمانهم عن زمان الشيخ أبي جعفررحمه‌الله وعاصروه » ثمَّ يقول : « وقد بنيت هذا الكتاب على حروف المعجم اقتداء بالشيخ أبي جعفررحمه‌الله وليكون أسهل مأخذاً ومن الله التوفيق »(4) .

وكلامه هذا ينبئ عن أنه لم يصل اليه تأليف معاصره الشيخ محمد بن عليّ بن شهرآشوب ، الذي كتب كتابه الموسوم بـ « معالم العلماء » تكملة لفهرس الشيخ ، ولأجل ذلك قام بهذا العمل من غير ذكر لذلك الكتاب.

__________________

1 ـ رياض العلماء : 4 / 140 ـ 141 ، ولكن التحقيق انه كان حيّاً الى عام 600 هـ. لاحظ مقال المحقق السيد موسى الزنجاني المنشور في مجموعة حول ذكرى العلاّمة الامينيقدس‌سره .

2 ـ أمل الآمل : 2 / 194.

3 ـ المدفون بـ « ري » المعروف عند الناس بامام زادة يحيى وربما يحتمل تعدد الرجلين.

4 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين : 5 ـ 6.

١١١

وقد ألَّف الشيخ الطوسي الفهرس بأمر استاذه المفيد الذي توفي سنة 413 هـ ، وفي حياته ، كما صرَّح به في أوله.

وقد أورد الشيخ منتجب الدين في فهرسه هذا ، من كان في عصر المفيد إلى عصره المتجاوز عن مائة وخمسين سنة.

وفي الختام ، نقول : « إن الحافظ بن حجر العسقلاني ( المتوفّى عام 852 هـ ) قد أكثر النقل عن هذا الفهرس في كتابه المعروف بـ « لسان الميزان » ، معبّراً عنه بـ « رجال الشيعة » أو « رجال الامامية » ولا يريد منهما إلا هذا الفهرس ، ويعلم ذلك بمقارنة ما نقله في لسان الميزان ، مع ما جاء في هذا الفهرس ، كما أن لصاحب هذا الفهرس تأليفاً آخر اسماه تاريخ الريّ ، وينقل منه أيضاً ابن حجر في كتابه المزبور ، والأسف كل الاسف أن هذا الكتاب وغيره مثل « تاريخ ابن ابي طيّ »(1) و « رجال عليّ بن الحكم » و « رجال الصدوق » التي وقف على الجميع ، ابن حجر في عصره ونقل عنها في كتابه « لسان الميزان » لم تصل إلينا ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ثم إن الغاية من اقتراح السيد عزّ الدين يحيى ، نقيب السادات ، هو كتابة ذيل لفهرس الشيخ على غراره ، بأن يشتمل على أسامي المؤلفين ، ومؤلفاتهم واحداً بعد واحد ، وقد قبل الشيخ منتجب الدين اقتراح السيّد ، وقام بهذا العمل لكنهقدس‌سره عدل عند الاشتغال بتأليف الفهرس عن هذا النمط ، فجاء بترجمة كثير من شخصيات الشيعة ، يناهز عددهم إلى 540 شخصية علمية وحديثية من دون أن يذكر لهم أصلا وتصنيفا ، ومن ذكر لهم كتاباً لا يتجاوز عددهم عن حدود مائة شخص.

نعم ما يوافيك من الفهرس الآخر لمعاصره ـ أعني معالم العلماء ـ فهو على غرار فهرس الشيخ حذو القذّة بالقذّة.

__________________

1 ـ راجع في الوقوف على وصف هذا التاريخ وما كتبه في طبقات الامامية ايضا « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ج 3 ، ص 219 ـ 220 هذا وتوفي ابن ابي طي سنة 630 هـ.

١١٢

2 ـ معالم العلماء في فهرس كتب الشيعة وأسماء المصنفين

وهو تأليف الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني ، المولود عام 488 هـ ، والمتوفّى سنة 588 هـ ، وهو اشهر من أن يعرّف ، فقد أطراه أرباب المعاجم من العامة والخاصّة.

قال صلاح الدين الصفدي : « محمد بن علي بن شهرآشوب ابو جعفر السروي المازندراني ، رشيد الدين الشيعي ، احد شيوخ الشيعة. حفظ القرآن وله ثمان سنين ، وبلغ النهاية في أصول الشيعة ، كان يرحل اليه من البلاد ، ثم تقدَّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ذكره ابن أبي طيّ في تاريخه ، وأثنى عليه ثناء بليغاً ، وكذلك الفيروزآبادي في كتاب البلغة في تراجم أئمة النَّحو واللغة ، وزاد أنه كان واسع العلم ، كثير العبادة دائم الوضوء ، وعاش مائة سنة الا ثمانية أشهر ، ومات سنة 588 هـ »(1) .

وذكره الشيخ الحرّ العاملي في « أمل الآمل » في باب المحمدين ، وذكر كتبه الكثيرة ، التي أعرفها « مناقب آل أبي طالب » وقد طبع في أربعة مجلدات ، و « متشابه القرآن » وهو من محاسن الكتب وقد طبع في مجلد واحد ، و « معالم العلماء » الذي نحن بصدد تعريفه ، وهذا الكتاب يتضمن 1021 ترجمة وفي آخرها « فصل فيما جهل مصنّفه » و « باب في بعض شعراء أهل البيت » وهذا الفهرس ، كفهرس الشيخ منتجب الدين تكملة لفهرس الشيخ الطوسي ، والمؤلفان متعاصران ، والكتابان متقاربا التأليف ، وقد أصبح معالم العلماء من المدارك المهمة لعلماء الرجال ، كالعلامة الحلي في « الخلاصة » ، ومن بعده.

__________________

1 ـ الوافي بالوفيات : 4 / 164.

١١٣

3 ـ رجال ابن داود

وهو تأليف تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي المولود سنة 647 ، أي قبل تولد العلاّمة بسنة ، والمتوفّى بعد سنة 707 هـ ، تتلمذ على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس ( المتوفّى سنة 673 هـ ) قرأ عليه أكثر كتاب « البشرى » و « الملاذ » حتى قال : « وأكثر فوائد هذا الكتاب من اشاراته وتحقيقاته ، رباني وعلمني وأحسن إلي »(1) .

كما قرأ على الامام نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى المعروف بالمحقق ، وقال في حقه : « قرأت عليه ورباني صغيراً ، وكان له علي احسان عظيم والتفات ، وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه »(2) .

مميزات رجال ابن داود

ومن مزايا ذلك الكتاب ، أنه سلك فيه مسلكاً لم يسبقه أحد من الاصحاب ، لانه رتبه على الحروف ، الاول فالاول ، من الاسماء وأسماء الاباء والاجداد ، وجمع ما وصل اليه من كتب الرجال مع حسن الترتيب وزيادة التهذيب ، فنقل ما في فهرس الشيخ والنجاشي ، ورجال الكشي ، والشيخ وابن الغضائري والبرقي والعقيقي وابن عقدة والفضل بن شاذان وابن عبدون ، وجعل لكل كتاب علامة ولم يذكر المتأخرين عن الشيخ إلا اسماء يسيرة ، وجعل كتابه في جزأين ، الاول يختص بذكر الموثقين والمهملين ، والثاني بالمجروحين والمجهولين.

وذكر في آخر القسم الاول ، تحت عنوان خاص ، جماعة وصفهم النجاشي بقوله « ثقة ثقة » مرتين ، عدتهم أربعة وثلاثون رجلاً مرتبين على

__________________

1 ـ لاحظ رجال ابن داود : 45 ـ 46 طبعة النجف.

2 ـ رجال ابن داود : 62 طبعة النجف.

١١٤

حروف الهجاء ، ثم أضاف بأن الغضائري جاء في كتاب خمسة رجال زيادة على ما ذكره النجاشي ، ووضف كلا منهم بأنه « ثقة ثقة » مرتين ، ثم ذكر خمسة فصول لا غنى للباحث عنها ، كل فصل معنون بعنوان خاص.

ثم ذكر في آخر القسم الثاني ، سبعة عشر فصلاً لا يستغني عنها الباحثون ، كل فصل معنون بعنوان خاص ثم أورد تنبيهات تسعة مفيدة.

وبما أنه وقع في هذا الكتاب إشتباهات عند النقل عن كتب الرجال ، مثلا نقل عن النجاشي مطلباً وهو للكشّي أو بالعكس ، قام المحقق الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم في تعليقاته على الكتاب ، باصلاح تلك الهفوات ولعل أكثر تلك الهفوات نشأت من استنساخ النساخ ، وعلى كل تقدير ، فلهذا الكتاب مزية خاصة لا توجد في قرينه الآتي أعني خلاصة العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ.

قال الافندي في « رياض العلماء » : « وليعلم أن نقل ابن داود في رجاله عن كتب رجال الاصحاب ، ما ليس فيها ، مما ليس فيه طعن عليه ، إذ أكثر هذا نشأ من اختلاف النسخ ، والازدياد والنقصان الحاصلين من جانب المؤلفين أنفسهم بعد اشتهار بعض نسخها وبقي في أيدي الناس على حالته الاولى من غير تغيير ، كما يشاهد في مصنفات معاصرينا أيضاً ولا سيّما في كتب الرجال التي يزيد فيها مؤلفوها ، الأسامي والأحوال يوماً فيوماً وقد رأيت نظير ذلك في كتاب فهرست الشيخ منتجب الدين ، وفهرست الشيخ الطوسي ، وكتاب رجال النجاشي وغيرها ، حتى إني رأيت في بلدة الساري نسخة من خلاصة العلاّمة قد كتبها تلميذه في عصره ، وكان عليها خطه وفيه اختلاف شديد مع النسخ المشهورة بل لم يكن فيها كثير من الأسامي والأحوال المذكورة في النسخ المتداولة منه »(1) .

__________________

1 ـ رياض العلماء : 1 / 258.

١١٥

أقول : ويشهد لذلك ان المؤلفات المطبوعة في عصرنا هذا تزيد وتنقص حسب طبعاتها المختلفة ، فيقوم المؤلف في الطبعة اللاحقة بتنقيح ما كتب بإسقاط بعض ما كتبه وإضافة مالم يقف عليه في الطبعة الأولى ، ولأجل ذلك تختلف الكتب للمعاصرين حسب اختلاف الطبعات.

وفي الختام نذكر نصّ اجازة السيّد أحمد بن طاووس ، لتلميذه ابن داود مؤلّف الرجال ، وهي تعرب عن وجود صلة وثيقة بين الاستاذ والمؤلف فإنه بعد ما قرأ ابن داود كتاب « نقض عثمانية جاحظ » على مؤلفه « أحمد بن طاووس » كتب الاستاذ اجازة له وهذه صورتها :

« قرأ عليّ هذا « البناء » من تصنيفي ، الولد العالم الأديب التقي ، حسن بن علي بن داود ـ أحسن الله عاقبته وشرف خاتمته ـ وأذنت له في روايته عنّي.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن طاووس حامداً لله ومصلّياً على رسوله ، والطاهرين من عترته ، والمهديّين من ذريته ».

وفي آخر الرسالة ما هذه صورته :

« أنجزت الرسالة ، والحمد لله على نعمه ، وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين.

كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى ، حسن بن علي بن داود ربيب صدقات مولانا المصّنف ـ ضاعف الله مجده وأمتعه الله بطول حياته ـ وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله وسلامه ».

وكان نسخ الكتاب في شوال من سنة خمس وستين وستمائة(1) .

__________________

1 ـ وقد أسماه المؤلف بـ « بناء المقالة الفاطمية في نفض الرسالة العثمانية للجاحظ » ويقال اختصاراً « البناء ».

١١٦

مشايخه

قال الافندي : ويروي ابن داود عن جماعة من الفضلاء :

منهم : السيد جمال الدين ابو الفضائل أحمد بن طاووس.

ومنهم : الشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم الاسدي على ما يظهر من ديباجة رجاله(1) .

أقول : وهو يروي عن جماعة اخرى أيضاً.

منهم : المحقّق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي ( المتوفّى عام 676 هـ ).

ومنهم الشيخ نجيب الدين أبو زكريا يحيى بن سعيد الحّلي ابن عم المحقق المذكور ( المتوفّى عام 689 هـ ).

ومنهم الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلاّمة الحلي.

ونقل الافندي في الرياض أنه كان شريك الدرس مع السيد عبد الكريم بن جمال الدين(2) أحمد بن طاووس الحلي ( المتوفّى عام 693 هـ ) عند المحقّق. ولكن العلاّمة الاميني عدّه من مشايخه(3) ، والظاهر اتقان الاول.

تلاميذه

يروي عنه جماعة كثيرة :

__________________

1 ـ نقض عثمانية جاحظ المطبوع حديثاً بـ « عمان ».

2 ـ رياض العلماء : 1 / 256.

3 ـ الغدير : 6 / 7.

١١٧

منهم : الشيخ رضي الدين علي بن أحمد المزيدي الحلي(1) ، استاذ الشهيد الاول ، المتوفّى عام 757 هـ.

ومنهم : الشيخ زين الدين ابو الحسن علي بن طراد المطارآبادي ، المتوفّى بالحلة 754 هـ.

تآليفه

للمترجم له تآليف قيّمة تبلغ ثلاثين كتاباً ذكر أسماءها في رجاله.

ومن شعره الرائق قوله في حقّ الوصي :

وإذا نظرت إلى خطاب محمَّد

يوم الغدير إذ استقّر المنزل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاه لا يرتاب فيه محصِّل

لعرفت نصّ المصطفى بخلافة

مَنْ بعدَه غرّاء لا يتأوّل

وله اُرجوزة في الإمامة ، طويلة ، مستهلها :

وقد جرت لي قصّة غريبة

قد نتجت قضيّة عجيبة(2)

وفاته

قد عرفت أنه قد فرغ من رجاله عام 707 هـ ، ولم يعلم تاريخ وفاته على وجه اليقين ، غير أن العلاّمة الاميني ينقل عن « رياض العلماء » أنه رأى في مشهد الرضا نسخة من « الفصيح » بخط المترجم له ، في آخرها : « كتبه مملوكه حقاً حسن بن علي بن داود غفر له في ثالث عشر شهر رمضان المبارك سنة احدى وأربعين وسبعمائة حامداً مصلّياً مستغفراً ».

__________________

1 ـ وفي رياض العلماء مكان « المزيدي » ، « المرندي » ، وهو تصحيف.

2 ـ لاحظ الغدير : 6 / 3 ـ 6 ، وذكر شطراً منها السيد الامين في أعيان الشيعة : 22 / 343.

١١٨

فيكون له من العمر حينذاك 94 عاماً ، فيكون من المعمرين ، ولم يذكر منهم(1) .

4 ـ خلاصة الاقوال في علم الرجال

وهي للعلاّمة(2) على الاطلاق الحسن بن يوسف بن المطهَّر ، المولود عام 648 هـ ، والمتوفّى عام 726 هـ ، الذي طار صيته في الآفاق ، برع في المعقول والمنقول ، وتقدَّم على الفحول وهو في عصر الصبا. ألَّف في فقه الشريعة مطوَّلات ومتوسّطات ومختصرات ، وكتابه هذا في قسمين : القسم الاول ؛ فيمن اعتمد عليه وفيه سبعة عشر فصلا ، والقسم الثاني ؛ مختصّ بذكر الضعفاء ومن ردَّ قوله أو وقف فيه ، وفيه أيضا سبعة عشر فصلا ، وفي آخر القسم الثاني خاتمة تشتمل على عشر فوائد مهمَّة ، وكتابه هذا خلاصة ما في فهرست الشيخ والنجاشي وقد يزيد عليهما.

قال المحقّق التستري : « إن ما ينقله العلاّمة من رجال الكشي والشيخ ورجال النجاشي مع وجود المنقول في هذه الكتب غير مفيد ، وإنما يفيد في ما لم نقف على مستنده ، كما في ما ينقل من جزء من رجال العقيقي ، وجزء من رجال ابن عقدة ، وجزء من ثقات كتاب ابن الغضائري ، ومن كتاب آخر له في المذمومين لم يصل الينا ، كما يظهر منه في سليمان النخعي ، كما يفيد أيضاً فيما ينقله من النجاشي في ما لم يكن في نسختنا ، فكان عنده النسخة الكاملة من النجاشي واكمل من الموجود من ابن الغضائري ، كما في ليث البختري ، وهشام بن إبراهيم العبّاسي ، ومحمد بن نصير ، ومحمد بن أحمد بن محمد بن سنان ، ومحمد بن أحمد بن قضاعة ، ومحمد بن الوليد الصيرفي ، والمغيرة بن

__________________

1 ـ الغدير : 6 / 8 نقلاً عن روضات الجنات : 357.

2 ـ إن العلاّمة غني عن الاطراء ، وترجمته تستدعي تأليف رسالة مفردة ، وقد كفانا ، ما ذكره اصحاب المعاجم والتراجم في حياته وفضله وآثاره.

١١٩

سعيد ، ونقيع بن الحارث ، وكما ينقل في بعضهم اخباراً لم نقف على مأخذها ، كما في اسماعيل بن الفضل الهاشمي ، وفيما أخذه من مطاوي الكتب كمحمد بن أحمد النطنزي »(1) .

وبما أن هذا الكتاب ورجال ابن داود متماثلان في التنسيق وكيفية التأليف ، يمكن أن يقال : إن واحداً منهما اقتبس المنهج عن الآخر ، كما يمكن أن يقال : إن كليهما قد استقلاّ في التنسيق والمنهج ، بلا استلهام من آخر ، غير أن المظنون هو أن المؤلفين ، بما أنهما تتلمذا على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس المتوفّى سنة 673 هـ ، وقد كان هو رجالي عصره ومحقق زمانه في ذلك الفن ، قد اقتفيا في تنسيق الكتاب ما خطَّه استاذهما في ذلك الموقف ، والله العالم.

الفروق بين رجالي العلاّمة وابن داود

ثم ان هنا فروقاً بين رجالي العلاّمة وابن داود يجب الوقوف عليها واليك بيانها :

1 ـ ان القسم الاول من الخلاصة مختص بمن يعمل بروايته ، والثاني بمن لا يعمل بروايته ، حيث قال : « الاول ؛ في من اعتمد على روايته أو ترجح عندي قبول قوله. الثاني ؛ في مَنْ تركت روايته أو توقفت فيه ».

ولاجل ذلك يذكر في الاول الممدوح ، لعمله بروايته ، كما يذكر فيه فاسد المذهب إذا عمل بروايته كابن بكير وعليّ بن فضال. وأما الموثقون الذين ليسوا كذلك ، فيعنونهم في الجزء الثّاني لعدم عمله بخبرهم ، هذا.

والجزء الأوّل من كتاب ابن داود فيمن ورد فيه أدنى مدح ولو مع ورود ذموم كثيرة أيضا فيه ولم يعمل بخبره والجزء الثاني من كتابه ، فيمن ورد فيه

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 15.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517