أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت11%

أخلاق أهل البيت مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 517

أخلاق أهل البيت
  • البداية
  • السابق
  • 517 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 342364 / تحميل: 12219
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت

أخلاق أهل البيت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأبواب البِر، وحرام على الجنّة أنْ يدخلها شحيح )(١).

وعن جعفر بن محمّد عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : السخيُّ قريبٌ مِن اللّه، قريبٌ مِن الناس، قريبٌ مِن الجنّة، والبخيل بعيدٌ مِن اللّه، بعيدٌ مِن الناس، قريبٌ من النار )(٢)

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( عجِبتُ للبخيل يستعجل الفَقر الذي منه هرَب، ويفوته الغِنى الذي إيّاه طلَب، فيعيش في الدنيا عَيش الفقراء ويُحاسَب في الآخرة حِساب الأغنياء )(٣).

وسنعرض أخباراً أُخرى في مطاوي هذا البحث.

مساوئ البُخل:

البخل سجيّةٌ خسيسة، وخُلُقٌ لئيم باعثٌ على المساوئ الجمّة، والأخطار الجسيمة في دنيا الإنسان وأُخراه.

أمّا خطره الأُخروي: فقد أعربت عنه أقوال أهل البيتعليهم‌السلام ولخّصه أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلمته السالِفة حيث قال: ( والشحيح إذ شحَّ منع الزكاة، والصدقة، وصِلة الرحم، وقِرى الضيف، والنفقة في سبيل اللّه، وأبواب البِر، وحرام على الجنّة أنْ يدخلها شحيح ).

_____________________

(١) الوافي ج ٦ ص ٦٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٣ عن كتاب الإمامة و التبصرة.

(٣) نهج البلاغة.

٨١

وأمّا خطره الدنيوي فإنه داعية المقت والازدراء، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موتَ البخيل أقربُهم اليه، وأحبهم له، لحرمانه من نواله وطمعاً في تراثه.

والبخيل بعد هذا أشدّ الناس عناءً وشقاءً، يكدَح في جمع المال والثراء، ولا يستمتع به، وسُرعان ما يخلّفه للوارث، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويُحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

صور البُخل:

والبُخل - وإنْ كان ذميماً مقيتاً - بَيد أنّه يتفاوت ذمّه، وتتفاقم مساوئه، باختلاف صوَرِه وأبعاده:

فأقبح صوره وأشدُّها إثما ً، هو البُخل بالفرائض الماليّة، التي أوجبها اللّه تعالى على المسلمين، تنظيماً لحياتهم الاقتصاديّة، وإنعاشاً لمعوزيهم.

وهكذا تختلف معائب البُخل، باختلاف الأشخاص والحالات:

فبُخل الأغنياء أقبح من بُخل الفقراء، والشحّ على العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو الأضياف أبشَع وأذمّ منه على غيرهم، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من طعامٍ وملابس، أسوأ منه في مجالات الترَف والبذخ أعاذنا اللّه مِن جميع صوره ومِثالِيه.

علاج البُخل:

وحيث كان البخل من النزعات الخسيسة، والخلال الماحقة، فجديرٌ

٨٢

بالعاقل علاجه ومكافحته، وإليك بعض النصائح العلاجيّة له:

١ - أنْ يستعرض ما أسلفناه مِن محاسن الكرَم، ومساوئ البُخل، فذلك يُخفّف من سَورة البُخل. وإنْ لم يُجدِ ذلك، كان على الشحيح أنْ يُخادع نفسه بتشويقها إلى السخاء، رغبةً في الثناء والسمعة، فإذا ما أنَس بالبذل، وارتاح إليه، هذّب نفسه بالإخلاص، وحبّب إليها البذل في سبيل اللّه عزّ وجل.

٢ - للبُخل أسبابٌ ودوافع، وعلاجه منوطٌ بعلاجها، وبدرء الأسباب تزول المسَّببات.

وأقوى دوافع الشحّ خوف الفقر، وهذا الخوف مِن نزَعات الشيطان، وإيحائه المثّبِّط عن السخاء، وقد عالَج القرآن الكريم ذلك بأُسلوبه البديع الحكيم، فقرّر: أنّ الإمساك لا يُجدي البخيل نفعاً، وإنّما ينعكس عليه إفلاساً وحرماناً، فقال تعالى:( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ..) (محمّد: ٣٨ ).

وقرّر كذلك أنّ ما يسديه المرء من عوارف السخاء، لا تضيع هدراً، بل تعود مخلوقة على المُسدي، من الرزّاق الكريم، قال عزّ وجل:(...وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ: ٣٩ ).

وهكذا يُضاعِف القرآن تشويقه إلى السخاء، مؤكّداً أنّ المُنفِق في سبيل اللّه هو كالمُقرِض للّه عزّ وجل، وأنّه تعالى بلطفه الواسع يُّرَدُ عليه القرض أضعافاً مضاعفة:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ

٨٣

حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٦١ ).

أمّا الذين استرقّهم البُخل، ولم يُجدهم الإغراء والتشويق إلى السخاء، يوجّه القرآن إليهم تهديداً رهيباً، يملأ النفس ويهزّ المشاعر:

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) ( التوبة: ٣٤ - ٣٥ )

ومن دواعي البُخل: اهتمام الآباء بمستقبل أبنائهم مِن بعدهم، فيضنّون بالمال توفيراً لأولادهم، وليكون ذخيرةً لهم، تقيهم العوَز والفاقة.

وهذه غريزة عاطفيّة راسخة في الإنسان، لا تضرّه ولا تجحف به، ما دامت سويّة معتدلة، بعيدةً عن الإفراط والمغالاة.

بيد أنّه لا يليق بالعاقل، أنْ يسرف فيها، وينجرف بتيارها، مضحّياً بمصالحه الدنيويّة والدينيّة في سبيل أبنائه.

وقد حذّر القرآن الكريم الآباء مِن سطوة تلك العاطفة، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا بحبّ أبنائهم، ويقترفوا في سبيلهم ما يُخالف الدين والضمير:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال: ٢٩ )

وأعظم بما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام في كتابٍ له: ( أمّا بعد، فإنّ الذي في يدَيك من الدنيا، قد كان له أهلٌ قبلَك، وهو صائر إلى

٨٤

أهلٍ بعدك، وإنّما أنت جامع لأحدِ رجُلَين: رجلٌ عمَل فيما جمعته بطاعة اللّه، فسعِد بما شقيت به، أو رجُل عمَل فيه بمعصية اللّه، فشقِيَ بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلاً أنْ تؤثره على نفسك، وتحمل له على ظهرك، فأرجو لِمن مضى رحمة اللّه، ولِمن بقيَ رزق اللّه )(١) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام في قول اللّه تعالى:( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) ( البقرة:١٦٧ ). قال: ( هو الرجل يدَع ماله لا ينفقه في طاعة اللّه بُخلاً، ثُمّ يموت فيدعه لِمَن يعمل فيه بطاعة اللّه، أو في معصية اللّه، فإنْ عمِل فيه بطاعة اللّه، رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً، وقد كان المال له، وإنْ كان عمِل به في معصية اللّه، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية اللّه )(٢).

* * *

وهناك فئة تعشق المال لذاته، وتهيم بحبّه، دون أنْ تتّخذه وسيلةً إلى سعادةٍ دينيّةٍ أو دنيويّة، وإنّما تجد أُنسها ومُتعتها في اكتناز المال فحسب، ومِن ثُمّ تبخل به أشد ّالبُخل.

وهذا هوَس نفسي، يُشقي أربابه، ويوردهم المهالك، ليس المال غاية، وإنّما هو ذريعةً لمآرب المعاش أو المعاد، فإذا انتفت الذريعتان غدا المال تافهاً عديم النفع.

وكيف يكدَح المرء في جمع المال واكتنازه ؟! ثُمّ سرعان ما يَغنمه

_____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الوافي ج ٦ ص ٦٩ عن الكافي والفقيه.

٨٥

الوارث، ويتمتّع به، فيكون له المهنى وللمورث الوزر والعناء.

وقد استنكر القرآن الكريم هذا الهَوس، وأنذر أربابه إنذاراً رهيباً:( كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) ( الفجر: ١٧ - ٢٦ ).

وقال تعالى:( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) ( الهمزة ).

وأبلغُ ما أثر في هذا المجال، كلمة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي في القمّة من الحكمة وسموّ المعنى، قالعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا فناءٌ وعناء، وغِيَر وعِبَرِ، فمِن فنائها: أنّك ترى الدهر مُوتِراً قوسَه، مفوّقاً نبله، لا تخطئ سهامه ولا تُشفى جراحه. يرمي الصحيحَ بالسقم، والحيَّ بالموت.

ومِن عنائها: أنَّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثُمّ يخرج إلى اللّه لا مالاً حمَل، ولا بناءً نقَل.

ومن غِيَرها: أنّك ترى المغبوط مرحوماً، والمرحوم مغبوطاً، ليس بينهم إلاّ نعيم زال، وبؤس نزَل

٨٦

ومن عِبَرِها: أنّ المرء يُشرف على أملِه، فيتخطفه أجلُه، فلا أملٌ مدروك، ولا مؤُمَّل مَتروك )(١).

_____________________

(١) سفينة البحار ج١ ص ٤٦٧.

٨٧

العفّة

وهي: الامتناع والترفع عمّا لا يحل أو لا يجمل، من شهوات البطن والجنس، والتحرّر من استرقاقها المُذِل.

وهي من أنبل السجايا، وأرفَع الخصائص. الدالة على سموّ الإيمان، وشرف النفس، وعزّ الكرامة، وقد أشادت بفضلها الآثار:

قال الباقرعليه‌السلام : ( ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفة بطن وفرج )(١).

وقال رجل للباقرعليه‌السلام : ( إنّي ضعيفُ العمل، قليل الصلاة قليلُ الصيام، ولكنّي أرجو أنْ لا آكلَ إلاّ حلالاً، ولا أنكَح إلاّ حلالاً. فقال له: ( وأيّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج )(٢) .

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ( أكثر ما تلِج به أُمّتي النار، الأجوَفان البطْن والفرج )(٣) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٤ عن محاسن البرقي وقريب منه في الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٨٣ عن الكافي.

٨٨

حقيقة العفّة:

ليس المراد بالعفّة، حرمان النفس مِن أشواقها، ورغائبها المشروعة، في المطعَم والجنس. وإنّما الغرَض منها، هو القَصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذ كلّ إفراط أو تفريط مضرٌّ بالإنسان، وداعٍ الى شقائه وبُؤسه:

فالإفراط في شهَوَات البطن والجنس، يفضيان به إلى المخاطر الجسيمة، والأضرار الماحقة، التي سنذكرها في بحث ( الشره ).

والتفريط فيها كذلك، باعث على الحرمان مِن متع الحياة، ولذائذها المشروعة، وموجبٌ لهزال الجسد، وضعف طاقاته ومعنويّاته.

الاعتدال المطلوب:

من الصعب تحديد الاعتدال في غريزَتَيّ الطعام والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد وطاقاتهم، فالاعتدال في شخصٍ قد يُعتبَر إفراطاً أو تفريطاً في آخر.

والاعتدال النِّسبِي في المأكل هو: أنْ ينال كلّ فردٍ ما يُقيم أودّه ويسدّ حاجته من الطعام، متوقّياً الجشَع المقيت، والامتلاء المرهق.

وخير مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين، وهو يُحدّث ابنه

٨٩

الحسنعليه‌السلام : ( يا بني إلاّ أُعلّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطبّ ؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: لا تجلس على الطعام إلاّ وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلاّ وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نِمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبّ ).

وقال: ( إنّ في القرآن لآية تجمع الطبّ كلّه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) )( الأعراف: ٣١ )(١).

والاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبيةَ نداء الغريزة، كلّما اقتضتها الرغبة الصادقة، والحاجة المحفّزة عليه.

محاسن العفّة:

لا ريب أنّ العفة، هي مِن أنبل السجايا، وأرفع الفضائل، المُعربة عن سموّ الإيمان، وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد.

وهي الخلّة المشرَّفة التي تُزيّن الإنسان، وتسمو به عن مٌُزريات الشره والجشَع، وتصونه عن التملّق للّئام، استدراراً لعطفهم ونوالهم، وتحفّزه على كسب وسائل العيش ورغائب الحياة، بطرقها المشروعة، وأساليبها العفيفة.

_____________________

(١) سفينة البحار م ٢ ص ٧٩ عن دعوات الراوندي.

٩٠

الشره

وهو: الإفراط في شهوات المأكل والجنس، ضدّ ( العفة ).

وهو: من النزعات الخسيسة، الدالة على ضعف النفس، وجشع الطبع، واستعباد الغرائز، وقد نددت به الشريعة الإسلاميّة وحذّرت منه أشدّ التحذير.

قال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ داءٍ مَن التخمة، ما خلا الحُمّى فإنّها ترِد وروداً )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ البطن إذا شبع طغى )(٢).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه يبغض كثرة الأكل )(٣).

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( لو أنّ الناس قصدوا في المطعم، لاستقامت أبدانهم )(٤).

وعن الصادق عن أبيه قال: ( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : مَن

_____________________

(١) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الفقيه.

(٣) الوافي ج ١ ١ ص ٦٧ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٤ ص ٨٧٦ عن المحاسن للبرقي (ره).

٩١

أراد البقاء ولا بقاء، فليخفّف الرداء، وليباكر الغذاء، وليُقل مجامعةَ النساء )(١).

ومَن أراد البقاء أي طول العمر، فليخفّف الرداء أي يُخفّف ظهره مِن ثقل الدين.

وأكل أمير المؤمنينعليه‌السلام من تمرٍ دَقَل، ثُمّ شرب عليه الماء، وضرب يده على بطنه وقال: ( من أدخل بطنه النار فأبعده اللّه ). ثُمّ تمثّل:

وإنّك مهما تُعطِ بطنَك سؤله

وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا(٢)

مساوئ الشره:

الشرَهُ مفتاح الشهَوات، ومصدر المهالك. وحسب الشرَه ذمّاً، أنْ تسترقّه الشهوَات العارمة، وتعرّضه لصنوف المساوئ، المعنويّة والمادّية.

ولعلّ أقوى العوامل في تخلّف الأُمَم، استبداد الشرَه بهم، وافتتانهم بزخارف الحياة، ومفاتِن الترف والبذخ، ممّا يفضي بهم إلى الضعف والانحلال.

ولشره الأكل آثار سيئة ومساوئ عديدة:

فقد أثبت الطب: ( أنّ الكثير مِن الأمراض والكثير من الخطوط والتجعّدات التي تُشوّه القسَمات الحلوة في النساء والرجال، والكثير من

_____________________

(١) البحار م ١٤ ص ٥٤٥ عن طب الأئمّة.

(٢) سفينة البحار م ١ ص ٢٧.

٩٢

الشحم المتراكم، والعيون الغائرة، والقُوى المُنهكَة، والنفوس المريضة كلهّا تُعزى الى التخمة المتواصلة، والطعام الدسم المترف ).

وأثبت كذلك أنّ الشرَه يُرهِق المعِدة ويُسبّب ألوان المآسي الصحيّة كتصلّب الشرايين، والذبحة الصدريّة، وارتفاع ضغط الدم، والبول السكري.

وهكذا يفعل الشرَه الجنسي في إضعاف الصحّة العامّة، وتلاشي الطاقة العصبيّة، واضمحلال الحيويّة والنشاط، ممّا يُعرّض المسرفين للمخاطر.

علاج الشرَه:

أمّا شرَه الأكل فعلاجه:

١ - أنَ يتذكّر الشَّرِه ما أسلَفناه مِن محاسن العفّة، وفضائلها.

٢ - أنْ يتدبّر مساوئ الشرَه، وغوائله الماحقة.

٣ - أنْ يروّض نفسه على الاعتدال في الطعام، ومجانبة الشرَه جاهداً في ذلك، حتّى يزيل الجشَع. فإنّ دستور الصحّة الوقائي والعلاجي هو الاعتدال في الأكل وعدَم الإسراف فيه، كما لخّصَته الآية الكريمة:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) . ( الأعراف: ٣١ ).

وقد أوضحنا واقع الاعتدال في بحث ( العفّة ).

وأمّا الشره الجنسي فعلاجه:

١ - أنْ يتذكر المَرء أخطار الإسراف الجنسي، ومفاسده المادّيّة والمعنويّة.

٩٣

٢ - أنْ يكافح مثيرات الغريزة، كالنظر إلى الجمال النسوي، واختلاط الجنسين، وسروح الفكر في التخيّل، وأحلام اليقظة، ونحوها من المثيرات.

٣ - أنْ يمارس ضبط الغريزة وكفّها عن الإفراط الجنسي، وتحرّي الاعتدال فيها، وقد مرَّ بيانه في بحث العفّة.

٩٤

الأمانة والخيانة

الأمانة هي: أداء ما ائتمن عليه الإنسان من الحقوق، وهي ضدّ ( الخيانة ).

وهي مِن أنبل الخِصال، وأشرَف الفضائل، وأعزّ المآثر، بها يُحرِز المرء الثقة والإعجاب، ويَنال النجاح والفوز.

وكفاها شرفاً أنّ اللّه تعالى مدَح المتحلّين بها، فقال:( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون: ٨. المعارج:٣٢ )

وضدّها الخيانة، وهي: غَمْط الحقوق واغتصابها، وهي مِن أرذل الصفات، وأبشع المذام، وأدعاها إلى سقوط الكرامة، والفشَل والإخفاق.

لذلك جاءت الآيات والأخبار حاثّة على التحلّي بالأمانة، والتحذير من الخيانة، وإليك طرَفاً منها:

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ...) ( النساء: ٥٨ )

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال:٢٧ )

قال الصادقعليه‌السلام : ( لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم

٩٥

فإنّ الرجُل ربّما لهِج بالصلاة والصوم حتّى لو ترَكه استوحش، ولكن اختبروهم عند صِدق الحديث وأدَاء الأمانة )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس منّا من أخلف الأمانة ).

وقال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أداء الأمانة يجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر)(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام :

( اتّقوا اللّه، وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم، فلو أنّ قاتل عليّ بن أبي طالب ائتمنَني على أمانةٍ لأدّيتها إليه )(٣).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا تزال أُمّتي بخير، ما لم يتخاونوا، وأدّوا الأمانة، وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك، ابتلوا بالقحط والسنين )(٤).

محاسن الأمانة ومساوئ الخيانة:

تلعب الأمانة دوراً خطيراً، في حياة الأُمم والأفراد، فهي نظام

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٨٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ١٠ ص ١١٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٠ ص ١١٢عن الكافي والتهذيب.

(٤) عن ثواب الأعمال للصدوق ( ره ).

٩٦

أعمالهم، وقوام شؤونهم، وعنوان نُبلهم واستقامتهم، وسبيل رُقيّهم المادّي والأدبي.

وبديهيّ أنّ مَن تحلّى بالأمانة، كان مَثار التقدير والإعجاب، وحازَ ثقة الناس واعتزازهم وائتمانهم، وشاركهم في أموالهم ومغانمهم.

ويصدق ذلك على الأُمم عامّة، فإنّ حياتها لا تسمو ولا تزدهر، إلاّ في محيطٍ تسوده الثقة والأمانة.

وبها ملك الغرب أزمّة الاقتصاد، ومقاليد الصناعة والتجارة، وجنى الأرباح الوفيرة، ولكنّ المسلمين، وا أسفاه ! تجاهلوها، وهي عنوان مبادئهم، ورمز كرامتهم، فباؤوا بالخيبة والإخفاق.

مِن أجل ذلك كانت الخيانة من أهم أسباب سقوط الفرد وإخفاقه في مجالات الحياة، كما هي العامل الخطير في إضعاف ثقة الناس بعضهم ببعض، وشيوع التناكر والتخاوف بينهم، ممّا تسبّب تسيّب المجتمع، وفَصْم روابطه، وإفساد مصالحه، وبعثرة طاقاته.

صوَر الخيانة:

وللخيانة صور تختلف بشاعتها وجرائمها باختلاف آثارها، فأسوأها نُكراً هي الخيانة العلميّة التي يقترفها الخائنون المتلاعبون بحقائق العِلم المقدّسة، ويشوبونها بالدسّ والتحريف.

ومِن صورها إفشاء أسرار المسلمين، التي يحرصون على كتمانها،

٩٧

فإشاعتها والحالة هذه جريمةٌ نكراء، تعرّضهم للأخطار والمآسي.

ومن صورها البشِعة: خيانة الودائع والأمانات، التي أؤتُمِن عليها المرء، فمصادرتها جريمةٌ مضاعفة مِن الخيانة والسرقة والاغتصاب.

وللخيانة بعد هذا صورٌ عديدة كريهة، تثير الفزع والتقزّز، وتضرّ بالناس فرداً ومجتمعاً، مادّياً وأدبياً، كالخداع والغشّ والتطفيف بالوزن أو الكيل، ونحوها من مفاهيم التدليس والتلبيس.

٩٨

التآخي

التآخي الروحي:

كان العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكريّة والمادّيّة.

وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي، والفوضى المدمّرة، ممّا صيّرهم يُمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر والانتقام.

فلما أشرق فجر الإسلام، وأطل بأنواره على البشريّة، استطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره الفذ أنْ يُطبّ تلك المآسي، ويحسِم تلك الأوزار، فأنشأ مِن ذلك القطيع الجاهلي:( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) عقيدةً وشريعة، وعِلماً وأخلاقاً. فأحلّ الإيمان محلّ الكُفر، والنظام محلّ الفوضى، والعِلم محلّ الجهل، والسلام محلّ الحرب، والرحمة محلّ الانتقام.

فتلاشت تلك المفاهيم الجاهليّة، وخلَفتها المبادئ الإسلامية الجديدة، وراح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يبني ويُنشئ أُمّةً مثاليّةً تَبُذُّ الأُمَمَ نظاماً، وأخلاقاً وكمالاً.

وكلّما سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم

_____________________

(١) آل عمران: ١١٠.

٩٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توغّلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتّى حقّقوا مبدأ المؤاخاة بأُسلوب لم تحقّقه الشرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر النسَب، ووشائج الإيمان تسمو على وشائج القوميّة والقبَليّة، وغدا المسلمون أُمّةً واحدة، مرصوصةَ الصف، شامخة الصرح، خفّاقة اللواء، لا تُفرّقهم النعرات والفوارق:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (١).

وطفق القرآن الكريم يَغرِس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركّزاً على ذلك بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة.

فمرّةً شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٢).

وأُخرى يؤكّد عليه محذّراً من عوامل الفرقة، ومذكّراً نعمة التآلف والتآخي الإسلامي، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليَّين:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (٣).

وهكذا جهد الإسلام في تعزيز التآخي الروحي وحِماه مِن نوازِع الفرقة والانقسام، بما شرّعه من دستور الروابط الاجتماعيّة في نظامه الخالد.

_____________________

(١) الحجرات: ١٣.

(٢) الحجرات: ١٠.

(٣) آل عمران: ١٠٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

حيث إنه كان على حد تعبير الرواة: (في ضيق شديد، ومحنة عظيمة) و (لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض)، و (قبل البيعة، وهو باك حزين) وكان كما يقول المدائني: (إذا رجع يوم الجمعة من الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه وقال:((اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجل لي الساعة)) (١) .

إلى آخر ما هنالك، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وواضح: أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة، وخصوصاً إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه، وموقفه في نيشابور، وموقفه في صلاتي العيد في مرو.

الموقف السابع:

إنه كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم، بل وإثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا هي شرعية.

أما ما يتعلق بصحة خلافة المأمون:

فنلاحظ: أنهعليه‌السلام حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير من المؤرخين ـ إلى أن المأمون، الذي يحتل عنوة مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير، حيث إنهعليه‌السلام : (.. رفع يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه، وبطنها وجوههم، فقال له المأمون: إبسط

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٤٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥.

٢٨١

يدك للبيعة، فقال له:((إن رسول الله هكذا كان يبايع، فبايعته الناس)) (١) .

ونظير ذلك أيضاً: ما روي من أن المأمون قد أمر الناس: أن يعودوا للبيعة من جديد، عندما أعلمه الإمامعليه‌السلام : بأن كل من كان قد بايعه، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير.. وهاج الناس بسبب ذلك. وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضاً(٢) .

وأما أن الخلافة حق للإمامعليه‌السلام دون غيره:

فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمامعليه‌السلام ومواقفه وقد تحدثنا آنفاً عن موقفه في نيشابور، وهو في طريقه إلى مرو، وكيف أنهعليه‌السلام جعل نفسه الشريفة والاعتراف بإمامته شرطا لكلمة التوحيد، والدخول في حصن الله الحصين..

وأشرنا أيضاً: إلى أنه قد عدد الأئمة الشرعيين، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون. بل لقد المح إلى ذلك أيضاً بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.

كما أن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمامعليه‌السلام حينما بويع له بولاية العهد، وهو ما يلي:

____________

(١) راجع: المناقب ج ٤ ص ٣٦٩، ٣٦٤ والبحار ج ٤٩ ص ١٤ ٤. وعلل الشرايع، ومقاتل الطالبيين، ونور الأبصار، ونزهة الجليس، وعيون أخبار الرضا.

(٢) راجع: على سبيل المثال: شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.

٢٨٢

((.. إن لنا عليكم حقاً برسول الله، ولكم علينا حق به، فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم..)).

ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك.. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ..

ومن الواضح: أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة، يتعرض فيها لمختلف المواضيع، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوباً رائعاً لتركيز المفهوم الذي يريده الإمامعليه‌السلام في أذهان الناس، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة، وعن موقفه منها، ومن جهاز الحكم، في نفس مجلس البيعة، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن: الإمام كان يرغب في هذا الأمر، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه. وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون.

يضاف إلى كل ذلك: أنهعليه‌السلام قال لحميد بن مهران، حاجب المأمون:((.. وأما ذكرك صاحبك ـ يعني المأمون، والمأمون جالس ـ،الذي أجلني، فما أحلَّني إلا المحل الذي أحلَّه ملك مصر ليوسف الصديق عليه‌السلام ، وكانت حالهما ما قد علمت.)) .

كما أنهعليه‌السلام قد قال أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة:((إن من أخذ برسول الله، لحقيق بأن يعطي به)) ، وذلك عندما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده، وفي غير هذه المناسبة أيضاً.

المأمون يعترف بأحقية آل علي بالأمر:

ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفةعليه‌السلام مع المأمون، عندما حاول هذا أن يحصل منهعليه‌السلام على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك من أجل أن يثبت ـ بزعمه ـ أن له ولبني أبيه حقاً في الخلافة.

فكانت النتيجة: أن نجح الإمامعليه‌السلام في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب.. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي: أن العلويين هم الأحق بالخلافة والرياسة، وأنه هو، وآباءه غاصبون، ومعتدون..

٢٨٣

فبينما المأمون والرضاعليه‌السلام يسيران، إذ قال المأمون:

(.. يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.

فقال له أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :((إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت..

فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه..

قال له الرضاعليه‌السلام :أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك، كنت مزوجه إياها؟.

فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!.

فقال له الرضاعليه‌السلام ،أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي)) ؟.

قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: (أنتم والله، أمس برسول الله رحماً)(١) .

وكانت هذه ضربة قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من أي عمل ضد الإمامعليه‌السلام ، بعد أن كان هو الجاني على نفسه، فـ‍ (على نفسها جنت براقش).

____________

(١) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٦٦، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص ١٥، ١٦، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٨، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ١٠٠.

٢٨٤

وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز:

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لـنا حقها، لكنه جاد بالدنيا

وخلاصة الأمر:

إنهعليه‌السلام لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون، وتضييع الفرصة عليه، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الأمر، مجبر عليه. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقاً للإمام اغتصبه الغاصبون، واعتدى عليه فيه المعتدون، فليس المأمون حق في أن يعرض لهعليه‌السلام بالمن عليه، بما جعل له من ولاية العهد.

وكذلك ليس للمأمون بعد: أن يدعي العدل والإنصاف، فضلاً عن الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين، بعد أن فضح الإمام أهدافه من لعبته تلك، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة.

الأكذوبة المفضوحة:

وبعد.. فقد ذكر بعض أهل الأهواء، كابن قتيبة، وابن عبد ربه، واقعة خيالية، غير تلك التي ذكرناها آنفاً وهي:

أن المأمون قال لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟!.

قال:((بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..)) .

٢٨٥

فقال المأمون: (إن لم تكن إلا القرابة، فقد خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو أقرب إليه من علي، أو من هو في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الأمر بعدها للحسن، والحسين، فقد ابتزهما علي حقهما، وهما حيان، صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه). فلم يحر علي بن موسى له جواباً(١) .. انتهى.

وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية، التي جرت بينهما، والتي تنسجم مع كل الأحداث والوقائع، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفاً..

والدليل على زيف هذه الرواية: أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها، لأنهم يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة، وأقوالهم المتضافرة ـ: أن منصب الإمامة لا يكون إلا بالنص.

وأما الاستدلال بالقرابة، فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: أن أول من التجأ إليه أبو بكر، ثم عمر. ثم الأمويون، فالعباسيون، ثم أكثر، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة.. وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم.

وبعد.. فهل يخفى على الإمامعليه‌السلام ضعف ووهن هذه الحجة، مع أننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وأنه لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات، وعلى جميع المستويات.

ولقد كان على المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة، ويعلنها على الملأ، ويشهر بالإمامعليه‌السلام ، ليسقطه ـ ومن ثم.. يسقط العلويين كلهم من أعين الناس.. ويسلبهم وإلى الأبد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به.. مع أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار، ويدبر المكايد، ويعمل الحيل، من أجله، وفي سبيله..

____________

(١) راجع: عيون الأخبار ج ٢ ص ١٤٠، ١٤١، طبع مصر سنة ١٣٤٦، والعقد الفريد ج ٥ ص ١٠٢، و ج ٢ ص ٣٨٦، طبع دار الكتاب العربي..

٢٨٦

وعدا عن ذلك كله. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الإمامة، وبأي شيء تثبت، وحول أوصاف الإمام ووظائفه، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات؟!.

وكذلك.. مع احتجاج الإمامعليه‌السلام على العلماء والمأمون في أكثر من مناسبة بالنص، وأيضاً مع موقفهعليه‌السلام في نيشابور؟!

اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته، وحجة آبائه، وكل من ينتسب إليهم، ويذهب مذهبهم..

تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ نسيها ـ في تلك اللحظة فقط، لأن المأمون هو الذي يسأل، والرضا هو الذي يجيب!!.

وبعد، فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد.. وهو يرى رسالة الرضا، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه، وجمع له بها أصول الإسلام، والتي صرح فيها بالنص على عليعليه‌السلام . بل وذكر فيها الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم بأسمائهم، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين(١) .

وفيها يصف الإمامعليه‌السلام أئمة الهدى أدق وصف، وأروعه، وأوفاه.

____________

(١) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: نظرية الإمامة ص ٣٨٨، وقال: إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم ١٢٥٨.

٢٨٧

بل إن المأمون نفسه كان يرى وجوب نصب الإمام من قبل الله كالنبي، كما يتضح من مناظرته الشهيرة لعلماء وقته، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ، والأدب، والرواية، وذكرها في العقد الفريد أيضاً قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها (أي في المناظرة)، فحرف فيها، وحذف منها الكثير.. وأشار إليها أيضاً أحمد أمين في ضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٧، وغيره..

فلماذا لا يلزمه الإمام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها؟!. أم يمكن أن لا يكون مطلعاً على مقالة المأمون هذه، التي سار ذكرها في الآفاق؟!.

ويحسن بنا هنا أن ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالأمر الذي يخفى على أحد.

فقد رأينا: أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن، يرويه كل من الشيعة، والمعتزلة، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة، ومناظرة هشام لأبي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لأبي الهذيل، بينما يروي الشيعة، ويؤيدهم المسعودي(١) أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا بل المئات..

ولكن الأمر هنا مختلف تماماً، إذ إن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كلياً مع نظرة الأئمةعليهم‌السلام ورأيهم في الخلافة ومستحقها.. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الإمامة، ولذا نراه ينسب إلى الإمامعليه‌السلام رأياً لا يقول به، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة ولد عليعليه‌السلام من فاطمة، بشرط أن يكون بليغاً، شجاعاً، عادلاً مجتهداً،

____________

(١) مروج الذهب ج ٤ ص ٢١.

٢٨٨

يخرج بالسيف ضد كل ظلم وانحراف إلخ.. وبأن إمامة عليعليه‌السلام قد ثبتت بالوصف والإشارة إليه، لا بالتصريح والنص عليه(١) .

كما أنه غفل عن أن الذين كانوا يحتجون بالقرابة والإرث هم العباسيون، الذين كانوا إلى عصر المهدي ـ كما قدمنا ـ يدعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق عليعليه‌السلام ، ومحمد بن الحنفية، وفي عصر المهدي عدلوا عن ذلك، لما يتضمنه من اعتراف للعلويين، ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن طريق العباس وأبنائه.. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة، وبذلوا من أجلها الأموال الطائلة للعلماء والفقهاء، والشعراء.

ولم يكن لتخفى على أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة:

هل تطمسون من السماء نجومها

أو تــسـتـرون إلـــخ..

ولا قوله:

أنى يكون وليس ذلك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

وقد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله:

مـا لـلطليق ولـلتراث وإنـما

صلى الطليق مخافة الصمصام(٢)

وكيف يخفى كل ذلك على الإمامعليه‌السلام ، خصوصاً بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائماً على قدم وساق في زمن هارون، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم:

فضجت أن نشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث الـنبي

____________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٩٧ ر ١٩٨.

(٢) مقتل الحسين للمقرم ص ١١٩، والأغاني ج ٩ ص ٤٥، طبع ساسي، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠١، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٣١٣، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٣٩٣، وغير ذلك.

٢٨٩

ومن قول القاسم بن يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع(١) .

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة المأمون، وأثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه، فلا يمكن أبداً أن تجري المحاورة بين أعلم أهل الأرض (باعتراف المأمون) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على هذا النحو من السذاجة والبساطة. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الأرض، لا يرى ولا يسمع، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم، أو في سرداب تحت هذا الأرض. واللهم إلا إذا كان القائل: ما للطليق وللتراث إلخ.. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم أهل الأرض من مدعي الدعوى نفسه.. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون ـ لو سلم أنه احتج بالقرابة ـ: إن قرابة العباس لا تفيده، بعد أن تخلى عنها يوم الإنذار. وبعد أن كان من الظالمين، الذين حرمهم الله من عهده. حيث قال تعالى:( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) . وبعد أن ترك الهجرة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وبعد أن حارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر. وبعد جهله بالدين وأحكامه، ولقد قال سبحانه: ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلّا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.. ) (٢) . إلى آخر ما هنالك.

وأخيراً.. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا: أنه لم يخف علينا، ونأمل أن لا يخفى على أحد سر ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة، بعد ذكره لرواية احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الخلق، والتي تصرف فيها ما شاء له حقده ونصبه، الحذف والتحريف، فإنه ـ على ما يبدو ـ ليس إلا من أجل التشويش على تلك، وإبطال كل أثر لها، ظلماً للحقيقة، وتجنيا على التاريخ.

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وقد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب.

(٢) يونس آية ٣٥.

٢٩٠

الموقف الثامن:

وأعتقد أنه أعظمها أثراً، وأعمها نفعاً، وهو ما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، التي كتبها المأمون بخط يده..

فإننا إذا ما رجعنا إليه نجد: أن كل سطر فيه، بل كل كلمة لها مغزى عميق، ودلالة هامة، تلقي لنا ضوءاً كاشفاً على خطتهعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون، وخططه، وأهدافه.

فلقد كان يعلم: أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الأقطار الإسلامية، ولذلك نراهعليه‌السلام قد اتخذها وسيلة لإبلاغ الأمة الحقيقة كل الحقيقة، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون. وأيضاً تأكيد حق العلويين، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم..

فبينما نراهعليه‌السلام يبدأ كلامه ـ فيما كتبه في الوثيقة المشار إليها ـ بداية غير طبيعية، ولا مألوفة في مناسبات كهذه حيث قال:((الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.. . لا يأتي بعدها بما يناسب المقام، ويتلائم مع سياق الكلام، من تمجيد الله، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين! هذا الأمر.. بل نراه يأتي بعبارة غريبة، وغير متوقعة، ألا وهي قوله:يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور..)) الخ.

أفلا توافقني ـ قارئي العزيز ـ على أنهعليه‌السلام يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الأمر ينطوي على خيانة مبيتة، وأن هناك صدوراً تخفي غير ما تظهر؟!..

ثم.. ألا توافقني على أن هذه العبارة تعريض بالمأمون نفسه، من أجل تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه؟!. هذا مع علمهعليه‌السلام بأن هذه الوثيقة سوف ترسل إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي، لتقرأ على الملأ العام، كما حدث ذلك بالفعل.

وإذا ما وصلنا إلى فقرة أخرى، مما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، فإننا نراه يقول:((.. وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين..)) فإننا إذا لاحظنا: أنه لم تجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف (الآل) على (محمد)، ثم توصيفهم ب‍ـ (الطيبين الطاهرين) ـ نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون، وهجوم آخر عليه، حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الإمامعليه‌السلام ، وسنخه، ومحتده، وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية، وليس لكل من سواهم. حتى الخليفة المأمون، مثل هذا الشرف، ولا مثل تلك المزية..

٢٩١

ثم نراهعليه‌السلام يعقب ذلك بقوله:((.. إن أمير المؤمنين.. عرف من حقنا ما جهله غيره..)) .

فما هو ذلك الحق الذي جهله الذي كلهم، حتى بنو العباس، فيما عدا المأمون؟!.

فهل يمكن أن تكون الأمة الإسلامية قد أنكرت أنهمعليهم‌السلام أبناء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!. أليس ذلك منهعليه‌السلام إعلان للأمة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون، واعتدى عليهم به المعتدون؟!. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه، وأن خلافته ليست شرعية، ولا صحيحة، لأنه كآبائه مغتصب لحق غيره؟!.

نعم.. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن الإمامعليه‌السلام يتقي المأمون، ولا غيره من رجال الدولة، في إظهار هذا الحق، وبيان أن خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كانت في عليعليه‌السلام ، وولده الطاهرين، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم، والانقياد لهم. وقد أعلنعليه‌السلام ذلك في نيشابور كما قدمنا.. ورأيناه يصرح به، ويطلب من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به، في محضر من رجال الدولة في خراسان.

ففي الكافي: بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضاعليه‌السلام بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال:((يا إسحاق، بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا!. لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٢

ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكنني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب)) (١) .

وستأتي الإشارة إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي.. وليتأمل في عبارته الأخيرة، فليبلغ إلخ.. وليلاحظ أيضاً أنه اختار لتوجيه خطابه: إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي!!.

وفي الكافي أيضاً بسنده عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسنعليه‌السلام ، فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال:((نعم . قال: مثل طاعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟. قال:نعم)) (٢) .

والمراد بأبي الحسن هو الرضاعليه‌السلام ، لأنه هو الذي كان في خراسان، وهو الذي يروي عنه معمر بن خلاد كثيراً.. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه.

____________

(١) الكافي ص ١٨٧، وأمالي المفيد ص ١٤٨ ط النجف وأمالي الطوسي ج ١ ص ٢١، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ٩٦.

(٢) الكافي: ج ١ ص ١٨٧، والاختصاص ٢٧٨، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٠٣ عنه.

٢٩٣

ويقولعليه‌السلام في وثيقة العهد، بعد تلك العبارة مباشرة:((.. فوصل أرحاماً قطعت، وآمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذا افتقرت)) .

وهو كما ترى.. في حين يشكر المأمون، ويكتب تحت اسمه:((بل جعلت فداك)) ـ حسب رواية الإربلي فقط ـ، لا ينسى أن يشوب ذلك بالإزراء ضمناً على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في حق العلويين، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل وجبل، كما قدمنا..

هذا.. ولا بأس أن نقف قليلاً عند قوله:((وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده)) .

فإننا لا نكاد نتردد في أنهعليه‌السلام يشير بقوله:((إن بقيت بعده)) إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه عليه‌السلام ، وبين المأمون، وأنه يتعمد توجيه الأنظار إلى عدم طبيعية هذا الأمر، وإلى عدم رغبته فيه.

وإنه كان يريد أن يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعاً من أجل التخلص منه، ولو بالاعتداء على حياتهعليه‌السلام ، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك، بعد أن يكون قد حقق كل ما كان يريد تحقيقه، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، حيث لا بد حينئذ أن (يحل العقدة التي أمر الله بشدها). ولا بد أيضاً أن تنكشف خيانته للملأ، ويظهر ما يخفيه في صدره، على حد تعبيرهعليه‌السلام .. وإلا فما هو الداعي لهعليه‌السلام لإقحام هذا الشرط ـ إن بقيت ـ في أثناء مثل هذا الكلام.

وإننا إذا نظرنا بعمق إلى قوله بعد ذلك:((فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها.. )) .. وتأملنا قوله السابق:

((يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور . وقوله اللاحق:لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) فلسوف نعرف: أنهعليه‌السلام يعرض هنا بالمأمون نفسه، ويقول الناس جميعاً: إنه لا يشك في أن المأمون سوف ينقض العهد، ويحل العقدة.

ويلاحظ هنا أيضاً: أنه وصف هذه العقدة بأنها مما أمر الله بشده، وأحب إيثاقه.. وهذا لعله لا يختلف عما كانعليه‌السلام يردده، ويؤكد عليه كثيراً، ونص عليه آنفاً، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق الذي جهله غيره، واغتصبه هو وآباؤه، منهعليه‌السلام ومن آبائه..

٢٩٤

وإذا ما وصلنا إلى قولهعليه‌السلام :((.. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية ..)) الخ.

فإننا نراه كأنه يستشهد لإطاعته المأمون، وعدم إصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه، والعلويين، وشيعته لهلاك، والاضطهاد ـ يستشهد لذلك ـ بما جرى لسالفه: وهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث صبر على الفلتات(١) التي كانت من خلفاء عصره، ولم يعترض عليه‌السلام على ما كانوا قد عقدوا العزم عليه، من المضي قدما في مخططاتهم، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح السياسة، وتكريس الأمر الواقع، وتثبيته، لأنه يخدم مصالحهم، ويرضي مطامحهم.

ـ لم يعترض عليعليه‌السلام على ذلك ـ لأنه خاف من شتات الدين،

____________

(١) ومن المحتمل جداً أنهعليه‌السلام : يشير إلى تعبير عمر((كانت بيعة أبي بكر فلتة))إلخ ـ ولكنه عمم الكلام بحيث يشمل غير بيعة أبي بكر أيضاً، باعتبار أن بيعة عمر وعثمان، ومعاوية وغيرها، كانت أيضاً من الفلتات، أو باعتبار تفرعها على بيعة أبي بكر التي كانت فلتة..

٢٩٥

واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية.. وهذا مما قد نص عليه عليعليه‌السلام نفسه في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، قالعليه‌السلام :((.. وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.. ، ويقول:إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أدنى خلف..)) (١) .

وهكذا تمام كان الحال بالنسبة للإمام الرضاعليه‌السلام ، حفيد عليعليه‌السلام ، ووارثه، الذي كان زمانه لا يبعد حال الناس فيه على حال الجاهلية، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، وذلك بتعريض نفسه، وشيعته، والعلويين للهلاك، أو على الأقل للاضطهاد، الأمر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والأمة، كما قلنا..

وإذا ما قرأنا بعد ذلك قولهعليه‌السلام :((.. وقد جعلت الله على نفسي، ـ إن استرعاني على المسلمين، وقلدني خلافته ـ العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. .. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله، ورسوله..فلا يسفك دماً حراماً، ولا يبيح فرجاً ولا مالاً، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه.) إلخ.

فإن هذا التنصيص إنما هو في مقابل (الأرحام التي قطعت، وفزعت، وتلفت، وافتقرت..)، من العلويين، على يد بني العباس، الذين فعلوا بهم. أكثر من فعل بني أمية معهم، حسبما قدمنا.

وتعهده والتزامه بأن يعمل في المسلمين عامة. وفي بني العباس خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله.. هو التزام بنفس الخط الذي التزم به عليعليه‌السلام ، وتعهد بانتهاجه. الأمر الذي كان سبباً في إبعاده عن الخلافة في الشورى، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في إبعاده عنها، بالنسبة لما قبل ذلك أيضاً، وما جرى بعده.

____________

(١) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٠٧، ٣٠٨ وغير ذلك.

٢٩٦

وعليعليه‌السلام هو نفس ذلك الذي استشهد به آنفاً، وبين أنه صبر على الفلتات، ولم يعترض على العزمات خوفاً من شتات الدين إلخ.. والالتزام بخط عليعليه‌السلام لن يرضي المأمون، والعباسيين، والهيئة الحاكمة، ولن يكون في مصلحتهم، حسبما المحنا إليه في فصل: جدية عرض الخلافة..

كما أننا لا نستبعد كثيراً: أنهعليه‌السلام يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت، ومنطلقات سياسات خصومهم، التي عرفت جانباً منها في القسم الأول من هذا الكتاب.

ومن هنا نعرف السر في قولهعليه‌السلام :((.. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي..)) فإنه إشارة إلى أنهعليه‌السلام سوف ينطلق في كل نصب وعزل ـ تماماً كالإمام عليعليه‌السلام ـ من مصلحة الأمة، وعلى وفق رضا الله، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية، أو اعتبارات سياسية، أو قبلية، أو غير ذلك من الاعتبارات، التي لا يعترف بها الإسلام، ولا يقيم لها وزناً.

وإذا ما قرأنا قولهعليه‌السلام :((.. وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه)) إلخ..

فإننا ندرك للتو أنهعليه‌السلام يريد ضرب العقيدة، التي كان قد شجعها الحكام، وروج لها علماء السوء.. من أن الخليفة، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة، أو عقاب، مهما اقترف من جرائم، وأتاه من موبقات، فهو فوق القانون، ولا يجوز لأحد الخروج، أو الاعتراض عليه، في أي ظرف من الظروف والأحوال، حتى ولو رمى القرآن بالنبل، وقتل ابن بنت رسول الله، فضلاً عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات..

والإمام.. الذي يعرف كيف كانت سيرة المأمون، وسائر خلفاء بني العباس، ومن لف لفهم، والتي عرفت فيما تقدم طرفاً منها، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة.. قد أراد أن يوجه ضربة قاضية لهم جميعا، حتى للمأمون. وأشياعه، وكل من كان الطواغيت والظلمة على شاكلتهم، ويبين لهم. وللملأ أجمع: أن الحاكم حارس للنظام والقانون، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون، ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن العقاب والقصاص، لو ارتكب أي جريمة، أو اقترف أية عظيمة.

٢٩٧

فالمأمون، وآباؤه، وأشياعهم، كانوا يضحون بكل شيء في سبيل أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، ويقترفون كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم، وتقوية سلطانهم.. أما الإمامعليه‌السلام فهو مستعد لأن يقدم نفسه ـ إن اقتضى الأمر ـ للعقاب والنكال، عند صدور أية مخالفة، وحصول أي تجاوز عما يرضي الله تعالى، وعن سنة رسوله.

وبعد كل ما تقدم.. نراه يعبر عن عدم رضاه بهذا الأمر، وعدم تهالكه عليه، لعلمه بعدم تماميته له، ويقول بصريح العبارة:((إنه أمر لا يتم، لأن (.. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك))) . كما أن في هذا تنويه مهم منهعليه‌السلام بذكر الركن الثاني من أركان إمامة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو أن الله تعالى اختصهم بأمور غيبية، وعلوم لدنية، منعها عن سائر الناس، وهذان الكتابان: الجفر، والجامعة، هما من الكتب التي أملاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكتبها بخط يده، وقد أظهر الأئمةعليهم‌السلام بعض هذه الكتب التي بخط عليعليه‌السلام ، وبإملاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدة من كبار شيعتهم، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الأحكام(١) .

وفي الحقيقة.. إن الإمامعليه‌السلام ، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون.. ولكنه يريد بكلامه هذا، واستشهاده بالجفر والجامعة أن يقول له، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة:((.. قد أنبأنا الله بأخباركم، وسيرى الله عملكم. ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا، وانتهاككم الحرمات منا، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا، وأموالنا)) .

ثم نراه يترقى في صراحته، حيث يقول:((.. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) أي أنه لو لم يقبل بهذا الأمر لتعرض لسخط المأمون.. والكل يعلم ماذا كان يعني سخط أولئك الحكام، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر لاقترافهم أي جريمة. وإقدامهم على أي عظيمة.

وأخيراً.. ورغم أن المأمون قد تقدم منهعليه‌السلام وطلب منه أن يشهد الله، والحاضرين على نفسه.. نراه يأبى أن يكون المأمون، ولا أي من الحاضرين شاهداً على نفسه، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا، لأنه

____________

(١) راجع: كتاب مكاتيب الرسول ج ١ من ص ٥٩ حتى ص ٨٩، فقد أسهب القول حول هذه الكتب، واستشهادات الأئمة بها، وغير ذلك.

٢٩٨

كان يعلم بما كانت تكنه صدورهم. وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيداً عليه، واستعان بالآية الكريمة، التي تقطع الطريق على كل أحد، وتكتفي بالله شهيداً، حيث قال:((وأشهدت الله على نفسي ( وكفى بالله شهيداً ) )) .

وإذا كان لا بد من كلمة:

وإذا كان لا بد في نهاية المطاف من كلمة، فإننا نقول: إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الإمامعليه‌السلام من كل كلمة، كلمة، مما كتبه على وثيقة العهد..

وإذا كان هناك من يرى: أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه..

فإننا نرى: أن كون بعض الفقرات الأخرى لا يحتمل غير ما قلنا، وأيضاً بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو العام. الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، والتي قدمنا وسيأتي شطر منها ـ إن ذلك ـ وهو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرمي إليهعليه‌السلام مما كتبه على وثيقة العهد.

ملاحظات هامة:

إن من الأمور الغريبة حقاً أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جداً! ـ بخط يده.. وأغرب منه أنه تقدم إلى الإمامعليه‌السلام ، وقال له: (اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك، بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين...)(١) .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته، وإن استلزم ذلك كل تلك الأمور، وإلا.. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!.

هذا.. ولا بأس أيضاً بملاحظة تعبير المأمون بـ‍ (قبول)!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول ب‍ـ (خط يده)!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!.

____________

(١) مآثر الإنافة ج ٢ ص ٣٣٢.

٢٩٩

حقا.. إنها للعبقرية السياسية:

وعلى كل حال.. فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنايع المستظرفة،، وذلك لما تتضمنه من تعريضات، وكنايات، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية، التي يلتزم بها المتحاورون..

ولذا.. نلاحظ أنهعليه‌السلام .. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون، بل ويكتب تحت اسمه ـ حسب رواية الاربلي فقط ـ:((بل جعلت فداك)) . ولكنه يبطن كلامه، ويضمنه تعريضات عميقة، بلهجة معتدلة، لا عنف فيه.

وذلك يعني: أن الإمامعليه‌السلام لم يتنازل عن مبدئه، ولا حاد عن نهجه، الذي اختطه لنفسه، بوحي من رسالة الله، وتعاليم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطى جده عليعليه‌السلام .. لم يحد عنه قيد شعرة، ولا هاون فيه، ولا حابى أحداً، حتى في هذا الموقف.

ولعمري.. لو كان ما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام على وثيقة العهد من شخص عادي آخر، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيماً وتبجيلاً، حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة.. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة، ولم يكن هو مستعداً، ولا متوقعا لذلك، لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك..

وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام، ويعلي من شأنه، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له.

ولكن الحقيقة هي: أنه ـ وهو الإمام المعصوم ـ غني عن كل تلكم التقريظات، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل..

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517