القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359655 / تحميل: 10434
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عن المران والممارسة؛ فما من خطيب إلاّ وكانت له البداية صعبة، غير أنّ هذه الصعوبة تزول بالممارسة والتدريب.

وينبغي أن نلفت انتباه الخطيب المبتدئ إلى مراعاته مراحل المران، والممارسة؛ فإنّ لها مراحلَ سنتكلم عنها في أبحاث قادمة إن شاء الله تعالى.

٢١

٢٢

الباب الثاني

إعداد الخطبة

1 - كيف نكتب الخطبة

2 - الإيجاد

3 - الأدلّة

4 - إثارة الأهواء والميول

5 - التفنيد

٢٣

كيف نكتب الخطبة

من أوّل الصعوبات التي تواجه الخطيب المبتدئ عدم معرفته للنحو الذي تكتب به الخطبة، علاوة على عدم معرفته اختيار موضوع مناسب لها.

ولتسهيل هذه المهمّة نتّبع الخطوات التالية:

أولاً: الإيجاد

يراد من ذلك إعمال الفكر لاستنباط الموضوع والوسائل التي من شأنها تقوية مضمون الموضوع واجتذاب إقناع السامع، وإثارة حماسه إلى ما يدعو إليه الخطيب.

إنّ عمل الخطيب أن يقدّم الحقائق، فعليه أن يكون عند تقديمها بحالٍ لا تمنع من قبول كلامه، بل يجب أن يكون بحالٍ تجذب الناس إليه، وتدفعهم إلى الإنصاف له وتقبّله بقبول حسن(1) .

أمّا كيف يختار موضوعه عند جولان فكرهِ؟!

ينبغي للخطيب أن يكون مثله مثل الطبيب بالنسبة إلى المريض، يشخّص المرض الواقعي، ويعالجه علاجاً واقعيّاً، وخلاف ذلك يكون سبباً لانصراف المريض عنه.

الخطيب كذلك، مهمّته إصلاح الفاسد من اُمور المسلمين، وتقوية الخير وتثبيته في نفوسهم، فينبغي أن يتوجّه في اختار موضوع خطبته إلى المشاكل الواقعيّة في حياة المسلمين المخاطبين؛ المشاكل الاجتماعيّة، العقائديّة، الأخلاقيّة وغيرها، يختار ذلك ويضع لها الحول الإسلاميّة؛ فإنّه إن فعل هذا

____________________

(1) المصدر نفسه / 24.

٢٤

كان داعياً إلى إقبال المخاطبين عليه.

ثانياً: الأدلّة

بعد أن وضع الخطيب تفكيره على الموضوع الواقعي فإنّه يلجأ إلى تنسيقه وترتيبه بإيجاد الشواهد والأدلّة المقويّة له، بحيث تكون هذه الوسائل باعثة على تقوية اعتقاد المخاطبين بالفكرة المطروحة في الخطبة، وهذه الوسائل التي يعبّر عنها (بالمواضيع) هي المصادر التي يمكن للخطيب أن يتّخذ منها ما يستدلّ به على دعواه، وتنقسم إلى قسمين:

أ - المواضع الذاتية

وهي الوسائل أو الأدلّة التي تكون من ذات الموضوع لا من شيء خارج عنه، وهي على أنواع:

1 - التعريف

يلجأ الخطيب إلى التعريف في حالات:

أ - لتحرير محلّ النزاع بين فريقين مختلفين في معرفة مفهوم الشيء.

ب - عند مدح شيء، أو ذمّه فيعرّفه بصفاته؛ كقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه»(1) .

____________________

(1) نهج البلاغة / الخطبة 57.

٢٥

ج - عندما يريد إيضاح أمر اُشكل فهمه على السامعين، فيعمد إلى تعريفه لتجتذب القلوب إليه، ويوضّح للسامعين ما أشكل عليهم أمره.

وطرق التعرف كثيرة، منها بيان أهم خواصه، كقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «والمتّقون هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع...».

أو بالاستعارات أو التشبيه، أو بيان أنواعه وأقسامه، كقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «الرزق رزقان؛ رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك...»(1) .

2 - المقابلة

هو أن يعقد الخطيب المقابلة بين شيئين ليبيّن الحقّ فيهما؛ فإنّ الأشياء تتميّز بأضدادها وتُعرف بنظائرها. فالمقابلة أمر معيّن للاستدلال الخطابي، وتعطي الكلام حلاوة ورونقاً، ويكون ذلك بأمرين:

أ - أن يذكر الخطيب الشيء ومقابله، ويذكر صفاتهما، ومن ذلك يتبيّن الحُسن منهما، كما في قول أمير المؤمنينعليه‌السلام للأشعث بن قيس في فضل الصبر: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور».

ب - أن يبرهن على بطلان المقابل فيثبت الشيء المطلوب، كما فعل أمير المؤمنينعليه‌السلام عندما ناقشه الخوارج، واعترضوا عليه بإباحة أموال أهل الجمل دون النساء والذريّة، فقد قال: «إنّما أبحت لكم أموالهم

____________________

(1) الخطابة - اُصولها، تاريخها / 27.

٢٦

بدلاً عمّا كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم.

والنساء والذريّة لم يقاتلونا، وكان لهم حكم الإسلام بحكم دار الإسلام، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام، ولا يجوز استرقاق من لم يكفر. وبعد، لو أبحت لكم النساء أيُّكم يأخذ عائشة في سهمه؟!». فخجل القوم(1) .

3 - التشابه وضرب الأمثال

يعمد إليهما الخطيب لتقريب الاُمور التي يدعو إليها من نفوس المخاطبين؛ ليأخذوها قضية مسلّمة لا يناقشون فيها، ولا ينظرون إليها نظرة فاحصة كاشفة؛ فيعقد صلة ومقارنة بين الفكرة الجديدة وبين الأمر المعروف عند المخاطبين والمقبول عندهم، فيقبلوا الجديد بقبول القديم، أو يلجأ إلى المقارنة بين الأمر الذي يدعو المخاطبين إليه والأمر الذي تسلّم به جماعات اُخرى(2) .

وينبغي الترفّع عن ضرب الأمثال العاميّة الساذجة.

____________________

(1) المصدر نفسه / 34.

(2) المصدر نفسه / 35.

٢٧

4 - العلّة والمعلول

التعليل روح الاستدلال، فالعلّة الباعثة على الفعل، والغاية المنشودة منه طريق للحكم عليه بأنّه خير أو شرّ، وبأنّه صحيح أو باطل، وبأنّه سائغ أو غير سائغ؛ لذلك يعمد الخطباء إلى ذكر الباعث على الأفعال، والدوافع إليها؛ ليتخذ منها سنداً في الحكم عليها(1) .

كقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «... هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا.

وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ؛ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا، وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ.

فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى؛ يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلا تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ!»(2) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 32.

(2) نهج البلاغة / الخطبة 27.

٢٨

5 - التعميم ثمّ التخصيص

هو أن يبتدئ الخطيب بقضيّة مسلّم بها، أو في منزلة المسلّم بها للتقرير، ثمّ يذكر بعض الجزئيات.

مثال ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الوداع: «... وإنّ رِبا الجاهليّة موضوع، وإنّ أوّل رِباً أبدأ به رِبا عمّي العباس بن عبد المطلب، وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دمٍ أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب».

فتراهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبتدئ بحكم عام، فيسقط الربا كلّه، ثمّ يخص رِبا العباس بالإسقاط، ليبيّن للناس إنّه يبتدأ بتنفيذ الأحكام على أقرب الناس إليه فيكون ذلك أسوة حسنة، وهكذا في الدماء(1) .

6 - التجزئة

وهذه مقابل للتعميم والتخصيص، وهي منهج خطابي يعمد إليه الخطيب عندما يريد المبالغة في إثبات الحكم، والحرص على تأكيده، وتقريره في نفوس السامعين.

فالتجزئة لا يعمد إليها إلاّ في مقام الإطناب، ولا يتّجه إليها الخطيب في مقام الإيجاز. ولها طريقان:

أ - أن تُتبع الجزئيات ليستنبط منها جميعاً حكماً واحداً.

ب - أن تُتبع الجزئيات ليخص واحداً من بينها بحكم؛ لزيادة

____________________

(1) المصدر نفسه / 31.

٢٩

التنبيه على خصائصه، وللحث على الأخذ به، أو التنفير منه(1) .

ب - المواضع العرضية

وهي مصادر خارجة عن ذات الموضوع؛ وذلك لأنّ المخاطب أحياناً لا يدرك ما في ذات الموضوع من خصائص ومزايا وثمرات، فيصعب عليه أن يقتنع بأدلّة تستمد قوّتها من تلك الخصائص، فيستعان على إقناعه باُمور خارجة عن ذات الموضوع.

وهذه الاُمور هي عند المخاطب صادقة، وهو لها مذعن؛ فيبيّن الخطيب أنّ تلك الاُمور تؤيده، وتحثّ على ما يدعو إليه، فيسلّم المخاطَب بما قدّم له من غير جدل، ويذعن لها من غير نقاش(2) .

وأكثر تلك المواضع قوةً وأثراً هي:

1 - الدين

وهو أكثر الاُمور سيطرة على القلوب، خصوصاً قلوب العامّة؛ فإنّه لهم المرشد الأمين، والمربي للوجدان، والموقظ للضمائر، والمسلّي لمَنْ نزلت بهم الهموم، والمتدينون لا يخضعون لشيء كما يخضعون لدينهم، ولا يصدعون إلاّ بحكمه.

فإذا أيّد الخطيب في جماعة متدينة قضاياه بالدين، وربط بينها وبين دينها بصلة أجابت الجماعة نداءه، ولبته في حماسة وقوة(3) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 29.

(2) المصدر نفسه / 39.

(3) المصدر نفسه / 39.

٣٠

2 - العادات

لكلّ جماعة من الناس عادات تسودها، وتسيطر عليها، وهي متمكّنة من نفوسها، ومستولية عليها. فإذا كان لعادات الجماعة هذه القوّة يجب على الخطيب أن يعتمد عليها في مقام التأثير، بأن يقرّب ما يدعو إليه بما يألفون من عادات، وما اصطلحوا عليه من عرف؛ ليسكنوا إلى الأمر، ويخضعوا له، ويطمئنوا إليه؛ لأنّ إقبال الناس يكون شديداً على الاُمور التي تكون من جنس ما يألفون(1) .

3 - أقوال النبي وأهل بيتهعليهم‌السلام

وذلك باب واسع له روعة وهزّة في النفوس؛ فإنّ المخاطَب يقبل أقوالهم بقوّة، مسلّماً لها من غير اعتراض. وهذه الأقوال تعطي للخطبة قوّة في تأييد المعنى المراد إيصاله إلى المخاطبين.

4 - حوادث التاريخ

تحتل الحوادث التاريخية مكاناً مهمّاً في قلوب المخاطبين، فهي فرصة للخطيب أن يدفع عن نفوسهم الملل والتضجّر. إضافة إلى هذا، فإنّها من المؤيّدات القويّة، والشواهد المساعدة على تثبيت المدّعى في قلوب السامعين؛ وذلك بتصوير المدّعى بأنّه أمرٌ واقعي، وليس ضرباً من المثالية والخيال، بأنّ له نظائرَ من الواقع بحدث تأريخي.

____________________

(1) المصدر نفسه / 40.

٣١

5 - المصادر والمواثيق

قد لا يكفي ذكر الشواهد والوسائل المؤيّدة فقط، بل تحتاج إلى ذكر المصادر التي استمد منها الخطيب ما نقله من المؤيّدات، ويكون ذلك خاصة إذا ما نقل من كتب ومصادر المخالفين، أو عند ذكر أمر لم يسبق للمخاطبين التعرّف عليه، وإنّه ممّا يثير في نفوسهم التساؤلات.

6 - الشعر

فهو علاوة على إمكانيّة الاستدلال به على تثبيت المدّعى وتقويته في نفوس السامعين، إنّه يفتح باباً عظيماً لانشراح صدورهم، ويزيل عنهم الملل والتعب، وينشّطهم على المواصلة والمتابعة لما يلقيه الخطيب.

٣٢

إثارة الأهواء والميول

مرمى الإقناع الخطابي ليس هو الإلزام والإفحام فقط، بل مرماه حمل المخاطَب على الإذعان والتسليم، وإثارة عاطفته، وجعله يتعصّب للفكرة التي يدعو لها الخطيب، ويتقدّم لفدائها بالنفس والنفيس عند الاقتضاء.

ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية لتساق جافة، ولا بالبراهين العقلية تقدّم عارية، بل بذلك وبإثارة العاطفة، ومخاطبة الوجدان، وإنّ الخطيب قد يستغني عن الدلائل العقلية، ولا يمكنه في أية حال الاستغناء عن المثيرات العاطفية، بل إنّ أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد منهم مخاطبة الوجدان، والتأثير في عواطفهم.

وهناك جملة من القواعد التي توصل إلى المراد من الخطبة مباشرة من غير وساطة(1) :

1 - البغض والمحبّة

إذا كان غرض الخطيب تأليف القلوب وجمعها على محبّة شخص، فيبيّن لهم:

أ - ما تحلّى به من السجايا، وما امتاز به من المواهب.

ب - إخلاصه وتواضعه، ولين جانبه في سلوكه مع الناس.

ج - بيان ما في الالتفاف حوله من خير.

أمّا إذا كان غرض الخطيب إثارة البغض على شخص، وإبعاد القلوب عنه، فيبيّن لهم:

____________________

(1) المصدر نفسه / 90.

٣٣

أ - ما طبع عليه من قبح الخصال، في لفظ نزيه وعبارات رفيعة لا تخدش الضمير الاجتماعي.

ب - بيان أعماله السيئة، وماضيه السيّئ.

ج - خبث سريرته، وعدم إخلاصه للجماعة.

د - بيان ما في الالتفاف حوله من عاقبة سيئة، وإعزاز للباطل، وإذلال للحقّ (1) .

2 - الرغبة والنفور

إذا كان غرض الخطيب إثارة الرغبة في أمر من الاُمور:

أ - أن يبيّن منافعه وثمرته التي تعود على الجماعة عند الأخذ به.

ب - تصوير الشيء بصورة تأخذ بالقلوب، وتستولي على الأفهام والعقول.

ج - كون الشيء قريب المتناول، وفي قدرة الناس.

د - بيان أنّ الأخذ به هو الرفعة إلى أسمى مراتب الإنسانيّة.

أمّا إثارة النفور من أمر:

أ - بيان المضار الناجمة عن ملابسته.

ب - تصوير الأمر بصورة تنفر منه النفوس.

ج - تحقيره وتحقير الآخذين به، وإنّهم من صغار الناس(2) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 90.

(2) المصدر نفسه / 91.

٣٤

3 - الفرح والحزن

- دواعي الفرح:

أ - كون الشيء له ثمرات عظيمة، وعاقبة حسنة.

ب - إنّه بعيد المنال، غير ميسور الحصول إلاّ بالجدّ والاجتهاد.

ج - الإشارة إلى شغف طائفة من الناس لطلبه، وإنّه المحبوب عندهم، والغاية المنشودة، والأمل المطلوب.

- وأمّا دواعي الحزن:

أ - ذكر المحنة وأثارها في النفس، وآلام وقعها.

ب - ذكر وقع المحنة في نفوس المؤمنين الصالحين والأولياء.

ج - بسط القول فيما أتى الله تعالى المفقود من مزايا وصفات أختص بها(1) .

4 - الأمل واليأس

الأمل: رغبة مستقبلية ولذّة مرجوّة، فمَنْ أراد أن يثيرها فعليه أن يتبع هذه الخطوات:

أ - بيان المزايا والثمرات في تلك الرغبة المرجوّة، وتصويرها بصورة كونها هي السعادة.

ب - إنّها سهلة التناول، قريبة من ذي الهمة.

ج - العمل والجدّ يخفيان المستحيل، ويكثران من الممكن، ويجعلان كلّ شيء في قدرة الإنسان إلاّ ما اختصّت به الأقدار، وعلا

____________________

(1) المصدر نفسه / 92.

٣٥

عن مغالبة الإنسان.

د - توجيه الناس إلى الاستعانة بالله تعالى، والثقة به، والاطمئنان إلى تأييده ونصرته.

أمّا في إثارة اليأس، وهو إذا رأى الخطيب إنّ الناس تمضي إلى شيء أشبه بالوهم، فهو مضطر أن يلقي في نفوسهم القنوط من هذه الناحية:

أ - أن يبيّن لهم إنّ سبيل المجد هو ما كان عمليّاً، لا ما كان خيالياً، وإنّ التمسك بما هم آخذون به أقرب إلى الخيال، وليحذر أن يكون في ذلك مصادمة لإحساسهم، بل يمهّد لهم بأنّ ما يعتقدون به إنّه مشاركهم في آمالهم، وإنّ إحساسه من إحساسهم، ثمّ يعقّب بعدة استثناءات حتّى يستدرجهم إلى ما يريد، ويأخذهم إلى ما ينبغي.

ب - أن يبيّن لهم المخاطر والمشاقّ التي تكتنف مَنْ يبغي تلك المطالب ويسعى إليها.

ج - ضرب الأمثال بمَنْ جهدوا أنفسهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم، ولم ينالوا أملهم، مع انصرافهم عن العمل المجدي النافع؛ وعليه أن يوجّه الناس إلى العمل المنتج المثمر(1) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 96.

٣٦

5 - الغضب والخوف

إذا أراد الخطيب إثارة الحماسة والنخوة، والإباء والحميّة وغيرها على الدين، أو العرض أو غيره؛ فهو يعمد إلى إثارة الغضب ليوقظ تلك السجايا من نومتها، وينبهها من غفلتها.

والطريق لذلك:

أ - أن يذكر الإهانة، ويعظمها، ويصوّرها في صورة مذكية للحفائظ، مثيرة للهمم.

ب - أن يذكر العار الذي يلحق الاُمّة إن لم تتحضّر لدفع تلك الإهانة بالذود عن حماها، والذبّ عن حياضها.

ج - أن يذكر الأمثال بذكر الأشباه والنظائر، ويجعل لهم الأحرار من الناس مثلاً يُحتذى به، وذوي الهمم اُسوة يُقتدى بها(1) .

مثال ذلك قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ! لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ؛ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ»(2) .

أمّا الخوف، وهو فيما إذا كانت الاُمّة في انحراف عن الجادّة فيلقي في نفوسهم

____________________

(1) المصدر نفسه / 100.

(2) نهج البلاغة / الخطبة 95.

٣٧

الرعب ليستقيموا، ويسلكوا سبيل الصواب.

أ - أن يبيّن لهم سوء العاقبة لما يفعلون، وأنّ الطامة الكبرى في طريقهم غير القويم.

ب - أن يبيّن لهم بأنّ فوات كثير من رغباتهم وطلباتهم من استمرارهم على غيهم، وأنّ الحرمان هو النتيجة الأولى لسلوكهم.

ج - أن ينيط عقاباً خاصاً يقع بالمستمر على غيّه الموغل في إثمه، وقد يقع التخويف بسوء العاقبة يوم القيامة(1) .

6 - الرحمة

لغرض إثارة بواعث الرحمة في نفوس السامعين، واستدرار عطفهم على طائفة من الطوائف أو شخص من الأشخاص، أو تحريك هممهم لعمل إنساني جليل فيه المواساة للآخرين يتبع:

أ - أن يذكر بأنّ الجميع أفراداً وجماعات مُعرَّضة للمصاب.

ب - كون بني الإنسان كالجسد الواحد.

ج - مَنْ لا يَرحم لا يُرحم.

د - أن يصوّر الحادثة تصويراً يثير الرغبة في المعاونة.

ﻫ - تصوير الداعي للرحمة في قوله، وعلامات وجهه، ونفحات صوته، وحركاته وإشاراته(2) .

____________________

(1) الخطابة - اُصولها، تاريخها / 101.

(2) المصدر نفسه / 103.

٣٨

التفنيد

يحتاج الخطيب في بعض الأحيان إلى تفنيد وإبطال ما يدّعيه المخالفون وأهل العناد والغي؛ فالتفنيد مقام خطير لا يناله إلاّ مَنْ اُوتي حظّ عظيم من البديهية، والعلم الغزير، والاستيلاء على أساليب القول. فالتفنيد هو إزالة تأثير حجج الخصم من نفوس السامعين.

وللتفنيد طريقان:

أ - أن يتصدّى لنقض براهين الخصم قبل استعراضها؛ وذلك بأن يفنّد كلّ ما يتصوّره دليلاً لخصمه، ويفرض كلّ الفروض ثمّ يهدمها فرضاً فرضاً حتّى لا يبقى أمر ثابت سوى دعواه، ويعمد إلى هذا بعد أن يشبع السامعين بدلائل إيجابيّة على صدق دعواه؛ ليكون التعقيب قطعاً لطريق الإثبات على الخصم، ومهاجمة له في صميم استدلاله.

ب - أن يعرض أدلّة الخصم، ثمّ يبيّن ما فيها من غلط وتلبيس، ويبطل ما يتّجه إليه من نظر(1) .

أوجه الردّ على الخصم:

أ - إبطال مقدّمة دليل خصمه.

ب - إقامة دليل على نقيض دعواه، والموازنة بين الدليلين، وإثبات أنّ دليله أقوم حجّة، وأسدّ منهجاً.

ج - المنع وعدم التسليم ببيان أن لا دليل على ما يقول(2) .

____________________

(1) المصدر نفسه / 127.

(2) المصدر نفسه / 129.

٣٩

فائدة

أ - إذا أراد الخطيب استخدام التفنيد فعليه ألاّ يفاجئ السامعين بالتصريح بما يعتقده كلّه، بل يشككهم فيما يعتقدون وفيما يفعلون، أو يصرّح لهم ببعض ما تتّجه براهينه حتّى إذا آنس منهم رشداً، وأدرك منهم ميلاً خاطبهم بكلّ ما في نفسه، وقد يكتفي ببيان ذلك القدر إن لم تكن النفوس قد تهيّأت، والعقول قد استيقظت لإدراكه كلّه(1) .

ب - أن لا يصرّح الخطيب باسم صاحب الرأي المخالف، خاصّة إذا كان له أتباع من الحاضرين والسامعين؛ فإنّ التصريح به علاوة على أنّه يغلق كلّ سبيل يؤدّي إلى إقناعهم وكسب موقفهم، فإنّه يهيّج روح التعصّب عندهم، ويؤزّم موقفهم على الخطيب، ويؤجّج روح العداوة في قلوبهم.

فالأفضل بالخطيب أن يقرع حجّة الخصم بالحجّة، ويبيّن للمخالفين مواضع الضعف في معتقداتهم وأفعالهم من غير إثارة أسماء وألقاب تتفاعل معها نفوسهم.

____________________

(1) المصدر نفسه / 121.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (١).

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (١).

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ ١٨ والـ ٢٣، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ ١٧، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (١).

____________________

(١) الشاب، ج٢.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421