أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342306 / تحميل: 12216
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم ، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه :( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) .

ثمّ يقولون : إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك ، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل :( لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة : البلايا الصعبة ، الطاعون ، الوثن والوثنية ، وسوسة الشيطان ، والثلج أو البرد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني ، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الاضطراب.

وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الانحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبة والبلاء ، لأنّها تصيب الإنسان لانحرافه عن الحق ، وارتكاب الذنب ، وكذا يكون الرجز نوعا من الانحراف عن الحق ، والاضطراب في العقيدة ، ولهذا أيضا يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل ، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة ، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أخرى ، فيقال لهذا الداء «الرجز» على وزن «المرض».

والسبب في إطلاق الرجز على الأشعار الحربيّة ، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال ، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها

١٨١

في الآيات السابقة ، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل ، الذي وردت الإشارة إليها في التوراة.

هذا ، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه ، ولكن يحتمل أيضا أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم ، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلّا ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول :( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) (1) .

إنّ جملة( إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتا وعيّن أمدا ، فكان يقول لهم : في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم ، حتى يتّضح لهم أنّ ارتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمرا اتفاقيا وصدقة ، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة( إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الاستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسىعليه‌السلام ثمّ نقضهم للعهد ، حتى أصبح نقض العهد جزءا من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت ، ونقض العهد ، فتقول بصورة مجملة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) .

ثمّ تشرح هذا الانتقام وتذكر تفصيله( فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (2) .

__________________

(1) النكث على وزن مكث ، يعني فل الحبل المفتول ، ثمّ أطلق على نقض الميثاق والعهد.

(2) يستفاد من مصادر اللغة ، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر» ، وهو يطلق على نهر النيل أيضا ، أمّا أن لفظة اليم

١٨٢

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعا ، لأنّ موسىعليه‌السلام ذكّرهم مرارا وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم ، بل أنّهم تصرّفوا عمليا كما يفعل الغافلون ، فلم يعتنوا بآيات الله أبدا.

ولا شك أن المقصود من الانتقام الإلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم ، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والانتقام ، بل المقصود من الانتقام الإلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق ، ولا بدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والانتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة ، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

__________________

هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية ، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء ، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه اشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل : أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر ، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

١٨٣

الآية

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) )

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم :

بعد هلاك قوم فرعون ، وتحطّم قدرتهم ، وزوال شوكتهم ، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ، سواء كان المنتقل منه حيا أو ميّتا.

و «يستضعفون» مشتقّة من مادة «الاستضعاف» وتطابق كلمة «الاستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

١٨٤

جماعة أخرى حتى يمكن للجماعة الأولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتا بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ، وهو : أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ، وباطنه الإبادة والتدمير ، ولكن الاستضعاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير ب( كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية : ضعف فكري ، وضعف أخلاقي ، وضعف اقتصادي ، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب( مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ، وبعبارة أخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جدا من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّا.

وجملة( بارَكْنا فِيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك ، وفي هذا الزمان أيضا ، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب : إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّا بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضا.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتما. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).

١٨٥

صحيح أنّ هذه الآية تحدّثت عن بني إسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ، إلّا أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية : نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ، وأبنيتهم الجميلة الشامخة ، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة( وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ) .

و «صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة ، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجملية الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و «ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و «دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو : كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ، ولماذا؟ونقول في الجواب : لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ، بل غرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسىعليه‌السلام ، ومن المسلّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ، والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيرا جدا لاستعادوا بها شوكتهم ، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ، أو الحاق الأذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

١٨٦

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) )

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97) ، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

١٨٧

وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسىعليه‌السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأولى :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام( فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) .

و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء( قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) .

فانزعج موسىعليه‌السلام من هذا الافتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم :( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :

1 ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

١٨٨

أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسىعليه‌السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم( اجْعَلْ لَنا إِلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى

١٨٩

الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)

2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا.

3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسىعليه‌السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

__________________

(1) مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.

١٩٠

عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسىعليه‌السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له( إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسىعليه‌السلام ( قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا.

١٩١

يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق( يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) .

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسىعليه‌السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

* * *

١٩٢

الآية

( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) )

التّفسير

الميعاد الكبير :

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل ، ومشكلة موسىعليه‌السلام معهم ، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه ، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله ، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرك بالأبصار ، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد ، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا :( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

١٩٣

بعمل ما ، ويطلق عادة على الزمان ، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه ، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّا محرما.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه ، وأن لا يتبع سبيل المفسدين :( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والالتفات إليها :

1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة ، هو : لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين ، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر ، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك ، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاما مع أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوما ، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوما ثمّ مدّده عشرة أيّام أخرى ، اختبارا لبني إسرائيل كي يعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام أنّه قال : إنّ موسىعليه‌السلام لما خرج وافدا إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوما ، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه ، قد أخلفنا

١٩٤

موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1) .

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإسلامية ، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوما ، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالبا في الليالي.

2 ـ كيف نصب موسىعليه‌السلام هارون قائدا وإماما؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا ، هو : إنّ هارون كان نبيّا ، فكيف نصبه موسىعليه‌السلام خليفة له وإماما وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الالتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر ، ولقد كان هارون نبيّا ، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني إسرائيل ، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصا بموسىعليه‌السلام ، ولكنّه عند ما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماما وقائدا.

3 ـ لماذا طلب موسىعليه‌السلام من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا ، هو : لماذا قال موسىعليه‌السلام لأخيه : أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب : إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 ـ نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 61.

١٩٥

إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة ، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه ، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قصرهم وصغرهم بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعا ومطيعا لنصائح موسىعليه‌السلام .

4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا ، هو : هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة ، وهي هذه الأربعون يوما ، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوما ، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه ، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه ، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبدا ، في هذه الأربعين يوما نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة ، أحدها لأخذ الأحكام ، وفي الأخرى اصطحب كبار قومه ، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أخرى غير هذه ، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).

وهنا أيضا وقع كلام بين المفسّرين ، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة ، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا ) تناسب تماما وحدة هاتين القصّتين ، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة ، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعها في نفس هذا السفر أيضا.

١٩٦

5 ـ حديث المنزلة

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف ، بفارق واحد هو : أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة عليعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار ، ثمّ نبحث في دلالته ، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة :

1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول غزوة تبوك : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء؟قال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة ، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضا ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنّة ، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(2) .

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة ، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية ، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

__________________

(1) صحيح البخاري ، الجزء السّادس ، الصفحة 3 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

(2) صحيح مسلم ، المجلد الرّابع ، الصفحة 187 ، طبعة دار إحياء التراث العربي.

١٩٧

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضا(1) .

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر ، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. ثمّ عدد الأمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهوقوله : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوة بعدي»(2) .

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل ، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك ، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3) .

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط ، فقالوا : يا ابن عباس ، إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلونا هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام وأضاف : «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي»(4) .

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6) ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)

__________________

(1) المجلد الأوّل ، الصفحة 43 ، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

(2) المجلد الخامس ، الصفحة 638 ، طبعة المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

(3) مسند أحمد بن حنبل ، المجلد الأول ، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 369 و 438.

(4) مسند أحمد ، المجلد الأوّل ، الصفحة 231.

(5) خصائص النسائي ، ص 4 و 14.

(6) المجلد الثالث ، الصفحة 108 و 109.

(7) المجلد الأوّل ، الصفحة 65.

(8) الصفحة 177.

١٩٨

وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة ، والمصادر الأولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، بل رواه ـ أيضا ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصا منهم : «جابر بن عبد الله» و «أبو سعيد الخدري» و «أسماء بنت عميس» و «ابن عباس» و «أم سلمة» و «عبد الله بن مسعود» و «أنس بن مالك» و «زيد بن أرقم» و «أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «معاوية بن أبي سفيان» و «عمر بن الخطاب» أيضا.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال : سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال : يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

قال : بئسما قلت ، لقد كرهت رجلا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غرا ، وقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3) .

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاعليه‌السلام فقال : إنّي أظنّك منافقا ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبي بعدي»(4) .

__________________

(1) السيرة النبوية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 163 طبعة مصر.

(2) السيرة الحلبية ، المجلد الثّالث ، الصفحة 151 طبعة مصر.

(3) ذخائر العقبى ، الصفحة 79 ، طبعة مكتبة القدس ، الصواعق المحرقة ، ص 177 ، طبعة مكتبة القاهرة.

(4) تاريخ بغداد ، المجلد السابع ، الصفحة 452 طبعة السعادة.

١٩٩

حديث المنزلة في سبعة مواضع :

النقطة الأخرى ، إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخلافا لما يتصّوره البعض ـ لم يقل هذا البحث في عليعليه‌السلام في غروة تبوك فقط ، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها : 1 ـ في المؤاخاة الأولى : يعني في المرّة الأولى التي آخى فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين واختار عليّاعليه‌السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(1) .

2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية : وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ، واصطفى لنفسه منهم عليّا واتخذه من دونهم أخاه ، وقال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(2) .

3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل ، وكانت تعدّ من أهل السوابق ، وهي من الدعاة إلى الإسلام ، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها ذات يوم : «إنّ عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(3) .

4 ـ قال ابن عباس : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبّ إلى ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

__________________

(1) كنز العمال ، الحديث 918 ، المجلد الخامس ، الصفحة 40 ، والمجلد السّادس ، الصفحة 390.

(2) منتخب كنز العمال ، (في حاشية مسند أحمد) ، المجلد الخامس ، من مسند أحمد ، الصفحة 31.

(3) كنز العمال ، المجلد السّادس ، الصفحة 164.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

( مَن مات ولم يعرف إمام زمانه ماتَ ميتةً جاهليّة )(١).

الإمام هو خليفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وممثله في أُمّته، يبلغها عنه أحكام الشريعة، ويسعى جاهداً في تنظيم حياتها، وتوفير سعادتها، وإعلاء مجدها. وحيث كان الإمام كذلك، وجَب على كلّ مسلم معرفته، كما صرّح بذلك الحديث الشريف، ليكون على بصيرةٍ مِن عقيدته وشريعته، وليسير على ضوء توجيهه وهداه.

فإذا أغفل المسلم معرفة إمامه، ولم يستهد به، وهو الدليل المُخلص، والرائد الأمين، ضلّ عن نهج الإسلام وواقعه، ومات كافراً منافقاً.

وقد أشعر الحديث بضرورة وجود الإمام ووجوب معرفته مدى الحياة ؛ لأنّ إضافة الإمام إلى الزمان تستلزم استمراريّة الإمامة، وتجدّدها عبر الأزمنة والعصور.

وهكذا توالت الأحاديث النبويّة، المتواترة بين الفريقين، والمؤكّدة على ضرورة معرفة الأئمّة الطاهرين، والاهتداء بهم، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( في كلٍّ خلف مِن أُمّتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين. ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى اللّه، فانظروا مَن توفدون )(٢).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ( كما جاء في صحيح مسلم ):

_____________________

(١) انظر مصادر الحديث ورواته في الغدير، للحجّة الأميني ج ١٠ ص ٣٥٩ - ٣٦٠.

(٢) المراجعات، ص ٢١.

٣٢١

( لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش ).

وهذا الحديث شاهدٌ على وجود الإمامة حتّى قيام الساعة، وقصرها على الأئمّة الاثني عشر من أهل البيتعليهم‌السلام ، دون غيرهم من ملوك الأمويين والعباسيين لزيادتهم عن هذا العدد.

٢ - موالاتهم:

معرفة الإمام لا تجدي نفعاً، ولا تحقّق الأماني والآمال المعقودة عليه، إلاّ إذا اقترنت بولائه، والسير على هداه. ومتى تجرّدت المعرفة مِن ذلك غدت هزيلةً جوفاء.

ذلك أنّ الإمام هو خليفة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحامل لواء الإسلام، ورائد المسلمين نحو المثل الإسلاميّة العليا، يبيّن لهم حقائق الشريعة، ويجلو أحكامها، ويصونها من كيد المُلحدين ودسّهم، ويعمل جاهداً في حماية المسلمين، ونصرهم، وإسعادهم ماديّاً وروحيّاً، ديناً ودُنياً.

من أجل ذلك كان التخلّف عن موالاة الإمام والاهتداء به، مَدعاةً للزيغ والضلال، والانحراف عن خطّ الإسلام ونهجه المرسوم. كما نوّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك، وأوضح للمسلمين أنّ الهدى والفوز في ولاء الأئمة الطاهرين من أهل البيتعليهم‌السلام ، وأنّ الضلال والشقاء في مجافاتهم ومخالفتهم.

٣٢٢

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّما مثَل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبلٌ ممدودٌ مِن السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما )(٢).

وقد أوضح أمير المؤمنينعليه‌السلام معنى العترة:

فعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن معنى قول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي )، مَن العترة ؟

فقال: ( أنا والحسن والحسين والأئمّة التسعة مِن ولد الحسين، تاسعهم مهديّهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب اللّه ولا يفارقهم، حتّى يردا على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حوضه )(٣).

وهذا الحديث يدلّ بوضوح أنّ القرآن الكريم والعترة النبويّة الطاهرة، صِنوان مقترنان مدى الدهر، لا ينفكّ احدهما عن قرينه، وأنّه كما يجب أنْ يكون القرآن دستوراً للمسلمين وحجّةً عليهم، كذلك وجَب أنْ يكون في كلّ عصر إمامٍ من أهل البيتعليهم‌السلام يتولّى إمامة المسلمين، ويوجّههم وجهة الخير والصلاح.

_____________________

(١) المراجعات، ص١٧.

(٢) المراجعات ص ١٤.

(٣) سفينة البحار، عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

٣٢٣

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أحبَّ أنْ يحيى حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعَدَني ربّي وهي جنّة الخُلد، فليتولّ عليّاً وذرّيته من بعده، فإنهم لنْ يخرجوكم مِن باب هدىً، ولنْ يدخلوكم باب ضلالة )(١) .

إلى كثير من الأحاديث النبوية المحرضة على موالاة أهل البيتعليهم‌السلام والاقتداء بهم.

٣ - طاعتهم:

قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٩).

ولقد أوجب اللّه تعالى على المسلمين في الآية الكريمة طاعة الأئمّة مِن آلِ محمّدٍ بِصفتهم خُلفاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُمراء المسلمين، وقادة الفكر الإسلامي، ليستضيئوا بهُداهم، وينتفعوا بتوجيههم الهادف البنّاء، ولا ينحرفوا عن واقع الإسلام، ونهجه الأصيل.

فرَض طاعتهم، كما فرض طاعته وطاعة رسوله، سَواء ٌبسواء. وهذا ما يشعر بخلافتهم الحقّة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعصمتهم مِن الآثام ؛ لأنّ الطاعة المطلقة لا يستحقّها إلاّ الإمام المعصوم، الذي فرض اللّه طاعته على العباد.

_____________________

(١) المراجعات ص ١٥٦.

٣٢٤

فمِن الخطأ الكبير تأويل ( أُولي الأمر ) وحملها على سائر أُمراء المسلمين، لمخالفة الكثيرين منهم للّه تعالى ورسوله، وانحرافهم عن خطّ الإسلام.

يُحدّثنا زرارة، وهو مِن أجلّ المحدّثين والرواة، عن فضل موالاة الأئمّة مِن أهل البيتعليهم‌السلام ، وضرورة طاعتهم، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: ( بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والولاية ) قال زرارة: فقلت وأيّ شيء مِن ذلك أفضل ؟ قال: ( الولاية ؛ لأنّها مفتاحهنّ، والوالي هو الدليل عليهن..)

إلى أنْ قال: ثمّ قالعليه‌السلام : ( ذروة الأمر، وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمان.... الطاعة للإمام، بعد معرفته. إنّ اللّه عزّ وجل يقول:

( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) ( النساء: ٨٠ ).

أما لو أنّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدّق بجميع ماله، وحجّ دهره، ولم يَعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللّه حقٌّ في ثواب، ولا كان من أهل الإيمان ) الخبر(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( وصل اللّه طاعة وليّ أمره.. بطاعة رسوله، وطاعة رسوله... بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢، ص ٦٩١ نقل بتصرّف.

٣٢٥

اللّه ولا رسوله )(١).

٤ - أداء حقّهم مِن الخُمس:

قال تعالى:( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الأنفال: ٤١ ).

وهذا الحقّ فرضٌ محتّم على المسلمين، شرّعه اللّه عزّ وجل لأهل البيتعليهم‌السلام ومَن يمُتّ إليهم بشرف القُربى والنسَب.

وهو حقٌّ طبيعي يفرضه العقل والوجدان، كما يفرضه الشرع. فقد درجت الدوَل على تكريم موظّفيها والعاملين في حقولها، فتمنحهم راتباً تقاعديّاً يتقاضوه عِند كبر سنّهم، ويورّثونه لأبنائهم، وذلك تقديراً لجهودهم في صالح أُممهم وشعوبهم.

وقد فرض اللّه الخُمس لآل محمّد وذراريهم، تكريماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقديراً لجهاده الجبّار، وتضحياته الغالية، في سبيل أُمّته، وتنزيهاً لآله عن الصدقة والزكاة.

وقد أوضح أمير المؤمنينعليه‌السلام مفهوم ذي القربى، فقال: ( نحن واللّه الذين عنى اللّه بذي القربى، الذين قرنهم اللّه بنفسه ونبيّه، فقال:( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) ( الحشر:٧ )

منّا خاصّة ؛ لأنّه لم يجعل لنا سَهماً

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢، ص ٦٩١.

٣٢٦

في الصدقة، وأكرم اللّه نبيّه، وأكرمنا أنْ يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس )(١).

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : أصلحك اللّه، ما أيسر ما يدخل به العبد النار ؟ قال: ( مِن أكل مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم )(٢)

وقد دار الجدال والنقاش بين الإمامية وغيرهم، حول مفهوم الغنيمة، أهي مختصّة بغنائم الحرب، أم عامّة لجميع الفوائد والمنافع ؟ وتحقيق ذلك يخرج هذا الكتاب عن موضوعه الأخلاقي، ومرجعه المصادر الفقهيّة.

٥ - الإحسان إلى ذرّيتهم:

من دلائل مودّة الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام ، ومقتضيات ولائهم، والوفاء لهم... رعاية ذراريهم، والبِرّ بِهم، والإحسان إليهم. وهم جديرون بذلك، لشرف انتمائهم إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانحدارهم مِن سلالة أبنائه المعصومينعليهم‌السلام .

وقد أعرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن اغتباطه وحبّه لمُبجّليهم ومكرميهم، كما أوضح استنكاره وسخطه على مؤذيهم والمسيئين إليهم.

فعن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام ، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أربعةٌ أنا لهم شفيع يوم القيامة: المُكرم لذُرّيتي مِن

_____________________

(١) الوافي ج ٦، ص ٣٨، عن الكافي.

(٢) البحار م ٢٠، ص ٤٨، عن كمال الدين للصدوق، وتفسير العيّاشي.

٣٢٧

بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمولهم عند اضطرارهم، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه )(١).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا قمتُ المقام المحمود، تشفّعت في أصحاب الكبائر مِن أُمّتي، فيُشفّعني اللّه فيهم. واللّه لا تشّفعت فيمَن آذى ذرّيتي )(٢).

٦ - مدحهم ونشر فضلهم:

طبع النُّبلاء على تقدير العظماء والمجلّين في ميادين الفضائل والمكرمات، فيطرونهم بما يستحقّونه مِن المدح والثناء، تكريماً لهم وتخليداً لمآثرهم.

وحيث كان الأئمّة الطاهرون أرفع الناس حسباً ونسباً، وأجمعهم للفضائل، وأسبقهم في ميادين المآثر والأمجاد، استحقّوا مِن مواليهم ومحبّيهم أنْ يعربوا عمّا ينطوون عليه مِن عواطف الحبّ والولاء، وبواعث الإعجاب والإكبار، وذلك بمدحهم، ونشر فضائلهم، والإشادة بمآثرهم الخالدة، تكريماً لهم، وتقديراً لجهادهم الجبّار، وتضحياتهم الغالية في خدمة الإسلام والمسلمين.

وناهيك في فضلهم أنّهم كانوا غياث المسلمين، وملاذهم في كلّ خَطب، لا يألون جُهداً في إنقاذهم، وتحريرهم مِن سطوة الطغاة والجائرين،

_____________________

(١) البحار م ٢٠، ص ٥٧، عن عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

(٢) البحار م ٢٠، ص ٥٧، عن أمالي الصدوق.

٣٢٨

وإمدادهم بأسمى مفاهيم العزّة والكرامة، ما وسَعهم ذلك حتّى استشهدوا في سبيل تلك الغاية السامية.

والناس إزاء أهل البيت، فريقان:

فريقٌ حاقد مُبغض، ينكر فضائلهم ومُثلهم الرفيعة ويتعامى عنها، رغم جمالها وإشراقها، فهو كما قال الشاعر:

ومَن يك ذا فَمٍ مُرّ مريضٍ

يجِد مُرّاً به الماء الزلالا

وفريقٌ والهٌ بحبّهم وولائهم، شغوفٌ بمناقبهم، طروبٌ لسماعها، ويلهج بترديدها والتنويه عنها، وإنْ عانى في سبيل ذلك ضروب الشدائد والأهوال. وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

( لو ضَربتُ خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أنْ يبغضني ما أبغضني، ولو صبَبت الدنيا بجماتها على المنافق، على أنْ يحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النبيّ الأُمّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: يا علي، لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق ).

مِن أجل ذلك كان العارفون بفضائلهم، والمتمسّكون بولائهم، يتبارون في مدحهم، ونشر مناقبهم، معربين عن حبّهم الصادق وولائهم الأصيل، دونما طلبِ جزاءٍ ونوال.

وكان الأئمّةعليهم‌السلام يستقبلون مادحيهم بكلّ حفاوة وترحاب، شاكرين لهم عواطفهم الفيّاضة، وأناشيدهم العذبة، ويكافؤنهم عليها بما وسِعت يداهم مِن البرِّ والنوال، والدعاء لهم بالغفران، وجزيل الأجر والثواب.

٣٢٩

فقد جاء في ( خزانة الأدب ): حكى ( صاعد ) مولى الكميت، قال: دخلت مع الكميت على عليّ بن الحسينعليه‌السلام فقال: إنّي قد مدحتك بما أرجو أنْ يكون لي وسيلة عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أنشده قصيدته التي أوّلها:

مَن لقلب متيم مستهام

غير ما صبوة ولا أحلام

فلمّا أتى على آخرها، قال له: ( ثوابك نعجز عنه، ولكن ما عجزنا عنه فإنّ اللّه لا يعجز عن مكافأتك، اللهمّ اغفر للكميت ). ثمّ قسط له على نفسه وعلى أهله أربعمِئه ألف درهم، وقال له: ( خذ يا أبا المستهل ). فقال له: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً لي، ولكن إنْ أحببت أنْ تحسن إليّ فادفع إليّ بعض ثيابك أتبرّك بها، فقام فنزع ثيابه ودفعها إليه كلّها، ثمّ قال: ( اللهم إنّ الكميت جاد في آل رسولك وذرّية نبيّك بنفسه حين ضنّ الناس، وأظهر ما كتمه غيره من الحقّ، فأحيه سعيداً، وأمته شهيداً، وأره الجزاء عاجلاً، وأجزل له المثوبة آجلاً، فإنّا قد عجزْنا عن مكافأته ).

قال الكُميت: مازلت أعرف بركة دعائه(١) .

وقال دعبل: دخلت على عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام - بخراسان - فقال لي: ( أنشدني شيئاً ممّا أحدثت )، فأنشدته:

مدارس آياتٍ خلت مِن تلاوة

ومنزل وحي مقفرٍ العرصات

حتّى انتهيت إلى قولي:

إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم

أكفّاً عن الأوتار منقبضاتِ

_____________________

(١) الغدير ج ٢، ص ١٨٩.

٣٣٠

فبكى حتّى أُغمي عليه، وأومأ إليّ خادم كان على رأسه: أنْ اسكت، فسكتُّ فمكث ساعة ثمّ قال لي: أعد. فأعدتُ حتّى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل الذي أصابه في المرّة الأولى، وأومأ الخادم إليّ أنْ أسكت، فسكت. فمكث ساعة أُخرى، ثمّ قال لي: أعد. فأعدت حتّى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت، ثلاث مرّات. ثمّ أمر لي بعشرة آلاف درهم، ممّا ضرب باسمه، ولم تكن دُفِعت إلى أحدٍ بعد. وأمر لي مِن في منزله، بحليّ كثيرٍ أخرجه إليّ الخادم، فقدِمت العراق، فبعت كلّ درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها منّي الشيعة، فحصل لي مِئة ألف درهم، فكان أوّل مالٍ اعتقدته.

قال ابن مهرويه: وحدّثني حذيفة بن محمّد، أنّ دعبلاً قال له: إنّه استوهب مِن الرضاعليه‌السلام ثوباً قد لبسه، ليجعله في أكفانه. فخلع جبّةً كانت عليه، فأعطاه إيّاها. فبلغ أهل قم خبرها، فسألوه أنْ يبيعهم إيّاها بثلاثين ألف درهم، فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه، فأخذوها منه غصباً، وقالوا له: إنْ شئت أنْ تأخذ المال فافعل، وإلاّ فأنت أعلم. فقال لهم: إنّي واللّه لا أعطيكم إيّاها طوعاً، ولا تنفعكم غصباً، وأشكوكم إلى الرضاعليه‌السلام . فصالحوه، على أنْ أعطَوه الثلاثين ألف درهم وفردكم مِن بطانتها، فرضي بذلك. فأعطوه فردَكم فكان في أكفانه(١).

وكم لهذه القصص مِن أشباهٍ ونظائر، يطول عرضها وتعدادها في هذا المجال المحدود.

_____________________

(١) الغدير ج ٢، ص ٣٥٠ - ٣٥١.

٣٣١

٧ - زيارة مشاهدهم:

ومِن حقوقهم على مواليهم وشيعتهم، زيارة مشاهدهم المشرّفة، والتسليم عليهم. فإنّها مِن مظاهر الحبّ والولاء، ومصاديق الوفاء والإخلاص فهم سيّان، أحياءً وأمواتاً.

قال الشيخ المفيد أعلى اللّه مقامه:

( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة مِن عترته خاصّة، لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا، بإعلام اللّه تعالى لهم ذلك حالاً بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرّمة العظام، بلطيفةٍ من لطائف اللّه تعالى، بيّنهم بها مِن جمهور العباد، وتبلغهم المناجاة من بُعد، كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافّة...

وقد قال اللّه تعالى فيما يدلّ على جملته:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءً عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( آل عمران: ١٦٩ - ١٧٠ )

وقال في قصّة مؤمن آل فرعون:( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) ( ياسين: ٢٦- ٢٧ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن سلّم عليّ عند قبري سمعته،

٣٣٢

ومَن سلّم عليّ مِن بعيد بلغته ). سلام اللّه عليهم ورحمته وبركاته.

ثمّ الأخبار في تفصيل ما ذكرناه، مِن الجُمل عن أئمّة آل محمّد، بما وصفناه نصّاً ولفظاً، أكثر(١).

وقد تواترت نصوص أهل البيتعليهم‌السلام ، في فضل زيارة مشاهدهم، وما تشتمل عليه من الخصائص الجليلة، والثواب الجم.

فعن الوشّا، قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول: ( إنّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ مِن تمام الوفاء بالعهد وحُسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة )(٢).

وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : ما لِمَن زار واحداً منكم ؟ قال: ( كمَن زار رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: ( إذا كان يوم القيامة، كان على عرش الرحمان أربعةٌ مِن الأوّلين، وأربعةٌ مِن الآخرين، فأمّا الأربعة الذين هُم مِن الأوّلين: فنوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى، وأمّا الأربعة مِن الآخرين: محمّدٌ وعليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام . ثمّ يُمدّ الطعام فيقعد

_____________________

(١) أوائل المقالات للشيخ المفيد (ره).

(٢) البحار م ٢٢، ص ٦ عن عيون أخبار الرضا، وعلل الشرائع وكامل الزيارة لابن قولويه.

(٣) البحار م ٢٢ ص ٦، عن عيون أخبار الرضا، وعلل الشرائع وكامل الزيارة لابن قولويه.

٣٣٣

معنا مَن زار قبور الأئمّة، ألا إنّ أعلاهم درجة وأقربهم حبوةً زوّار قبر ولدي )(١).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : زارنا رسول اللّه، وقد أهدت لنا أُمّ أيمن لبناً وزبداً وتمراً، قدّمنا منه، فأكل، ثمّ قام إلى زاوية البيت فصلّى ركعات، فلمّا كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلَم يسأله أحدٌ منّا إجلالاً وإعظاماً، فقام الحسين في الحجرة وقال له: يا أبه لقد دخلت بيتنا، فما سررنا بشيء كسرورنا بدخولك، ثمّ بكيت بكاءً غمّاً، فما أبكاك ؟ فقال: يا بني، أتاني جبرئيل آنفاً، فأخبرني أنّكم قتلى ؟ وأنّ مصارعكم شتّى. فقال: يا أبه، فما لِمَن يزور قبورنا على تشتّتها ؟ فقال: يا بني، أُولئك طوائف من أُمّتي، يزورونكم، فيلتمسون بذلك البركة، وحقيقٌ عليّ أنْ آتيهم يوم القيامة حتّى أُخلّصهم مِن أهوال الساعة مِن ذنوبهم، ويسكنهم اللّه الجنّة )(٢).

_____________________

(١) البحار م ٢٢، ص ٨، عن الكافي.

(٢) البحار م ٢٢، ص ٧ عن كامل الزيارة، وأمالي ابن الشيخ الطوسي (ره)

٣٣٤

حقُوق العلماء

فضل العلم والعلماء:

العلم... أجلّ الفضائل، وأشرف المزايا، وأعزّ ما يتحلّى به الإنسان. فهو أساس الحضارة، ومصدر أمجاد الأُمم، وعنوان سموّها وتفوّقها في الحياة، ورائدها إلى السعاة الأبديّة، وشرف الدارين.

والعلماء... هُم ورثة الأنبياء، وخزّان العلم، ودُعاة الحقّ، وأنصار الدين، يهدون الناس إلى معرفة اللّه وطاعته، ويوجهونّهم وُجهة الخير والصلاح.

مِن أجل ذلك تضافرت الآيات والأخبار على تكريم العِلم والعُلماء، والإشادة بمقامهما الرفيع.

قال تعالى:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر: ٩).

وقال تعالى:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (المجادلة: ١١).

وقال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) ( فاطر: ٢٨).

وقال تعالى:( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت:٤٣ ).

٣٣٥

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن سلَك طريقاً يطلب فيه عِلماً، سلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنّه يستغفر لطالب العِلم مَن في السماء ومَن في الأرض، حتّى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر. وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر )(١) .

وقال الباقرعليه‌السلام : ( عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضل مِن سبعين ألفَ عابد )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، جمع اللّه عزّ وجل الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مِداد العلماء على دماء الشهداء )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، بعث اللّه عزّ وجل العالم والعابد، فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ وجل، قيل للعابد انطلق إلى الجنّة، وقيل للعالم قِف تشفّع للناس بحسن تأديبك لهم )(٤).

_____________________

(١) الوافي ج ١، ص ٤٢، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١، ص ٤٠ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١ ص ٤٠، عن الفقيه.

(٤) البحار م ١، ص ٧٤، عن عِلل الشراع، وبصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار.

٣٣٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( يا كُميل، هلك خزّان الأموال وهُم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يجيء الرجل يوم القيامة، وله مِن الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الراوسي، فيقول: يا ربِّ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول: هذا عِلمك الذي علّمته الناس، يُعمل به مِن بعدك )(٢).

ولا غرابة أنْ يحظى العُلماء بتلك الخصائص الجليلة، والمزايا الغرّ. فهم حماة الدين، وأعلام الإسلام، وحفَظَة آثاره الخالدة، وتراثه المدخور. يحملون للناس عبر القرون، مبادئ الشريعة وأحكامها وآدابها، فتستهدي الأجيال بأنوار علومهم، ويستنيرون بتوجيههم الهادف البنّاء.

وبديهيّ أنّ تلك المنازل الرفيعة، لا ينالها إلاّ العلماء المخلصون. المجاهدون في سبيل العقيدة والشريعة، والسائرون على الخطّ الإسلامي، والمتحلّون بآداب الإسلام وأخلاقه الكريمة.

ولهؤلاء فضلٌ كبير، وحقوقٌ مرعيّة في أعناق المسلمين، جديرةٌ بكلّ عنايةٍ واهتمام، وهي:

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) البحار م ١، ص ٧٥ عن بصائر الدرجات.

٣٣٧

١ - توقيرهم:

وهو في طليعة حقوقهم المشروعة، لتحلّيهم بالعلم والفضل، وجهادهم في صيانة الشريعة الإسلامية وتعزيزها، ودأبهم على إصلاح المُجتمع الإسلامي وإرشاده.

وقد أعرب أهل البيتعليهم‌السلام عن جلالة العلماء، وضرورة تبجيلهم وتوقيرهم، قولاً وعملاً، حتّى قرّروا أنّ النظر إليهم عبادة، وأنّ بُغضهم مَدعاة للهلاك، كما شهِد بذلك الحديث الشريف:

فعن موسى بن جعفر عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : النظر في وجه العالم حبّاً له عبادة )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أغد عالماً أو متعلّماً، أو أُحِبَّ العلماء، ولا تكُن رابعاً فتهلَك ببغضهم )(٢).

وهكذا كانواعليهم‌السلام يبجّلون العلماء، ويرعونهم بالحفاوة والتكريم، يحدّثنا الشيخ المفيد (ره)، عن توقير الإمام الصادقعليه‌السلام لهشام بن الحكم - وكان مِن ألمع أصحابه وأسماهم مكانة عنده -: ( أنّه دخل عليه بمنى، وهو غلامٌ أوّل ما اختلط عارضاه، وفي مجلسه شيوخ الشيعة، كحمران بن أعيَن، وقيس الماصر، ويونس بن يعقوب، وأبي جعفر الأحوَل

_____________________

(١) البحار م١، ص ٦٤، عن نوادر الراوندي.

(٢) البحار م ١، ص ٥٩، عن خصال الصدوق(ره).

٣٣٨

وغيرهم، فرفَعه على جماعتهم، وليس فيهم إلاّ مَن هو أكبر سنّاً منه ).

فلمّا رأى أبو عبد اللّهعليه‌السلام أنّ ذلك الفعل كبر على أصحابه، قال: ( هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده )(١).

وجاء عن أحمد البزنطي، قال: ( وبعث إليّ الرضاعليه‌السلام بحمارٍ له، فجئت إلى صريا، فمَكث عامّة الليل معه، ثمّ أتيت بعشاء، ثمّ قال: ( افرشوا له ). ثمّ أتيت بوسادة طبريّة ومرادع وكساء قياصري وملحفة مروي، فلمّا أصبت مِن العشاء، قال لي: ( ما تريد أنْ تنام ؟).

قلت: بلى، جُعلت فداك. فطرح عليّ الملحفة والكساء، ثمّ قال: ( بيّتك اللّه في عافية ).

وكنّا على سطح، فما نزل مِن عندي، قلت في نفسي: قد نلت مِن هذا الرجل كرامة ما نالها أحدٌ قطّ(٢).

٢ - بِرّهم:

همّة العلماء، وهدفهم الأسمى، خدمة الدين، وبثّ التوعية الإسلاميّة، وتوجيه المسلمين نحو الخُلق الكريم والسُلوك الأمثل، وهذا ما يقتضيهم وقتاً واسعاً، وجهداً ضخماً، يعوقهم عن اكتساب الرزق وطلب المعاش كسائر الناس.

فلا بدّ والحالة هذه، للمؤمنين المعنيين بشؤون الدين، والحريصين على

_____________________

(١) سفينة البحار ج ٢، ص ٧١٩.

(٢) سفينة البحار ج ١، ص ٨١.

٣٣٩

كيانه... أنْ يوفّروا للعُلماء وسائل الحياة الكريمة، والعيش اللائق. وذلك بأداء الحقوق الشرعيّة إليهم، التي أمر اللّه بها، وندب إليها، مِن الزكاة والخُمس، ووجوه الخيرات والمبرّات. فهم أحقّ الناس بها، وأهمّ مصاديقها، ليستطيعوا تحقيق أهدافهم، والاضطلاع بمهامّهم الدينيّة، دون أنْ يعوقهم عنها طلب المعاش.

وقد كان الغيارى مِن المسلمين الأوّلين، يتطوّعون بأريحيّة وسخاء، في رصد الأموال، وإيجاد الأوقاف، واستغلالها لصالح العلماء، وتوفير معاشهم.

وكلّما تجاهل الناس أقدار العلماء، وغمطوا حقوقهم، أدّى إلى قلّة العلماء، وهبوط الطاقات الروحيّة، وضعف النشاط الديني. ممّا يُعرّض المجتمع الإسلامي لغزو المبادئ الهدّامة، وخطر الزيغ والانحراف.

٣ - الاهتداء بهم:

لا يستغني كلّ واعٍ مستنير، عن الرجوع إلى الأخصّائيّين في مختلف العلوم والفنون، للإفادة من معارفهم وتجاربهم، كالأطباء والكيمياويّين والمهندسين ونحوهم من ذوي الاختصاص.

وحيث كان العلماء الروحانيّون متخصّصين بالعلوم الدينيّة، والمعارف الإسلاميّة، قد أوقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة الإسلاميّة، ونشر مبادئها وأحكامها، وهداية الناس وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.. فجدير

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517