القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360116 / تحميل: 10449
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وقال بعض المفسّرين بأنّ جملة :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) إشارة إلى مقام «الشهود» الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكّنهم الله من النظر إلى جماله وجلاله والالتذاذ من ذلك بأعظم اللذّات. ولكن يظهر أنّ الجملة المذكورة لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب اخرى غير معروفة أيضا.

جملة( إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) تدلّل على أنّ أوّل لطف الله معهم ، هو «العفو» عن ذنوبهم وزلّاتهم التي تبدر منهم أحيانا ، لأنّ أشدّ قلق المؤمن يكون من هذا الجانب.

وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة ، فانّه تعالى يشملهم بـ «الشكر» أي انّه يشكر لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب.

نقل تفسير «مجمع البيان» مثلا تضربه العرب وهو «أشكر من بروقة» وتزعم العرب أنّها ـ أي بروقة ـ شجرة عارية من الورق ، تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر(١) . وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر ، ففي قبال أقل الخدمات ، يقدّم أعظم الثواب. بديهي أنّ خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها وأرحم.

* * *

تعليقة

شروط تلك التجارة العجبية :

الملفت للنظر أنّ كثيرا من الآيات القرآنية الكريمة تشبّه هذا العالم بالمتجر الذي تجّاره الناس ، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى ، وبضاعته العمل الصالح ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨١

والقيمة أو الأجر : الجنّة والرحمة والرضا منه تعالى(١) .

ولو تأمّلنا بشكل جيّد فسوف نرى أنّ هذه التجارة العجبية مع الله الكريم ليس لها نظير ، لأنّها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أيّة تجارة اخرى :

١ ـ إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله ، ثمّ كان له مشتريا!.

٢ ـ إنّ الله تعالى مشتر في حال أنّه غير محتاج ـ إلى شيء تماما ـ فلديه خزائن كلّ شيء.

٣ ـ إنّه تعالى يشتري «المتاع القليل» بالسعر «الباهض» «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير» ، «يا من يعطي الكثير بالقليل».

٤ ـ هو تعالى يشتري حتّى البضاعة التافهة( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) .

٥ ـ أحيانا يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر «البقرة ـ ٢٦١».

٦ ـ علاوة على دفع الثمن العظيم فإنّه أيضا يضيف إليه من فضله ورحمته( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (الآية موضوع البحث).

ويا له من أسف أنّ الإنسان العاقل الحرّ ، يغلق عينيه عن تجارة كهذه ، ويشرع بغيرها ، وأسوأ من ذلك أن يبيع بضاعته مقابل لا شيء.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول : «ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها ، إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها»(٢) .

* * *

__________________

(١) سورة الصف : آية ١ والتوبة ـ آية ١١١ والبقرة ٢٠٧ والنساء ـ ٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ٤٥٦ ، صفحة ٥٥٦.

٨٢

الآيتان

( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) )

التّفسير

الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء :

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه ، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّة ، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب ، وبذا يستكمل الحديث الذي افتتحته الآيات السابقة حول التوحيد ، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة.

تقول الآية الكريمة :( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ ) .

مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه ، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى ، لأنّنا

٨٣

كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر انسجاما مع الواقع.

فليس فيه تناقض ، أو كذب أو خرافة ، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات ، وقوانينه تتساوق مع احتياجات البشر ، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.

هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم ، تمّت الاستفادة هنا من كلمة «الحقّ» ، في حال أنّه في آيات اخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ «النور» و «البرهان» و «الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى» ، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده ، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات.

يقول الراغب في (مفرداته) : أصل الحقّ المطابقة والموافقة ، والحقّ يقال على أوجه :

الأوّل : يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة ، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله :( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) .(١)

الثّاني : يقال للشيء الذي وجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولهذا يقال فعل الله تعالى كلّه حقّ ، قال تعالى :( ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ) ،(٢) أي الشمس والقمر وغير ذلك.

الثّالث : في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى :( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ ) .(٣)

والرّابع : يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقا لما يجب ، وبقدر ما يجب ، وفي الوقت المقرّر ، كقولنا : فعلك حقّ ، وقولك حقّ(٤) .

__________________

(١) يونس ، ٣٢.

(٢) يونس ـ ٥.

(٣) البقرة ـ ٢١٣.

(٤) مفردات الراغب ـ مادّة حقّ. «مع تلخيص واختصار».

٨٤

وبناء عليه ، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثا مطابقا للمصالح والواقعيات من جهة ، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة ، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم ، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ.

جملة( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي ، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حاملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

جملة( إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) توضّح علّة حقّانية القرآن وانسجامه مع الواقع والحاجات البشرية ، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة ، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم.

لكن ما هو الفرق بين «الخبير» و «البصير»؟

قال البعض : «الخبير» العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبعد الروحي في الإنسان ، و «البصير» العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

وقال آخرون : «الخبير» إشارة إلى أصل خلق الإنسان ، و «البصير» إشارة إلى أعماله وأفعاله.

وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعدا.

الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم ، أولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور ، وهم يحفظونه ويحرسونه ، فتقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) .

واضح أنّ المقصود من «الكتاب» هنا ، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو

٨٥

«القرآن الكريم» والألف واللام فيه «للعهد». والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية ، وأنّ اللام هنا «للجنس» يبدو بعيد الاحتمال ، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة.

التعبير بـ «الإرث» هنا وفي موارد اخرى مشابهة في القرآن الكريم ، لأجل أنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد ، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد.

لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير عبارة( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) بالأئمّة المعصومينعليهم‌السلام (١) .

هذه الروايات ـ كما ذكرنا مرارا ـ ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاولى. ولكن لا مانع من اعتبار العلماء والمفكّرين في الامّة ، والصلحاء والشهداء ، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي ، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه ، تحت عنوان( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) .

ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص ، فتقول :( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

ظاهر الآية هو أنّ هذه المجامع الثلاثة هي من بين( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) أي : ورثة وحملة الكتاب السماوي.

وبتعبير أوضح ، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي ، بعد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الامّة ، الامّة التي اصطفاها الله سبحانه ، غير أنّ في تلك الامّة مجاميع مختلفة : بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه ، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم ، وهم مصداق( ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

ومجموعة اخرى ، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير ، وإن

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٦١.

٨٦

كان عملها لا يخلو من بعض الزلّات والتقصيرات أيضا ، وهؤلاء مصداق «مقتصد».

وأخيرا مجموعة ممتازة ، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه ، وسبقوا الجميع في ميدان الاستباق ، والذين أشارت إليهم الآية بقولها :( سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) .

وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة «الظالمة» ينافي أنّ هؤلاء جميعا مشمولون بقوله «اصطفينا»؟

وفي الجواب نقول : إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (٥٣) من سورة المؤمن :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) ، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لو يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم.

أو نظير ما ورد في الآية (١١٠) من سورة آل عمران :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) .

أو ما ورد في الآية (١٦) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضا( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

وكذلك في الآية (٢٦) من سورة الحديد نقرأ :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

وخلاصة القول : إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للامّة بأجمعها فردا فردا ، بل إلى مجموع الامّة ، وإن احتوت على طبقات ، ومجموعات مختلفة(١) .

__________________

(١) أمّا ما احتمله البعض من أنّ التقسيم الوارد في الآية يعود على «عبادنا» وليس على «الذين اصطفينا» ، بحيث أنّ هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب ، بل ضمن مفهوم «عبادنا» و «الذين اصطفينا» فقط المجموعة الثالثة أي «السابقين بالخيرات» ، فيبدو بعيدا ، لأنّ الظّاهر هو أنّ هذه المجموعات ممّن ذكرتهم الآية ، ونعلم أنّ الحديث في الآية لم يكن عن كلّ العباد ، بل عن( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) ، ناهيك عن إضافة «نا» إلى «عباد» وهو نوع من التمجيد والمدح ، ممّا يجعل ذلك غير منسجم مع التّفسير المذكور.

٨٧

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام في تفسير «سابق بالخيرات» بالمعصومعليه‌السلام ، و «ظالم لنفسه» بمن لا يعرف الإمام ، و «المقتصد» العارف بالإمام(١) .

هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما اخترناه لتفسير الآية ، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي.

ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية ، وهم الأئمّة المعصومون ، إذ هم الصفّ الأوّل ، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اخرى.

كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد ، هو أيضا من قبيل بيان المصاديق ، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف.

ومن الجدير بالذكر أنّ جمعا من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الاحتمالات في تفسير هذه المجاميع ، والتي هي في الحقيقة جميعا من قبيل بيان المصاديق(٢) .

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٦١ ، كذلك الكافي ، المجلّد ١ ، باب من اصطفاه الله من عباده.

(٢) ذهب بعض بأنّ السابق بالخيرات هم أعوان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصد طبقة التابعين ، والظالم لنفسه أفرادا آخرون. والبعض الآخر فسّروا «سابق بالخيرات» بالذين يفضّل باطنهم على ظاهرهم و «المقتصد» بالذين يتساوى ظاهرهم وباطنهم ، و «الظالم لنفسه» بالذين يفضّل ظاهرهم على باطنهم. والبعض الآخر قالوا إنّ «السابقين» هم الصحابة ، و «المقتصدين» هم تابعيهم ، و «الظالمين» هم المنافقون. وقال آخرون بأنّ الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة ـ الآيات ٧ إلى ١١.( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) . وفي حديث أنّ «السابق بالخيرات» هم الأئمّة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمّد عليهم الصلاة والسلام ، والمقتصد المتديّنون المجاهدون ، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر غير صالح.

٨٨

وهنا يطرح السؤال التالي : لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اولى ، ثمّ المقتصد ، ثمّ السابقين بالخيرات ، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟

بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال : إنّ الهدف هو بيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل ، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة ، وبعدها مقام التوبة والإنابة ، وأخيرا التوجّه والاقتراب من الله سبحانه وتعالى ، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو «ظالم لنفسه» ، وحين يلج مقام التوبة فهو «مقتصد» ، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام «السابقين بالخيرات»(١) .

وقال آخر : بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار ، فالظالمون يشكّلون الأكثرية ، والمقتصدون في المرتبة التالية ، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة.

الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : (ما مؤدّاه): «قدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله ، وأخّر السابقون بالخيرات لكي لا يأخذهم الغرور بعملهم»(٢) .

ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصودا.

وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ؟

قال البعض ، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي ، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات ، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله ، لكن يبدو أنّ

__________________

وكلّ هذه التّفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق ، وكلّها قابلة للتعقّل ، عدا التّفسير الأوّل الّذي لا يحتوي على مفهوم صحيح.

(١) مجمع البيان ، تفسير الآية مورد البحث.

(٢) تفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلّد ٩ تفسير الآيات مورد البحث.

٨٩

المعنى الأوّل أنسب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية.

* * *

ملاحظة

من هم حرّاس الكتاب الإلهي؟

على ما ذكر القرآن الكريم فإنّ الله سبحانه وتعالى يشمل الامّة الإسلامية بمواهب عظيمة ، من أهمّها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو «القرآن».

وقد اصطفيت الامّة الإسلامية من باقي الأمم ، وتلك نعمة أعطيت لها ، ومسئولية ثقيلة أسندت إليها بنفس النسبة التي فضّلت بها وأصبحت بسببها مشمولة باللطف الإلهي ، وستكون هذه الامّة في صف «السابقين بالخيرات» ما أدّت حقّ حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الأمم في الخيرات ، في تطوير العلوم ، في التقوى والزهد ، في العبادة وخدمة البشرية ، في الجهاد والاجتهاد ، في التنظيم والإدارة ، في الفداء والإيثار والتضحية ، فتتقدّم وتسبق في كلّ هذه الأمور ، وإلّا فإنّها لا تكون قد أدّت حقّ حفظ ذلك الميراث العظيم. خاصّة إذا علمنا أنّ تعبير «السابقين بالخيرات» مفهوم واسع إلى درجة أنّه يشمل التقدّم في جميع الأمور ذات المنحى الإيجابي من امور الحياة.

نعم ، فحملة مثل هذا الميراث هم ـ فقط ـ أولئك الذين يتّصفون بتلك الصفات ، بحيث أنّهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها ، فسيكونون مصداقا لـ «ظالم لنفسه» ، إذ أنّ محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى نجاتهم وتوفيقهم وانتصارهم ، فإنّ من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي كتبها له الطبيب ، فإنّه يساعد على استمرار الألم والعذاب لنفسه. وإنّ من يحطّم مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم ، إنّما يسوق نفسه إلى التيه والضياع ، لأنّ الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع.

٩٠

وعلى المذنبين أيضا أن لا ينسوا حقيقة أنّهم كانوا مشمولين بمضمون الآية الكريمة في زمرة( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ) وإنّ لهم ذلك الاستعداد بالقوّة ، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة «الظالم لنفسه» وينتقلوا إلى مرحلة «المقتصد» وليرتقوا من هناك حتّى ينالوا فخر «السابقين بالخيرات» ، حيث أنّهم من جهة الفطرة والبناء الروحي من الذين اصطفاهم الحقّ.

* * *

٩١

الآيات

( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) )

التّفسير

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن :

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية ، يقول تعالى :( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) (١) .

«جنّات» جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.

__________________

(١) «جنّات عدن» : يمكن أن تكون خبرا لمبتدء محذوف تقديره «جزائهم» أو «أولئك لهم جنّات عدن» ، نظير الآية (٣١ ـ سورة الكهف) بعضهم أيضا قال : إنّها (بدل) عن «الفضل الكبير» ، ولكن باعتبار أنّ «الفضل الكبير» إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي ، فلا يمكن أن تكون «جنّات» بدلا عنها ، إلّا إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب.

٩٢

و «عدن» بمعنى الاستقرار والثبات ، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والاستقرار».

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة ، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها ، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة ، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم.

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة ، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني ، وبعض أيضا يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات ، فتقول الآية :( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ) .

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها ، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى لزبرجها ، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر ، والله سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كلّ ذلك ، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

هؤلاء زيّنوا حياتهم الدنيا بالخيرات ، فزيّنهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسّد الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة.

لقد قلنا مرارا بأنّ الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضّح مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم ، فلأجل بيان نعم ذلك العالم الآخر نحتاج إلى حروف اخرى وثقافة اخرى وقاموس آخر ، على أيّة حال ، فلأجل توضيح صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لا بدّ لنا أن نستعين بهذه الألفاظ العاجزة.

بعد ذلك تلك النعمة الماديّة ، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصّة فتقول :وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) .

فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم ، وتلاشت عن حياتهم جميع عوامل الغمّ والحسرة ببركة اللطف الإلهي ، وتبدّدت سحب الهمّ

٩٣

المظلمة عن سماء أرواحهم ، فلا خوف من عذاب إلهي ، ولا وحشة من موت وفناء ، ولا قلق ، ولا أذى الماكرين ، ولا اضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين.

اعتبر بعض المفسّرين ذلك الغمّ والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرّض له في الدنيا ، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم ، ولا تضادّ بين هذين التّفسيرين ، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية.

«الحزن» : (على وزن عدم) ، و «الحزن» ـ على وزن عسر ـ كليهما لمعنى واحد كما ذهب إليه أرباب اللغة ، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ ويضادّه الفرح(١) .

ثمّ يضيف أهل الجنّة هؤلاء( إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) .

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلّات والذنوب ، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغمّ بظلاله المشؤومة. غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من ذنوبنا ، وبشكره أعطانا الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة!

أخيرا تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم ، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقّة والتعب والعذاب ، فتحكى عن ألسنتهم( الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ) .

الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أنّ الإنسان ما أن يألف محيطه ويتعلّق به حتّى يقرع له جرس الرحيل! هذا من جانب ومن جانب آخر فمع أنّ العمر هناك متّصل بالأبد ، إلّا أنّ الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل ، أو التعب أو النصب مطلقا ، لأنّهم في كلّ آن أمام نعمة جديدة ، وجمال جديد.

«النصب» بمعنى التعب ، و «اللغوب» بمعنى التعب والنصب أيضا. هذا على ما تعارف عليه أهل اللغة والتّفسير ، في حين أنّ البعض فرّق بين اللفظتين فقال بأنّ (النصب) يطلق على المشاقّ الجسمانية ، و «اللغوب» يطلق على المشاقّ

__________________

(١) مفردات الراغب.

٩٤

الروحية(١) . أو أنّه الضعف والنحول الناجم عن المشقّة والألم ، وبذا يكون «اللغوب» ناجما عن «النصب»(٢) .

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة ، سواء كانت نفسية أو جسمانية.

* * *

__________________

(١) انظر تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٢ ، صفحة ١٨٤.

(٢) المصدر السابق.

٩٥

الآيات

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) )

التّفسير

ربّنا أخرجنا نعمل صالحا!

القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر «الإنذارات» ، إلى جانب «البشارات» لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في الإنسان ، إذ أنّ الإنسان بمقتضى «حبّ الذات» يقع تحت تأثير غريزتي «جلب المنفعة» و «دفع الضرر».

وعليه فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية

٩٦

العظيمة وصبر «المؤمنين السابقين في الخيرات» ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات الأليمة للكفّار ، والحديث هنا أيضا عن العقوبات المادية والمعنوية.

تبتدئ الآيات بالقول :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ) ، فكما أنّ الجنّة دار المقامة والخلد للمؤمنين ، فإنّ النار أيضا مقام أبدي للكافرين.

ثمّ تضيف( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) (١) ، فمع أنّ تلك النار الحامية وذلك العذاب المؤلم يستطيع القضاء عليهم في كلّ لحظة ، إلّا أنّهم ولعدم صدور الأمر الإلهي ـ وهو المالك لكلّ شيء ـ بموتهم لا يموتون ، يجب أن يبقوا على قيد الحياة ليذوقوا عذاب الله. فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص من العذاب ، لكن الله تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.

يبقى منفذ آخر هو أن يبقوا على قيد الحياة ويخفّف عنهم العذاب شيئا فشيئا ، أو أن يزداد تحمّلهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم ، ولكن تتمّة الآية أغلقت هذا المنفذ أيضا( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ) .

ثمّ تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي( كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) .

فقد كفر هؤلاء في بادئ الأمر بنعمة وجود الأنبياء والكتب السماوية ، ثمّ أتلفوا رصيدهم الذي سخّره الله لمساعدتهم على نيل السعادة ، نعم ، فجزاء الكفّار ليس سوى الحريق والعذاب الأليم ، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.

وبما أنّ كلمة «كفور» صيغة مبالغة ، فإنّ لها معنى أعمق من «كافر» ، علاوة على أنّ لفظة «كافر» تستخدم في قبال «مؤمن» ولكن «كفور» إشارة إلى أولئك الذين كفروا بكلّ نعم الله ، وأغلقوا عليهم جميع أبواب الرحمة الإلهيّة في هذه الدنيا ، لذا فإنّ الله يغلق عليهم جميع أبواب النجاة في الآخرة.

__________________

(١) «لا يقضى عليهم» بمعنى لا يحكم عليهم.

٩٧

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم ، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص ، فتقول الآية الكريمة :( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) (١) .

نعم ، فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة ، يغرقون في ندم عميق ، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال ، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.

التعبير بـ «صالحا» بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح ، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم ، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب ، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضا يمكن أن يكون سببا في نجاتهم.

التعبير بالفعل المضارع «نعمل» أيضا له ذلك الإشعاع ، ويؤيّد هذا المعنى ، وهو تأكيد أيضا على «أنّنا كنّا مستغرقين في الأعمال الطالحة».

قال بعض المفسّرين : إنّ الربط بين وصف «صالحا» واللاحق لها «كنّا نعمل» يثير نكتة لطيفة ، وهي أنّ المعنى هو «إنّنا كنّا نعمل الأعمال التي عملنا بناء على تزيين هوى النفس والشيطان ، وكنّا نتوّهم أنّها أعمال صالحة ، والآن قرّرنا أن نعود ونعمل أعمالا صالحة في حقيقتها غير التي ارتكبناها».

نعم فالمذنب في بادئ الأمر ـ وطبق قانون الفطرة السليمة ـ يشعر ويشخص قباحة أعماله ، ولكنّه قليلا قليلا يتطبّع على ذلك فتقل في نظره قباحة العمل ، ويتوغّل أبعد من ذلك فيرى القبيح جميلا ، كما يقول القرآن الكريم :( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ) (٢) .

وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .(٣)

__________________

(١) «يصطرخون» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للاستغاثة وطلب النجدة ، للتخلّص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.

(٢) التوبة ، ٣٧.

(٣) الكهف ، ١٠٤.

٩٨

على كلّ حال ، ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه أولئك من الله سبحانه وتعالى ، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول :( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) فإذا لم تنتفعوا بكلّ ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كلّ الفرص الكافية المتاحة( فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) .

هذه الآية تصرّح : لم يكن ينقصكم شيء ، لأنّ الفرصة أتيحت لكم بما يكفي ، وقد جاءتكم نذر الله بالقدر الكافي ، وبتحقّق هذين الركنين يحصل الانتباه والنجاة ، وعليه فليس لكم أي عذر ، فلو لم تكن لكم المهلة كافية لكان لكم العذر ، ولو كانت لكم مهلة كافية ولم يأتكم نذير ومرشد ومعلّم فكذلك لكم العذر ، ولكن بوجود ذينك الركنين فما هو العذر؟!

«نذير» عادة ترد في الآيات القرآنية للإشارة إلى وجود الأنبياء ، وبالأخصّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن بعض المفسّرين ذكروا لهذه الكلمة هنا معنى أوسع ، بحيث تشمل الأنبياء والكتب السماوية والحوادث الداعية إلى الانتباه كموت الأصدقاء والأقرباء ، والشيخوخة والعجز ، وكما يقول الشاعر :

رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير(١)

من الجدير بالملاحظة أيضا أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ هناك حدّا من العمر يعتبر إنذارا وتذكيرا للإنسان ، وذلك بتعبيرات مختلفة ، فمثلا

في حديث عن ابن عبّاس مرفوعا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه»(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة»(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤١٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٩٩

وعن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستّين؟ وهو العمر الذي قال الله :( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) (١) .

ولكن ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : إنّ الآية «توبيخ لابن ثماني عشرة سنة»(٢) .

طبعا ، من الممكن أن تكون الرواية الأخيرة إشارة إلى الحدّ الأقل ، والروايات السابقة إشارة إلى الحدّ الأعلى ، وعليه فلا منافاة بينها ، وحتّى أنّه يمكن انطباقها على سنين اخرى أيضا ـ حسب التفاوت لدى الأفراد ـ وعلى كلّ حال فإنّ الآية تبقى محتفظة بسعة مفهومها.

في الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ يرد الجواب على طلب الكفّار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

الجملة الاولى في الحقيقة دليل على الجملة الثانية ، أي إنّه كيف يمكن لعالم أسرار السموات والأرض وغيب عالم الوجود أن لا يكون عالما بأسرار القلوب؟!

نعم ، فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنّم ، وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٨) من سورة الأنعام :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

إضافة إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم ، وأن لا يأخذوا بنظر الإعتبار غير الله سبحانه وتعالى ، لأنّ أقلّ شائبة في نواياهم سيكون معلوما لديه وباعثا لمجازاتهم على قدر ذلك.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٥٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤١٠.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنَّما تُقبل شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله مِن هذا ومِن شيعته

عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً، وعنده نفر مِن أصحابه، فيهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ قال: (مَن قال لا إله إلاَّ الله دخل الجَنَّة).

فقال رجلان مِن أصحابه: فنحن نقول: لا إله إلاَّ الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنَّما تُقبل شهادة: أنْ لا إله إلاَّ الله مِن هذا ومِن شيعته الذين أخذ رَبُّنا ميثاقهم).

فقال الرجلان: فنحن نقول: لا إله إلاّ الله.

فوضع رسول الله يده على رأس عليٍّ (عليه السلام)، ثمَّ قال: (عَلامة ذلك أنْ لا تَحلاَّ عَقده ولا تجلسا مجلسه ولا تُكذِّبا حديثه) (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢١

مَن أحبَّ بقاء الظَّلمة فهو مِنهم وورد النار

عن صفوان بن مهران الجمَّال قال: دخلت على أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام)، فقال لي: (يا صفوان، كلُّ شيء مِنك حَسَن جميل، ما خلا واحد).

قلت: جُعلت فِداك! أيُّ شيء؟

قال: (إكراؤك جِمالك مِن هذا الرجل)، يعني: هارون.

قلت: والله ما أكريته أشرَاً ولا بطراً، ولا للصيد ولا للهو، ولكنْ أكريته لهذا الطريق، يعني: طريق مَكَّة، ولا أتولاَّه بنفسي، ولكنْ أبعث معه غُلماني.

فقال لي: (يا صفوان، أيقع في كراؤك عليهم؟).

قلت: نعم، جُعلِت فِداك.

قال لي: (أتُحبُّ بقاءهم حتَّى يخرج كِراؤك؟).

قلت: نعم.

قال: (مَن أحبَّ بقاءهم؛ فهو منهم، ومَن كان منهم ورد النار).

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.

فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني، فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جِمالك؟

قلت: نعم.

فقال: هيهات هيهات، إنِّي لأعلم مَن أشار عليك بهذا! أشار عليك بهذا موسى بن جعفر.

قلت: ما لي ولموسى بن جعفر.

فقال: دع هذا عنك، فو الله، لولا حُسن صُحبتك لقتلتك (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢٢

شيعتنا يُطهَّرون مِن ذنوبهم بالبلايا والرزايا

قال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاسأليها عنِّي أنا مِن شيعتكم؟

فسألتها، فقالت: (قولي: إنْ كنتَ تعمل بما أمرناك، وتُنهى عمَّا زجرناك فأنت مِن شيعتنا، وإلاَّ فلا).

فرجعت وأخبرته فقال: يا ويلا! ومَن ينفكُّ مِن الذنوب والخطايا، فأنا - إذاً - خالد في النار.

فرجعت المرأة، فقالت لفاطمة (عليه السلام) ما قال زوجها، فقالت فاطمة (عليها السلام): (قولي له ليس هكذا، إنَّ شيعنا مِن خيار أهل الجَنَّة، وكلُّ مُحبِّينا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا ليسوا مِن شيعتنا، وهم مع ذلك في الجَنَّة بعدما يُطهَّرون، ولكنْ إنَّما يُطهَّرون مِن ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو عَرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطَّبق الأعلى في جَهنَّم بعذابها، إلى أنْ نستنقذهم بحُبِّنا منهم، أو ننقلهم بحضرتنا) (١) .

____________________

(١) المعاد، ج٣.

١٢٣

لم يَنهَ عن تعذيب الديك فساخت به الأرض

كان شيخ ناسك يعبد الله في بني إسرائيل، فبينا هو يُصلِّي في عبادته، إذ بصر بغُلامين صَبيَّين، قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما هو فيه مِن العبادة، ولم ينههما عن ذلك، فأوحى الله تعالى إلى الأرض: أنْ سيخي بعبدي، فساخت به الأرض (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٤

مَن كان هواه معنا فقد شَهِدنا

لما أظفر الله تعالى عليَّاً (عليه السلام) بأصحاب الجَمل، قال له بعض أصحابه:

وددت لو أنَّ أخي فُلاناً كان شهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له (عليه السلام): (أهوى أخيك معنا؟).

قال: نعم.

قال: (فقد شَهِدنا، ولقد شَهِدنا في عسكرنا هذا أقوام، في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٥

اليد التي تُنفق على العيال بالكَدِّ لا تمسَّها النار

روى أنس بن مالك: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما أقبل مِن غزوة تبوك، استقبله سعد الأنصاري، فصافحه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ قال له: (ما هذا الذي أكنب يديك؟).

قال: يا رسول الله، اضرب بالمَرِّ والمسحاة فانفق على عيالي.

فقبَّل رسول (صلى الله عليه وآله) يده، وقال: (هذه يد لا تمسُّها النار) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٢٦

الطريق إلى جميع الكمالات الاستعانة بالحَقِّ على النفس

دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل اسمه مُجاشع، فقال: يا رسول الله، كيف الطريق إلى معرفة الحَقِّ؟

فقال: (معرفة النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى رضا الحَقِّ؟

قال: (سَخط النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى وصل الحَقِّ؟

قال: (هَجْر النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى طاعة الحَقِّ؟

قال: (عصيان النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذكر الحَقِّ؟

قال: (نسيان النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى قُرب الحَقِّ؟

قال: (التباعُد مِن النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى أُنس الحَقِّ؟

قال: (الوَحشة مِن النفس).

فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذلك؟

قال: (الاستعانة بالحَقِّ على النفس) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٧

انظر لنفسك.. ولا يُلهينَّك الأمل

قال البزنطي: بعث إليَّ الرضا (عليه السلام) فجئته إلى حَرباء، فمكثتها عامَّة الليل، ثمَّ أُوتيت بعِشاء، فلمَّا أصبحت مِن العِشاء قال: (ما تُريد، أتنام؟).

قلت: بلى، جُعِلت فِداك.

فطرح عليَّ المِلحفة والكِساء، ثمَّ قال: (بيَّتك الله في عافية)، وكنَّا على سَطحٍ، فلمَّا نزل مِن عندي قلتُ في نفسي: قد نِلتُ مِن هذا الرجل كرامة ما نالها أحدٌ قَطُّ.

فإذا هاتف يَهتف بي: يا أحمد، ولم أعرف الصوت، حتَّى جاءني مولىً له.

قال: فنظرت، فإذا هو مُقبل إليَّ، فقال: كفَّك. فنازلته كفِّي، فعصره، ثمَّ قال: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى صعصعة بن صوحان عائداً له، فلمَّا أراد أنْ يقوم مِن عنده قال: (يا صعصعة بن صوحان، لا تفتخر بعيادتي إيَّاك، وانظر لنفسك وكأنَّ الأمر قد وصل إليك ولا يُلهينَّك الأمل أستودعك الله) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٨

ليس لأحدٍ فضلٌٌ على أحدٍ إلاَّ بالتقوى

عن عقبة بن بشير الأسدي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أنا عقبة بن بشير الأسدي، أنا في الحسب الضَّخم مِن قومي.

قال: فقال: (ما تمنُّ علنيا بحَسَبك إنْ الله رفع بالإيمان مَن كان الناس يُسمُّونه وضيعاً إذا كان مؤمناً، ووضع بالكُفر مَن كان الناس يُسمُّونه شريفاً إذا كان كافراً، فليس لأحدٍ فضلٌ على أحدٍ إلاَّ بالتقوى) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٢٩

لا تغضب

قال الصادق (عليه السلام): (إنَّ رجلاً جاء إلى عيسى بن مريم، فقال: يا روح الله، إنِّي زنيت فطهِّرني، فأمر عيسى (عليه السلام) أنْ يُناد في الناس: لا يبقى أحد إلاَّ خرج بتطهير فُلان.

فلمَّا اجتمع واجتمعوا، وصار الرجل في الحُفرة نادى الرجل في الحُفرة: لا يَحدُّني مَن لله تعالى في جَنبه حَدٌّ، فانصرف الناس كلُّهم إلاَّ يحيى وعيسى (عليهما السلام)، فدنا منه يَحيى، فقال له: يا مُذنب، عِظني.

فقال: لا تخلينَّ بين نفسك وبين هواها فتردى.

قال: زِدني.

قال: لا تُعَيِّرنَّ خاطئاً بخطيئته.

قال: زِدني.

قال: لا تغضب.

قال: حَسْبي) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٠

كثرة الأكل تُعجِب الشيطان

قال يحيى (عليه السلام) (لإبليس): (فهل ظفرت بي ساعة قَطُّ؟).

قال: لا، ولكنْ فيك خِصلة تُعجبني.

قال يحيى: (فما هي؟).

قال: أنت رجل أكول، فإذا أكلت وبشمت، يمنعك ذلك مِن بعض صلاتك وصيامك بالليل.

قال يحيى (عليه السلام): (فإنِّي أُعطي الله عهداً، ألاَّ أشبع مِن الطعام حتَّى ألقاه).

قال له إبليس: وأنا أُعطي الله عهداً، ألاَّ أنصح مسلماً حتَّى ألقاه (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣١

أين شُكره على ما أنعم؟

عن الزهري قال: دخلت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) على عبد الملك بن مروان، قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى مِن أثر السجود بين عينَيْ علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقال: يا أبا محمد، لقد بان عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك مِن الله الحُسنى، وأنت بضِعةٌ مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قريب النسب، وَكْيد السبب، وإنَّك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك، ولقد أوتيت مِن الفضل والعلم، والدين والورع، ما لم يؤتَه أحدٌ مِثلك ولا قبلك، إلاَّ مَن مضى مِن سلفك، وأقبل يُثني عليه ويُطريه.

قال: فقال علي بن الحسين (عليه السلام): (كلُّ ما ذكرته ووصفته مِن فضل الله سبحانه، وتأييده، وتوفيقه، فأين شُكره على ما أنعم؟!) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٢

يا رَبِّ حَقِّي قد وهبته وأنت أجود مِنِّي

أتى رجل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إنَّ فلاناً ابن عَمِّك ذكرك فما ترك شيئاً مِن الوقيعة إلاَّ قاله فيك.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للجارية: (ايتيني بوضوء، فتوضَّأ ودخل).

فقلت في نفسي: يدعو عليه.

فصلَّى رَكعتيين، فقال: (يا رَبِّ، حَقِّي قد وهبته، وأنت أجود مِنِّي وأكرم، فهبه لي، ولا تؤاخذه لي ولا تقايسه).

ثمَّ رَقَّ، فلم يزل يدعو، فجعلت أتعجَّب (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٣

مَن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعاً

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وِجِد في خَربة، وبيده سِكِّين مُلطَّخ بالدَّم، وإذا رجل مذبوح يتشحَّط في دَمِه.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما تقول؟).

قال: يا أمير المؤمنين، أنا قتلته.

قال: (اذهبوا به).

فلمَّا ذهبوا به أقبل رجل مُسرِع، فقال: لا تعجلوا، وردُّوه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فردُّوه.

فقال: والله - يا أمير المؤمنين - ما هذا صاحبه، أنا قتلته.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للأوَّل: (ما حَمَلك على إقرارك على نفسك ولم تفعل؟).

فقال: يا أمير المؤمنين، وما كنت أستطيع أنْ أقول، وقد شَهِد عليَّ أمثال هؤلاء الرجال، وأخذوني وبيدي سِكِّين مُلطَّخ بالدَّم، والرجل يتشحَّط في دَمِه، وأنا قائم عليه، وخِفت الضرب فأقررت، وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخَربة شاة، وأخذني البول؛ فدخلت الخربة؛ فرأيت الرجل يتشحَّط في دَمِه، فقُمت مُتعجِّباً، فدخل عليَّ هؤلاء فأخذوني.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (خذوا هذين، فاذهبوا بهما إلى الحسن، وقصُّوا عليه قِصَّتهما، وقولوا له: ما الحُكم فيهما؟).

فذهبوا إلى الحسن (عليه السلام)، فقصُّوا عليه قِصَّتهم، فقال الحسن (عليه السلام): (قولوا لأمير المؤمنين (عليه السلام): إنْ هذا كان ذبح ذاك فقد أحيا هذا، وقد قال الله تعالى عَزَّ وجَلَّ: ( ... وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً... ) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٤

المال يَفنى والبدن يَبلى والعمل يبقى

قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا عمار، أنت رَبُّ مالٍ كثير؟).

قال: نعم، جُعلِت فِداك.

قال: (فتؤدِّي ما افترض الله عليك مِن الزكاة؟).

قال: نعم.

قال: (فتُخرِج المعلوم مِن مالك؟).

قال: نعم.

قال: (فتَصلْ قرابتك؟).

قال: نعم.

قال: (فتَصلْ إخوانك؟).

قال: نعم.

فقال: (يا عمار، إنَّ المال يفنى، والبدن يبلى، والعمل يبقى، والدَّيَّان حيُّ لا يموت. يا عمار، إنَّه ما قَدَّمت فلن يسبقك، وما أخَّرت فلن يَلحقك) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٥

ربَّما سمعت مِن يَشتم عليٍّ...

فأمرُّ به فأُسلِّم عليه وأُصافحه

عن ابن مسكان قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إنِّي لأحَسبك إذا شُتِمَ عليٌّ (عليه السلام) بين يديك، لو تستطيع أنْ تأكل أنف شاتمه لفعلت!).

فقلت: إيْ والله - جُعِلت فِداك - إنِّي لهكذا وأهل بيتي.

فقال لي: (فلا تفعل، فوالله، لرُبَّما سمعت مَن يَشتم عليَّاً، وما بيني وبينه إلاَّ اسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت مِن صلاتي فأمرُّ به فأُسلِّم عليه وأُصافحه) (١) .

____________________

(١) شرح مَكارم الأخلاق، ج١.

١٣٦

مروءة أهل بيت النبوَّة

عمرو بن علي (عليه السلام)، قال: كان هشام بن إسماعيل يُسيء جواري، وقد لقي منه علي بن الحسين (عليهما السلام) أذىً شديد، فلمَّا عُزِل أمر به الوليد أنْ يوقَف للناس.

قال: فمَرَّ به علي بن الحسين (عليهما السلام)، وقد أوقِف عند آل مروان، قال: فسلَّم عليه.

قال: وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) قد تقدَّم إلى خاصَّته أنْ لا يتعرَّض له أحد (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٧

الصبر على سوء خُلق الجار يورِث الفَرَج

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فشكا إليه أذى جاره، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اصبِر.

ثمَّ أتاه ثانية، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اصبر.

ثمَّ عاد إليه فشكاه ثالثة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) - للرجل الذي شكا ـ: إذا كان عند رواح الناس إلى الجمعة، فأخِّر مَتاعك إلى الطريق يراه مَن يروح إلى الجمعة، فإذا سألوك فأخبرهم.

قال: ففَعَل.

فأتاه جاره المؤذي له فقال: رُدَّ متاعك ولك الله عليَّ أنْ لا أعود (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٨

الحرب خديعة

في غزوة الأحزاب جرى بين عليٍّ (عليه السلام) وعمرو بن وِدِّ كلام فقال علي: يا عمرو، أما كفاك أنِّي بارزتك وأنت فارس العرب حتَّى استعنت عليَّ بظهير؟!

فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) مُسرعاً على ساقيه فأطنَّهما جميعاً، وأقبل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تسيل الدماء على رأسه مِن ضربة عمرو وسيفه يقطر منه الدم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي، ما كَرْتَه؟!).

قال: نعم يا رسول الله، الحرب خديعة (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٣٩

ولا تَهِنوا في ابتغاء القوم

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا رَجِع مِن وقعة أحد ودخل المدينة، نزل عليه جبرائيل فقال: (يا محمد، إنَّ الله يأمرك أنْ تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلاّ مَن به جِراحة).

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُنادياً يُنادي: يا معشر المُهاجرين والأنصار، مَن كانت به جِراحة فليخرُج، ومَن لم يكن به جِراحة فليُقِم.

فأقبلوا يُضمِّدون جِراحاتهم ويُداوونها، فأنزل الله على نبيِّه (صلى الله عليه وآله): ( وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ... ) (النساء: ١٠٤) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421