القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359809 / تحميل: 10439
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنَّما تُقبل شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله مِن هذا ومِن شيعته

عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً، وعنده نفر مِن أصحابه، فيهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ قال: (مَن قال لا إله إلاَّ الله دخل الجَنَّة).

فقال رجلان مِن أصحابه: فنحن نقول: لا إله إلاَّ الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنَّما تُقبل شهادة: أنْ لا إله إلاَّ الله مِن هذا ومِن شيعته الذين أخذ رَبُّنا ميثاقهم).

فقال الرجلان: فنحن نقول: لا إله إلاّ الله.

فوضع رسول الله يده على رأس عليٍّ (عليه السلام)، ثمَّ قال: (عَلامة ذلك أنْ لا تَحلاَّ عَقده ولا تجلسا مجلسه ولا تُكذِّبا حديثه) (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢١

مَن أحبَّ بقاء الظَّلمة فهو مِنهم وورد النار

عن صفوان بن مهران الجمَّال قال: دخلت على أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام)، فقال لي: (يا صفوان، كلُّ شيء مِنك حَسَن جميل، ما خلا واحد).

قلت: جُعلت فِداك! أيُّ شيء؟

قال: (إكراؤك جِمالك مِن هذا الرجل)، يعني: هارون.

قلت: والله ما أكريته أشرَاً ولا بطراً، ولا للصيد ولا للهو، ولكنْ أكريته لهذا الطريق، يعني: طريق مَكَّة، ولا أتولاَّه بنفسي، ولكنْ أبعث معه غُلماني.

فقال لي: (يا صفوان، أيقع في كراؤك عليهم؟).

قلت: نعم، جُعلِت فِداك.

قال لي: (أتُحبُّ بقاءهم حتَّى يخرج كِراؤك؟).

قلت: نعم.

قال: (مَن أحبَّ بقاءهم؛ فهو منهم، ومَن كان منهم ورد النار).

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.

فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني، فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جِمالك؟

قلت: نعم.

فقال: هيهات هيهات، إنِّي لأعلم مَن أشار عليك بهذا! أشار عليك بهذا موسى بن جعفر.

قلت: ما لي ولموسى بن جعفر.

فقال: دع هذا عنك، فو الله، لولا حُسن صُحبتك لقتلتك (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢٢

شيعتنا يُطهَّرون مِن ذنوبهم بالبلايا والرزايا

قال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاسأليها عنِّي أنا مِن شيعتكم؟

فسألتها، فقالت: (قولي: إنْ كنتَ تعمل بما أمرناك، وتُنهى عمَّا زجرناك فأنت مِن شيعتنا، وإلاَّ فلا).

فرجعت وأخبرته فقال: يا ويلا! ومَن ينفكُّ مِن الذنوب والخطايا، فأنا - إذاً - خالد في النار.

فرجعت المرأة، فقالت لفاطمة (عليه السلام) ما قال زوجها، فقالت فاطمة (عليها السلام): (قولي له ليس هكذا، إنَّ شيعنا مِن خيار أهل الجَنَّة، وكلُّ مُحبِّينا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا ليسوا مِن شيعتنا، وهم مع ذلك في الجَنَّة بعدما يُطهَّرون، ولكنْ إنَّما يُطهَّرون مِن ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو عَرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطَّبق الأعلى في جَهنَّم بعذابها، إلى أنْ نستنقذهم بحُبِّنا منهم، أو ننقلهم بحضرتنا) (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢٣

لم يَنهَ عن تعذيب الديك فساخت به الأرض

كان شيخ ناسك يعبد الله في بني إسرائيل، فبينا هو يُصلِّي في عبادته، إذ بصر بغُلامين صَبيَّين، قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما هو فيه مِن العبادة، ولم ينههما عن ذلك، فأوحى الله تعالى إلى الأرض: أنْ سيخي بعبدي، فساخت به الأرض (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٤

مَن كان هواه معنا فقد شَهِدنا

لما أظفر الله تعالى عليَّاً (عليه السلام) بأصحاب الجَمل، قال له بعض أصحابه:

وددت لو أنَّ أخي فُلاناً كان شهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له (عليه السلام): (أهوى أخيك معنا؟).

قال: نعم.

قال: (فقد شَهِدنا، ولقد شَهِدنا في عسكرنا هذا أقوام، في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٥

اليد التي تُنفق على العيال بالكَدِّ لا تمسَّها النار

روى أنس بن مالك: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما أقبل مِن غزوة تبوك، استقبله سعد الأنصاري، فصافحه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ قال له: (ما هذا الذي أكنب يديك؟).

قال: يا رسول الله، اضرب بالمَرِّ والمسحاة فانفق على عيالي.

فقبَّل رسول (صلى الله عليه وآله) يده، وقال: (هذه يد لا تمسُّها النار) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٦

الطريق إلى جميع الكمالات الاستعانة بالحَقِّ على النفس

دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل اسمه مُجاشع، فقال: يا رسول الله، كيف الطريق إلى معرفة الحَقِّ؟

فقال: (معرفة النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى رضا الحَقِّ؟

قال: (سَخط النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى وصل الحَقِّ؟

قال: (هَجْر النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى طاعة الحَقِّ؟

قال: (عصيان النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذكر الحَقِّ؟

قال: (نسيان النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى قُرب الحَقِّ؟

قال: (التباعُد مِن النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى أُنس الحَقِّ؟

قال: (الوَحشة مِن النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذلك؟

قال: (الاستعانة بالحَقِّ على النفس) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٧

انظر لنفسك.. ولا يُلهينَّك الأمل

قال البزنطي: بعث إليَّ الرضا (عليه السلام) فجئته إلى حَرباء، فمكثتها عامَّة الليل، ثمَّ أُوتيت بعِشاء، فلمَّا أصبحت مِن العِشاء قال: (ما تُريد، أتنام؟).

قلت: بلى، جُعِلت فِداك.

فطرح عليَّ المِلحفة والكِساء، ثمَّ قال: (بيَّتك الله في عافية)، وكنَّا على سَطحٍ، فلمَّا نزل مِن عندي قلتُ في نفسي: قد نِلتُ مِن هذا الرجل كرامة ما نالها أحدٌ قَطُّ.

فإذا هاتف يَهتف بي: يا أحمد، ولم أعرف الصوت، حتَّى جاءني مولىً له.

قال: فنظرت، فإذا هو مُقبل إليَّ، فقال: كفَّك. فنازلته كفِّي، فعصره، ثمَّ قال: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى صعصعة بن صوحان عائداً له، فلمَّا أراد أنْ يقوم مِن عنده قال: (يا صعصعة بن صوحان، لا تفتخر بعيادتي إيَّاك، وانظر لنفسك وكأنَّ الأمر قد وصل إليك ولا يُلهينَّك الأمل أستودعك الله) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٨

ليس لأحدٍ فضلٌٌ على أحدٍ إلاَّ بالتقوى

عن عقبة بن بشير الأسدي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أنا عقبة بن بشير الأسدي، أنا في الحسب الضَّخم مِن قومي.

قال: فقال: (ما تمنُّ علنيا بحَسَبك إنْ الله رفع بالإيمان مَن كان الناس يُسمُّونه وضيعاً إذا كان مؤمناً، ووضع بالكُفر مَن كان الناس يُسمُّونه شريفاً إذا كان كافراً، فليس لأحدٍ فضلٌ على أحدٍ إلاَّ بالتقوى) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٩

لا تغضب

قال الصادق (عليه السلام): (إنَّ رجلاً جاء إلى عيسى بن مريم، فقال: يا روح الله، إنِّي زنيت فطهِّرني، فأمر عيسى (عليه السلام) أنْ يُناد في الناس: لا يبقى أحد إلاَّ خرج بتطهير فُلان.

فلمَّا اجتمع واجتمعوا، وصار الرجل في الحُفرة نادى الرجل في الحُفرة: لا يَحدُّني مَن لله تعالى في جَنبه حَدٌّ، فانصرف الناس كلُّهم إلاَّ يحيى وعيسى (عليهما السلام)، فدنا منه يَحيى، فقال له: يا مُذنب، عِظني.

فقال: لا تخلينَّ بين نفسك وبين هواها فتردى.

قال: زِدني.

قال: لا تُعَيِّرنَّ خاطئاً بخطيئته.

قال: زِدني.

قال: لا تغضب.

قال: حَسْبي) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٠

كثرة الأكل تُعجِب الشيطان

قال يحيى (عليه السلام) (لإبليس): (فهل ظفرت بي ساعة قَطُّ؟).

قال: لا، ولكنْ فيك خِصلة تُعجبني.

قال يحيى: (فما هي؟).

قال: أنت رجل أكول، فإذا أكلت وبشمت، يمنعك ذلك مِن بعض صلاتك وصيامك بالليل.

قال يحيى (عليه السلام): (فإنِّي أُعطي الله عهداً، ألاَّ أشبع مِن الطعام حتَّى ألقاه).

قال له إبليس: وأنا أُعطي الله عهداً، ألاَّ أنصح مسلماً حتَّى ألقاه (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣١

أين شُكره على ما أنعم؟

عن الزهري قال: دخلت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) على عبد الملك بن مروان، قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى مِن أثر السجود بين عينَيْ علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقال: يا أبا محمد، لقد بان عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك مِن الله الحُسنى، وأنت بضِعةٌ مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قريب النسب، وَكْيد السبب، وإنَّك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك، ولقد أوتيت مِن الفضل والعلم، والدين والورع، ما لم يؤتَه أحدٌ مِثلك ولا قبلك، إلاَّ مَن مضى مِن سلفك، وأقبل يُثني عليه ويُطريه.

قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام): (كلُّ ما ذكرته ووصفته مِن فضل الله سبحانه، وتأييده، وتوفيقه، فأين شُكره على ما أنعم؟!) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٢

يا رَبِّ حَقِّي قد وهبته وأنت أجود مِنِّي

أتى رجل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إنَّ فلاناً ابن عَمِّك ذكرك فما ترك شيئاً مِن الوقيعة إلاَّ قاله فيك.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للجارية: (ايتيني بوضوء، فتوضَّأ ودخل).

فقلت في نفسي: يدعو عليه.

فصلَّى رَكعتيين، فقال: (يا رَبِّ، حَقِّي قد وهبته، وأنت أجود مِنِّي وأكرم، فهبه لي، ولا تؤاخذه لي ولا تقايسه).

ثمَّ رَقَّ، فلم يزل يدعو، فجعلت أتعجَّب (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٣

مَن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وِجِد في خَربة، وبيده سِكِّين مُلطَّخ بالدَّم، وإذا رجل مذبوح يتشحَّط في دَمِه.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما تقول؟).

قال: يا أمير المؤمنين، أنا قتلته.

قال: (اذهبوا به).

فلمَّا ذهبوا به أقبل رجل مُسرِع، فقال: لا تعجلوا، وردُّوه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فردُّوه.

فقال: والله - يا أمير المؤمنين - ما هذا صاحبه، أنا قتلته.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للأوَّل: (ما حَمَلك على إقرارك على نفسك ولم تفعل؟).

فقال: يا أمير المؤمنين، وما كنت أستطيع أنْ أقول، وقد شَهِد عليَّ أمثال هؤلاء الرجال، وأخذوني وبيدي سِكِّين مُلطَّخ بالدَّم، والرجل يتشحَّط في دَمِه، وأنا قائم عليه، وخِفت الضرب فأقررت، وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخَربة شاة، وأخذني البول؛ فدخلت الخربة؛ فرأيت الرجل يتشحَّط في دَمِه، فقُمت مُتعجِّباً، فدخل عليَّ هؤلاء فأخذوني.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (خذوا هذين، فاذهبوا بهما إلى الحسن، وقصُّوا عليه قِصَّتهما، وقولوا له: ما الحُكم فيهما؟).

فذهبوا إلى الحسن (عليه السلام)، فقصُّوا عليه قِصَّتهم، فقال الحسن (عليه السلام): (قولوا لأمير المؤمنين (عليه السلام): إنْ هذا كان ذبح ذاك فقد أحيا هذا، وقد قال الله تعالى عَزَّ وجَلَّ: ( ... وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً... ) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٤

المال يَفنى والبدن يَبلى والعمل يبقى

قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا عمار، أنت رَبُّ مالٍ كثير؟).

قال: نعم، جُعلِت فِداك.

قال: (فتؤدِّي ما افترض الله عليك مِن الزكاة؟).

قال: نعم.

قال: (فتُخرِج المعلوم مِن مالك؟).

قال: نعم.

قال: (فتَصلْ قرابتك؟).

قال: نعم.

قال: (فتَصلْ إخوانك؟).

قال: نعم.

فقال: (يا عمار، إنَّ المال يفنى، والبدن يبلى، والعمل يبقى، والدَّيَّان حيُّ لا يموت. يا عمار، إنَّه ما قَدَّمت فلن يسبقك، وما أخَّرت فلن يَلحقك) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٥

ربَّما سمعت مِن يَشتم عليٍّ...

فأمرُّ به فأُسلِّم عليه وأُصافحه

عن ابن مسكان قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إنِّي لأحَسبك إذا شُتِمَ عليٌّ (عليه السلام) بين يديك، لو تستطيع أنْ تأكل أنف شاتمه لفعلت!).

فقلت: إيْ والله - جُعِلت فِداك - إنِّي لهكذا وأهل بيتي.

فقال لي: (فلا تفعل، فوالله، لرُبَّما سمعت مَن يَشتم عليَّاً، وما بيني وبينه إلاَّ اسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت مِن صلاتي فأمرُّ به فأُسلِّم عليه وأُصافحه) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٦

مروءة أهل بيت النبوَّة

عمرو بن علي (عليه السلام)، قال: كان هشام بن إسماعيل يُسيء جواري، وقد لقي منه علي بن الحسين (عليهما السلام) أذىً شديد، فلمَّا عُزِل أمر به الوليد أنْ يوقَف للناس.

قال: فمَرَّ به علي بن الحسين (عليهما السلام)، وقد أوقِف عند آل مروان، قال: فسلَّم عليه.

قال: وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) قد تقدَّم إلى خاصَّته أنْ لا يتعرَّض له أحد (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٧

الصبر على سوء خُلق الجار يورِث الفَرَج

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فشكا إليه أذى جاره، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اصبِر.

ثمَّ أتاه ثانية، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اصبر.

ثمَّ عاد إليه فشكاه ثالثة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) - للرجل الذي شكا ـ: إذا كان عند رواح الناس إلى الجمعة، فأخِّر مَتاعك إلى الطريق يراه مَن يروح إلى الجمعة، فإذا سألوك فأخبرهم.

قال: ففَعَل.

فأتاه جاره المؤذي له فقال: رُدَّ متاعك ولك الله عليَّ أنْ لا أعود (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٨

الحرب خديعة

في غزوة الأحزاب جرى بين عليٍّ (عليه السلام) وعمرو بن وِدِّ كلام فقال علي: يا عمرو، أما كفاك أنِّي بارزتك وأنت فارس العرب حتَّى استعنت عليَّ بظهير؟!

فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) مُسرعاً على ساقيه فأطنَّهما جميعاً، وأقبل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تسيل الدماء على رأسه مِن ضربة عمرو وسيفه يقطر منه الدم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي، ما كَرْتَه؟!).

قال: نعم يا رسول الله، الحرب خديعة (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٩

ولا تَهِنوا في ابتغاء القوم

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا رَجِع مِن وقعة أحد ودخل المدينة، نزل عليه جبرائيل فقال: (يا محمد، إنَّ الله يأمرك أنْ تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلاّ مَن به جِراحة).

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُنادياً يُنادي: يا معشر المُهاجرين والأنصار، مَن كانت به جِراحة فليخرُج، ومَن لم يكن به جِراحة فليُقِم.

فأقبلوا يُضمِّدون جِراحاتهم ويُداوونها، فأنزل الله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله): ( وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ... ) (النساء: ١٠٤) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزيدُونَ * فآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (١) .

٥ -( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ ) (٢) .

هذه هي الآيات الواردة حول قصّة يونس، وبالإحاطة بها يتمكّن المفسّر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.

أمّا ما جاء من الروايات حول القصّة، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلاً عن النبي؛ ولأجله تركنا ذكرها.

والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام، وعرف منهم الامتناع، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه، فأخبرهم بنزول العذاب، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى الله لعلّه يرحمكم، ويردّ العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع ؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك، وضجّوا وبكوا، فرحمهم الله، وصرف عنهم العذاب(٣) .

فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقّف على البحث عن عدّة أُمور:

____________________

١ - الصافات: ١٣٩ - ١٤٨.

٢ - القلم: ٤٨ - ٥٠.

٣ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨٠ من الطبعة الجديدة، رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادقعليه‌السلام .

٢٠١

١ - لماذا كُشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟

صريح قوله سبحانه: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين )(١) .

إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم؛ وذلك لأنّ ( لولا ) التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي، كما في قولك: هلاّ قرأت القرآن، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه:( فلولا كانت قرية آمنت ) أنّه لم يكن ذلك أبداً، فاستقام الاستثناء بقوله:( إلاّ قوم يونس ) ، والمعنى هلاّ كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذّبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها، لكن لم يكن شيء من ذلك إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.

ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس، ولكن لم ينفع إيمان فرعون، وعندئذٍ يُطرح هنا السؤال التالي: ما الفرق بين الإيمانين ؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه، يقول سبحانه:( وَجَاوَزْنَا بِبَني إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) (٢) .

____________________

١ - يونس: ٩٨.

٢ - يونس: ٩٠ - ٩٢.

٢٠٢

الجواب : الفرق بين الإيمانين، أحدث هذا الفرق، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار؛ ولأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية، بل كان وليد رؤية العذاب وهجوم الأمواج، لا أقول: إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جديّاً، وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي، بل: الكل كان حقيقياً، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف، وبعبارة أُخرى: ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي.

والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه:( وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ ) ، ويقول سبحانه:( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (١) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به، أُرسل إلى نفس قومه، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتّعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجّل في علم الله.

وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد، وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل، بعد كشفه، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية:( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (٢) .

____________________

١ - الصافات: ١٤٧ - ١٤٨.

٢ - الأعراف: ١٣٣- ١٣٥.

٢٠٣

وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.

والأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل، ويشاهد الإنسان عبوديّته بعين القلب وعظمة الرب ونور الإيمان، فيصير خاضعاً أمام الله، يعبده ولا يعبد غيره.

والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والإلجاء، فيؤمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه، ولا يعد ذلك الإيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف، قال سبحانه:( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنينَ ) (١)

ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء وإرسال الرسل، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم، وإلاّ لم تتخلّف عن مراده وأصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار، ولكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار، والناشئ عن الإلجاء والاضطرار؛ لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم، وإليه يشير قوله:( ولو شاء ربك لآمن من في الاَرض كلهم جميعاً ) .

٢ - هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس ؟

قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيّد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عزّ من قائل:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ) (٢) .

____________________

١ - يونس: ٩٩.

٢ - غافر: ٥١.

٢٠٤

فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم، فلابد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه، حيث تنبّأ وقال:( تَمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثةَ أيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ، فلمّا بلغ الأجل المحدّد( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ) (١) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالّة على صدق مقال النبي وإخباره، وأنّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح، قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض ) (٢) .

وقال عز من قائل:( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

هذه سنّة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.

وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل، فقد تنبّأ بنزول العذاب، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه(٤) فبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله حسب إرشاد عالمهم، فكشف عنهم العذاب، وليس في هذا تكذيب ليونس، لو لم يكن فيه تصديق، حيث وقفوا على صدق مقالته، غير أنّ لله سبحانه سنناً في الحياة، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة، والعفو عنه لإنابته أيضاً سنّة، ولكلٍّ موضع خاص، وهذا

____________________

١ - هود: ٦٥، ٦٧ - ٦٨.

٢ - الأعراف: ٩٦.

٣ - الأنفال: ٥٣.

٤ - لاحظ تفسير الطبري: ١١/١١٧ - ١١٨؛ الدر المنثور: ٣/٣١٧ - ٣١٨؛ البحار: ١٤/٣٩٦ من الطبعة الحديثة.

٢٠٥

معنى البداء الذي تقول به الإمامية، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبنّاه الإمامية في هذا المضمار، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة ( البداء من الكتاب والسنّة )(١) ومَن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

٣ - أسئلة ثلاثة حول عصمته

ألف - ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه ؟

ب - ماذا يراد من قوله:( فظنّ أن لن نقدر عليه ) ؟

ج - كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين ؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصّة يونسعليه‌السلام ، وقد تمسّك بها المخطِّئة، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد:

أمّا الأوّل: فقد زعم المخطِّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

ولكنّه تفسير بالرأي، بل افتراء على الأنبياء، وسوء ظن بهم، ولا يغاضب ربَّه إلاّ مَن كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.

وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم، فخرج من بينهم(٢) .

____________________

١ - مطبوعة منتشرة.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٢.

٢٠٦

هكذا فسّره الإمام الرضاعليه‌السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال: ( ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه )(١) .

وأمّا الثاني : أعني:( فظنّ أن لن نقدر عليه ) فالفعل، أعني: ( نقدر )، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة، قال سبحانه:( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ ) (٢) ، وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ) (٣) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله، بل كان ذهابه وترك قومه يمثّل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله، فكانت مفارقته قومه ممثّلة لحال مَن يظن بمولاه ذلك.

وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.

وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه - كان يمثّل حال مَن يظن أن لا يضيّق مولاه عليه - ابتلاه الله بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً، فندم على عمله( فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت ) .

ونقل الزمخشري في كشّافه: عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك، قال: وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه ؟

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨٧.

٢ - الطلاق: ٧.

٣ - الإسراء: ٣٠.

٢٠٧

قال: هذا من القدر لا من القدرة ثمّ أضاف صاحب الكشّاف: يصح أن يفسّر بالقدرة على معنى ( أن لن نعمل فيه قدرتنا )، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى فكانت حاله ممثّلة بحال مَن ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويردّه بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت(١) .

ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق، وهو المناسب لمفاد الآية، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما، خصوصاً الوجه الأخير؛ لأنّ الأنبياء أجلّ شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان، فليس له سلطان على المخلصين من عباده، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه:( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وأمّا السؤال الثالث : فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه، فالعطف والحنان المترقّب من الأنبياء غير ما يترقّب من غيرهم؛ فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة، ويؤيّده قوله سبحانه:

( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (٣) .

فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية

____________________

١ - الكشاف: ٢/٣٣٥ - ٣٣٦.

٢ - ص: ٨٣.

٣ - القلم: ٤٨.

٢٠٨

طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله:( وهو مكظوم ) ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غمّاً، والمعنى: يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتُبتلى ببلائه، فاصبر لقضاء ربّك، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة(١) .

والوجهان: الأوّل والثاني هما الصحيحان.

وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه:( إذ أبق إلى الفلك المشحون ) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق؛ وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك.

وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه، وهو يدور بين أُمور ثلاثة: أمّا ترك قومه من دون إذن، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تمّ توضيح الآيات المهمّة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل، ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية، وبقي الكلام في عصمة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفيض القول فيها في البحث الآتي.

____________________

١ - بحار الأنوار: ١٤/٣٨.

٢٠٩

الطائفة الثالثة

عصمة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وما تمسّكت به المخطِّئة

عصمة النبي الخاتم من العصيان والخطأ، من فروع عصمة الأنبياء كلّهم، فما دلّت على عصمتهم من الآيات، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال، ولا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال، فقد أفاض الله عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الأنبياء من غير استثناء، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية:

١ - مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الأُمّة.

٢ - مرحلة القول والفعل، وعلى ذلك، فهو من عباده المكرّمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون.

٣ - مرحلة تطبيق الشريعة وغيرها من الأمور المربوطة بحياته، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسهو ولا يخطأ في حياته الفردية والاجتماعية.

وما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.

٢١٠

نعم، هناك آيات بالخصوص دالّة على عصمته من العصيان ومصونيته من الخطأ، كما أنّ هناك آيات وردت في حقّه وقعت ذريعة لمنكري العصمة؛ ولأجل ذلك أفردنا بحثاً خاصاً في هذا المقام لنوفيه حقّه.

أمّا ما يدل على عصمته من العصيان والخلاف، فيكفي في ذلك قوله سبحانه:( وإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (١) .

وقد ذكر المفسّرون أسباباً لنزولها بما لا يناسب ساحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أوضحها ما ذكره الطبرسي في مجمعه: أنّ المشركين قالوا له: كفّ عن شتم آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان(٢) حتى نجالسك ونسمع منك، فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية(٣) .

ولتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور:

١ - إنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته، ومع ذلك استدلّت المخطّئة بها على خلافها، وهذا من عجائب الأمور، إذ لا غرو في أنّ تتمسّك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه، وإنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين، فيفسّرها كلٌّ حسب ما يتوخّاه، مع أنّ الآية لا تتحمّل إلاّ معنى واحداً لا معنيين متخالفين.

٢ - إنّ الضمير في كلا الفعلين( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) يرجع إلى المشركين ،

____________________

١ - الإسراء: ٧٣ - ٧٥.

٢ - الصنان: نتن الإبط.

٣ - مجمع البيان: ٣/٤٣١.

٢١١

ويدل عليه سياق الآيات، والمراد من( الذي أوحينا إليك ) هو القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفي الشريك، والسيرة الصالحة، والمراد من الفتنة في( ليفتنونك ) هو الإزلال والصرف، كما أنّ الخليل من الخُلَّة بمعنى الصداقة لا من الخَلّة بمعنى الحاجة.

٣ - إنّ قوله:( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) يخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه، لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّا أُوحي إليه، وبين المعنيين فرق واضح.

٤ - إنّ قوله سبحانه:( ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) مركّب من جملتين، إحداهما شرطية، والأخرى جزائية، أمّا الأُولى فقوله:( ولولا أن ثبّتناك ) ، وأمّا الأخرى فقوله:( لقد كدت تركن إليهم ) ، وبما أنّ لولا في الآية امتناعية(١) تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت، مثل قولنا: لولا علي لهلك عمر، فامتنع هلاكه لوجوده.

٥ - وليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل، بل الجزاء هو القرب من الميل والانصراف كما يدل عليه قوله:( لقد كدت تركن ) ، فامتنع القرب من الميل فضلاً عن نفس الميل لأجل وجود تثبيته.

٦ - إنّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة؛ لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة، ولا معنى

____________________

١ - يقول ابن مالك:

لولا ولوما يلزمان الابتدا

إذا امتناعاً بوجودٍ عقدا

والشرط في الآية مؤوّل إلى الاسم أي لولا تثبيتنا، لقد كدت تركن إليهم.

٢١٢

لخصوصية المعلول والمسبّب مع عمومية العلّة، وعلى ذلك تكون الآية من دلائل عصمته في حياته، وسداده فيها على وجه العموم.

وتوهّم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لإزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.

٧ - إنّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير، إذ لا يستقيم عمل إنسان ما لم يتم تفكيره، وعلى ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل، فهو في ظل هذا السداد المفاض، لا يفكّر بالعصيان والخلاف فضلاً عن الوقوع فيه.

٨ - إنّ تسديده سبحانه، لا يخرجه عن كونه فاعلاً مختاراً في عامة المجالات: الطاعة والمعصية، فهو بعد قادر على النقض والإبرام والانقياد والخلاف؛ ولأجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله:( إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً )

وعلى ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته، ودالة على عنايته سبحانه برسوله الأكرم فيراقبه ويراعيه ولا يتركه بحاله، ولا يكله إلى نفسه، كل ذلك مع التحفّظ على حريته واختياره في كل موقف.

فقوله سبحانه:( ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم ) نظير قوله:( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) (١) لكنّ الأوّل راجع إلى صيانته عن العصيان، والثاني ناظر إلى سداده عن السهو والخطاء في الحياة، وسيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتي.

____________________

١ - النساء: ١١٣.

٢١٣

وفي الختام نذكر ما أفاده الرازي في المقام: قال: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية بوجوه:

الأوّل : إنّها دلّت على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرب من أن يفتري على الله، والفرية على الله من أعظم الذنوب.

الثاني: إنّها تدل على أنّه لولا أنّ الله تعالى ثبّته وعصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.

الثالث : أنّه لولا سبق جرم وجناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.

والجواب عن الأوّل: إنّ ( كاد ) معناها المقاربة، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدل على الوقوع.

وعن الثاني : أنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء، لثبوت غيره، نقول: ( لولا على لهلك عمر ) ومعناه أنّ وجود عليعليه‌السلام منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك هاهنا فقوله:( ولولا أن ثبّتناك ) معناه لولا حصل تثبيت الله لك يا محمد، فكان تثبيت الله مانعاً من حصول ذلك الركون.

وعن الثالث : إنّ التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، والدليل عليه آيات منها قوله تعالى:( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين ) الآيات، وقوله تعالى:( لئن أشركت ) وقوله:( ولا تطع الكافرين ) (١) .

أدلّة المخطِّئة

لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ هناك

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٥/٤٢٠.

٢١٤

آيات وردت في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صارت ذريعة لبعض المخطّئة الذين يحاولون إنكار العصمة، وهي عدة آيات:

الأُولى: العصمة والخطابات الحادّة

هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد وتنهاه عن اتّباع أهواء المشركين، والشرك بالله، والجدال عن الخائنين، وغير ذلك، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه، وإليك هذه الآيات مع تحليلها:

١ -( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَل-ىٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (١) .

وقد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل، فقال بدل قوله:( مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ ولا نَصِير ) ،( إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) ، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد، غير أنّه جاء بدل قوله:( ولا نصير ) ( ولا واق ) .

وعلى أيّ حال فقد تمسّكت المخطِّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقّعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم وإلاّ فلا وجه للوعيد.

ولكنّ الاستدلال على درجة من الوهن؛ إذ لا تدل القضية الشرطية إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء، لا على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما، وهذا من الوضوح بمكان، قال سبحانه:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) وليس فيها أيّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي، وبما ذكرنا يتضح حال الآيتين

____________________

١ - البقرة: ١٢٠.

٢ - البقرة: ١٤٥.

٣ - الأنبياء: ٢٢.

٢١٥

التاليتين:

٢ - إنّه سبحانه يخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه:( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) (١) .

ومن المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.

٣ - قال سبحانه:( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرينَ ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ ) (٣) فهذه الآيات ونظائرها التي تحكي عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه، أي وجود أرضية متوقّعة لصدور هذه القضايا، وذلك لوجهين:

ألف: إنّ هذه الآيات تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا، وهذا لا يكون دليلاً على إمكان وقوع العصيان منه بعدما تشرّف بالنبوّة وجُهّز بالعصمة وعُزّز بالرعاية الربانية، فالآيات التي تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.

ب - إنّ هذه الآيات تركّز على الجانب التربوي، والهدف تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام الله سبحانه، فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي العظمة - محكوماً

____________________

١ - الإسراء: ٨٦ - ٨٧.

٢ - الزمر: ٦٥.

٣ - الحاقة: ٤٤ - ٤٧.

٢١٦

بهذه الأحكام ومخاطباً بها، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

وعلى ذلك فتكون الآيات واردة مجرى : ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، فهؤلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لإنكار العصمة، غير مطّلعين على ( ألف باء ) القرآن؛ وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال، يقول سبحانه عندما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام:

٤ -( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (١) ، ويريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لإرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله:( سَيَقُولُ الْسُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) (٢) .

٥ - إنّه سبحانه يبطل إلوهيّة المسيحعليه‌السلام بحجّة أنّه وليد مريمعليها‌السلام بأنّ تولّده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، قال سبحانه:( إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ، فعند ذلك يخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (٣) .

ولا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا: ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، فإنّ النبي الأعظم بعدما اتصل بعالم الغيب وشاهد ورأى الملائكة وسمع كلامهم، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله:( فلا تكن من الممترين ) على الجد والحقيقة ؟

٦ - إنّه سبحانه يخاطب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما جلس على كرسي القضاء

____________________

١ - البقرة: ١٤٧.

٢ - البقرة: ١٤٢.

٣ - آل عمران: ٥٩ - ٦٠.

٢١٧

بقوله:( وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ) (١) .

فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن، ومن الواضح أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن، وإنّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع وتوجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.

٧ - وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) .

وأخيراً نقول: إنّ سورة الإسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى، ترجع إلى وظائف الأمّة: الفردية والاجتماعية، وهو سبحانه يبتدئ الدساتير بقوله:( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولا ) (٣) ، وفي الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول:( ولا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) (٤) .

فهذه الخطابات وأشباهها وإن كانت موجّهة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها، وإلاّ فالنبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم مَن أن يشرك بالله تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة، كيف، وهو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك وعبادة غير الله تبارك وتعالى.

____________________

١ - النساء: ١٠٧.

٢ - النساء: ١٠٥.

٣ - الإسراء: ٢٢.

٤ - الإسراء: ٣٩.

٢١٨

وقس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن شديد، فتفسير الجميع بالوجهين اللّذين قدّمنا ذكرهما.

الآية الثانية: العصمة والعفو والاعتراض

كان النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية، فأذن بالجهاد إلى ثغرها ( تبوك )، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل، إلاّ أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين، فتعلّقوا بأعذار واستأذنوا في الإقامة في المدينة، وأذن لهم النبي الأكرم، وفي هذا الشأن نزلت الآية التالية:

( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (١) .

والآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول:( عَفَا اللهُ عَنْكَ ) ، كما تتضمّن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك، كما يقول سبحانه:( لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) ، وعندئذ يفرض هذا السؤال نفسه:

ألف: كيف يجتمع العفو مع العصمة ؟

ب: ما معنى الاعتراض على إذن النبي ؟

أقول: أمّا الجملة الأُولى: فتوضيحها بوجهين:

الأوّل: أنّها إنّما تدل على صدور الذنب - على فرض التسليم - إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي، وأمّا إذا

____________________

١ - التوبة: ٤٣.

٢١٩

كانت خبرية ولكن أُريد منها الإنشاء وطلب العفو، كما في قوله:( أيّدك الله ) ( غفر الله لك ) ، فالدلالة ساقطة؛ إذ طلب العفو والمغفرة للمخاطب نوع دعاء وتقدير وتكريم له.

الثاني : ليس على أديم الأرض إنسان يستغني عن عفوه ومغفرته سبحانه حتى الأولياء والأنبياء؛ لأنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا، وكونهم معصومين، ووظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الأُولى فواضحة، وأمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب وكبر المسؤولية، وأنّ هنا أُموراً كان الأليق تركها، أو الإتيان بها، وإن لم يأمر بها الرب أمر فرض، أو لم ينه عنها نهي تحذير، والمترقّب منهم غير المترقّب من غيرهم.

ولأجل ذلك كان الأنبياء يستغفرون كل يوم وليلة قائلين: ( ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك ).

وحاصل الوجهين: أنّ طلب العفو نوع تكريم واحترام للمخاطب بصورة الدعاء، وليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب، هذا من جانب، ومن جانب آخر: أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى، يرى في أعماله حسب عرفانه واستشعاره عظمة الرب وكبر المسؤولية، أنّ ما هو الأليق خلاف ما وقع منه، فتوحي إليه نفسه الزكيّة، طلب العفو والمغفرة لإزالة آثار هذا التقصير في الآجل والعاجل.

وأمّا الجملة الثانية:

فلا شك أنّها تتضمّن نوع اعتراض على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه، بل لأنّ إذنه كان مفوّتاً لمصلحة له، وهو معرفة الصادق في إيمانه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421