أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342453 / تحميل: 12224
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً لم يُمِته حتّى يريه الخلَف )(١) .

وقال حكيمٌ في ميّت: ( إنّ كان له ولد فهو حي، وإنْ لم يكن له ولد فهو ميّت ).

وفضل الولد الصالح ونفعه لوالديه لا يقتصر على حياتهما فحسب، بل يسري حتّى بعد وفاتهما، وانقطاع أملهما من الحياة.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( ليس يتبع الرجل بعد موته مِن الأجر إلاّ ثلاث خِصال: صدقةٌ أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدىً سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مرّ عيسى بن مريم بقبرٍ يُعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به مِن قابل فإذا هو لا يعذّب. فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّل وكان يُعذّب !. فأوحى اللّه إليه. إنّه أدرك له ولدٌ صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثمّ قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ميراث اللّه من عبده المؤمن ولدٌ يعبده مِن بعده ).

ثمّ تلا أبو عبد اللّهعليه‌السلام آية زكريّا على نبيّنا وآله وعليه‌السلام :( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) ( مريم: ٥ - ٦ )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٩٧، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٠، عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٩٧، عن الكافي.

٣٦١

ومِن الواضح أنّ صلاح الأبناء واستقامتهم لا يتسنّيان عفَواً وجزافاً، وإنّما يستلزمان رعايةً فائقة، واهتماماً بالغاً في إعدادهم وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.

مِن أجل ذلك وجَب على الآباء تأديب أولادهم وتنشئتهم على الاستقامة والصلاح، ليجدوا ما يأملون فيهم مِن قرّة عين، وحسن هدىً وسلوك.

قال الإمام السجادعليه‌السلام : ( وأمّا حقّ ولدك: فأنْ تعلم أنّه منك، ومضافٌ إليك في عاجلِ الدنيا بخيره وشرّه. وإنّك مسؤولٌ عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة له على ربّه عزَّ وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمَلَ مَن يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقبٌ على الإساءة إليه )(١).

فالآباء مسؤولون عن تهذيب أبنائهم وإعدادهم إعداداً صالحاً، فإنْ أغفلوا ذلك أساؤا إلى أولادهم، وعرّضوهم لأخطار التخلّف والتسيّب الديني والاجتماعي.

ويحسن بالآباء أنْ يبادروا أبناءهم بالتهذيب والتوجيه، منذ حداثتهم ونعومة أظفارهم، لسرعة استجابتهم إلى ذلك قبل تقدّمهم في السن، وروسوخ العادات السيّئة والأخلاق الذميمة فيهم، فيغدون آنَ ذاك أشدُّ استعصاءً على التأديب والإصلاح.

_____________________

(١) رسالة الحقوق، للإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

٣٦٢

حكمة التأديب:

وهكذا يجدر بالآباء أنْ يتحرّوا القصد، والاعتدال في سلطتهم، وأساليب تأديب أبنائهم، فلا يسوسونهم بالقسوة والعنف ممّا يعقّدهم نفسيّاً، ويبعثهم على النفرة والعقوق. ولا يتهاونوا في مؤاخذتهم على الإساءة والتقصير، فيستخفّون بهم ويتمرّدون عليهم، فإنّ ( مَن أمِن العقوبة أساء الأدب ).

وخير الأساليب في ذلك هو التدرّج في تأديب الأبناء وتقويمهم، وذلك بتشجيعهم على الإحسان، بالمدح والثناء وحسن المكافأة، وبنصحهم على الإساءة. فإنْ لم يجدهم ذلك، فبالتقريع والتأنيب، وإلاّ فبالعقوبة الرادعة، والتأنيب الزاجر.

المدرسة الأولى للطفل:

والبيت هو المدرسة الأولى للطفل، يترعرع في ظلاله، وتتكامل فيه شخصيّته، وتنمو فيه سجاياه، متأثّراً بأخلاق أبَويه وسلوكهما. فعليهما أنْ يكونا قدوةً حسنة، ومثلاً رفيعاً، لتنعكس في نفسه مزاياهم وفضائلهم.

٣٦٣

منهاج التأديب:

١ - وأوّل ما يُبدأ به في تهذيب الطفل، تعليمه آداب الأكل والشرب: كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، والأكل بيمينه، وإجادة المضغ، وترك النظر في وجوه الآكلين، والرضا والقنوع بالمقسوم مِن الرزق. ونحو ذلك مِن الآداب.

٢ - ويراضُ الطفلُ على أدب الحديث، والكلام المهذّب، والقول الحسن، ومنعه عن الفُحش، والبَذاء، والاغتياب، والثرثرة، وما إلى ذلك من مساوئ اللسان وأنْ يُحسن الإصغاء، كما يُحسن الحديث، فلا يقاطع متحدثاً حتى ينتهي من حديثه.

٣ - وأهمّ ما يعني به في توجيه الأولاد، غرس المفاهيم الدينيّة فيهم، وتنشئتهم على العقيدة والإيمان، بتعليمهم أُصول الدين وفروعه بأُسلوبٍ يلائم مستواهم الفكري، ليكونوا على بصيرةٍ مِن عقيدتهم وشريعتهم، مُحصنّين ضدّ الشُّبَه المُضلِّلة مِن أعداء الإسلام:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم: ٦ ).

٤ - وعلى الآباء أنْ يروّضوا أبناءهم على التخلّق بالأخلاق الكريمة والسجايا النبيلة: كالصدق، والأمانة، والصبر، والاعتماد على النفس.

وتحريضهم على حسن معاشرة الناس: كتوقير الكبير، والعطف على

٣٦٤

الصغير، وشكر المُحسن، والتجاوز ما وسعهم عن المسيء، والتحنّن على البؤساء والمعوزين.

٥ - ومِن المهمّ جدّاً منع الأبناء مِن معاشرة القرناء المنحرفين الأشرار، وتحبيذ مصاحبة الأخدان الصلحاء لهم، لسرعة تأثّرهم بالأصدقاء، واكتسابهم مِن أخلاقهم وطباعهم، كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ).

وقد شهِد الناس كثيراً مِن مآسي الشباب الذين انحرفوا عن النهج السويّ، وتدهوروا في مهاوي الرذيلة والفساد، لتأثّرهم بقُرناء السوء، وأخدان الشر.

٦ - وهكذا يُحسن بالآباء أنْ يستطلعوا مواهب أبنائهم وكفاءاتهم، ليوجّهوهم، في ميادين الحياة وطرائق المعاش، حسب استعدادهم ومؤهّلاتهم الفكريّة والجسميّة: مِن طلب العلم، أو ممارسة الصناعة، أو التجارة ؛ ليستطيعوا الاضطلاع بأعباء الحياة، ويعيشوا عيشاً كريماً.

٣٦٥

الحقوق الزوجيّة

فضل الزواج

الزواج: هو الرابطة الشرعيّة المقدّسة، وشركة الحياة بين الزوجين. شرّعه اللّه عزّ وجل لحفظ النوع البشري وتكاثره، وعمران الأرض وازدهار الحياة فيها.

وقد رغّبت فيه الشريعة الإسلاميّة وحرّضت عليه كتاباً وسنّة:

قال تعالى:( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( النور: ٣٢ ).

وقال سُبحانه:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الروم:٢١ ).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بُنيَ بناءً في الإسلام أحبُّ إلى اللّه مِن التزويج )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تزوّج أحرَز نصف دينه، فليتقّ اللّه في النصف الآخر )(٢).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النكاح سنّتي، فمَن رغِب عن سنّتي، فليس منّي )(٣).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الكافي.

(٣) البحار م ٢٣ ص ٥١، عن مكارم الأخلاق للطبرسي.

٣٦٦

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأُمَم غداً يوم القيامة، حتّى أنّ السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنّة، فيُقال له أدخل، فيقول: لا، حتّى يدخل أبواي قبلي )(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( ركعتان يُصلّيهما المتزوّج أفضل مِن سبعين ركعة يُصلّيها أعزب )(٢).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لركعتان يُصلّيهما متزوّج، أفضل مِن رجلٍ عزب يقوم ليله ويصوم نهاره )(٣).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( رذاّل موتاكم العزّاب )(٤).

١ - فوائد الزواج:

ولا عجَب أنْ تؤكّد هذه النصوص على الزواج تأكيدها المُلِحّ، وتُحرّض عليه بالترغيب تارةً ويالترهيب أُخرى، لما ينطوي عليه مِن صنوف الخصائص والمنافع:

١ - فمِن خصائصه: أنّه الوسيلة الوحيدة لكسب الذريّة الطيبة،

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه، ( المحبنطئ: المغتاظ ).

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه والكافي.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

(٤) الوافي ج ١٢ ص ١١، عن الفقيه.

٣٦٧

والأبناء الصُلَحاء، وهُم زينةُ الحياة الدنيا، وأعزُّ ذخائرها، وألذُّ مُتَعِها وأشواقها، بهم يستشعر الآباء العِزَّة والمُتعة، وامتداد الحياة، وطيب الذكر، وحُسن المكافأة، وجزيل الأجر عند اللّه عزّ وجل، كما أوضَحته النصوص السالفة في فضل الولد الصالح.

٢ - ومِن منافع الزواج:

أنّه باعث على عفّة المتزوّج وحصانته ضدّ الفجور والآثام الجنسيّة، وهذا ما عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: ( مَن تزوّج أحرَز نصف دينه، فليتق الّله في النصف الآخر ).

مِن أجل ذلك كان عقاب الزاني المُحصَن رجماً بالحجارة حتّى الموت، لتحصّنه بالزواج، واستهتاره بقدسيّة الأعراض وكرامتها المصونة.

٣ - ومِن آثار الزواج:

أنّه مِن دواعي رغَد العيش، وسكينة النفس، وراحة الضمير والوجدان. ذلك أنّ الرجل كثيراً ما يُعاني أزَمات الحياة، ومتاعب الكِفاح في سبيل العيش، فيجد في ظلاله زوجته الحبيبة المُخلصة مِن حسن الرعاية ولطف المؤانسة، ورقّة الحنان، ما يُخفّف عناءه ويسري عنه الكثير مِن المتاعب والهموم:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

٣٦٨

وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ).

وعن أبي عبد اللّه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما استفاد امرؤٌ مسلمٌ فائدةً بعد الإسلام أفضل مِن زوجةٍ مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها، في نفسها وماله )(١).

السعادة الزوجيّة:

ومِن الثابت أنّ السعادة الزوجيّة لا تتحقّق، ولا ينال الزوجان ما يصبوان إليه مِن رغَد وهناء، إلاّ إذا أحسَن كلٌّ منهما اختيار صاحبه، وشريك حياته، واصطفاه على ضوء القِيَم الأصيلة والمقاييس الثابتة، التي مِن شأنها أنْ توثّق الروابط الزوجيّة، وتنشر السعادة والسلام في ربوع الحياة الزوجيّة. كما أنّ سوء الاختيار كثيراً ما يُعرّضها للفشل والإخفاق.

وقد عالج أهل البيتعليهم‌السلام هذا الجانب الموضوعي مِن حياة الناس، فأوضحوا محاسن ومساوئ كلٍّ من الرجل والمرأة، ليكون كلٌّ منهما على بصيرةٍ مِن اختيار زوجه وشريك حياته.

الزوج المثالي:

والزوج المثالي: هو الرجل الكفوء الذي تُسعد المرأة في ظلاله،

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٦، عن الكافي والفقيه.

٣٦٩

وتنعم بحياة زوجيّة هانئة.

فليست الكفاءة كما يتوهّمها غالب الناس - منوطةً بالزخارف الماديّة فحسب، كالقصر الفخم، أو السيّارة الفارهة، أو الرصيد المالي الضخم.

وليست هي كذلك منوطة بالشهادة العالية، أو الوظيفة المرموقة، أو الحسَب الرفيع.

وفقد تتوفّر هذه الخلال في الرجل، وهي رغم ذلك لا تحقّق سعادة الزوجة وأمانيها في الحياة، كما أعرَبت عن ذلك زوجة معاوية، وقد سئمت في كنفه مظاهر الترَف والبذَخ والسلطان والثراء، وحنّت إلى فتى أحلامها، وإنْ كان خلواً مِن كلِّ ذلك:

لبيتٌ تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ مِن قصرٍ مُنيفِ

ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني

أحبّ إليّ مِن لبس الشفوفِ

وخرق مِن بني عمّي نجيب

أحبُّ إليّ مِن عِلج عنيفِ

فالكفاءة الحقّة، هي مزيج مِن عناصر ثلاث: التمسّك بالدين، والتحلّي بحسن الخُلق، والقدرة على إعالة الزوجة ورعايتها ماديّاً وأدبيّاً. وبذلك يغدو الرجل كُفئاً وزوجاً مثاليّاً في عُرف الإسلام.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا جاءكم مَن ترضون خُلقه ودينه، فزوّجوه، إنْ لا تفعلوه تكُن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( الكفوء أنْ يكون عفيفاً وعنده يسار )(٢).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٧، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١٨، عن الكافي والفقيه والتهذيب.

٣٧٠

لذلك كان مكروهاً في الشريعة الإسلاميّة تزويج الفاسق، وشارب الخمر، والمخنّث، وسيّئ الخُلق، ونحوهم ممّن لا يُوثَق بدينه وأخلاقه.

الزوجة المثاليّة:

والزوجة المثاليّة: هي المتحلّية بالإيمان، والعفاف، وكرَم الأصل، وجمال الخَلق والخُلق، وحسن العشرة مع زوجها.

وقد صوّرت نصوص أهل البيتعليهم‌السلام خصائص النساء، وصفاتهن الكريمة والذميمة، لتكون علامة فارقة بين الزوجة المثاليّة وغيرها.

عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ( إنّ خير نِسائكم الولود، الودود، العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحِصان على غيره، التي تسمَع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد منها، ولم تبذل كتبذل الرجل ).

ثمّ قال: ( ألا أخبركم بشرار نسائكم ؟ الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود، التي لا تورع مِن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها بعلُها، الحِصان معه إذا حضَر، لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها بعلُها تمنّعت منه، كما تمنع الصعبة مِن ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً )(١) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال:

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٤، عن الكافي والتهذيب.

٣٧١

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أفضل نساء أُمّتي أصبَحهُنَّ وجهاً، وأقلّهُنَّ مهراً )(١).

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تزوج امرأة لا يتزوّجها إلاّ لجمالها لم يرَ فيها ما يحب، ومَن تزوّجها لمالها لا يتزوّجها إلاّ له وكله اللّه إليه، فعليكُم بذات الدين )(٢).

وقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خطيباً فقال: ( أيّها الناس، إيّاكم وخضراء الدمَن. قيل يا رسول اللّه: وما خضراء الدمَن ؟ قال: ( المرأة الحسناء في منبت السوء )(٣).

وقد نهى الحديث عن تزوّج المرأة الوضيئة الحسناء إذا كانت مِن أسرة مغموزة في عفّتها ونجابتها.

رعاية الحقوق:

والزوجان بعد هذا لا يكسبان السعادة الزوجيّة والهناء العائلي، إلاّ برعاية كلٍّ منهما حقوق الآخر وأداء واجباته، جرياً على قانون الأخذ والعطاء. وبذلك ينعمان بحياة سعيدة، آمنة مِن مثيرات النكَد والتنغيص.

وقد أولَت الشريعة الإسلاميّة الحياة الزوجيّة عنايةً بالغةً، بصفتها

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١٥، عن الكافي والفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١٣، عن التهذيب.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١٢، عن الكافي والفقيه.

٣٧٢

الخليّة الأُولى مِن خلايا المجتمع الكبير، ورعتها بالتنظيم والتوجيه، وقرّرت الحقوق المشتركة بين الزوجين، والحقوق الخاصّة بكلٍّ منهما على انفراد.

فالحقوق المشتركة التي يجدر تبادلها بين الزوجين، هي: الإخلاص، الثقة، الأمانة، التعاطف، والتآزر. وهذه هي عناصر الحياة الزوجيّة الناجحة، ومقوّماتها الأصيلة.

وأمّا الحقوق الخاصّة فسنعرضها في مطاوي هذا البحث:

حقوق الزوج

للزوج حقوقٌ على زوجه بحكم رعايته لها وقوامته عليها، وهي:

١ - الطاعة:

وهي أوّل متطلّبات الزوج وحقوقه المفروضة على زوجه. فهي مسؤولة عن طاعته وتلبية رغَباته المشروعة، ومفاداة كلّ ما يسيئه ويغيظه، كالخروج مِن الدار بغير رضاه، والتبذير في ماله، وإهمال وظائفها المنزليّة، ونحو ذلك ممّا يُعرّض الحياة الزوجيّة لأخطار التباغض والفرقة.

فعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ( جاءت امرأة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزوج على المرأة ؟ فقال لها: ( أنْ تطيعه ولا تعصيه، ولا تصّدّق مِن بيته إلاّ بإذنه، ولا تصوم طوعاً

٣٧٣

إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإنْ كانت على ظهر قتَب، ولا تخرج مِن بيتها إلاّ بإذنه، وإنْ خرجَت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض، وملائكة الغضَب وملائكة الرحمة، حتّى ترجع إلى بيتها. فقالت: يا رسول اللّه، مَن أعظم الناس حقّاً على الرجل ؟

قال: والده.

قالت: فمَن أعظم الناس حقّاً على المرأة ؟

قال: زوجها...)(١).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً مِن الأنصار على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خرَج في بعض حوائجه، فعهد إلى امرأته عهداً، أنْ لا تخرج مِن بيتها حتّى يقدِم ).

قال: ( وإنّ أباها مرض، فبعثت المرأة إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: إنّ زوجي خرَج وعهد إليّ أنْ لا أخرج مِن بيتي حتّى يقدِم، وإنّ أبي قد مرِض، فتأمرني أنْ أعوده ؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فثقل، فأرسلت إليه ثانياً بذلك، فقالت: فتأمرني أنْ أعوده ؟

فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فمات أبوها، فبعثت إليه: إنّ أبي قد مات، فتأمرني أنْ أصلّي عليه ؟

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي والفقيه.

٣٧٤

فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.

قال: فدفن الرجل، فبعث إليها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ اللّه تعالى قد غفَر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك )(١).

وقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام : ( أيّما امرأة باتت وزوجها عليها ساخطٌ في حقٍّ، لم تُقبل منها صلاة حتّى يرضى عنها )(٢).

٢ - المداراة:

وعلى الزوجة أنْ تحيط زوجها بحسن العشرة، وجميل الرعاية، ولطف المداراة، وذلك بتفقّد شؤونه، وتوفير وسائل راحته النفسيّة والجسميّة، وحسن التدبير المنزلي، ورعاية عياله، ليستشعر منها العطف والولاء، وتغدو الزوجة بذلك حظيّة عند زوجها، أثيرة لديه، يُبادلها الحبّ والإخلاص. وتكون إلى ذلك قدوةً حسنةً لأبنائها، يستلهمون منها كريم الأخلاق وحُسن الأدب.

ومِن أهمّ صور المداراة أنْ تتفادى المرأة جهدها، عن إرهاق زوجها بالتكاليف الباهضة، والمآرب التي تنوء بها إمكاناته الاقتصاديّة، فذلك ممّا يُسبّب إرباكه واغتمامه، ومِن ثمّ يستثير سخَطه ونفاره مِن زوجته.

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٥، عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي والفقيه.

٣٧٥

فعن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال: ( جهاد المرأة حُسن التبعّل )(١).

ولا ريبَ أنّ حُسن تبعّل الزوجة وكرَم أخلاقها، يشُدّ أزر الزوج، ويرفع معنويّاته، ويمدّه بطاقات جسميّة ونفسيّة ضخمة، تضاعف مِن قدرته على مواصلة الكفاح والجهاد في سبيل العيش، ويزيده قوّةً وصلابة على معاناة الشدائد والأزمات، كما أنّ شراستها وتمرّدها يُوهن كيانه، ويُضعف طاقته، ويهرمه قبل أوان الهرَم، وفي التاريخ دلائل وشواهد على ذلك.

منها: قصّة الإخوة الثلاثة مِن بني غنّام، حينما جاءهم نفرٌ يحكّمونهم في مشكلة أعياهم حلّها، فانتهوا إلى واحدٍ منهم، فرأوا شيخاً كبيراً، فقال لهم: ادخلوا إلى أخي ( فلان ) فهو أكبر منّي، فاسألوه.

فدخلوا عليه، فخرَج شيخٌ كهل، فقال: سلوا أخي الأكبر منّي.

فدخلوا على الثالث، فإذا هو في المنظر أصغر. فسألوه أولاً عن حالهم، ثمّ أوضح مبيّناً لهم، فقال:

أمّا أخي الذي رأيتموه أوّلاً، هو الأصغر، فإنّ له امرأةُ سوء تسوؤه وقد صبَر عليها مخافة أنْ يُبتلى ببلاءٍ لا صبرَ له عليه، فهَرَمته.

وأمّا أخي الثاني فإنّ عنده زوجة تسوؤه وتسرّه، فهو متماسك الشباب.

وأمّا أنا، فزوجتي تسرّني، ولا تسوؤني، لم يلزمني منها مكروهٌ قط مُنذ صحِبَتني، فشبابي معها متماسك(٢).

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٤، عن الكافي.

(٢) عن سفينة البحار ج ١ ص ١٣٣ بتصرّف واختصار.

٣٧٦

وهذه وصيّةٌ بليغةٌ لأعرابيّةٍ حكيمة، توصي بها ابنتها ليلة البناء بها: ( أي بنيّة، إنّك فارقت بيتك الذي منه خرَجتِ، وعشّكِ الذي فيه درَجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فكوني له أمةً يكن لك عبداً، واحفظي له خِصالاً عشراً:

أمّا الأُولى والثانية: فاصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السمع والطاعة.

وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقّد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشمّ منك إلاّ أطيب ريح.

وأمّا الخامسة والسادسة: فالتفقّد لوقت منامه وطعامه، فإنّ تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.

وأمّا السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حُسن التقدير، وفي العِيال حُسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سرّا، فإنّك إنْ خالفتيه أغَرْت صدره، وإنْ أفشيت سرّه لم تأمني غدره.

ثمّ إيّاك والفرح بين يديه إذا كان مهتمّاً، والكآبة بين يديه إذا كان فرِحاً، فانّ الخصلة الأُولى مِن التقصير، والثانية مِن التكدير.

وكوني له أشدّ الناس له إعظاماً يكن أشدّهم لك إكراماً، واعلمي أنّك لا تصلين إلى ما تحبّين، حتّى تُؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحبَبت وكرهت. واللّه يخير لك )(١).

_____________________

(١) مختارات المنفلوطي ص ٢٤٠.

٣٧٧

٣ - الصيانة:

وأهمّ واجبات الزوجة، صيانة شرف زوجها وسمعته، فتتفادى جهدها عمّا يسيئهما ويخدشهما، كالخلاعة والميوعة، وإفشاء أسرار الزوج، وكشف ما يحرص على إخفائه مِن صور الفاقة والعوز، فذلك ممّا يضعف ثقة الزوج بها ويهدّدها بالنفرة والفرقة.

٣٧٨

حقوق الزوجة

وهكذا أولت الشريعة الإسلامية الزوجة عنايةً كُبرى ومنحتها حقوقها الماديّة والأدبيّة، إزاء حقوق الزوج عليها. مُشرّعةً ذلك على أساس الحكمة والعدل، ورعاية مصلحة الزوجين وخيرهما معاً، وهي أُمور:

١ - النفقة:

وهي حقٌّ محتّم على الزوج، يجب أداؤه إليها، وتوفير حاجاتها المعاشيّة، مِن الملبَس والمطعَم والمسكَن، ونحو ذلك مِن مستلزمات الحياة حسب شأنها وعادتها.

والنفقة حقٌّ معلومٌ للزوجة، تتقاضاه من زوجها، وإنْ كانت ثريّةً موسرة، لا يسقط إلاّ بنشوزها وتمرّدها على الزوج. وليس له قسرها على الخدمات المنزليّة، أو إرضاع طفله، إلاّ أنْ تتطوّع بذلك عن رغبةً وإيثاراً.

٣٧٩

التوسعة على العيال:

وقد يسترقّ البُخل بعض النفوس فتنزع إلى الشحّ والتقتير على العيال، متغاضية عن أشواقهم ومآربهم. ومن هنا جاءت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مُحذّرةً من ذلك الإمساك، ومرغّبةً في البِرّ بهم، والتوسعةِ عليهم.

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي )(١).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( عيال الرجل أُسراؤه، وأحبّ العباد إلى اللّه تعالى أحسنُهم صنيعاً إلى أُسرائه )(٢).

وقال أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام : ( عيال الرجل أُسراؤه، فمَن أنعم اللّه عليه نعمةً فليوسّع على أُسرائه، فإنْ لم يفعل أوشك أنْ تزول تلك النعمة )(٣).

وهكذا أثبتت أحاديثهمعليهم‌السلام وباركت جهود الكادحين، في طلب الرزق الحلال، لتموين أزواجهم وعوائلهم، وتوفير وسائل العيش لهم.

_____________________

(١) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١٢ ص ١١٧، عن الفقيه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517