القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360244 / تحميل: 10452
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٤ ـ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة ) (١)

وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافّات والذاريات في فصلَين مُتتالين ، ونُحيل بحث أقسام سورة المُرسَلات والنازعات إلى محلّها ، حسب ترتيب السور

وقبل الخوض في تفسير الآيات ، نُقدِّم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبيّة التدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مُدبِّر سواه ، يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢)

فصَدر الآية يُركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يُركِّز على أنّه هو المُدبّر ، وأنّه لو كان هناك سبب في العالم ( شفيع ) فإنّما هو يؤثَر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المُدبِّر ، قال سبحانه :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الأمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) (٣)

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقيّة ، ولكن مشركين في الربوبيَّة والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرَّر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وأنّه خالق ، وأنّه مُدبِّر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العِلل والأسباب المادِّية والمجرَّدة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد أنّ للكون مُدبِّراً قائماً بالذات ، مُتصرفاً كذلك ، لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مُدبِّر وحافظ ، فإنّما هو يُدبِّر بأمره وإذنه

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ـ٧

(٢) يونس : ٣

(٣) الرعد : ٢

٨١

فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه ، يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي : مَن يُدبِّر بنفسه غير مُعتمِد على شيء ، وأمّا المُثبّت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يُدبِّر بأمره وإذنه ، وحوله وقوَّته ، على النحو التَبَعِي ، فكلّ مُدبِّر في الكون فهو مَظْهرُ أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن

ويظهر من غير واحد من الآيات ، أنّ الملائكة من جنوده سبحانه ، وأنّها وسائط بين الخالق والعالَم ، وأنّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتَّضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بِدءاً وعَوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادِّية في العالم المشهود ، قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكلّ بنَفْخِ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين والحساب ، والسَوْق إلى الجنَّة والنار ، فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان ، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدِّ الإحصاء

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ، ودفع الشياطين عن المُداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين ، وتطهيرهم بالاستغفار

٨٢

وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة ، فيدلّ عليها ما في مُفتَتح هذه السورة ، من إطلاق قوله :( والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) (١)

الصافّات والقَسَم بالملائكة :

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالصّافّاتِ صَفّاً )

ب ـ( فَالزّاجِراتِ زَجْراً )

ج ـ( فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد ) (٢)

وكلّ هذه الثلاثة مُقسَم به ، والمُقسَم عليه هو قوله :( إِنَّ إلهكم لواحد )

وإليك تفسير المُقسَم به فيها :

فالصافّات : جمع صافَّة ، وهي من الصفِّ بمعنى جعل الشيء على خطٍّ مستوٍ ، يقول سبحانه :( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً ) (٣)

والزاجرات : من الزَجْرِ ، بمعنى الصرفِ عن الشيء بالتخفيف والنهي

والتاليات : من التلاوة ، وهي جمع تالٍ أو تالية

غير أنّ المهمّ بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعلّ الرجوع إلى القرآن الكريم يُزيح الغموض عن كثير منها

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٨٢ـ ١٨٣

(٢) الصافّات : ١ـ٤

(٣) الصف : ٤

٨٣

يقول سبحانه حاكياً عن الملائكة :( وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون ) (١)

فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ، ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى

نعم ، وصفَ سبحانه الطير بالصافّات وقال :( وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ ) (٢) ، وقال :( أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ ) (٣) ، كما أمر سبحانه على أن تُنحر البُدن وهي صوافّ ، قال سبحانه :( وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ) (٤)

والمعنى : أن تُعقَل إحدى يديها وتقوم على ثلاث ، فتُنحَر كذلك ، فيُسوّى بين أظلفتها لئلاّ يتقدَّم بعضها على بعض

وعلى كلّ تقدير ، فمن المحتمَل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافّات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب

وأمّا الثانية ، أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدلّ على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد : الجماعة الّذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة ، حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس

قال سبحانه : ( وَما أُنْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (٥) ، كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم بالدعوة إلى المعاصي

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١٦٤ـ ١٦٦

(٢) النور : ٤١

(٣) المُلك : ١٩

(٤) الحجّ : ٣٦

(٥) البقرة : ١٠٢

٨٤

قال سبحانه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (١)

والتاليات : هنّ اللواتي يتلون الوحي على النبي المُوحى إليه

فالمرادُ من الجميع الملائكة

وثَمَّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فإنّهم هم الجماعة الصافّة أقدامها بالتهجّد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارِسة شرائعه

كما أنّ ثَمّة احتمالاً ثالثاً ، وهو أنّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه ، الّذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّ إِلهكم لَواحد )

والصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : هي أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الّذين وصفوا بصفات ثلاث ، هم دعاة التوحيد وروّاده ، وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق ، وفي العبادة خاصّة

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١١٢

٨٥

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة مُتتابعة وقال :

( وَالذّارِياتِ ذَرْواً )

( فَالحامِلاتِ وِقْراً )

( فَالجارِياتِ يُسْراً )

( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ) (١)

ثُمّ حلف بخامس فرداً ، أي قوله :( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك )

أمّا الأوّل ، أعني :( والذارِيات ذَرواً ) : فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح الّتي تنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (٢) ، ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح

وأمّا الحاملات : فهي من الحِمل ، والوِقرـ على زنة الفِكْر ـ ذو الوزن الثقيل

والمراد منه : السحب ، يقول سبحانه :( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (٣) ، وقال سبحانه :( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ٦

(٢) الكهف : ٤٥

(٣) الرعد : ١٢ .

٨٦

مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ) (١)

وأمّا الجاريات ، فهي جمعُ جارية ، والمراد بها السُفن ، بشهادة قوله سبحانه :( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (٢) ، وقال :( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (٣) ، وقال سبحانه :( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ) (٤)

وأمّا المُقسِّمات ، فالمراد الملائكة الّتي تُقسَّم الأرزاق بواسطتها ، الّتي ينتهي إليه التقسيم

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره ، فيقسِّمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة ، على اختلاف أعمالهم ، انشعب الأمر وتقسَّم بتقسيمهم ، ثُمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تَقسَّم ثانياً بتقسيمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئية ، فيَنقسم بانقسامها ويتكثّر بتكثُّرها

والآيات الأربع تُشير إلى عامّة التدبير ، حيث ذكرت أنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البرِّ ، وهو الذاريات ذرواً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البحر ، وهو الجاريات يسراً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في الجوّ ، وهو الحاملات وقراً ، وتمَّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامَّة الأسباب الّتي يتمَّم بها أمر التدبير في العالم ، أن كذا كذا.

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ٥٧

(٢) يونس : ٢٢

(٣) البقرة : ١٦٤

(٤) الحاقّة : ١١

٨٧

وقد ورد من طرق الخاصّة والعامّة عن عليعليه‌السلام تفسير الآيات الأربع(١)

وبذلك يُعلَم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير الآية ، عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ ، فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟

قال عليه‌السلام : الرياح . قال : فالحاملات وقراً ؟

قال عليه‌السلام : السَحاب قال : فالجاريات يسراً ؟

قال عليه‌السلام : السُفن قال : فالمقسِّمات أمراً ؟

قال عليه‌السلام : الملائكة .

ثُمّ إنّه سبحانه حلفَ بالذاريات بواو القَسَم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء ، فيحمل المعطوف معنى القَسَمِ أيضاً

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه : هو قوله :( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقِع ) ، أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنّة والنار لصادق ، أي : صِدقٌ لابدّ من كونه ، فهو اسم الفاعل موضع المصدر ، وإنّ الدِّين أي : الجزاء لواقع ، والحساب لكائن يوم القيامة

وعلى ذلك ،( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القَسَم ، وقوله :( إنّ الدِّين لواقِع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى : أُقسِم بكذا وكذا ، إنّ الّذي توعدونه من يوم البعث ، وإنّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ ، لَصادِق وإنّ الجزاء لواقِع(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١٨/٣٦٥

(٢) الميزان : ١٨/٣٦٦

٨٨

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ، أنّه سبحانه أقسمَ بعامّة الأسباب الّتي يتمّ بها أمر التدبير في العالم ، لغايةِ أنّ هذا التدبير ليس سُدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدِّين والجزاء ، وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية ، لأصبح تدبير الأمر في البرّ والبحر والجوّ وتدبير الملائكة ، شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يُبيِّن أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث ، وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هي أكمل

وفي ختام البحث نودّ أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب ، والّتي كشف عنها العلم الحديث فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجوِّ ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مئة كيلومترٍ في الساعة ، فتُسمَّى زوبعة ، وإذا زادت على مئة ، سُمّيَت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الإعصار إلى ٢٤٠ كيلومتراً في الساعة

والرياح هي العامل المهمّ في نقل بخار الماء وتوزيعه ، وتكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبُّع تتكوّن السُحب ويختلف ارتفاع السُحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من ١٢ كيلومترا كسَحاب السيرس الرقيق وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المَطر المتكوِّن ؛ وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة ، لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثُمّ تتجزّأ بالطريقة السابقة وهكذا

وكلمّا تناثرت هذه النقط ، تُشحَن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء السالبة الّتي تحمل الرياح.

وبعد مُدَّة تصير السُحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، فعندما تقترب الشُحنتان بعضهما من بعض ـ بواسطة الرياح كذلك ـ يتمّ التفريغ الكهربائي ، وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وَميض البرق لحظة قصيرة ، وبعده يُسمَع الرَعد ، وهو عبارة عن : الموجات الصوتيَّة الّتي يُحدِثها الهواء ، وما هي إلاّ بُرهة حتى تُخيِّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثُمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتدّ المطر ويستمرّ حتى تأخذ الأرض ما قدَّر اللّه لها من الماء(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ١٣٥ـ ١٣٦

٨٩

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستّة وقال :

( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (١)

تفسير الآيات :

الطُور : اسم جبل خاصّ ، بل اسم لكلِّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية ، لا كلّ جبل ؛ بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام

ومَسطور : من السَطر ، وهو الصفّ من الكتابة ، يُقال : سطَّر فلان كذا ، أي : كتب سطراً سطراً

والظاهر أنّ المراد من ( مَسطور ) هنا هو المُثبّت بالكتابة ، قال سبحانه :( كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي : مُثبَّتاً ومحفوظاً )

و رَقّ : ما يُكتَب فيه ، ( شبه الكاغَد )

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ١ـ ٨

٩٠

ومنشور : من النَشْرِ ، وهو البَسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطَهما ، قال سبحانه :( وَإِذا الصُّحُف نُشرَت ) ، وقال :( وَإِلَيْهِ النُّشور )

والمَسجُور : من السَجر وهو : تَهييج النار ، يقال : سَجرتُ التنّور ، ومنه البحر المَسجور ، وقوله :( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) ، وربّما يُفسَّر المسجور بالمملوء

والمراد من الطُور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الّذي كلّم اللّه فيه موسىعليه‌السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه :( وَطُورِ سِينِين ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (٢) ، وقال في خطابه لموسىعليه‌السلام :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ) (٣)

وقال سبحانه :( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (٤)

وهذه الآيات تُثبِت أنّ المُقسَم به جبل مُعيَّن ، ومع الوصف يحتمل أن يُراد مطلَق الجبل ؛ لما أُودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ) (٥)

والمراد من كتاب مَسطور : هو القرآن الكريم ، الّذي كان يُكتَب في الورق المأخوذ من الجِلد

وأمّا وصفه بكونه منشوراً ، مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ووَرَقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ؛ لاَنّ الكتاب المَطوي لا يُعلَم ما فيه ، فقال هو فيرَقٍّ منشور ، وليس كالكتب المَطويَّة ،

ــــــــــــــــ

(١) التين : ٢

(٢) مريم : ٥٢

(٣) طه : ١٢

(٤) القَصص : ٣٠

(٥) فُصّلت : ١٠

٩١

ومع ذلك ، يُحتمَل أن يُراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (١) ، كما يُحتمَل أن يراد منه اللوح المحفوظ ، الّذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن ، تقرأه ملائكة السماء

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ المراد هو التوراة ، وكانت تُكتَب بالرَقِّ وتُنشَر للقراءة ، ويُؤيّده اقترانه بالحلفِ بالطُور

وأمّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المُشرَّفة ، فإنّها أوّل بيت وُضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ) (٢)

ولعلّ وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجّاج الطائفين به والعاكفين حوله

وقد فُسِّر في الروايات ببيتٍ في السماء إزاء الكعبة ، تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكَثرةِ الطائفين به

والسَقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه :( والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعََ الْمِيزان ) (٣)

وقال :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ) (٤)

قال سبحانه :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) .(٥)

ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض ، الّذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثُمّ ينفجر

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١٣

(٢) آل عمران : ٩٦

(٣) الرحمن : ٧

(٤) الرعد : ٢

(٥) الأنبياء : ٣٢

٩٢

قال سبحانه :( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ) (١) ، وقال تعالى :( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ) (٢)

ثُمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد ، وهو صِلتها بالوحي وخصوصيّاته ، حيث أنّ الطور هو محلّ نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الّذي يطوف به الملائكة ، الّذين هم رُسل اللّه

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السَقف المرفوع والبحر المَسجور ، فهما من الآيات الكونيّة ، ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته

لكنّ الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة الّتي بينها صِلة خاصّة ، هي : ( الطُور والبيت المعمور والبحر المسجور ) ، وإنّما جمعها في الحلف بها ؛ لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ، ينفردون بها للخلوة بربِّهم ، والخلاص من الخلق ، والخطاب مع اللّه

أمّا الطُور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبحر المَسجور يونسعليه‌السلام ، وكلٌّ خاطب اللّه هناك ، فقال موسى :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (٣) ، وقال أيضاً :( أرِني أنظر إليك ) ، وأمّا نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :( السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين ، لا أُحصي ثناء عليك كما أثنيتَ على نفسك ) ، وأمّا يونس فقال :( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (٤)

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، وحلف اللّه تعالى بها

وأمّا ذكر الكتاب ؛ فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطُور أدلّ دليل على ذلك ؛ لاَنّ موسىعليه‌السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطُور

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ٦

(٢) الانفطار : ٣

(٣) الأعراف : ١٥٥

(٤) الأنبياء : ٨٧

٩٣

وأمّا ذكر السَقف المرفوع ومعه البيت المعمور ؛ ليُعلَم عظمة شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (٢)

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به ـ على تعدّده ـ والمُقسَم عليه ، هو أنّ المُقسَم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة ، وعدم القدرة على دفعه

فإذن ، ناسب أن يقسم بالكتاب ـ أي : القرآن ـ والتوراة اللَذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميَّتها

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة ، كالسقف المرفوع والبحر المسجور ، حتى يُعلَم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقِع ، وليس له دافع

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض ، يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض بسهولة تدفّقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوّة انعكاس جيّدة لشعاع الشمس ، ولذا فإنّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعةٍ أثناء الليل ، فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يُباري الزمان في دوامه ، ويُطاول الخلود في بقائه ، تمرّ آلاف الأعوام ، بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمْسه وغَده ، تنقلب الجبال أوديَة ، والأوديَة جبالاً ، ويتحوّل التراب شجراً ،والشجر تراباً ، والبحر بحرٌ ، لا يتحوّل ولا يتغيَّر

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٤٠

(٢) الطور : ٧ـ ٨

٩٤

وقد دلَّت الأبحاث العلميّة أنّ أقصى أعماق البحار تُعادل أقصى علوّ الجبال(١)

كما ناسب أن يحلف بالطور ؛ لاَنّ بعض المجرمين كانوا يتصوّرون أنّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوحعليه‌السلام ( سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء ) ، قال :( لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) (٢)

فحلف بالطُور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب ، أو تَحوْل بين اللّه ووقوع المعاد

كما يمكن أن يكون الحلف بالطُور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالّة على قدرته ، الّتي لا يحوْل بينه و بين عذابه شيء

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٧٥

(٢) هود : ٤٣

٩٥

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القَلَم

حلف سبحانه بالقلم وما يسطرون معاً ، مرّة واحدة ، وقال :( ن والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون * ما أَنْتَ بِنعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم ) (١)

وقبل تفسير الآيات ، نُقدّم شيئاً وهو : أنّ لفظة ( ن ) من الحروف المُقطّعة ، وقد تقدَّم تفسيرها

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ ـ ( ن ) هو السمكة الّتي جاء ذكرها في قصّة يونسعليه‌السلام ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) (٢)

ب ـ إنّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشَوقُ يَرجِع بي إليهِم

ألقتُ النُون بالدَمْعِ السُجُوْم

ج ـ إنّ ( ن ) هو المداد الّذي تكتب به الملائكة

ولكنّ هذه الوجوه ضعيفة ؛ لاَنّ الظاهر منها أنّها مُقسَم به ، وعندئذٍ يجب أن يُجَرّ لا أن يُسَكَّن

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟!

ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً ، فأين الإعراب والتنوين ؟! وإن كان علماً فأين الإعراب ؟!

ــــــــــــــــ

(١) القلم : ١ـ ٤

(٢) الأنبياء : ٨٧

٩٦

وأيّهما كان ، فلابُدّ له من موقع في تأليف الكلام(١)

وبذلك يُعلَم وجه تجريد ( ن ) عن اللاّم ، واقتران القَلمِ بها

تفسير الآيات :

١ ـ حلف سبحانه بالقلم وقال :( والقَلَمِ وما يسطُرون ) ، وهل المراد منه جنس القلمِ الّذي يَكتب به مَن في السماء ومَن في الأرض ؟!

قال تعالى :( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢)

فمنَّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنُطق ، وقال :( خَلَقَ الإنسانَ * عَلَّمَهُ البَيان ) (٣)

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين ، فتمكّن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه

وربّما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الّذي جاء في الخبر :( إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم ) ، ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام ، الّذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره

ثُمّ إنّه سبحانه حلف بـ( ما يسطُرون ) ، فلو كانت ( ما ) مصدريّة ، يكون المراد ( وسَطْرهم ) ، فيكون القَسَم بنفس الكتابة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٤/١٢٦ ، تفسير سورة القلم

(٢) العلق : ٣ ـ ٥

(٣) الرحمن : ٣ ـ ٤

٩٧

كما يحتمل أن يكون المراد المَسطور والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : ( أحلفُ بالقلم وسَطرهم ، أو مسطوراتِهم )

ثُمّ أنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه :( علّمَ بالْقَلم ) إشارة إلى ذلك

والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وَسطِ مجتمع سادَه التخلّف والجهل والأُميَّة ، وكان مَن يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع !

وقد سردَ البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) أسماء سبعة عشر رجلاً في مكَّة ، وأحد عشر من يثرب(١)

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدِّمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢)

ومع ذلك ، يعود القرآن ليؤكّد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلاميّة ، وجعل في ظلّ هذا التعليم أُمّة متحضّرة ، احتلّت مكانتها بين الحضارات

وليس هذه الآية وحيدٌ نَسْجها في الدعوة إلى القلم والكتابة ، بل ثَمَّة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) (٣)

كما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على كتابة حديثه ، الّذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

ــــــــــــــــ

(١) فتوح البلدان : ٤٥٧

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ٤١٨

(٣) البقرة : ٢٨٢ .

٩٨

١ ـ أخرج أبو داود في سُننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنتُ أكتب كلّشيء أسمعه من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتُب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلَّم في الغضب والرضا ؟! فأمسكتُ عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال : ( اكتبْ ، فوالّذي نفسي بيدِه ، ما يخرج منه إلاّ حقّاً ) (١)

٢ ـ أخرج الترمذي في سُنَنه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( استَعن بيمينِك ) وأومأ بيده للخطِّ(٢)

٣ ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال :( ما تحدّثون ؟ )

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه

قال : ( تحدَّثوا ، وليَتبوّأ مَن كذّبَ عليّ مقعداً من جهنّم ) .

ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم فقال : ( ما شأنكم ، ألا تحدّثون ؟! ) .

قالوا : الّذي سمعنا منك يا رسول اللّه

قال : ( إنّي لم أُرد ذلك ، إنّما أردتُ مَن تعمَّد ذلك ) .

قال : فتحدَّثنا

قال : قلتُ : يا رسول اللّه ، إنّا نسمعُ منك أشياء فنكتبها

ــــــــــــــــ

(١) سُنن أبي داود : ٣/٣١٨ ، برقم : ٣٦٤٦ ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : ٢/١٦٢. سُنَن الدارمي : ١/١٢٥ ، باب من رخص في كتابة العلم

(٢) سُنَن الترمذي : ٥/٣٩ ، برقم : ٢٦٦٦

٩٩

قال : ( اكتبوا ولا حرج ) .(١)

وبعد هذه الأهمّيّة البالغة الّتي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن يُنسَب إليه أنّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد ، تضادّ الكتاب العزيز والسُنّة والسيرة المتواترة

ونجلُّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحيلولة دون كتابة السُنّة

هذا والكلام ذو شجون ، وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية )(٢)

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه ، فقد جاء في قوله سبحانه :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون )

والمراد من النعمة : النبوّة والإيمان ، والباء للسَببيَّة ، أي : لستَ أنتَ بسبب هذه النعمة بمجنون ؛ ردّاً على مَن جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه :( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (٣)

ويُحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّ ما تفضَّل عليه سبحانه من النِعَم وراء الإيمان والنبوّة ، كفصاحته ، وبلاغته ، وعقله الكامل ، وخُلقه الممتاز ، فإنّ هذه الصفات تُنافي حصول الجنون

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبلها و ما بعدها ، وانّ وِزانها وزِان ( بحمد اللّه ) في الجمل التالية :

أنتَ ـ بحمدِ اللّه ـ عاقل

ــــــــــــــــ

(١) تقييد العلم : ٧٢و٧٣

(٢) انظر : صفحة ١٢ـ ٣٢ من نفس الكتاب

(٣) القلم : ٥١ـ ٥٢

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ألَمْ يأنِ للَّذين آمنوا

أنْ تخشع قلوبهم لذِكر الله؟!

يُحكى أنَّ فضيلاً كان في أوَّل أمره يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وعشق جاريةً، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ... ) ، فقال: يا رَبِّ، قد آن.

فرجع وآوى إلى خَربةٍ، فإذا فيها رُفقةٌ.

فقال بعضهم: نرتحل.

وقال بعضهم: حتَّى نُصبح؛ فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا.

فتاب الفضيل وآمنهم (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨١

مَن أراد أن يُظلِّه الله مِن فَوح جَهنَّم..

فليُنظِر مُعسِراً

رأى النبيُّ (صلى الله عليه وآله) رجلان يتنازعان، فاقترب منهما وسألهما عِلَّة نزاعهما.

فقال أحدهما: أقرضتهُ فلم يُعطني دَيْني.

فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآخر ماذا يقول؟

فقال الآخر: يا نبيَّ الله، له عليَّ حُقٌّ وأنا مُعسرٌ، ولا والله، ما عندي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَن أراد أنْ يُظلِّه الله مِن فَوح جَهنَّم يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظِلَّه، فليُنظِر مُعسِراً أو ليدَع له).

فقال الرجل عند ذلك: قد وهبت لك ثُلُثاً وأخَّرتك بثُلُثٍ إلى سنةٍ وتعطيني ثُلُثاً.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (ما أحسن هذا) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨٢

لا تفعل يا عُثمان!

عن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال:

(جاء عثمان بن مظعونٍ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، قد غلبني حَديث النَّفس ولم أُحدِّث شيئاً حتَّى أستأمرك.

قال: بمَ حدَّثَتك نفسك يا عثمان؟

قال: هممتُ أنْ أسيح في الأرض.

قال: فلا تُسح فيها؛ فإنّ سياحة أُمَّتي المساجد.

قال: هممت أنْ أُحرِّم اللَّحم على نفسي.

فقال: لا تفعل؛ فإنِّي لأشتهيه وآكله، ولو سألت الله أنْ يُطعمنيه كلَّ يومٍ لفعل.

قال: هممت أنَّ أجبَّ نفسي.

قال: يا عثمان، ليس مِنَّا مِن فعل ذلك بنفسه ولا بأحدٍ، إنَّ وجاء أُمَّتي الصِّيام.

قال: وهممت أنْ أُحرِّم خولة على نفسي (يعني امرأته).

قال: لا تفعل يا عثمان) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨٣

لا تَكمُل الكمالات إلاَّ بالإسلام

كان مصعب بن عمير مِن أصحاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الشباب قبل الهِجرة، وكان مصعب جميلاً ونبيلاً وهُماماً وسَخيَّاً، وكان عزيزاً عند أبويه، وكان أهل مَكَّة يكنُّون له الاحترام والتقدير، وكان يرتدي مِن الثياب أجملها، وكان يعيش في نعيم ورغد، وكان يستمع خُطب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكلماته وينشدُّ إلهيا بكل كيانه، وقد أدَّت لقاءاته المُتكرِّرة بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسماعه لآياتٍ مِن القرآن الكريم إلى اعتناقه الإسلام.

كانت مسألة الاقتداء بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) واعتناق الإسلام في تلك الأوضاع الخطيرة، التي كانت تسود مَكَّة بين قوم يعبدون الأصنام، ويغرقون في جهلهم - وضلالهم - تُعتبر ذنباً كبيراً يُعاقب عليه، وكان مَن يؤمن بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ورسالته ودعوته لا يجرؤ على الجَهر بإيمانه حتَّى أمام أهله وأقاربه. ومِن هذا المُنطلق لم يُفش مصعب أمر اعتناقه الإسلام لأحد، وكان يؤدِّي فرائضه الدينيَّة في الخَفاء.

وذات يوم وبينما كان مصعب يُصلِّي رآه عثمان بن طلحة فأيقن بإسلامه، ونقل الخبر إلى أُمِّ مصعب، ولم يمض وقت طويل حتَّى انتشر الخبر بين الناس، وأخذ الجميع يتحدَّثون عن اعتناق مصعب الإسلام، وقد أثار هذا الأمر غضب أُمِّ مصعب وأقاربه، مِمّا دفعهم إلى حبسه في المنزل؛ عسى أنْ يعدل عن رأيه ويَهجر الإسلام ويترك صُحبة محمّد (صلى الله عليه وآله).

لكنَّ هذا العقاب لم يترك أدنى أثر في نفس مصعب، ولم يستطع أنْ يثنيه عن مواصلة الدرب الذي اختاره لنفسه؛ لأنَّ مُصعباً الشابَّ قد اختار الإسلام على أساس مِن العقل والمنطق، واعتنقه وهو في كامل وعيه.

١٨٤

لقد بقي مصعب مُتمسِّكاً بإسلامه، مُقتدياً بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبنهجه حتّى آخر عمره ((وشَهِدَ مُصْعَبٌ بَدراً معَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشَهِدَ أُحُداً ومَعَهُ لِواءُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقُتِلَ بأُحُدٍ شهيداً) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٨٥

أوّلُ مَنْ جَمَعَ الجُمعَةَ بِالمَدِينَةِ

ثابر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على نشر دعوته في الخَفاء مُدَّة مِن الزمن، وبعد أنْ اعتنق عدد كبير مِن الناس الإسلام، ولبُّوا دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أشهر دعوته إلى الإسلام بأمر مِن الله سبحانه وتعالى، ومِن حينها بدأ بتلاوة القرآن في أوساط الناس في مَكَّة، وأخذ ينشر دعوته بينهم.

كان المُسافرون الوافدون على مدار السَّنَة إلى مَكَّة مِن الخارج للعبادة والزيارة، يُشارك غالبيَّتهم في المجالس العامَّة، التي كان يحضرها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ويستمعون إلى خُطبه ومواعظه، وبعد عودتهم إلى ديارهم كان كلٌّ منهم يروي لأهله وأقاربه ما شاهده مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعه منه، وأخذت دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنتشر تدريجيَّاً في كافَّة مناطق الجزيرة العربيَّة لا سِيَّما في المدينة المنوَّرة، وبدأ الناس يتعرَّفون على الإسلام، وعلى منهجيَّة هذا الدين السماويِّ المُقدَّس.

وكانت النتيجة أنْ ازداد عدد المؤيِّدين للإسلام، حتَّى إنَّ بعضهم قد انشدَّ إلى دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل أنْ يراه.

وذات يوم قَدِم إلى مَكَّة رجلان مِن أشراف المدينة مِن قبيلة الخزرج، هما أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، ودخلا على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف صعبة للغاية، وبعد استماعهما لحديث الرسول (صلى الله عليه وآله) أعلنا إسلامهما صراحة. ثُمَّ قالا: يا رسول الله ابْعَثْ مَعَنا رَجُلاً يُعَلِّمُنا القُرآنَ ويَدْعُو النَّاسَ إلى أمْرِكَ.

وكانت المدينة يومها مِن أهمِّ مُدن جزيرة العرب، وكانت تقطنها قبيلتان معروفتان هُما الأوس والخزرج، وكانت هاتان القبيلتان - وللأسف - تتبادلان العِداء لبعضهما البعض، وتخوض كلٌّ منها معارك ضِدَّ الأُخرى استمرَّت سنين طويلة.

١٨٦

وقد كان هذا الطلب فُرصة مُناسبة ومُهمَّة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والمسلمين الذين كانوا يعيشون ظروفاً صعبة، وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأنصاره وموالوه يُدركون - جَيِّداً - أنَّهم إذا استغلُّوا هذه الفرصة بشَكل جيِّدٍ، وإذا استطاع مبعوث الرسول (صلى الله عليه وآله) تعريف الإسلام إلى أهل المدينة بطريقة صحيحة وحكيمة، وجعلهم يعتنقونه ويؤمنون بما جاء به القرآن الكريم؛ فإنَّ نجاحاً عظيماً ومكسباً مُهمَّاً سيكون مِن نصيب المسلمين، الذين ستكون المدينة بالنسبة إليهم قاعدة مُهمَّة، ينطلقون منها لنشر دعوتهم وجهادهم ضِدَّ المُشركين، الذين كانوا يحكمون مَكَّة بالظلم والاستبداد، والكَبت والضغط، وسيكون بإمكان المسلمين التعاون مع أهل المدينة في نشر المعارف الإسلاميَّة، وزَلزلة كيان الشرك والظلم في مَكَّة.

وكانت المَرَّة الأُولى التي يطلب فيها أهل مدينة كبيرة يسودهم الخلاف مِن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إرسال مبعوث لهم، وكانت المَرَّة الأُولى التي يُقرِّر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إرسال مبعوث خارج مَكَّة.

مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ الذي يتمُّ اختياره لهذه المُهمَّة الخطيرة، ينبغي أنْ يكون كفوءاً مِن جميع الجِهات، وأهلاً لهذه المُهمَّة؛ حتَّى يستطيع تسوية الخلافات المُزمنة بين قبيلتي الأوس والخزرج، ونشر جوٍّ مِن المَحبَّة والأخوَّة بين أفرادها مِن جِهة، ويعمل مِن جِهة ثانية على نشر الإسلام، والدعوة له بشكل صحيح يترك أثره في القلوب ويشدُّ إليه الألباب.

وقد اختار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير الشابَّ مِن بين كافَّة المسلمين - شيوخاً وشبَّاناً - ومِن بين جميع أصحابه وأنصاره، مبعوثاً له إلى المدينة لأداء هذا الأمر المُهمِّ. (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ - وكانَ فَتى حَدثاً ـ.. وأمَرَهَ رسول الله بِالْخُرُوجِ مَعَ أسعد، وقد كان تَعَلَّمَ مِنَ القُرْآنِ كَثيراً).

وقد دخل مصعب المدينة وهو في عُنفوان شبابه، وقلبه مُفعم بالإيمان وبدأ مهامَّه

١٨٧

بشوق وخلوص نيَّة. وكان لبراعته في الخطابة وحرارة تلاوته القرآن، وحُسن أخلاقه في مُعاشرة الناس وتدبُّره في حَلِّ المشاكل وإزالة الخلافات، الأثر البالغ في نفوس الناس، الذين انشدُّوا إليه وإلى مَلكاته الحَسنة مِن حيث لا يشعرون.

ولم يمضِ وقت طويل حتَّى توجَّه إليه الناس نساءً ورجالاً، شيوخاً وشُبَّانً، رؤوساء عشائر وأفراد عاديِّين؛ ليُعلنوا اعتناقهم الإسلام ويتعلَّموا القرآن مُطهِّرين قلوبهم مِن الأحقاد والأضغان، مُتآلفين مُتآخين، وأقاموا صلاة الجماعة في صفوف مُتراصَّة.

لقد نفذ مصعب بن عمير الشابُّ مُهمَّته في المدينة على أفضل وجه، ونال فخراً عظيماً. (إنَّهُ أوّلُ مَنْ جَمَعَ الجُمعَةَ بِالمَدينَةِ، وأَسْلَمَ على يَدِهِ أُسَيْدُ بْنُ خُضَيْرٍ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ، وكَفى بِذلِكَ فَخْراً وأَثَراً في الإسلامِ).

لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يعلم جيِّداً، أنَّ هناك في المدينة رجالاً مُسنِّين وشخصيَّات لها مكانتها مِن العصب جِدَّاً أنْ يَمتثلوا لأوامر شابٍّ بعمر مصعب، وكان بمقدور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يختار مِن بين أصحابه أكبرهم سِنَّاً ليكون مبعوثاً له إلى المدينة، أو أنْ يختار عدداً مِن الرجال يُشكِّلوا بعثة تتولَّى هذه المسؤوليَّة، ولكنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يختر سوى مصعب بن عمير الشابَّ، لتحميله هذه المسؤوليَّة وإيفاده إلى المدينة، التي كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) - وقتها - يعتبرها بلداً مُهمَّاً، يثبت لأنصاره ومواليه أنَّ الشرط الأساسي، الذي يُخوِّل المرء لتسلُّم أهمِّ المناصب والمسؤوليَّات في الإسلام، هو اللياقة والكفاءة وليس سنوات العمر، فإذا ما وجد بين جيل الشابَّ لبلد ما مِن هم أفاء يجب الاعتماد عليهم وتسليمهم زمام الأمور لإدارة البلاد (١) .

____________________

(١) الشابَّ، ج١.

١٨٨

الكفاءة لا السِّن هي المقياس

أقدم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في أواخر عمره الشريف على تعبئة طاقات المسلمين لمُحاربة بلاد الروم، وشكَّل جيشاً عظيماً ضمَّ كِبار قادة الجيش وأُمرائه، وكِبار وجهاء المُهاجرين والأنصار وكافَّة رؤساء القبائل العربيَّة.

ويوم خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مِن المدينة ليستعرض جيشه، لاحظ وجود كِبار وجهاء المسلمين في صفوف الجيش، (فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وُجُوهِ المُهاجِرينَ والأنْصارِ إلاَّ انْتَدَبَ في تِلْكَ الغزاةِ، فِيهِم أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وسَعْدُ بنُ أبي وَقّاصٍ وسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ وأَبُوا عُبَيْدَةَ وقَتادَةُ النُّعْمانِ).

مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ قيادة جيش عظيم، كالذي شكَّله الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمُحاربة الروم، مسألة دقيقة وحسَّاسة للغاية؛ إذ كان على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يختار - حتماً - الأنسب والأكثر كفاءة ولياقة لتعيينه قائداً للجيش.

فكان أنْ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله أُسامَةَ بْنَ زَيدٍ، ونصبه قائداً للفرقة وشدَّ له الراية بيديه الشريفتين: (واسْتَعمَلَهُ النَبيُّ صلى الله عليه وآله وهُوَ ابْنُ ثَمانِيَ عَشَرَ سَنَةً).

ومثل هذا الاختيار - إنْ لم نقل: إنَّ التاريخ العسكري في العالم لم يشهد نظيراً له فلا بُدَّ مِن القول: - إنَّه يندر حصوله.

وبالرغم مِن أنَّ عالمنا المُعاصر، يولي اهتماماً بالغاً لجيل الشباب، ويوفِّر له الدعم الكامل، وبالرغم مِن أنَّ البُلدان المُتطوِّرة الأوروبيَّة والأميريكيَّة، تسعى جاهدة إلى تكليف شبابها بمسؤوليَّات جِسام، فإنَّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أقدم قبل أربعة عشر قَرناً على خطوة عسكريَّة مُهمَّة؛ دعماً منه للشُبَّان الأكفَّاء، حيث ولَّى

١٨٩

شابَّاً في الثامنة عشرة مِن العمر قائداً لجيشٍ إسلاميٍّ عظيم، لمُحاربة إمبراطوريَّة الروم، ألا وهو أسامة بن زيد.

وكان على كبار القادة الذين خاضوا أصعب المعارك وأشدَّها أواراً، ورفعوا راية الإسلام خفَّاقة فوق أعظم قلاع العدوِّ استحكاماً، وكذلك كان على أشجع الفُرسان وأكثرهم بسالة مِمَّن خبروا شؤون الحرب، وعلى وجهاء العرب والشخصيَّات الإسلاميَّة البارزة، الذين جسَّدوا في أحلك الظروف لياقتهم وكفاءتهم، كان عليهم جميعاً أنْ يمتثلوا لأوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويُشاركوا في هذا الحشد العسكريِّ مُطيعين أوامر قائدٍ شابٍّ، وهذا ما كان يصعب عليهم تصديقه وتحمُّله.

مِثل هذا الاختيار قد أثار الدهشة والحيرة لدى كبار القادة والأُمراء، الذين تلقّوا النبأ بكثير مِن التعجُّب والقلق، وأخذوا يتبادلون نظرات الحيرة، وأفصح بعضهم عمَّا يختلج في نفسه وما يُضمره قلبه:

(فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ وقالُوا: يُسْتَعْمَلُ هذا الغُلامُ عَلى المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ؟!

فَغَضِبَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) غَضَباً شديداً، فَخَرَجَ فَصَعَدَ المنْبَرَ فَحَمِدَ الله وأثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ:

(أَمّا بَعْدُ أَيُّها النَّاسُ، فَما مَقالةٌ بَلَغَتني عَنْ بَعضِكُمْ فِي تَأمِيري أُسامَةَ؟

ولَئِنْ َطَعَنْتُمْ فِي تَأمِيري أُسامَةَ، فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي تَأمِيري أَباهُ قَبْلَهُ. وأيمُ الله، إنَّه كانَ للإمارَةٍ خَليقاً وإنَّ ابْنَهُ بَعْدَهُ لَخَليقٌ لإمارَةٍ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٠

إنَّ الله يُحِبُّ إذا خَرَجَ عَبْدُهُ المؤمِنُ إلى أخيهِ

أنْ يَتَهيّأَ لَهُ وأنْ يَتَجَمَلَّ

عن الإمام الصادق (عليه السلام): (جاء رجل إلى بيت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) طالباً لقاءَهُ، وعندما هَمَّ النبي (صلى الله عليه وآله) بالخروج مِن حُجْرَتِهِ وقف عند وعاء فيه ماء داخل الحُجْرة، فنظر فيه ومَشَّط شَعره ولحيته المُباركة فدهشت عائشة لما رأت، وبعد عودة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) سألته قائلة:

يا رسول الله، لماذا وقفت عند وعاء الماء ومَشَّطت شَعرك ولحيتك قبل خروجك للرجل؟!

فقال صلَّى (صلَّى الله عليه وآله): يا عائِشَةُ، إنَّ الله يُحِبُّ إذا خَرَجَ عَبْدُهُ المؤمِنُ إلى أخيهِ أنْ يَتَهيّأَ لَهُ وأنْ يَتَجَمَلَّ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩١

أستحيي مِن رَّبَّي أَنْ أتفضَّلَ عَلَيكَ

عن الإمام الباقر (عليه السلام):

(إنَّ أَميرَ المؤمِنينَ (عليه السلام) أَتى سوق البَزَّازينَ، فَقالَ لِرَجُلٍ: بِعْني ثَوْبَيْنِ.

فَقالَ الرَّجلُ: يا أَميرَ المؤمنينَ، عِنْدي حاجَتُكَ.

فَلَمَّا عَرَفَهُ مَضَى عَنْهُ، فَوَقَفَ على غُلامٍ فأَخَذَ ثَوْبَيْنِ أَحَدَهُما بِثلاثةِ دَرِاهمَ والآخرَ

رهمين، فقال: يا قَنبر خُذِ الذي بثلاثةٍ.

فقالَ قنبر: أنْتَ أَوْلى بِهِ، تَصْعَدُ المِنْبَرَ وتَخْطُبُ النّاسَ.

فَقالَ: وأَنتَ شابٌّ ولَكَ شَرَهُ الشّابِّ، وأَنا أَسْتَحْيي مِن رَبّي أَنْ أتفضَّل عليك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسُوهُمْ مِمَّا تلبسون وأطعموهم مِمَّا تأكلون) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٢

الأحْداث أَسْرَعُ إلى كُلِّ خَيْرٍ

دخل رجل يُدعى: (أبا جعفر الأحول) - وهو مِن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وعمل مُدَّة داعياً ومُبلِّغاً للمذهب الشيعي، لنشر تعاليم أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام) ـ.. دخل يوماً على الإمام الصادق (عليه السلام)، فسأله الإمام (عليه السلام): (كَيْفَ رأَيْتَ مُسَارَعَةَ الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟).

قال: والله، إنَّهم لقليل.

فقال (عليه السلام): (عَلَيْكَ بالأحْداثِ؛ فإنَّهُمْ أَسْرَعُ إلى كُلِّ خَيْرٍ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٣

إذ هممت بأمر فتدبَّر عاقبتهُ

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إنَّ رجلاً أتى النبيَّ (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، أوصيني.

فقال له رسول الله: فهل أنت مُستوصٍ إنْ أنا أوصيتُكَ؟

حتَّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كُلّها يقولُ الرَّجُلُ: نَعَمْ، يا رسول الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

فإنِّي أوصيك إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبَّر عاقبته، فإنْ يَكُ رُشداً فأمضه، وإنْ يَكُ غَيَّاً فانته عنه) (١) .

____________________

(١) الشاب، ج١.

١٩٤

لم يكن لي جريمة فأخشاها

بعد مضيِّ سنة على وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) قَدِم المأمون العباسي إلى بغداد، وذات يوم اعتزم الخروج إلى الصيد، فمرَّ بأحد الأحياء المُحيطة بالمدينة، وكانت هناك مجموعة مِن الأولاد يلهون على الطريق، ومُحمد (الإمام الجواد) (عليه السلام) واقفٌ معهم، وكان عمره إحدى عشرة سنة فما حوله، فدنا المأمون منهم، ففرَّ الأولاد ولم يبقَ منهم سوى الإمام الجواد (عليه السلام) الذي لم يُحرِّك ساكناً، وشاهد الخليفة ما حصل، فدنا مِن الإمام (عليه السلام) وسأله عن سبب عدم فِراره مع بقيَّة الأولاد.

فقال الإمام (عليه السلام) مُسرعاً: (يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيق لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظَنِّي بك حَسن، إنَّك لا تضرُّ مَن لا ذنب له فوقفت. فأعجبه كلامه ووجهه)، فقال له: ما اسمك؟

قال: (محمد).

قال: ابن مَن أنت؟

قال: (يا أمير المؤمنين، أنا ابن علي الرضا) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٥

أداء الأمانة زيادة في الرزق

كان في عهد عبد الملك بن مروان تاجر معروف بالصدق والعمل الصالح؛ ولحُسن سمعته في سوق دمشق واعتماد الناس عليه وثقتهم به؛ كانوا يودعونه مُمتلكاتهم وبضاعتهم ليبيعها لهم ويأخذ أجرته على ذلك.

وذات يوم انحرف التاجر في إحدى صفقاته عن قويم مسيره وخان الأمانة، فشاع الخبر وانتشر بسرعة البرق بين الناس، وأصبح الشغل الشاغل لألسنتهم، ففقد التاجر ثقة العامَّة والخاصَّة به واهتزَّت شخصيَّة، وسحب الناس ثقتهم به، فلم يأمنوه بعدها على بضاعتهم، حتَّى ساءت أُموره وتشتَّت تجارته، وأخذ دائنوه يُلحون في الطلب.

وكان للتاجر وَلد عاقل تبدو على ملامحه الفراسة والذكاء، قد اعتبر مِن تجربة أبيه المريرة، وتعلَّم منها درساً لا يُنسى، وعرف أنَّ مُجرد انزلاق أو خيانة واحدة قد تؤدِّي إلى القضاء على كرامة الإنسان وشرفه، وتُبدِّل حياة العِزِّ إلى الذِّلِّ والسوء، فقرَّر في قرارة نفسه أنْ يبتعد حتَّى عن مُجرَّد التفكير بالخيانة والذنب، ويضع على الدوام نُصب عينيه الطهارة والتقوى والنزاهة، وكان لسلوكه السليم هذا مردودٌ إيجابيٌّ عليه، فقد رفعه عِزَّاً وأدخله في جميع القلوب، واتَّفق أنْ بعث عبد الملك بن مروان جاراً له وهو قائد عسكريٌّ كبير بمَعيَّة جيش المسلمين في مُهمَّة لقتال الروم، فاستدعاه الجار قبل توجُّهه إلى ميادين القتال، وأودعه جميع ماله البالغ عشرة آلاف دينار مِن الذهب، وأوصاه بأنْ يحتفظ بالمال كأمانة لديه حتَّى عودته مِن القتال إنْ سَلِم، ووعده بأنْ يُعطيه أجراً على أمانته، وإذا لم يَعُد فأوصاه بأنْ يُسلِّم المبلغ إلى أُسرته متى ما ضاقت عليهم الأرض، بعد أنْ يقتطع منها عُشرها ليعيشوا حياة كريمة... وهكذا كان، فقد رحل القائد دون أنْ يعود.

١٩٦

وحينما علم والد الشابِّ - أيْ: التاجر المُفلس - بمقتل جاره قال لابنه: إنَّه لا أحد يعلم عن القطع الذهبيَّة المؤمَّنة لديه، وأنا - أيْ الأبّ - الآن على ما تراني في أشدِّ الضيق، وأطلب أنْ تُعطيني بعضها على أنْ أردَّها عليك متى صلح حالي وحَسنت عِيشتي.

فأجابه الشابُّ: يا أبتاه، إنَّ الخيانة والانحراف هو الذي أدَّى بك إلى ما أنت عليه مِن الشقاء. فبالله، لن أخون الأمانة لو قطعت إرباً إرباً، ولا أُعيد خَطأك ثانية؛ كي لا أشقى كما شقيت.

ومضت فترة، ساءت فيها أحوال ذوي القائد القتيل، فجاءوا إلى الشابِّ طالبين منه أنْ يكتب رسالة عنهم إلى عبد الملك بن مروان؛ يُعلمه فيها بفقرهم وشِدَّة حالهم، فلرُبَّما رثى لهم وأعانهم ببعض المال. فكتب لهم ما أمر به وسُلِّمت الرسالة ولكنْ دون جَدوى، فقد أجاب عبد الملك أنْ أيَّ شخصٍ يُقتل يُحذف اسمه مِن ديوان بيت المال.

ولمَّا علم الشابُّ بالجواب واليأس الذي سيطر على ذوي القائد القتيل، قال في نفسه: حانت الآن فرصة أداء الأمانة، فلا بُدَّ مِن أنْ أضع القطع الذهبيَّة تحت تصرُّفهم لإنقاذهم مِن الفَقر والفاقة، فدعا أُسرة القائد إلى منزله وقال لهم: إنَّ أباكم استودعني شيئاً مِن المال، وأوصاني أني أُسلِّمه إيَّاكم عند الحاجة الماسَّة إليه بعد أنْ أقتطع عُشْرَه، فطار أبناء القائد فَرحاً لدى سماعهم النبأ وقالوا: سنعطيك ضعف ما أوصى به أبونا.

جاء الشاب بالمال وسلَّمهم إيَّاه، فأعادوا إليه ألفي دينار وأخذوا ثمانية آلاف، ولم تمضِ أيَّام على هذه القضيَّة، حتَّى استدعى عبد الملك أُسرة القائد القتيل إلى بلاطه ليُحقِّق حول الرسالة، وسألم عن حالهم، فأخبروه بما جرى لهم مع الشابِّ، عندها استدعى عبد الملك الشابَّ فوراً، وأثنى عليه لأمانته وصدقه وسَلَّمه مسؤوليَّة خزينة البلاد قائلاً له: إنِّني لا أعرف أحداً قد قام بأداء الأمانة كما أدَّيتها أنت (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٧

تجربة الحدَّاد وفتح عمَّوريَّة

لمَّا خرج ملك الروم وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر المُعتصم فاستعظمه وكَبُر لديه، وبلغه أنَّ امرأة هاشميَّة صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم وامعتصاه، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك.

ونهض مِن ساعته وصاح في قصره النفير النفير، وبلغه أنَّ عمَّوريَّة عَين النصرانيَّة وأشرف عندهم مِن القسطنطنيَّة؛ لتجهِّزها بما لم يُعهد مِن السلاح وحياض الأدم وغير ذلك، وفرَّق عساكره ثلاث فِرق، فخربوا بلاد الروم وقتلوا كثيراً وأحرقوا ووصلوا إلى ((أنقورية)) ثمَّ اجتمعوا في عمَّوريَّة وحاضروها ونصبوا عليها المجانيق، وكانت في غاية الحصانة، وقد ذكر الشيخ مُحيي الدين بن العربي في كتابه المسمى: (بالمسامرة) فتح عمَّوريَّة فقال: فتحها المُعتصم في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين.

وسبب فتحها أنَّ رجلاً وقف على المُعتصم فقال: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية وجارية مِن أحسن النساء أسيرة قد لطمها عِلجٌ في وجهها فنادت: وامعتصماه!

فقال العِلج: وما يقدر عليه المُعتصم؟ يجيء على أبلق ينصرك وزاد في ضربها.

فقال المُعتصم: وفي أيِّ جهةٍ عمَّوريَّة؟

فقال له الرجل: هكذا وأشار إلى جهتها.

فردَّ المُعتصم وجهه إليه، وقال: لبيك أيَّتها الجارية، لبيك هذا المُعتصم بالله قد أجابك، ثمَّ تجهَّز إليها في اثني عشر ألف فرس أبلق... فلمَّا حاصرها وطال مقامه عليها جمع المُنجِّمين، فقالوا: إنَّا نرى أنَّك ما تفتحها إلاَّ في زمان نضج

١٩٨

العِنب والتين، فبعُد عليه ذلك واغتمَّ له، فخرج ليلة مُتجسِّساً في العسكر يسمع ما يقوله الناس. فمَرَّ بخيمة حدَّاد يضرب نعال الخيل وبين يديه غُلام أقرع قبيح الصورة، يضرب نعال الخيل ويقول: في رأس المُعتصم.

فقال له مُعلِّمه: اتركنا مِن هذا، ما لك والمُعتصم؟

فقال: ما عنده تدبير، له كذا وكذا يوماً على هذه المدينة مع قوَّته ولا يفتحها، لو أعطاني الأمر ما بتُّ غداً إلاّ فيها، فتعجَّب المُعتصم مِمَّا سمع وانصرف إلى خيامه، وترك بعض رجاله موكَّلا بالغُلام، فلمَّا أصبح جاءوا به، فقال: ما حملك - يا هذا - على ما بلغني مِنك؟

فقال: الذي بلغك حَقٌّ، ولِّني ما وراء خبائك وقد فتح الله عمَّوريَّة.

قال: ولَّيتك. وخلع عليه وقدَّمه على الحرب.

فجمع الرُّماة واختار منهم أهل الإصابة وجاء إلى بدن مِن أبدان الصور، وفي البدن مِن أوَّله إلى آخره خَطٌّ أسود مِن خشب عرضه ثلاثة أشبار أو أكثر، فحمى السِّهام بالنار وقال للرُّماة: مَن أخطأ منكم ذلك الخَطَّ الأسود ضربت عُنقه، وإذا بذلك الخَطِّ خشب ساج فعندما حصلت فيه السهام المحميَّة قامت النار فيه واحترق، فنزل البدن فتح الطريق أمام جنود المسلمين فدخلوا القلعة مُكبِّرين (الله أكبر، الله أكبر) وصار الفتح والنَّصر مِن نصيبهم، وذلك قبل الزمان الذي ذكره المُنجِّمون. ولمَّا دخل المُعتصم القلعة راكباً الفرس الأبلق ومعه الرجل الذي بلغه حديث الجارية قال له: سِرْ بي إلى الموضع الذي رأيتها فيه تصيح (وامعتصماه)، فسار به وأخرجها مِن موضعها.

وقال لها: يا جارية، هل أجابك المعتصم؟ وملَّكها العِلْج الذي لطمها والسيِّد الذي كان يملكها وجميع ماله، وأقام عليها خمسة وخمسين يوماً وفرَّق الأسرى على القوَّاد، وسار إلى طرسوس، ثمَّ رجع إلى دار مُلكه.

لم يكن لهذا الغلام الشابِّ - صانع الحدَّاد - أيَّة ثروة علميَّة، لكنَّه انتفع مِن

١٩٩

مدرسة الحياة، وكان قد قضى جانباً مِن حياته في الحِدادة، واكتسب مِن مُشاهداته اليوميَّة دروساً كبيرة، فقَرن الحدادة والفلز المُنصهر، وشَرر النار واحتراق الخشب والاشتعال السريع لخشب الساج، وما إلى ذلك مِن معلومات اكتسبها ذِهن الحدَّاد الشابُّ وكوَّنت في ضميره تجارب مُفيدة.

فعندما عجز كبار الرجال والمُتعلِّمون عن فتح قلعة عمُّوريَّة، وحينما بات العُلماء وكبار الضباط في حيرة مِن أمرهم وغلبهم اليأس والقنوط، تدخَّل الغُلام الشابُّ وحَلَّ المُعضلة بسُرعة وسهولة فائقتين، مُستفيداً مِن تجاربه ومُشاهداته اليوميَّة أثناء عمله كحدَّاد (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421