القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359627 / تحميل: 10434
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القَصص التربويَّة

عند الشيخ محمَّد تقي فلسفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢

القَصَص التربويَّة

عند الشيخ محمد تقي فلسفي

لطيف الراشدي

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مُقدِّمة

الحمد لله الواحد المنَّان، الذي خلق الإنسان، وعلَّمه البيان ووضع الميزان، والصلاة الأبد، والسلام السرمد على مَن بُعث إلى الخلائق بالقرآن، وعلى آله الأطهرين، الذين هم أمناء الرحمان.

أمَّا بعد:

فلا يخفى على أحد، أنَّ التربية جزء لا يتجزَّأ مِن الحياة الإنسانيَّة، وقد مَنَّ الله تعالى على عباده؛ إذ بعث فيهم رسولاً، يتلو عليهم آياته، ويُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحِكمة.

ولا ريب، بأنَّ الله تعالى أنزل القرآن هُدىً للمُتَّقين، الذين يؤمنون بالغيب و...

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآن مهجوراً...)، وفي كلام آخر قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِترتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلوا...).

والتربية للإنسان، هي الهداية والنجاة مِن الضلالة. وغنيٌّ عن البيان، بأنَّ التربية الإسلاميَّة، هي الطريق والسبيل الوحيد للنجاة مِن الضلالة؛ فيجب على مَن يطلب السعادة في الدارين، أنْ يتمسَّك بالتربية والشريعة الإسلاميَّة.

فنجد في هذه الشريعة المُقدَّسة رجالاً، يتمثَّلون تعاليم هذه الشريعة المُقدَّسة، قد أدَّبهم الله فأحسن تأديبهم، والتزموا هذا الأدب والتربية الإلهيَّة.

٥

وعلى الذين يرغبون في الحياة النبيلة، والعَيش الهنيء أنْ يتَّبعوا خُطاهم وحياتهم السامية. وها نحن نَقصُّ حياتهم وسيرتهم، تحت عنوان (القَصص التربويَّة) ، آملين تطبيقها في حياتنا؛ لكي نفوز بالدارين... والله عنده حسن المآب...

دعواهم فيها سبحانك اللَّهمَّ وتحيَّتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أنْ الحمد لله رَبِّ العالمين.

العبد

لطيف محمد علي مُطوَّف الراشدي

٦

لا إفراط ولا تفريط

كان في مدينة البصرة أخوان أحدهما يُدعى: العلاء بن زياد الحارثي، والآخر: عاصم. وكانا كلاهما مِن المُخلصين لعليٍّ (عليه السلام)، ولكنْ كانا مُختلفيَن في السُّلوك، فعلاء مُفرِط في حُبِّه للدنيا وجمعه للمال... أمَّا عاصم، فكان على العَكس منه مُدْبِراً ظهره للدنيا، صارفاً جُلَّ وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحيَّة، وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوز الطريق المُستقيم، وانحرف عن الصراط السويِّ...

وذات يوم مَرِض العلاء، فذهب علي (عليه السلام) لعيادته، وما أنْ استقرَّ به الجلوس، حتَّى التفت الإمام إلى سِعة عَيشه، وإفراطه في سَعيه وراء الدنيا؛ فخاطبه قائلاً: (وماذا تصنع - يا علاء - بهذه السِّعة المُفرِطة مِن العَيش؟ إنَّك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنويَّة أحوج، فاسعِ في ذلك الجانب أيضاً...)، ثمَّ قال (عليه السلام): (اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تكن عملتَ ذلك كلَّه؛ لتمهيد طريق السعادة المعنويَّة؛ لتتمكَّن مِن استقبال الضيوف في بيتك، وتستطيع صِلة أرحامك، وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه) (١) .

لقد أثَّر هذا الدرس البليغ، بأسلوبه الهادئ المَتين في علاء كثيراً، وجاشت به العواطف للشكوى مِن تفريط أخيه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك عاصم بن زياد.

قال: (وما له؟).

قال: لبس العَباء، وتخلَّى عن الدنيا.

قال: (عليَّ به!).

وبعد أنْ حضر عاصم بين يدي الإمام، وبَّخَه الإمام قائلاً: (يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيثُ! أما رحمتَ أهلك ووِلدَك؟! أترى الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخُذها؟! أنت أهون على الله مِن ذلك...).

____________________

(١) مُلاحظة: لمعرفة نصِّ الكلام راجع نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) جمعه الشريف الرضيِّ.

٧

مِن خِلال هذه القِصَّة التاريخيَّة؛ يتَّضح لنا مدى استقامة المنهج الإسلامي، الذي نطق به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يُعبِّر عن تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم الله عَزَّ وجَلَّ...

لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مُشكلةٌ لم يجد لها حَلاً، وهي كيفيَّة التوفيق بين كلام الإمام (عليه السلام) وعمله؛ حيث قد زهد في الدنيا، وترك الملاذَّ.

فاندفع لسؤاله، وما أسرع أنْ قال:

(... يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة مَلبسك وجُشوبة مأكلك؟!).

فقال الأمير: (إنِّي لستُ كأنت... إنَّ الله فرض على أئمَّة الحَقِّ أنْ يُقدِّروا أنفسهم بضَعَفَة الناس؛ كي لا يتبيَّغ بالفقيرة فقره...) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٨

الخال أحد الضجيعين

كان محمد بن الحنفية بن الإمام علي (عليه السلام)، حامل اللواء في حرب الجَمل، فأمره عليٌّ بالهجوم فأجهز على العدوِّ، لكنَّ ضربات الأسنَّة، ورشقات السِّهام منعته مِن التقدُّم فتوقَّف قليلاً... وسرعان ما وصل إليه الإمام، وقال له: (احمل بين الأسنَّة)؛ فتقدَّم قليلاً ثمَّ توقَّف ثانية، فتأثَّر الإمام مِن ضُعف ابنه، فاقترب منه، و(... ضربه بقائم سيفه، وقال له: (أدركك عِرقٌ مِن أُمِّك).

مِن الواضح هنا، أنَّ الجُبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد، ليس موروثاً منه (عليه السلام)؛ لأنَّه لم يَعرف للجُبن مَعنى قَطّ، فلا بُدَّ وأنْ يكون مِن أُمِّه؛ لأنَّها لم تكن مِن الفضيلة بدرجة، تكون معها بمنزلة الصِّدِّيقة الزهراء (عليها السلام) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٩

كلُّ إنسان بينه وبين آدم صِلة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أتى رجُلٌ مِن الأنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: هذه ابنة عَمِّي وامرأتي، لا أعلم منها إلاَّ خيراً، وقد أتتني بولدٍ شديد السواد، مُنتشِر المِنخر، جَعْدٌ، قَطَطٌ، أفطس الأنف، لا أعرف شَبَهه في أخوالي ولا في أجدادي.

فقال لامرأته: ما تقولين؟

قالت: لا والذي بعثك بالحق نبيَّاً، ما أقعدت مقعده مِنِّي - مُنذ ملكني - أحداً غيره)

قال: (فأطرق رسول الله رأسه مَليَّاً، ثمَّ رفع بصره إلى السماء، ثمَّ أقبل على الرجل، فقال: يا هذا، إنَّه ليس مِن أحد إلاَّ بينه وبين آدم تسعة وتسعون عِرقاً، كلُّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العُروق، وسألتْ الله الشَّبَه لها، فهذا مِن تلك العُروق التي لم تُدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك، خذ إليك ابنك!).

فقالت المرأة: فرَّجت عنِّي يا رسول الله (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٠

صِفات الابن مِن الأب أو الأُمِّ

عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: (أقبل رجل مِن الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله، هذه بنت عمي وأنا فلان بن فلان.. حتَّى عَدَّ عشرة مِن آبائه، وهي بنت فُلان... حتَّى عَدَّ عشرةً مِن آبائها، ليس في حَسبي ولا حَسبها حَبشيٌّ، وإنَّها وضعت هذا الحبشيَّ، فأطرق رسول الله طويلاً، ثمَّ رفع رأسه، فقال: إنَّ لك تسعة وتسعين عِرقاً، ولها تسعة وتسعين عِرقاً، فإذا اشتملت اضطربت العُروق وسأل الله عَزَّ وجَلَّ كلَّ عِرقٍ منها أنْ يذهب الشَبَه إليه. قُمْ، فإنَّه وَلَدُك، ولم يأتك إلاَّ مِن عِرقٍ منك أو عِرقٍ منها.

قال: فقام الرجل، وأخذ بيد امرأته وازداد بها وبولدها عجباً) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١١

الاستعمال يكون بعد التجربة

سأل المأمون العباسي بعض خواصِّه ومَحارمه يوماً، سبب ما يُلاقيه مِن: جَفاء، وخيانة، وقِلَّة إنصاف مِن بعض أصحابه وأقاربه، الذين كان قد قلَّدهم مناصب عاليةً، ورُتباً مُهمَّة في الدولة، في حين أنَّ المفروض أنْ يُقابلوا إحسانه بالإحسان لا الإساءة.

فقال له أحدهم: إنَّ المَعنيِّين بأمر الحَمْام الزاجل، والمُهتمِّين بتربيته، يتحقَّقون عن أصله وفَصيله الذي ينتمي إليه، وعندما يطمئنُّون إلى عَراقة نسبه يهتمُّون بتربيته كثيراً، ويَجنون مِن ذلك فوائد كثيرة... وأنت يا أمير المؤمنين، تأخذ أقواماً مِن غير أُصول ولا تدريج، فتبلغ بهم الغايات، فلا يكون منهم ما تؤثِره.

فمِن الطبيعي أنْ لا يكون مَن يتمُّ اختيارهم لأشغال ومناصب، دون امتحان ولا نظر في أصولهم وأحسابهم وأنسابهم على حالة غير مرضيَّة مِن حيث الإخلاص والأمانة والوفاء...

إنَّ الإسلام يرى في سُلوك الآباء والأُمَّهات، تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم، الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة؛ ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة؛ حيث يقول - بعد أنْ يئس مِن هداية قومه، طِيلة تسعمئة وخمسين عام (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٢

الجُملة العصبيَّة هي الأساس

جاءت امرأة في زمن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولدت مِن زوجها طفلاً له بدنان ورأسان على حُقوٍ واحدٍ، وتحيَّرت هي وقومها في حِصَّته مِن الإرث، هل يُعطى حِصَّة واحدة أم حِصَّتين؟

فصاروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسألونه عن ذلك؛ ليعرفوا الحكم فيه، فكان جواب الإمام (عليه السلام): (اعتبروا إذا نام ثمَّ نبِّهوا أحد البدنين والرأسين، فإنْ انتبها معاً، في حالة واحدة؛ فهُما إنسان واحد، وإنْ استيقظ أحدهما والآخر نائم؛ فهُما اثنان وحَقُّهما مِن الميراث حَقُّ اثنين).

والسِّرُّ في هذا القضاء العادل، والحكم الدقيق واضح؛ لأنَّه اعتبر مِلاك الحُكم هو المركز العَصَبي؛ إذ عليه المُعوَّل في توجيه الإنسان، فإنْ كانت قيادة واحدة توجِّه البدنين والرأسين؛ فهو شخصٌ واحدٌ، ولكنْ إذا كان كلُّ قسم يُدار مِن قِبَل جهازٍ عصبيٍّ مُستقلٍّ عن الآخر، فهما بدنان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٣

الفَرق بين قضاء الله وقَدَره

عن ابن نُباتة، قال: إنَّ أمير المؤمنين عدل مِن عند حائط مائل إلى حائط آخر.

فقيل له: يا أمير المؤمنين، تَفرُّ مِن قضاء الله؟!

قال: (أفرُّ مِن قضاء الله إلى قَدَر الله عَزَّ وجَلَّ) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٤

بأبي وأُمِّي مَن لم ينخل له طعام

يقول سويد بن غفلة: دخلت على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً، وقد حان وقت طعامه، فرأيته جالساً على جانب مائدة، وفي يده رغيف أرى قِشار الشعير في وجهه، فذهبت إلى خادمته، وقلت لها:

يا فضة، ألا تتَّقين الله في هذا الشيخ؟! ألا تنخلون له طعاماً مِمَّا أرى فيه مِن النِّخالة؟!

فقالت: قد تقدَّم إلينا أنْ لا ننخل له طعاماً...

فرجع سويد إلى الإمام ثانية، وذكر قِصَّته مع فِضَّة، فتبيَّن أنَّ الإمام (عليه السلام) قد أخذ هذا الأُسلوب مِن النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)... ثمَّ ذكر عظمة النبي قائلاً: (بأبي وأُمِّي، مَن لم يُنخل له طعامٌ) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٥

عن مِثل هذا الرجُل أخبرتك

بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته، إذ وقف على نَشزٍ مِن الأرض مُرتفعٍ، فرأى جيوش المسلمين مِن بين يديه، ومِن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله قد ملؤوا السهل والجَبل، فالتفت إلى مُقدَّم العسكر وهو رجل يُعرَف بابن المضجعي.

فقال له: كيف ترى هذا العسكر أيُّها الوزير؟

قال: أرى جمعاً كثيراً، وجيشاً واسعاً كبيراً.

فقال له المنصور: تُرى، هل يكون في هذا الجيش ألف مُقاتل مِن أهل الشجاعة والنجدة والبَسالة؟

فسكت ابن المَضجعي.

فقال له المنصور: ما سكوتك؟! أليس في هذا الجيش ألف مُقاتل؟!

قال: لا.

فتعجَّب المنصور، ثمَّ قال: فهل فيهم خمسمئة مُقاتل مِن الأبطال المَعدودين؟

قال: لا.

فحَنَق المنصور، ثمَّ قال: أفيهم مِئة رجل من الأبطال؟

قال: لا.

قال: أفيهم خمسون رجُلاً مِن الأبطال؟

قال: لا.

فسبَّه المنصور، وأغلظ عليه وأمر به، فأُخرِج على أسوأ حالٍ، فلمَّا توسطَّوا بلاد الورم، اجتمعت الروم وتصادف الجَمعان، فبرز عِلْجٌ مِن الروم بين الصَّفَّين شاكي السلاح، وجعل يكرُّ ويفرُّ ويقول: هل مِن مُبارز؟!

فبرز إليه رجل مِن المسلمين فتجاولا ساعة، فقتله العِلْجُ؛ ففرِح المُشركون وصاحوا، واضطرب المسلمون له. ثمَّ جعل العِلْج يموج بين الصَّفَّين ويُنادي: هل مِن مُبارز؟! اثنين لواحد

فبرز إليه

١٦

رجل مِن المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العِلْج، وجعل يكرُّ ويحمل ويُنادي ويقول: هل مِن مُبارز؟! ثلاثة لواحد!!

فبرز إليه رجل مِن المسلمين فقتله العِلْج، فصاح المُشركون وذَلَّ المسلمون، وكادت أنْ تكون كَسرة.

فقيل للمنصور: ما لها إلاَّ ابن المضجعي، فبعث إليه، فحضر، فقال له المنصور: ألا ترى ما صنع هذا العِلْج... منذ هذا اليوم.

فقال: لقد رأيته، فما الذي تُريد؟

قال: أنْ تكفي المسلمين شَرَّه.

قال: الآن يُكفى المسلمون شَرَّه، إنْ شاء الله تعالى.

ثمَّ قصد إلى رجال يعرفهم، فاستقبله رجل مِن أهل الثغور، على فرس قد تَهرَّت أوراكها هَزالاً، وهو حامل قِربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في حليته ونفسه غير مُتصنِّع.

فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العِلْج مُنذ اليوم؟!

قال: قد رأيته، فما الذي تُريد؟

... أنْ تكفي المسلمين شَرَّه؟

قال: حُبَّاً وكَرامة.

ثمَّ إنَّه وضع القِربة على الأرض، وبرز إليه غير مُكترث به، فتجاولا ساعة، فلم يرَ الناس إلاَّ والمسلم خارجاً إليهم يركض، ولا يدرون ما هناك، وإذا برأس العِلْج يلعب بها في يده، ثمَّ ألقى الرأس بين يدي المنصور.

فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء الرجال أخبرتك... ثم رد المنصور إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمه، ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحِّدين (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٧

الذاكرة الخارقة

أبو زكريَّا التبريزي، تلميذ أبي العلاء المَعرِّي، وقد تَلمذ على يده سنوات عديدة، ولمَّا كان أبو العلاء مكفوف البصر، فقد كان لا يستطيع القراءة. وفي أحد الأيَّام كان أبو زكريَّا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المَعرَّة. وفي الأثناء حضر مُسافر مِن تبريز إلى الجامع ليُصلِّي، فسَرَّ أبو زكريَّا لرؤيته كثيراً، وتوقَّف عن قراءة الكتاب عِدَّة لحظات، فسأله الأستاذ عن السبب، فأخبره بمجيء صاحبه، فأمره أبو العلاء بأنْ يذهب إليه ويتحدَّث معه.

فقال له: أمهلني أكمل الصفحة.

قال: لا، وسأنتظرك حتَّى تُنهي حديثك.

فجلس أبو زكريَّا مع صاحبه، على بُعْد خَطوات مِن أبي العلاء، وأخذ يتحدَّث معه باللغة التركيَّة المحلِّيَّة في تبريز، ويسأله عن بعض القضايا فيُجيبه، وعندما رجع إلى أستاذه سأله: أيَّ لغة هذه؟

قال: لغة آذربايجان!

فقال: إنِّي لم أفهم ما جرى بينكما مِن حديث، ولكنِّي حفظت ما قلتماه، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نُقصان، فتعجَّب صاحب أبي زكريَّا مِن حافظة أُستاذه بشِدَّة، وكيف أنَّه حَفِظ تلك الألفاظ بسُرعة، دون أنْ يفهم معانيها (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٨

واعمراه لولا عليٌّ لهَلك عمر

قال: سمعت غلاماً بالمدينة، وهو يقول: يا أحكم الحاكمين، أُحكم بيني وبين أُمِّي! فقال له عمر بن الخطاب: يا غلام، لمَ تَدْعُو على أُمِّك؟!

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّها حملتني في بطنها تسعاً، وأرضعتني حولين كاملين، فلمَّا ترعرعتُ وعرفت الخير مِن الشَّرِّ ويميني مِن شِمالي طردتني، وانتفت مِنِّي، وزعمت أنَّها لا تعرفني.

فقال عمر: أين تكون الوالدة؟

قال: في سقيفة بني فلان.

فقال عمر: عليَّ بأُمِّ الغُلام. فأتوا بها مع أربعة أخوة لها، وأربعين قَسَّامة يشهدون لها أنَّها لا تعرف الصبي، وأنَّ هذا الغُلام مدَّعٍ ظالم، يُريد أنْ يفضحها في عشيرتها، وأنَّ هذه جارية مِن قريش لم تتزوَّج قطُّ؛ لأنَّها بخِتام ربِّها.

فقال عمر: يا غُلام، ما تقول؟

فقال: يا أمير المؤمنين، هذه - والله - أُمِّي! حملتني في بطنها تسعاً، وأرضعتني حولين كاملين، فلمَّا ترعرعت وعرفتُ الخير والشَّرَّ، ويميني مِن شمالي طردتني، وانتفت مِنِّي، وزعمتْ أنَّها لا تعرفني!

فقال عمر: يا هذه، ما يقول الغُلام؟

فقالت: يا أمير المؤمنين، والذي احتجب بالنور، فلا عين تراه، وحَقِّ محمد وما ولد، ما أعرفه ولا أدري مِن أيِّ الناس هو! وإنَّه غلام يُريد أنْ يفضحني في عشيرتي، وأنا جارية مِن قريش، ولم أتزوَّج قطُّ، وإني بخاتم ربِّي.

فقال عمر: ألكِ شهودٌ؟

١٩

فقالت: نعم هؤلاء، فتقدَّم الأربعون قَسامة، وشهدوا عند عمر أنَّ الغُلام مُدَّعٍ، يُريد أنْ يفضحها في عشيرتها، وأنْ هذه جارية مِن قريش لم تتزوَّج قَطُّ، وأنَّها بخاتم رَبِّه.

فقال عمر: خذوا بيد الغُلام وانطلقوا به إلى السِّجن، حتَّى نسأل عن الشهود، فإنْ عَدْلت شهادتهم جَلدته حُدَّ المُفتري. فأخذوا بيد الغُلام، وانطلقوا به إلى السِّجن، فتلقَّاهم أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) في بعض الطُّرق، فنادى الغُلام: يا ابن عَمِّ رسول الله، إنِّي غُلام مظلوم، وأعاد عليه الكلام الذي تكلَّم به عند عمر، ثمَّ قال: وهذا عمر قد أمر بي إلى السِّجن.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (ردُّوه إلى عمر).

فلمَّا ردُّوه قال لهم عمر: أمرت به إلى السِّجن فرددتموه إليَّ!

فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمرنا عليُّ بن أبي طالب أنْ نرُدَّه إليك، وسمعناك تقول: لا تعصوا لعليٍّ أمراً.

فبينا هم كذلك، إذ أقبل عليٌّ (عليه السلام)، فقال: (عليَّ، بأمِّ الغُلام)، فأتوا بها.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (يا غُلام، ما تقول؟).

فأعاد الكلام على عليٍّ (عليه السلام).

فقال علي لعمر: (أتأذن لي أنْ أقضي بينهم؟).

فقال عمر: سبحان الله، وكيف لا، وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أعدلكم عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).

ثمَّ قال للمرأة: (يا هذه المرأة، ألك شهود؟).

قالت: نعم، فتقدَّم الأربعون قَسَّامة، فشهدوا بالشهادة الأُولى.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (لأقضينَّ اليوم بينكم بقضيَّة، هي مرضاة الرَّبِّ مِن فوق عرشه، علمنيها حبيبي رسول الله).

فقال لها: (ألك وليٌّ؟).

قالت: نعم، هؤلاء إخوتي.

٢٠

* المرأة كاملة لا نقص فيها:

3 - ما يَظهر من بعض الفوارق الجزئيّة بين الرجل والمرأة في الخِلْقَة والإحساسات لا يكون نقصاً في أحدهما، بل إنّ مَثَل المرأة والرجل مثل السيّارة الصغيرة المُعَدَّة لحمل المسافرين، والسيّارة الكبيرة المُعَدّة لحمل الحديد والأحجار - إنْ صحّ التعبير - فقد جُعِلَتْ كلّ واحدة منهما لشأن، فلا نقص في أحدهما، وإنّما اختلافهما هو لمصلحة.

فإنّ المرأة خُلِقَتْ عاطفيّة أكثر من الرجل؛ لدورها في تربية الأطفال، والرجل خُلق عقلانيّاً أكثر؛ وذلك لاحتياج المجتمع إلى كلا الأمرين، فَجَعْل التساوي المطلق بينهما خلاف تركيب خلقهما.

فلو أُلقي عمل الرجل على المرأة أو عمل المرأة على الرجل كان ذلك كما إذا حملتْ السيّارةُ الصغيرة الحديدَ والحجارة، أو حملتْ السيارةُ الكبيرة الركابَ، ففي الأوّل عطب السيّارة، وفي الثاني عطب المسافرين.

٢١

* مشروع الزواج:

4 - ينبغي أنْ يكون في كلّ بلد (صندوق الزواج) ليُعين على تزويج العزّاب والعازبات، ومساعدتهم في تكوين عشّ الزوجيّة، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (1) .

ونرى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يهتمّ لتزويج مَن لم يكن متزوّجاً.. وكذلك الإمام أمير المؤمنين، وسائر الأئمّة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فقد روي عن الصادق (عليه السلام): (أنّ رسول الله زوّج المقداد بن الأسود ضِبَاعة ابنة الزبير بن عبد المطّلب، وإنّما زوّجه لتتّضع المناكح، وليتأسّوا برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليعلموا أنّ أكرمهم عند الله أتقاهم) (2) .

كما أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتزويج جويبر في قصّة مفصّلة (3) .

____________________

1 - سورة المائدة: آية: 2.

2 - بحار الأنوار: ج22، ص437، ب13، ح2.

3 - راجع بحار الأنوار: ج22، ص117، ب37، ح89، وفيه: عن محمّد بن يحيى، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي حمزة الثمالي قال:

كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأَذِنَ له، فدخل عليه فسلّم، فرحّب به أبو جعفر (ع) وأدناه وساءله، فقال الرجل:

جُعِلتُ فداك إنّي خطبتُ إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردني ورغب عنّي وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة، هجمة عض لها قلبي تمنّيت عندها الموت.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): (اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): زوّج منحج ابن رياح مولاي ابنتك فلانة ولا تردّه).

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر (عليه السلام)، فلمّا أنْ توارى الرجل قال أبو جعفر: ( ‎ إنّ رجلاً كان من أهل اليمامة يُقال له: جويبر أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قِبَاح السودان، فضمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأوّل، وكساه شملتين، وأمره أنْ يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء الله حتّى كثر الغرباء ممّن يدخل في الإسلام من أهل =

٢٢

____________________

= الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد، فأوحى الله عزّ وجل إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنْ طهّر مسجدك، وأخرج من المسجد مَن يرقد فيه بالليل، ومُرْ بسدّ أبواب كلّ مَن كان له في مسجدك باب إلاّ باب علي ومسكن فاطمة (عليها السلام)، ولا يمرّنَّ فيه جُنُب، ولا يرقد فيه غريب).

قال: فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسدّ أبوابهم إلاّ باب علي (عليه السلام)، وأقرّ مسكن فاطمة (صلّى الله عليها) على حاله.

قال: ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر أنْ يتّخذ للمسلمين سقيفة، فعُمِلَتْ لهم وهي الصفة، ثمّ أمر الغرباء والمساكين أنْ يظلّوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتعاهدهم بالبُرّ والتمر والشعير والزبيب، إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقونهم لرقّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإنّ رسول الله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمةٍ منه له ورقّة عليه، فقال: (يا جويبر، لو تزوّجتَ امرأة فعفّفتَ بها فرجَك وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، مَن يرغب فيّ؟ فو الله ما مِن حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا جويبر، إنّ الله قد وضع بالإسلام مَن كان في الجاهليّة شريفاً، وشرف بالإسلام مَن كان في الجاهليّة وضيعاً، وأعزّ بالإسلام مَن كان في الجاهليّة ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان مِن نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلّهم: أبيضهم وأسودهم، وقُرَشِيِّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإنّ آدم خلقه الله من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى الله عزّ وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لِمَنْ كان أتقى لله منك وأطوع.

ثمّ قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنّه مِن أشرف بني بياضة حَسَبَاً فيهم، فقل له: إنّي رسول رسول الله إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن، فأُعلم، فأُذن له وسلّم عليه، ثمّ قال: يا زياد بن لبيد: إنّي رسول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليك، في حاجة فأبوح بها، أمْ أسرّها إليك؟ =

٢٣

____________________

=

فقال له زياد: بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

فقال له زياد: أَ رسول الله أرسلك إليّ بهذا يا جويبر؟

فقال له: نعم، ما كنتُ لأكذب على رسول الله (ص)؟

فقال له زياد: إنا لا نزوّج فَتَيَاتِنَا إلاّ أكفّاءنا مِن الأنصار، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأُخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا أُنزل القرآن، ولا بهذا ظهرتْ نبوّة محمّد ‎ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلتْ إلى أبيها: ادخل إليّ، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعتُه منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسله، وقال: يقول لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء.

فقالت له: والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله (ص) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يردّ عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك، اطمئن حتّى أعود إليك، ثمّ انطلق زياد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له بأبي أنت وأمّي إنّ جويبراً أتاني برسالتك، وقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: زوّج جويبراً ابنتك

الدلفاء، فلم أَلِنْ له في القول، ورأيتُ لقاءك، ونحن لا نزوّج إلاّ أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ للمسلمة، فزوّجه يا زياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فقالتْ له: إنّك إنْ عصيتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كفرتَ، فزوّج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثمّ أخرجه إلى قومه، فزوّجه على سُنّة الله وسُنَّة رسوله، وضمن صداقها.

قال: فجهَّزها زياد وهيّأها ثمّ أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: والله مالي من منزل.

قال: فهيَّئوها وهيّئوا لها منزلاً وهيّئوا فيه فراشاً ومتاعاً وكسوا جويبراً ثوبّين، وأُدْخِلَتْ الدلفاء في بيتها وأُدخل جويبر عليها معتماً، فلمّا رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيّبة، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى طلع الفجر، فلمّا سمع النداء خرج وخرجتْ زوجته إلى الصلاة فتوضّأت وصلّتْ الصبح، فسُئلت: هل مَسَّكِ؟ =

٢٤

____________________

=

فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج.

فلمّا كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأَخْفَوا ذلك من زياد، فلمّا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأُخْبِرَ بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له: بابي أنت وأمّي يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَمَرْتَنِي بتزويج جويبر، ولا والله ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبتْ عليّ تزويجه.

فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنّا هيّأنا له بيتاً ومتاعاً، وأُدْخِلَتْ ابنتي البيت وأُدخل معها معتماً، فما كلّمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج، ثمّ فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الليلة الثالثة، ولم يَدْنُ منها ولم يكلّمها إلى أنْ جِئْتُكَ، وما نراه يريد النساء، فانْظُر في أمرنا؟

فانصرف زياد، وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جويبر، فقال له: أَمَا تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أو ما أنا بفحل؟! بلى يا رسول الله إنّي لَشَبِق نَهِم إلى النساء.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قد خبّرت بخلاف ما وصفتَ به نفسك، قد ذكروا لي أنّهم هيّؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأُدخلتْ عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتماً فلم تنظر إليها ولم تكلّمها ولم تَدْنُ منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول الله دخلتُ بيتاً واسعاً، ورأيتُ فراشاً ومتاعاً وفتاةً حسناء عطرة، وذكرتُ حالي التي كنتُ عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتي وكينونتي مع الغرباء والمساكين، فأحببتُ إذْ أَوْلاَنِي الله ذلك أنْ أشكره على ما أعطاني، وأتقرّب إليه بحقيقة الشكر، فنهضتُ إلى جانب البيت، فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر الله حتّى سمعتُ النداء فخرجتُ، فلمّا أصبحتُ رأيتُ أنْ أصوم ذلك اليوم ففعلتُ ذلك ثلاثة أيّام وليالها، ورأيتُ ذلك في جنب ما أعطاني الله يسيراً ولكنّي سأرضيها وأرضيهم الليلة إنْ شاء الله.

فأرسل رسول الله (ص) إلى زياد، فأتاه وأعلمه ما قال جويبر، فطابتْ أنفسهم.

قال: وَفَى لهم جويبر بما قال، ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه الله، فما كان في الأنصار أَيِّم أنفق منها بعد جويبر.

٢٥

وقد زوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من بيت المال الشابّ الأعزب الذي استمنى (1) .

و في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى أبي، فقال له: هل لك من زوجة؟

قال: لا.

فقال أبي: ما أُحب أنّ لي الدنيا وما فيها، وإنِّي بتّ ليلة وليستْ لي زوجة.

ثمّ قال: الركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثمّ أعطاه أبي سبعة دنانير، ثمّ قال: تزوّج بهذه.

ثمّ قال أبي: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتّخذوا الأهل فإنّه أَرْزَقُ لكم) (2) .

____________________

1 - فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

(إنّ أمير المؤمنين أُتي برجل عبث بذكره حتّى أنزل، فضرب يدَه حتّى احمرّتْ، ثمّ زوّجه من بيت المال)، راجع: غوالي اللئالي: ج2، ص356 و 357، ح35 و 36، باب الحدود.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح5.

٢٦

* الزواج ومواصلة الدراسة:

5 - يلزم إلغاء العادة الغربيّة القاضية بعدم زواج الطلاّب والطالبات إلى حين التخرّج، وكذلك القاضية بعدم زواج الجندي إلى حين إتمامه دورة التدرب.. فإنّ معنى ذلك فتح دور الدعارة وفساد الشباب والفتيات، وتعميم العادة السرِّيَّة الضارّة بالصحّة، وإعطاء الفرصة للبغاء والانحراف الجنسي..

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا جاءكم مَن ترضون خُلُقَه ودِيْنَه فزوِّجوه، وأنْ لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (1) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا أتاكم مَن ترضَون دينه وأمانته فزوّجوه، فإنْ لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (2) .

ثمّ إنّ المتزوّج أقدر على الدراسة والخدمة من الأعزب، إذ اشتغال الفكر بقضايا الجنس يمنع الإنسان عن التركيز في الدراسة أو الخدمة..

____________________

1 - غوالي اللئالي: ج3، ص340، باب النكاح، ح252. بحار الأنوار: ج100، ص373، ب21، ح9.

2 - نوادر الراوندي: ص12. وبحار الأنوار: ج100، ص374، ب21، ح15.

٢٧

قال تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (النكاح سنّتي، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي) (2) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (ركعتان يُصلّيهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يُصلّيهما غير متزوّج) (3) .

وعن الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (تزوّجوا، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: مَن أحبّ أنْ يتّبع سُنَّتي فإنّ سُنَّتي التزويج) (4) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما بُنِيَ بناء أحبّ إلى الله عزّ وجل من التزويج) (5) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن تزوّج أحرز نصف دينه، فليتَّق الله في النصف الآخر) (6) .

____________________

1 - سورة النور: آية: 32.

2 - جامع الأخبار: ص101، الفصل52. وبحار الأنوار: ج100، ص220، ب1، ح23.

3 - ثواب الأعمال: ص40، ثواب صلاة المتزوّج. و بحار الأنوار: ج100، ص219، ب1، ح15.

4 - وسائل الشيعة: ج14، ص6، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح14.

5 - وسائل الشيعة: ج14، ص3، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح4.

6 - وسائل الشيعة: ج14، ص5، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح11.

٢٨

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائم القائم العزب) (1) .

وفي قبال ذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ‎ (رُذَّال موتاكم العزّاب) (2) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكثر أهل النار العزّاب) (3) .

____________________

1 - مستدرك الوسائل: ج4، ص155، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

3 - وسائل الشيعة: ج14، ص8، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح7.

٢٩

* المرأة في المجتمع الغربي (1) :

المرأة موضوع كَثُر الكلام حوله، وغالب الكتّاب الإسلاميِّين - الداعين إلى الفضيلة والعفاف - يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام وحال المرأة في ظلّ الإسلام، وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحدّ، وإنّنا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي وبين المرأة في المجتمع الغربي.

ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنّما نريد عَرْض طرف من أحوال المرأة في المجتمَعَين، لنرى هل تتوفّر راحة المرأة جسديّاً وفكريّاً، وصحّتها وثقافتها، ونظافة سمعتها، وإشباع غرائزها، وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه.. في ظلّ الإسلام أمْ في ظلّ الكفر؟

تعيش المرأة في ظلّ الإسلام ولها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل من الحقوق والواجبات.. فهي شق له في كلّ شيء.. إلاّ بعض الأمور التي استُثنيتْ من جهة عدم المقتضي أو وجود المانع.

____________________

1 - نقلنا هذا المبحث عن كتاب (في ظلّ الإسلام) للإمام الشيرازي.

٣٠

* فهي تشارك الرجل في:

الصلاة، والصيام، والخُمس، والزكاة، والحج..

ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد التي لا يناسب ضعفها ودقّة جهازها ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في ضرورة الضرورة فقط، كما هو مشروح في كتب الفقه (1) . كما تشاركه في:

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وولاية الصالحين، والبراءة من المجرمين..

هذا بالنسبة إلى العبادة..

____________________

1 - راجع: موسوعة الفقه: ج47 - ج48 كتاب الجهاد للإمام المؤلّف.

٣١

* أمّا المعاملة بمعناها الوسيع، فلها:

التجارة، والرهن، والضمان، والوديعة، والمزارعة

والمساقاة، والمضاربة، والشركة، والصلح، والعارية، والإجارة

والوكالة، والوقف، والهِبَة، والوصيّة، كما يجري عليها الحَجْر والفلس

* ولها:

النكاح والطلاق - إذا اشترطت - والنذر، والحلف، والعهد

والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والإقرار، والجُعَالة، والصيد، والذباحة

والشُفْعَة، وإحياء الموات، واللقطة، والشهادة، والديات، والقصاص، والإرث..

٣٢

كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها، كسائر الرجال، وغير ذلك.

نعم لها بعض الأحكام الخاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً:

في الإرث لها أقل من حقّ الرجل؛ لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة، وعليه تَبِعَة المسكن والمَلْبَس، وليس الطلاق بيدها، لأنّ حقّ القيّمومة للرجل، وذلك لأنّ إدارة البيت لا بدّ وأنْ توكل إلى واحد، وحَزْم الرجل أكثر من المرأة؛ ولذا جُعِلَتْ إليه، وفي قبال هذا الواجب جُعِلَ حقّ الطلاق؛ لتكافئ الحقوق والواجبات. وهكذا.. وهكذا..

قد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة، لها حقوقها، وعليها واجباتها.. حتّى جاء الغرب فرآها محرومة من حقوقها!! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول لإرجاع الحقوق إليها!! وجنّد لذلك كلّ عميل وذَنَب بإمكانيّاته المنتفخة.. فشوّقها للذهاب والإيّاب إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمسابح والمدارس المختلطة، كما جعل من حقّها التبرّج والسفور واتّخاذ الأخدان والحضور في الحفلات الساهرة

٣٣

وتعاطي اللذّة البريئة: النظر، والكلام المتكسّر، والملامسة، والأمر الأخير!! واعتبر كلّ دعوة إلى الحشمة والوقار، والحياء والعفاف والفضيلة والأخلاق.. دعوة رجعيّة تنافي الحرِّيَّة!

فالمرأة إلى أين وصلتْ حالتُها في ظلّ النُظُم الغربيّة، بعدما كان لها كلّ تجلّة واحترام في ظلّ النُظُم الإسلاميّة، لنرى كيف انهارت المرأة وانهارت معها الحياة العائليّة، مِن جرّاء الدساتير الكافرة التي لا تدين بالله واليوم الآخر.

وبعد هذا نسأل حماة الغرب: هل المرأة في ظلّ أنظمتكم أرفه حالاً و أهنأ عيشاً وأكثر سعادة، أمْ في ظلّ الإسلام؟

ولقد شهد المنصفون من الأجانب بما للإسلام من فضل على المرأة (1) :

* يقول (سيديو):

والقرآن - وهو دستور المسلمين - رفع شأن المرأة بدلاً من خفضها، فقد جعل محمّد حصّة البنت في الميراث تعدل نصف حصّة أخيها،

____________________

1 - انظر: الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٤

مع أنّ البنات كنّ لا يَرِثْنَ في زمن الجاهليّة، ومحمّد - وان جعل الرجال قوّامين على النساء - بيد أنّ للمرأة حقّ الرعاية والحماية على زوجها.

* ويقول (غوستاف لوبون):

والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعاً عظيماً، بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المُكَرَّرة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثيّة أحسن ممّا في أكثر قوانيننا الأوروبِّيّة.

ويقول: هنا نستطيع أنْ نكرّر إذن قولنا: إنّ الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا: أنّه أوّل دين فعل مثل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا: إنّ جميع أديان الأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة.

٣٥

وهنا مقتطفات من كتاب (الحجاب) للمودودي، للبرهنة على مدى انحطاط المرأة في ظلّ الكفر وما يسمّى بالديمقراطيّة، ونكتفي هنا بالنقل من دون ذكر المصادر التي نقلها الكتاب عنها.. واليك النصوص:

- (وجاء قوم، فمهّدوا الأسباب لإكراه النساء، وتقدّموا بِحِرْفَة البغاء، إلى أنْ أصبحت تجارة دوليّة منظّمة).

- (أمر الإجهاض.. ليس هناك قطر من الأقطار إلاّ وتقترف فيه هذه الشنيعة علناً وعلى نطاق واسع، فهذه إنكلترا يسقط فيها تسعون ألف حمل في كلّ سنة على أقل تقدير، وتكون في كلّ مئة من المتزوّجات فيها خمس وعشرون - على الأقل - إمّا يُبَاشرْنَ الإسقاط بأيديهنّ، أو يَسْتَعِنّ عليه بالمتخصِّصين، وترتفع هذه النسبة فوق هذا في غير المتزوّجات، فقد أُنشئتْ في بعض المدن هناك نوادٍ منظّمة للإسقاط.. ويكثر في لندن عدد دور التمريض التي تكون معظم المريضات فيها من المسقطات).

٣٦

- (وفي فرنسا: نشر قائد لبعض الفِرَق العسكريّة إعلاناً للجنود التابعة له، جاء فيه: قد بلغنا أنّ عامّة الرجّالة والخيّالة يشتكون من تزاحم رجال البنادق على دور بغاء الجنديّة.. وأنّ مكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد النساء؛ حتّى يكفينَ لجميع الجنود، ولكن قبل أنْ يتمّ ذلك نوصي رجال البنادق أنْ لا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجّلوا بقضاء شهواتهم ما استطاعوا).

- (وفي فرنسا: ليس على مَن كان يريد الاتصال بآنسة من الآنسات إلاّ أنْ يُعْلِم الوكالة - الوكالة البغائيّة - بعنوان تلك الآنسة، وعلى الوكالة بعد ذلك أنْ تراود الآنسة على الأمر، ودلّتْ سجلاّت هذه الوكالة على أنّه لم تكن طبقة من طبقات المجتمع الفرنسي إلاّ وعامل كثير من أناسها هذه الوكالة وتمتّعوا بخدماتها).

- (لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسيّة بين الأقارب في النسب: كالأب والبنت، والأخ والأخت، في بعض الأقاليم الفرنسيّة).

٣٧

- (ولقد كان عدد النساء اللواتي كنّ يحترفن البغاء قبل الحرب العالميّة الأولى: نصف مليون).

* وصرّح (مسيو فردينان دريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي منذ بضع سنوات:

إنّ حرفة البغاء لم تُعَدُّ الآن عملاً شخصيّاً بل قد أصبحت تجارة رئيسيّة، وحرفة منظّمة، بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح الغزيرة، فلها في هذه الأيّام وكلاء يهيّئون (المواد الخام) وآخرون يتجوّلون في البلاد، ولها الآن أسواق منظّمة تستورد فيها وتصدّر منها الفتيات والصبايا كالأموال التجاريّة، وأكثر ما يُطلب في هذه الأسواق من الأموال هو بنات دون العاشرة.

وربّما تبلغ البهيميّة في القائمين بها أقصى حدود الظلم والقساوة، فيقال: إنّ محافظ بلديّة في شرقي فرنسا اضطرّ إلى التدخّل في هذا الأمر؛ لنجدة فتاة كانت قد فرغت في يومها من سبعة وأربعين وارداً، وكان عدد منهم بَعْدُ بالباب يترقّبون!

٣٨

وجاءت الحرب العالميّة الأولى، فابتدعتْ بدعة (البغاء المتطوّع) علاوة على (البغاء التجاري) .. فجعلت هؤلاء النساء يتعاطين بصورة منظّمة، وأصبح تشجيعهنّ وإعانتهنّ فضيلة خُلُقِيَّة، عند أولي الدعارة والفجور، وعنيتْ الجرائد اليوميّة الكبرى عناية بالغة باستمالة رجال العمل إليهنّ.. وقد نشرت جريدة واحدة في عدد واحد (199 إعلاناً) عن أمرهنّ.

يقول (بول بيورو): إنّ جميع الأزواج المتزوّجون في مجتمعاتنا قوم خونة متجرّدون من الوفاء اللازم للعِشْرَة الزوجيّة.

وقد نجم عن هذه الموبقات الأمراض السرِّيَّة الفتَّاكة، فقد أعفتْ الحكومة الفرنسيّة في السنتَين الأوّلين من سِنِيّ الحرب العالميّة الأُولى خمسة وسبعين ألفاً؛ لكونهم مصابين بمرض الزهري، وابتلي بهذا المرض وحده (242 جنديّاً) في آن واحد في ثكنة متوسّطة.

* ويقول الدكتور الفرنسي (ليريد):

إنّه يموت في فرنسا (ثلاثون ألف نسمة بالزهري) وما يتبعها من الأمراض الكثيرة في كلّ سنة (1) .

____________________

1 - الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٩

ولهذه الأمور رغبت الرجال عن النكاح، فبقيت النساء والرجال - على حدّ سواء - يتعاطون البغاء، وفسد النظام العائلي.

فسبعة أو ثمانية في الألف هو معدّل الرجال والنساء الذين يتزوّجون في فرنسا اليوم.

وكثر الطلاق كثرة مدهشة، حتّى إنّ محكمة الحقوق بمدينة (سين) فسختْ (294 نكاحاً) في يوم واحد.

إلى كثير.. وكثير.. من أمثال هذه المآسي التي حلّت على البشريّة من جرّاء إعطاء المرأة هذه الحرِّيَّة!!

فهل في ذلك خدمة للمرأة؟

أو للرجل؟

أو للمجتمع؟

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421