القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359682 / تحميل: 10435
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فقال لإخوتها: (أمري فيكم وفي أُختكم جائز؟).

قالوا: نعم يا ابن عم محمد، أمرك فينا وفي أُختنا جائز.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (أُشهِد الله، وأُشهِد مَن حضر مِن المسلمين، أنِّي قد زوَّجت هذا الغُلام مِن هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد مِن مالي. يا قنبر! عليَّ بالدراهم). فأتاه قنبر فصبَّها في يَد الغُلام.

فقال: (خُذها وصُبَّها في حِجر امرأتك, ولا تأتنا إلا وبك أثر العِرس). (يعني: الغسل)، فقام الغُلام فصبَّ الدراهم في حِجر المرأة، ثمَّ تَلْبَبَها وقال لها: قومي.

فنادت المرأة: النار! النار! - يا ابن عَمِّ محمد - أُتريد أنْ تزوِّجني مِن ولدي؟! هذا - والله - ولدي! زوَّجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا، فلمَّا ترعرع وشبَّ أمروني أنْ أنتفي منه وأطرده، هذا - والله - ولدي وفؤادي يتقَّلى أسفاً على ولدي.

قال:... ثمَّ أخذت بيد الغُلام وانطلقت.

ونادى عمر: واعمراه لولا عليٌّ لهلك عمر (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢١

اتَّق الله الذي خلقك ثمَّ يُميتك

أتى إلى أبي عبد الله (عليه السلام) رجل فقال: يا ابن رسول الله، رأيت في منامي كأنِّي خارج عن مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكأنَّ شيخاً أو رجُلاً منحوتاً مِن خشب، على فرسٍ مِن خشب يلوح بسيفه، وأنا أُشاهده فزعاً مرعوباً.

فقال (عليه السلام) له: (أنت رجل تُريد اغتيال رجل في معيشته، فاتَّق الله الذي خلقك ثمَّ يُميتك).

فقال الرجل: أشهد أنَّك قد أوتيت علماً، واستنبطته مِن مَعدنه، أُخبرك يا ابن رسول الله، عمَّا قد فسَّرت لي: إنَّ رجلاً مِن جيراني، جاءني وعرض عليَّ ضَيعة، فهممت أنْ أملكها بوكس كثير، لمَّا عرفت أنَّه ليس لها طالب غيري (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٢

تفسير حُلْم

جاء رجل إلى ابن سيرين، ومعه جراب، فقال له: رأيت في النوم كأنِّي أسُدُّ الزُّقاق سَدَّاً وثيقاً شديداً.

فقال له: أنت رأيت هذا!

قال: نعم!

فقال لمَن حضره: ينبغي أنْ يكون هذا الرجل يَخنق الصبيان، ورُبَّما يكون في جِرابه آلة الخنق، فوثبوا عليه، وفتَّشوا الجِراب، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً، فسلَّموه إلى السلطان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٣

الحُلْم وكشف الحقائق

ما أكثر الأشخاص، الذين توصَّلوا إلى اكتشاف حقائق مجهولة، في الماضي والحاضر، عن طريق الأحلام، ولطالما أخبر الحُلْم بصراحة، أو بشيء مِن الاختلاف، وبمُساعدة التفسير عن بعض الحقائق، التي لم تكن تخطر على بال الحالم، أو ضميره الباطن! وإنَّ هذه الطائفة مِن الأحلام مِن الكثرة، بمقدار أنَّها لا تقبل الإنكار والتكذيب، وهناك في الأُسر الشرقيَّة والغربيَّة أفراد عديدون، تقع لهم أمثال هذه الأحلام.

فقد توفِّيت زوجة أحد العلماء القديرين المُعاصرين، وكانت تطلب في أيَّام حياتها مبلغاً مُهمَّاً مِن المال مِن شخصٍ ما، ويوجد عندها سند يُثبت الدَّين، والمَدين طالبهم بالسند الرسمي، فقامت ابنة المُتوفَّاة بالبحث عن السند في البيت كلِّه ولم تجده، ولم يكن المَدين مُستعدَّاً لدفع دينه، دون أنْ يقبض السند الرسمي، إلى أنْ يئس الورثة مِن استحصال الدَّين، وفجأة رأت الخادمة في الحُلْم، أنَّها رأت سيَّدتها المُتوفَّاة تأمرها بأنْ تُخبر ابنتها بأنَّ السند في جيب الثوب الفلاني، فذهبت النبت إلى مكان ذلك الثوب، ووجدت السند فيه تماماً كما أُخبرت به الخادمة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٤

وإذا بُشِّر أحدهم بالأُنثى ظَلَّ وجهه مُسودَّاً

يُنقل عن المهدي العباسي، أنَّه رأى في المنام أنَّ وجهه قد اسودَّ، فسأل مُعبِّري الأحلام عن تفسير ذلك فعجزوا، إلاَّ إبراهيم الكرماني، فإنَّه قال: توجد لك بنت.

قالوا: مِن أين عملت ذلك؟

قال: لقوله تعالى: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ) (النحل: ٥٨) أعطاه المهدي ألف درهم، ولما حصل له بنت زاد عليه ألف درهم آخر (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٥

هارون الرشيد يَحنِث بأيمانه

يُحكى أنَّ هارون الرشيد، حَجَّ ماشياً؛ وسبب ذلك أنَّ أخاه موسى الهادي، كانت له جارية تُسمَّى غادر، وكانت أحظى الناس عنده، وكانت مِن أحسن النساء وجَهاً وغِناءً، فغنَّت يوماً وهو مع جُلسائه على الشراب، إذ عرض له سَهو وفكر، وتغيَّر لونه، وقطع الشراب.

فقال الجُلساء: ما شأنك، يا أمير المؤمنين؟

ـ لقد وقع في قلبي أنَّ جاريتي غادر يتزوَّجها أخي هارون بعدي.

ـ فقالوا: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وكلُّنا فِداؤه.

ـ فقال: ما يُزيل هذا ما في نفسي...

وأمر بإحضار هارون وعرَّفه ما خطر بباله، فاستعطفه وتكلَّم بما ينبغي أنْ يتكلَّم به في تطييب نفسه، فلم يقنع بذلك.

ـ وقال: لا بُدَّ أنْ تحلُف لي!

ـ قال: لأفعل.

وحلف له بكلِّ يمين يحلف بها الناس: مِن طلاقٍ، وعِتاق، وحجٍّ، وصدقة، وأشياء مؤكَّدةٍ، فسكن.

ثمَّ قام فدخل على الجارية، فأحلفها بمثل ذلك، ولم يلبث شهراً ثمَّ مات.

فلمَّا أفضت الخلافة إلى هارون، أرسل إلى الجارية يخطبها...

ـ فقالت: يا سيِّدي كيف بأيمانك وأيماني؟!!

ـ فقال: أحلف بكلِّ شيء حلفت به: مِن الصدقة، والعتق وغيرهما إلاَّ تزوَّجتك

٢٦

فتزوَّجها، وحجَّ ماشياً ليمينه، وشُغف بها أكثر مِن أخيه، حتَّى كانت تنام فيُضجع رأسها في حِجره، ولا يتحرَّك حتَّى تتنبه، فبينما هي ذات ليلة، إذ انتبهت فزعة...

فقال لها: ما لك؟!

فقالت: رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول:

أخـلـفت وعـدك بـعدما

جـاورت سُـكَّان الـمَقابر

ونـسيتني وحـنثت فـي

أيـمانك الـكذب الـفواجر

فـظللت فـي أهـل البلاد

وغدوت في الحور الغرائز

ونـكحت غـادرة أخـي!

صـدق الـذي سمَّاك غادر

لا يـهنك الإلـف الـجديد

ولا تـدُر عـنك الـدوائر

ولـحقت بـي قبل الصباح

وصرت حيث غدوتُ صائر

... والله - يا أمير المؤمنين - فكأنَّها مكتوبة في قلبي، ما نسيت منها كلمة.

فقال الرشيد: هذه أضغاث أحلام.

فقالت: كلاَّ، والله ما أملك نفسي... وما زالت ترتعد حتَّى ماتت بعد ساعة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٧

مَعدِن العلم

كان علي بن الحسين (عليه السلام) في الطواف، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة، فقال: (ما هذه الجماعة؟).

قالوا: هذا محمد بن شهاب الزهري، اختلط عقله فليس يتكلَّم، فأخرجه أهله؛ لعلَّه إذا رأى الناس أنْ يتكلَّم.

فلمَّا قضى (عليه السلام) طوافه خرج، حتَّى دنا منه، فلمَّا رآه محمد بن شهاب عرفه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): (ما لك؟).

قال: ولِّيت ولاية، فأصبت دماً فدخلني ما ترى.

فقال له علي بن الحسين: (لأنا عليك مِن يأسك مِن رحمة الله، أشدُّ خوفاً مِنِّي عليك مِمَّا أتيت).

ثمَّ قال له: (أعطهم الدِّيَّة).

قال: فعلتُ فأبوا.

قال: (اجعلها صرراً، ثمَّ انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٨

الظُلم مِن كوامن النفوس:

القوَّة تُبديه والضُعف يُخفيه

كان عبد الملك بن مروان يعيش حياة هانئة في شبابه، وكان رحيماً وشفوقاً يعطف على الناس، ولا يُحاول إيذاءهم، ولا يتحدَّث عن أحد بشَرٍّ.

أيْ: كانت رغباته النفسيَّة، وميوله الغريزيَّة مخفيَّة؛ وذلك لعدم وجود مجال لظهوره... ولم يكن يتصوَّر أنْ سيُمسك بزمام الحُكم في الدولة الإسلاميَّة الواسعة، ويتصرَّف في مُقدَّرات ملايين المسلمين في يوم مِن الأيَّام.

ومَرَّت الأيَّام بالتدرُّج، حتَّى ظهرت الأوضاع والتحوُّلات المُفاجئة، التي أدارت سير الزمن لصالحه، فقد ترَّبع أبوه - الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثمَّ عُزل مِن ولايته عليها - على دفَّة الخلافة، على أثر للتطوُّرات السياسيَّة المعروفة، ونصَّب عبد الملك ذلك الشابَّ العطوف ولياً للعهد...

ولم تمضِ أشهُر قليلة، حتى دَسَّ السُّمَّ إلى مروان ومات، فجلس عبد الملك على كرسيِّ الخلافة بعده... وهنا استيقظت ميوله وشهواته، ووجدت لها مجالاً واسعاً للتحقُّق والتطبيق.

لقد كان الوجدان يحكُم إلى الأمس القريب، في سلوك عبد الملك دون مُعارض أو مُعاند؛ ولذلك كان يجتنَّب الظلم والأفعال اللاَّ إنسانيَّة.

أمَّا اليوم فقد استيقظت غرائزه، وتعالت ألسنة نيرانها، حتَّى اضطرَّ وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع، وكأنْ لم يكُن في باطن عبد الملك وجدان أصلاً! فقد ولغ هو وولاته في دماء الناس، في أرجاء البلاد الإسلاميَّة، وارتكبوا الجرائم الفظيعة، التي لا حَدَّ لها ولا حَصر.

يذكر لنا المؤرِّخون: أنَّه لمَّا أرسل يزيد جيشاً إلى مَكَّة، لقتل عبد الله بن الزبير، كان

٢٩

عبد الملك يقول - مُستنكراً ومُستهجناً ـ: العياذ بالله، أيُجهِّز أحد جيشاً لمُحاربة بيت الله الحرام؟!

أمَّا عندما تولَّى الخلافة بنفسه، فقد أرسل جيشاً أعظم مِن جيش يزيد، بقيادة الحَجَّاج بن يوسف (المجرم المعروف) إلى مَكَّة، وقتل كثيراً مِن الناس في حرم الله؛ ليقبض على عبد الله بن الزبير، وقد حَزَّ رأسه، وأرسله إلى عبد الملك في الشام، وعَلَّق جُثَّته على عمود المِشنقة!

حينئذ يقول عبد الملك: إنِّي كنت أتمانع مِن قتل نملة ضعيفة. أمَّا الآن، فعندما يُخبرني الحَجَّاج عن قتل الناس، لا أجد أيَّ قَلقٍ أو تأثُّر في نفسي!

وقد قال الزهري - أحد العلماء - يوماً لعبد الملك: سمعت أنَّك تشرب الخمر!

فأجابه: نعم، والله أشرب الخمر، وأشرب دِماء الناس أيضاً (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٠

بَشِّر الصابرين

خرجت مع صديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا بنا نرى إلى يمين الطريق خيمة، فقصدناها وسلَّمنا، فإذا امرأة ردَّت علنيا السلام، فقالت: مَن أنتم؟

قلنا: ضالِّين قصدناكم لنأنس بكم.

فقالت: أديروا وجوهكم؛ حتَّى أعمل مِن حَقِّكم شيئاً.

ففعلنا، فبسطت لنا مسحاً، وقالت: اجِلسوا حتَّى يجيء ابني، وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر، فرفعتها مَرَّة فقالت: اسأل الله بركة المُقبِل... أمَّا الناقة، فناقة ابني، وأمَّا الراكب فليس هو! فلمَّا ورد الراكب عليها.

قال: يا أُمَّ عقيل، عظَّم الله أجرك بعقيل.

قالت: ويحك، مات عقيل؟!

قال: نعم.

قالت: بما مات؟!

قال: ازدحمت الناقة، وألقته في البئر.

فقالت له: انزل وخُذ زِمام القوم، فقرَّبت إليه كبشاً فذبحه، وصنعت لنا طعاماً، فشرعنا في أكل الطعام ونحن نتعجَّب مِن صبرها، فلمَّا فرغنا خرجت إلينا وقالت: أيُّها القوم، أفيكم مَن يُحسن في كتاب الله شيئاً؟

قلت: بلى!

قالت: اقرأ عليَّ آيات أتسلَّى بها مِن موت الولد.

قلت: يقول الله عز وجل: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا

٣١

لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (البقرة: ١٥٥ - ١٥٧).

قالت: أهذه الآية في كتاب الله هكذا؟!

قلت: إيْ والله، إنَّ هذه الآية في كتاب الله هكذا.

فقالت: السلام عليكم، فقامت وصلَّت رَكعتين. ثمَّ قالت: اللَّهمَّ، إنِّي فعلت ما أمرتني به، فأنجِز لي ما وعدتني به.

أيُّ قوَّة غير قوَّة الإيمان بالله، قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثَكلى بهذه السرعة والسلامة؟! وأيُّ قُدرة غير الاعتقاد الديني، تستطيع إطفاء لهب الحُزن والويل، مِن روح أُمٍّ فُجعت بموت ولدها الشابِّ بهذه الفوريَّة؟!! (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٢

فبما رَحمةٍ مِن الله لِنتَ لهم

لقد كانت عَلاقات النبي مع المسلمين ليِّنة هادئة، إلى درجة أنَّ بعض الأشخاص، كانوا يتمازحون معه بالمزاج، الذي يصعب قبوله مِن الأفراد العاديِّين.

نهى (عليه السلام) أبا هريرة عن مِزاح العرب، فأخذ أبو هريرة نَعل النبي، ورهنه بالتمر وجلس بحذائه يأكل... فقال (عليه السلام): يا أبا هريرة ما تأكُل؟

قال: نعل رسول الله.

أيُّ حاكم يجرؤ على مُمازحته فردٌ عاديٌّ، فيرهن حِذاءه عند بقَّالٍ لِقاء شيء مِن التمر؟! لقد عَدَّ الله هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن مراتب رحمته وعنايته: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ... ) (آل عمران: ١٥٩) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٣

سوء الخُلق يُسبِّب ضغطة القَبر

كان سعد بن مَعاذ أحد صحابة الرسول الأعظم الوقورين، وعند وفاته مَشى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه في جَنازته، حتَّى إنَّه حملها على كتفه عِدَّة مِرَّات، وحفر القبر بنفسه، وشَقَّ له اللحد ودفنه فيه... فلمَّا وجدت أُمُّ سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة.

فقالت: يا سعد، هنيئاً لك الجَنَّة.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أُمَّ سعد! مَه! لا تجزمي على ربِّك؛ فإنَّ سعداً قد أصابته ضَمَّة..

وعندما سُئل عن سبب ذلك؛ قال: إنَّه كان في خُلقه مع أهله سوء (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٤

يزيد يرتكب الجرائم الواحدة تِلو الأُخرى

قتل يزيدُ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لتثبيت قُدرته وتحكيم أُسس حكومته؛ فأحدث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المُزري، الذي بعث الاشمئزاز منه، في جميع أرجاء الدولة الإسلاميَّة، وقام الناس في المدينة مُطالبين بعزل يزيد عن الخلافة بكلِّ صراحة، فكان رَدُّ فعله أنْ أقدم على جريمة جديدة، فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم، مِن خلال الجيش الجرَّار، الذي بعث به إلى الشام، ففعلوا ما فعلوا مِمَّا يَندى له جبين الإنسانيَّة.

يذكر لنا المؤرِّخون: أنَّ أحد جنود الشام، دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها، حيث كانت ترقد في الفراش، فطلب منها مالاً، فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كلَّ شيء في غارة أهل الشام على المدينة: بأنَّها لا تملِك شيئاً، ثمَّ خابت وليدها قائلة: والله، لو كنت أملِك مِن حِطام الدنيا شيئاً، لافتديت به، وحقنت به دمك. وهنا وجَم الجندي قَسيُّ القلب، البعيد عن الإيمان؛ إذ يَئِس مِن الحصول على المال، فاختطف الطفل مِن أُمِّه وهي تُرضعه، ورمى به إلى الجدار بشِدَّة؛ فتهشَّم مُخَّه.. (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٥

ذِمَّة المسلم واحدة حُرَّاً كان أم عبداً

خرج فضيل بن زيد الرقاشي مع جنوده؛ لمُحاصرة قلعة تُسمَّى بـ: (سهرياج) ، في أيَّام عبد الله بن عامر بن كريز، وقد سار إلى فارس فافتتحها. وكان الجيش قد صَمَّم على أنْ يفتح القلعة في يوم واحد.

يقول فضيل في ذلك:

(... كنَّا قد صَمَّمنا أنْ نفتحها في يومنا، وقاتلنا أهلها ذات يوم، فرجعنا إلى مُعسكرنا، وتخلَّف عبد مَملوك مِنَّا، فراطنوه؛ فكتب لهم أماناً ورمى به في سَهمٍ.

قال: فغدونا إلى القتال، وقد خرجوا مِن حِصنهم، وقالوا: هذا أمانكم).

لم يكن إعطاء الأمان مِن مسلم إلى الكفَّار بالأمر المُستبعَد في نظر الجيش، ولكنْ شُكَّ في كون الأمان الصادر مِن العبد، كالأمان الصادر مِن الحُرِّ...

فكتبنا بذلك إلى عمر، فكتب إلينا: إنَّ العبد المسلم مِن المسلمين، ذِمَّته كذِمَّتكم فليُنفَّذ أمانه... فأنفذناه (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٦

حِفظ الوديعة أيَّاً كانت

حصل أحد موالي الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، الذين أعتقهم على ثروة لا بأس بها، نتيج جهوده ونشاطه. وفي بعض الأيَّام تعرَّض الإمام (عليه السلام) لضائقة ماليَّة شديدة، فطلب مِن مولاه الذي أعتقه أنْ يُقرِضه مبلغاً مِن المال، قدرُه عشرة آلاف درهم، يدفعه إليه عند الاستطاعة، فطلب المولى مِن الإمام سنداً أو وثيقة.

مَدَّ الإمام يده إلى طرف ردائه، واستخرج هُدبَة خيط منه، وقال له: (هذه وثيقتي عندك، إلى أنْ أرُدَّ إليك مالك).

ثقل على المُقرض أنْ يوافق على وثيقة كهذه، ولكنَّه سلم المال نظراً إلى شخصيَّة الإمام (عليه السلام) وأخذ الهُدبة ووضعها في عُلبة صغيرة. ثمَّ وافق أنَّ الإمام تيسَّرت أُموره بعد مُدَّة قصيرة، فردَّ المبلغ إلى صاحبه... ثمَّ قال له: (قد أحضرت إليك المبلغ، فهات وثيقتي).

فقال مولاه له: جُعلت فِداك ضيَّعته.

قال: (إذاً، لا تأخذ مالك مِنِّي، ليس مِثلي يُستَخفُّ بذِمَّته).

قال: فأخرج الرجل الحَقَّ، فإذا فيه الهُدبة، فأعطاه عليُّ بن الحسين (عليه السلام) الدراهم، وأخذ الهُدبة فرمى بها وانصرف.

إنَّ خيطاً مِن رِداء لا قيمة له، ولكنْ عندما يكون الخيط رمزاً لتعهُّدٍ، صادرٍ مِن شخصٍ شريفٍ، فإنَّ قيمته ترتفع، إلى أنْ يُصبح وثيقة لدَين عن عشرات الآلاف، مِن الدراهم والدنانير، ويتقبَّله الدائن بكلِّ ثِقة واطمئنان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٧

المؤمن إذا وعد وفى

بعد وقعة صِفِّين، ظهر حزب جديد باسم الخوارج، ضَمَّ رجالاً جُهلاء بحقيقة الدين والعلم، قاموا بجرائم عظيمة طوال سنين طويلة. وقامت السُّلطات الزمنيَّة بقمع هذا الحزب، فأُحضروا إلى مجلس الحَجَّاج؛ ليُعاقبهم على ذلك، فعين لكلِّ عقوبته.. وعندما وصل إلى آخر رجل منهم، رفع المؤذِّن الأذان، مُعلناً دخول وقت الصلاة، فقام الحَجَّاج وسلَّم المُتَّهم إلى أحد الحاضرين واسمه عنبسة، وقال له: خُذه معك إلى البيت، وأحضره لي غداً حتَّى أُقرِّر عقوبته. فنفَّذ عنبسة الأمر، وأخرجه معه مِن قصر الإمارة.

في الطريق قال المُتَّهم لعنبسة: هل يُرجى مِنك خير؟

فقال له عنبسة: ما تُريد؟ لعلِّي أوفَّق لأعمل لك خيراً.

فقال المُتَّهم: والله، لستُ خارجيَّاً ولم أشهر سيفي على أحد، وأنا بريء مِن هذه التُّهمة المنسوبة لي. ورغم أنَّهم قبضوا عليَّ وأنا بريء، فإنَّ أملي برحمة الله كبير، وأعلم أنَّ فضله سيشملني، ولا أُعذَّب مِن دون ذنب، ولكنْ أرجوك أنْ تسمح لي بالذهاب إلى أهلي هذه الليلة؛ لأودِّعهم وأوصيهم بوصايا، وأؤدِّي حقوق الناس وسأحضر إليك غداً صباحاً.

يقول عنبسة: استغربت مِن هذا الطلب، فلم أجبه، فكرَّر عليَّ السؤال، حتَّى أثَّر كلامه في نفسي، وخطر في بالي أنْ أتوكَّل على الله، وأنزل عند رغبته؛ فصمَّمت على ذلك، وقلت له: اذهب، ولكنْ يجب أنْ تُعاهدني على الرجوع غداً.

فقال الرجل: عاهدتك على أنْ أحضر غداً صباحاً، وأُشهِد الله على هذا العهد.

ثمَّ ذهب حتَّى غاب عن عيني، ولكنْ ما إنْ عُدُّت إلى نفسي، حتَّى اضطربت اضطراباً شديداً، وندمت على ما فعلت، فقد عرَّضت نفسي لغضب الحَجَّاج دون

٣٨

سبب، ولازَمَني الاضطراب حتَّى ذهابي إلى البيت، فذكرت ذلك لأهلي فلاموني... ولكنْ لاتَ حين مَناصٍ.

لم أنَم تلك الليلة، فكنت أتململ تملُمل السليم، وأتقلَّب كالثَّكلى. وعند الصباح وفَّى الرجل بعهده، فتعجَّبت مِن مَجيئه، وقلت له: لماذا حضرت؟!

قال: مَن آمن بالله، وأعتقد قُدرته وعظمته، وعاهد على أمرٍ، وجعل الله شهيداً على عهده؛ فلا يُخلِف عهده.

فأخذته إلى قصر الإمارة في الساعة المُقرَّرة، وذكرت للحَجَّاج ما جرى بيني وبينه في الليلة السابقة، فتعجَّب مِن إيمان الرجل ووفائه بعهده. ثمَّ قال: أتُريد أنْ أعفو عنه لأجلك.

فقلت: لو تكرَّمت عليَّ بذلك، فلك المِنَّة بذلك.

فعفا الحَجَّاج عن المُتَّهم، وأخرجه عنبسة مِن دار الإمارة، وقال له بلُطف ولين: اذهب فأنت حُرٌّ.

ذهب الرجل دون أنْ يشكر لي جميل صنعي، ودون أنْ يُقابل الإحسان ولو بكلمة شُكراً، فتألَّمت مِن هذا الجَفاء والتنكُّر للمعروف، وقلت في نفسي: لعلَّه مجنون!

وفي اليوم الثاني، حدث ما لم يكن بالحُسبان، فقد حضر الرجل، وشكرني على إنقاذه مِن الورطة التي وقع فيها، ثمَّ قال: إنَّ المُنقذ الحقيقي هو الله تعالى، وكنتَ أنت الواسطة في ذلك، فلو أنَّني شكرتك بالأمس على إحسانك، لكنت قد أشركتك بالله في النعمة التي أنعمها عليَّ؛ وهذا ليس بمُستحسن، فرأيت مِن الواجب عليَّ أنْ أذهب لأداء واجب الشُّكر والحمد بين يدي الله تعالى أولاً، ثمَّ أحضر لأداء واجب الشُّكر لك. ثمَّ شكر لي جميل صُنعي وإحساني، واعتذر وانصرف (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٩

التوبة مِن الكذب أوَّلاً

أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلٌ فقال: إنِّي رجل لا أُصلِّي، وأرتكب المحارم، وأكذِب، فمِن أيِّ شيءٍ أتوب؟!

قال: (مِن الكَذِب).

فاستقبله فعاهد أنْ لا يَكذِب، فلمَّا انصرف وأراد الفاحشة، قال في نفسه: إنْ قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل زنيت بعدما عاهدت؟ فإنْ قلت: لا؛ كذبت، وإنْ قلت: نعم؛ ضربني الحَدّ (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة(١) .

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفيّة هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف(٢) .

٨. قال الطبرسي في تفسيره: إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة، وان اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال: « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) .

وقال أيضاً: أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة، فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

__________________

(١ و ٢) العقائد النسفية: ١٤٨.

(٣) مجمع البيان: ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٨١

الأمّة: بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته(١) .

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت: نعم، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة(٣) .

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها، لأنّ قوله:( يَوْماً ) في قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً، ولا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) مع قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (٥) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له، وكذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الكشاف: ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

(٤) المؤمنون: ١٠١.

(٥) الصافات: ٢٧.

١٨٢

الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، ورزقنا الله الشفاعة »(١) .

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل(٣) .

وقال صاحب الانتصاف: أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة، وهم جديرون أن يُحرموها، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى، وما أنكرها القدرية إلّا لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة(٤) .

وعلى أي تقدير، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلاميّة على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٥) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

__________________

(١) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢١٤، المطبوع عام ١٣٦٧.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٤) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٥) البقرة: ٤٨.

١٨٣

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم(١) .

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة، إلّا أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا: مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها: إسقاط المضار والعقوبات(٢) .

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم »: إنّ شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة(٣) .

١٤. قال الرازي في تفسير قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة في الآخرة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة، واتفقوا على أنّها ليست للكفار(٥) .

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ١ / ١٥٢.

(٢) روضة الواعظين: ٤٠٦.

(٣) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

(٤) البقرة: ١٢٣.

(٥) مفاتيح الغيب: ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

١٨٤

١٥. قال المحقق الطوسي: والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع، ويبطل منّا في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

يريد بقوله: « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب، والتالي باطل، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٢) .

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليه قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق(٣) .

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين »: يجوز العفو عن الفاسق، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة(٤) .

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي: للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار، وهذه الشفاعة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

__________________

(١) وقوله يبطل أي: لا يقع منّا في حق النبي.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٤) نهج المسترشدين: ٢٠٥.

١٨٥

ويشفع في من دخلها.

ثم قال: وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف، وهو إسقاط العقوبة، أهل ضلال وبدعة، وقال: وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة(٢) .

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٣) ـ: هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده، إلّا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة »(٤) .

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها(٥) .

__________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٨١.

(٣) البقرة: ٢٥٦.

(٤) تفسير ابن كثير: ١ / ٣٠٩.

(٥) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

١٨٦

٢٠. قال الفاضل المقداد: في شرحه منهج المسترشدين: وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه: الأوّل: الإجماع، والثاني قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي(١) .

٢١. قال المحقق الدواني: الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياءعليهم‌السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .(٣)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات، ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها(٤) .

٢٣. قال العلّامة المجلسي: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل، قائلين: بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وان كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك(٥) .

__________________

(١) إرشاد الطالبين: ٢٠٦.

(٢) طه: ١٠٩.

(٣) شرح العقائد العضدية: ٢ / ٢٧٠.

(٤) اليواقيت والجواهر: ٢ / ١٧٠.

(٥) راجع بحار الأنوار: ٨ / ٢٩ ـ ٦٣، وحق اليقين: ٤٧٣.

١٨٧

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي: وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال: إنّ الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء، إلّا أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلّا من الله لا من الشفعاء(١) .

٢٥. وقال السيد شبّر: اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته، بل في سائر الأمم الماضين، بل ذلك من ضروريات الدين، قال الله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة: أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة: على أنّها لا تكون إلّا في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع(٢) .

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده: ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

__________________

(١) راجع الهدية السنية الرسالة الثانية: ٤٢.

(٢) حق اليقين: ٢ / ١٨٦.

١٨٨

التخاطب العرفي، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا(١) .

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. أللّهمّ(٢) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة، التي هي دون شأن الأستاذ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده، أو حكم به، كأن

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة: ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

١٨٩

كان قد أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات(١) .

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق: المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، ومنها الشفاعة الكبرى، ولا تكون إلّا لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون، ويظهر بذلك فضله على العالمين، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها، وقد ذكر بعض شروط قبولها(٢) .

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي: إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢، والمؤمن الآية ١٨، والزمر الآية ٤٤، والمدثر الآية ٤٨، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى:( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) العقائد الإسلامية: ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

١٩٠

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ،( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ،( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ،( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ،( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ،( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ،( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦، ويونس الآية ٦، ومريم الآية ٩٠، وطه الآية ١٠٨، والأنبياء الآية ٢٩، وسبأ الآية ٢٢، والزخرف الآية ٨٦، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا(١) .

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا: والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي: إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثمّ ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات(٣) .

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ: وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر

__________________

(١) آلاء الرحمان: ١ / ٦٢.

(٢) محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين: ٢ / ٦٢٨.

(٣) الميزان: ١ / ١٥٦.

١٩١

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة(٢) .

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلّا أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ: والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة(٣) .

هذا نزر من كثير، وغيض من فيض، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية(٤) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه: الشفاعة هي السؤال في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: ٢٠٦، ط. مصر.

(٣) البيان: ١ / ٣٤٢.

(٤) مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول: إنّه يجوز أن يقال: أللّهمّ شفّع رسول الله في حقي، ولا يجوز أن يقال: اشفع يا رسول الله في حقي، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

١٩٢

التجاوز عن الذنوب، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة، فذكر الشفاعة ثم قال:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية(١) .

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة، حيث قال: وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر، غير أنّه ليس لنا إلّا أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال: فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلّا الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية، وليس من

__________________

(١) دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع.

١٩٣

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسّرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال: ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً، فبذورها العلم، ونباتها العمل، وثمرها النجاة في الآخرة، فالأنبياء: علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة(١) .

وقد نسب هذا المقال إلى محي الدين بن العربي، والإمام الغزالي، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٤ ـ ٦٥، بتلخيص منا.

١٩٤

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية، والثانية بالشفاعة العملية، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

١٩٥

٢

الشفاعة في القرآن الكريم

قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة، والإثبات أُخرى، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد، حتى يفسر بعضها ببعض، ويكون البعض قرينة على الأخرى، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية، أو بنص نبويّ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى، وهذا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً: « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً: « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه »(١) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٢ / ٦.

١٩٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض »(١) .

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة، ولذلك نقول: إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص، فنقول :

الصنف الأوّل: الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلّا آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق، وهي قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس(٣) .

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٤) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

__________________

(١) نهج البلاغة شرح عبده: ٢ / ٣٢ الخطبة ١٤٩.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفصل السابق: ص ١٩٣.

(٤) البقرة: ٢٥٥.

١٩٧

بتاتاً وننسبها إلى القرآن، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه:( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (١) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلّا أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف: تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتاً، إلّا خلّة المتصادقين في الله فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله تعالى والتباغض في الله(٢) .

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه الله كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٣) .

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي: « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلّا الاخوة في الله، وذلك قوله:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) »(٤) .

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٠٢.

(٣) الفرقان: ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الميزان: ١٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

١٩٨

وعلى الجملة: إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه:( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال:( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه، قال سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ ) (١) .

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم، حيث قالوا:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ) (٢) .

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلّا أياماً معدودة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

__________________

(١) المائدة: ١٨.

(٢) البقرة: ١١١.

١٩٩

بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (١) .

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله:( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارى )أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٣) .

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ،( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

__________________

(١) البقرة: ٨٠.

(٢) البقرة: ١١١ ـ ١١٢.

(٣) البقرة: ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) البقرة: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421