القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359340 / تحميل: 10428
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فقال لإخوتها: (أمري فيكم وفي أُختكم جائز؟).

قالوا: نعم يا ابن عم محمد، أمرك فينا وفي أُختنا جائز.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (أُشهِد الله، وأُشهِد مَن حضر مِن المسلمين، أنِّي قد زوَّجت هذا الغُلام مِن هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد مِن مالي. يا قنبر! عليَّ بالدراهم). فأتاه قنبر فصبَّها في يَد الغُلام.

فقال: (خُذها وصُبَّها في حِجر امرأتك, ولا تأتنا إلا وبك أثر العِرس). (يعني: الغسل)، فقام الغُلام فصبَّ الدراهم في حِجر المرأة، ثمَّ تَلْبَبَها وقال لها: قومي.

فنادت المرأة: النار! النار! - يا ابن عَمِّ محمد - أُتريد أنْ تزوِّجني مِن ولدي؟! هذا - والله - ولدي! زوَّجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا، فلمَّا ترعرع وشبَّ أمروني أنْ أنتفي منه وأطرده، هذا - والله - ولدي وفؤادي يتقَّلى أسفاً على ولدي.

قال:... ثمَّ أخذت بيد الغُلام وانطلقت.

ونادى عمر: واعمراه لولا عليٌّ لهلك عمر (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢١

اتَّق الله الذي خلقك ثمَّ يُميتك

أتى إلى أبي عبد الله (عليه السلام) رجل فقال: يا ابن رسول الله، رأيت في منامي كأنِّي خارج عن مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكأنَّ شيخاً أو رجُلاً منحوتاً مِن خشب، على فرسٍ مِن خشب يلوح بسيفه، وأنا أُشاهده فزعاً مرعوباً.

فقال (عليه السلام) له: (أنت رجل تُريد اغتيال رجل في معيشته، فاتَّق الله الذي خلقك ثمَّ يُميتك).

فقال الرجل: أشهد أنَّك قد أوتيت علماً، واستنبطته مِن مَعدنه، أُخبرك يا ابن رسول الله، عمَّا قد فسَّرت لي: إنَّ رجلاً مِن جيراني، جاءني وعرض عليَّ ضَيعة، فهممت أنْ أملكها بوكس كثير، لمَّا عرفت أنَّه ليس لها طالب غيري (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٢

تفسير حُلْم

جاء رجل إلى ابن سيرين، ومعه جراب، فقال له: رأيت في النوم كأنِّي أسُدُّ الزُّقاق سَدَّاً وثيقاً شديداً.

فقال له: أنت رأيت هذا!

قال: نعم!

فقال لمَن حضره: ينبغي أنْ يكون هذا الرجل يَخنق الصبيان، ورُبَّما يكون في جِرابه آلة الخنق، فوثبوا عليه، وفتَّشوا الجِراب، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً، فسلَّموه إلى السلطان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٣

الحُلْم وكشف الحقائق

ما أكثر الأشخاص، الذين توصَّلوا إلى اكتشاف حقائق مجهولة، في الماضي والحاضر، عن طريق الأحلام، ولطالما أخبر الحُلْم بصراحة، أو بشيء مِن الاختلاف، وبمُساعدة التفسير عن بعض الحقائق، التي لم تكن تخطر على بال الحالم، أو ضميره الباطن! وإنَّ هذه الطائفة مِن الأحلام مِن الكثرة، بمقدار أنَّها لا تقبل الإنكار والتكذيب، وهناك في الأُسر الشرقيَّة والغربيَّة أفراد عديدون، تقع لهم أمثال هذه الأحلام.

فقد توفِّيت زوجة أحد العلماء القديرين المُعاصرين، وكانت تطلب في أيَّام حياتها مبلغاً مُهمَّاً مِن المال مِن شخصٍ ما، ويوجد عندها سند يُثبت الدَّين، والمَدين طالبهم بالسند الرسمي، فقامت ابنة المُتوفَّاة بالبحث عن السند في البيت كلِّه ولم تجده، ولم يكن المَدين مُستعدَّاً لدفع دينه، دون أنْ يقبض السند الرسمي، إلى أنْ يئس الورثة مِن استحصال الدَّين، وفجأة رأت الخادمة في الحُلْم، أنَّها رأت سيَّدتها المُتوفَّاة تأمرها بأنْ تُخبر ابنتها بأنَّ السند في جيب الثوب الفلاني، فذهبت النبت إلى مكان ذلك الثوب، ووجدت السند فيه تماماً كما أُخبرت به الخادمة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٤

وإذا بُشِّر أحدهم بالأُنثى ظَلَّ وجهه مُسودَّاً

يُنقل عن المهدي العباسي، أنَّه رأى في المنام أنَّ وجهه قد اسودَّ، فسأل مُعبِّري الأحلام عن تفسير ذلك فعجزوا، إلاَّ إبراهيم الكرماني، فإنَّه قال: توجد لك بنت.

قالوا: مِن أين عملت ذلك؟

قال: لقوله تعالى: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ) (النحل: ٥٨) أعطاه المهدي ألف درهم، ولما حصل له بنت زاد عليه ألف درهم آخر (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٥

هارون الرشيد يَحنِث بأيمانه

يُحكى أنَّ هارون الرشيد، حَجَّ ماشياً؛ وسبب ذلك أنَّ أخاه موسى الهادي، كانت له جارية تُسمَّى غادر، وكانت أحظى الناس عنده، وكانت مِن أحسن النساء وجَهاً وغِناءً، فغنَّت يوماً وهو مع جُلسائه على الشراب، إذ عرض له سَهو وفكر، وتغيَّر لونه، وقطع الشراب.

فقال الجُلساء: ما شأنك، يا أمير المؤمنين؟

ـ لقد وقع في قلبي أنَّ جاريتي غادر يتزوَّجها أخي هارون بعدي.

ـ فقالوا: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وكلُّنا فِداؤه.

ـ فقال: ما يُزيل هذا ما في نفسي...

وأمر بإحضار هارون وعرَّفه ما خطر بباله، فاستعطفه وتكلَّم بما ينبغي أنْ يتكلَّم به في تطييب نفسه، فلم يقنع بذلك.

ـ وقال: لا بُدَّ أنْ تحلُف لي!

ـ قال: لأفعل.

وحلف له بكلِّ يمين يحلف بها الناس: مِن طلاقٍ، وعِتاق، وحجٍّ، وصدقة، وأشياء مؤكَّدةٍ، فسكن.

ثمَّ قام فدخل على الجارية، فأحلفها بمثل ذلك، ولم يلبث شهراً ثمَّ مات.

فلمَّا أفضت الخلافة إلى هارون، أرسل إلى الجارية يخطبها...

ـ فقالت: يا سيِّدي كيف بأيمانك وأيماني؟!!

ـ فقال: أحلف بكلِّ شيء حلفت به: مِن الصدقة، والعتق وغيرهما إلاَّ تزوَّجتك

٢٦

فتزوَّجها، وحجَّ ماشياً ليمينه، وشُغف بها أكثر مِن أخيه، حتَّى كانت تنام فيُضجع رأسها في حِجره، ولا يتحرَّك حتَّى تتنبه، فبينما هي ذات ليلة، إذ انتبهت فزعة...

فقال لها: ما لك؟!

فقالت: رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول:

أخـلـفت وعـدك بـعدما

جـاورت سُـكَّان الـمَقابر

ونـسيتني وحـنثت فـي

أيـمانك الـكذب الـفواجر

فـظللت فـي أهـل البلاد

وغدوت في الحور الغرائز

ونـكحت غـادرة أخـي!

صـدق الـذي سمَّاك غادر

لا يـهنك الإلـف الـجديد

ولا تـدُر عـنك الـدوائر

ولـحقت بـي قبل الصباح

وصرت حيث غدوتُ صائر

... والله - يا أمير المؤمنين - فكأنَّها مكتوبة في قلبي، ما نسيت منها كلمة.

فقال الرشيد: هذه أضغاث أحلام.

فقالت: كلاَّ، والله ما أملك نفسي... وما زالت ترتعد حتَّى ماتت بعد ساعة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٧

مَعدِن العلم

كان علي بن الحسين (عليه السلام) في الطواف، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة، فقال: (ما هذه الجماعة؟).

قالوا: هذا محمد بن شهاب الزهري، اختلط عقله فليس يتكلَّم، فأخرجه أهله؛ لعلَّه إذا رأى الناس أنْ يتكلَّم.

فلمَّا قضى (عليه السلام) طوافه خرج، حتَّى دنا منه، فلمَّا رآه محمد بن شهاب عرفه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): (ما لك؟).

قال: ولِّيت ولاية، فأصبت دماً فدخلني ما ترى.

فقال له علي بن الحسين: (لأنا عليك مِن يأسك مِن رحمة الله، أشدُّ خوفاً مِنِّي عليك مِمَّا أتيت).

ثمَّ قال له: (أعطهم الدِّيَّة).

قال: فعلتُ فأبوا.

قال: (اجعلها صرراً، ثمَّ انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٢٨

الظُلم مِن كوامن النفوس:

القوَّة تُبديه والضُعف يُخفيه

كان عبد الملك بن مروان يعيش حياة هانئة في شبابه، وكان رحيماً وشفوقاً يعطف على الناس، ولا يُحاول إيذاءهم، ولا يتحدَّث عن أحد بشَرٍّ.

أيْ: كانت رغباته النفسيَّة، وميوله الغريزيَّة مخفيَّة؛ وذلك لعدم وجود مجال لظهوره... ولم يكن يتصوَّر أنْ سيُمسك بزمام الحُكم في الدولة الإسلاميَّة الواسعة، ويتصرَّف في مُقدَّرات ملايين المسلمين في يوم مِن الأيَّام.

ومَرَّت الأيَّام بالتدرُّج، حتَّى ظهرت الأوضاع والتحوُّلات المُفاجئة، التي أدارت سير الزمن لصالحه، فقد ترَّبع أبوه - الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثمَّ عُزل مِن ولايته عليها - على دفَّة الخلافة، على أثر للتطوُّرات السياسيَّة المعروفة، ونصَّب عبد الملك ذلك الشابَّ العطوف ولياً للعهد...

ولم تمضِ أشهُر قليلة، حتى دَسَّ السُّمَّ إلى مروان ومات، فجلس عبد الملك على كرسيِّ الخلافة بعده... وهنا استيقظت ميوله وشهواته، ووجدت لها مجالاً واسعاً للتحقُّق والتطبيق.

لقد كان الوجدان يحكُم إلى الأمس القريب، في سلوك عبد الملك دون مُعارض أو مُعاند؛ ولذلك كان يجتنَّب الظلم والأفعال اللاَّ إنسانيَّة.

أمَّا اليوم فقد استيقظت غرائزه، وتعالت ألسنة نيرانها، حتَّى اضطرَّ وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع، وكأنْ لم يكُن في باطن عبد الملك وجدان أصلاً! فقد ولغ هو وولاته في دماء الناس، في أرجاء البلاد الإسلاميَّة، وارتكبوا الجرائم الفظيعة، التي لا حَدَّ لها ولا حَصر.

يذكر لنا المؤرِّخون: أنَّه لمَّا أرسل يزيد جيشاً إلى مَكَّة، لقتل عبد الله بن الزبير، كان

٢٩

عبد الملك يقول - مُستنكراً ومُستهجناً ـ: العياذ بالله، أيُجهِّز أحد جيشاً لمُحاربة بيت الله الحرام؟!

أمَّا عندما تولَّى الخلافة بنفسه، فقد أرسل جيشاً أعظم مِن جيش يزيد، بقيادة الحَجَّاج بن يوسف (المجرم المعروف) إلى مَكَّة، وقتل كثيراً مِن الناس في حرم الله؛ ليقبض على عبد الله بن الزبير، وقد حَزَّ رأسه، وأرسله إلى عبد الملك في الشام، وعَلَّق جُثَّته على عمود المِشنقة!

حينئذ يقول عبد الملك: إنِّي كنت أتمانع مِن قتل نملة ضعيفة. أمَّا الآن، فعندما يُخبرني الحَجَّاج عن قتل الناس، لا أجد أيَّ قَلقٍ أو تأثُّر في نفسي!

وقد قال الزهري - أحد العلماء - يوماً لعبد الملك: سمعت أنَّك تشرب الخمر!

فأجابه: نعم، والله أشرب الخمر، وأشرب دِماء الناس أيضاً (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٠

بَشِّر الصابرين

خرجت مع صديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا بنا نرى إلى يمين الطريق خيمة، فقصدناها وسلَّمنا، فإذا امرأة ردَّت علنيا السلام، فقالت: مَن أنتم؟

قلنا: ضالِّين قصدناكم لنأنس بكم.

فقالت: أديروا وجوهكم؛ حتَّى أعمل مِن حَقِّكم شيئاً.

ففعلنا، فبسطت لنا مسحاً، وقالت: اجِلسوا حتَّى يجيء ابني، وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر، فرفعتها مَرَّة فقالت: اسأل الله بركة المُقبِل... أمَّا الناقة، فناقة ابني، وأمَّا الراكب فليس هو! فلمَّا ورد الراكب عليها.

قال: يا أُمَّ عقيل، عظَّم الله أجرك بعقيل.

قالت: ويحك، مات عقيل؟!

قال: نعم.

قالت: بما مات؟!

قال: ازدحمت الناقة، وألقته في البئر.

فقالت له: انزل وخُذ زِمام القوم، فقرَّبت إليه كبشاً فذبحه، وصنعت لنا طعاماً، فشرعنا في أكل الطعام ونحن نتعجَّب مِن صبرها، فلمَّا فرغنا خرجت إلينا وقالت: أيُّها القوم، أفيكم مَن يُحسن في كتاب الله شيئاً؟

قلت: بلى!

قالت: اقرأ عليَّ آيات أتسلَّى بها مِن موت الولد.

قلت: يقول الله عز وجل: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا

٣١

لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (البقرة: ١٥٥ - ١٥٧).

قالت: أهذه الآية في كتاب الله هكذا؟!

قلت: إيْ والله، إنَّ هذه الآية في كتاب الله هكذا.

فقالت: السلام عليكم، فقامت وصلَّت رَكعتين. ثمَّ قالت: اللَّهمَّ، إنِّي فعلت ما أمرتني به، فأنجِز لي ما وعدتني به.

أيُّ قوَّة غير قوَّة الإيمان بالله، قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثَكلى بهذه السرعة والسلامة؟! وأيُّ قُدرة غير الاعتقاد الديني، تستطيع إطفاء لهب الحُزن والويل، مِن روح أُمٍّ فُجعت بموت ولدها الشابِّ بهذه الفوريَّة؟!! (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٢

فبما رَحمةٍ مِن الله لِنتَ لهم

لقد كانت عَلاقات النبي مع المسلمين ليِّنة هادئة، إلى درجة أنَّ بعض الأشخاص، كانوا يتمازحون معه بالمزاج، الذي يصعب قبوله مِن الأفراد العاديِّين.

نهى (عليه السلام) أبا هريرة عن مِزاح العرب، فأخذ أبو هريرة نَعل النبي، ورهنه بالتمر وجلس بحذائه يأكل... فقال (عليه السلام): يا أبا هريرة ما تأكُل؟

قال: نعل رسول الله.

أيُّ حاكم يجرؤ على مُمازحته فردٌ عاديٌّ، فيرهن حِذاءه عند بقَّالٍ لِقاء شيء مِن التمر؟! لقد عَدَّ الله هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن مراتب رحمته وعنايته: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ... ) (آل عمران: ١٥٩) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٣

سوء الخُلق يُسبِّب ضغطة القَبر

كان سعد بن مَعاذ أحد صحابة الرسول الأعظم الوقورين، وعند وفاته مَشى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه في جَنازته، حتَّى إنَّه حملها على كتفه عِدَّة مِرَّات، وحفر القبر بنفسه، وشَقَّ له اللحد ودفنه فيه... فلمَّا وجدت أُمُّ سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة.

فقالت: يا سعد، هنيئاً لك الجَنَّة.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أُمَّ سعد! مَه! لا تجزمي على ربِّك؛ فإنَّ سعداً قد أصابته ضَمَّة..

وعندما سُئل عن سبب ذلك؛ قال: إنَّه كان في خُلقه مع أهله سوء (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٤

يزيد يرتكب الجرائم الواحدة تِلو الأُخرى

قتل يزيدُ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لتثبيت قُدرته وتحكيم أُسس حكومته؛ فأحدث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المُزري، الذي بعث الاشمئزاز منه، في جميع أرجاء الدولة الإسلاميَّة، وقام الناس في المدينة مُطالبين بعزل يزيد عن الخلافة بكلِّ صراحة، فكان رَدُّ فعله أنْ أقدم على جريمة جديدة، فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم، مِن خلال الجيش الجرَّار، الذي بعث به إلى الشام، ففعلوا ما فعلوا مِمَّا يَندى له جبين الإنسانيَّة.

يذكر لنا المؤرِّخون: أنَّ أحد جنود الشام، دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها، حيث كانت ترقد في الفراش، فطلب منها مالاً، فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كلَّ شيء في غارة أهل الشام على المدينة: بأنَّها لا تملِك شيئاً، ثمَّ خابت وليدها قائلة: والله، لو كنت أملِك مِن حِطام الدنيا شيئاً، لافتديت به، وحقنت به دمك. وهنا وجَم الجندي قَسيُّ القلب، البعيد عن الإيمان؛ إذ يَئِس مِن الحصول على المال، فاختطف الطفل مِن أُمِّه وهي تُرضعه، ورمى به إلى الجدار بشِدَّة؛ فتهشَّم مُخَّه.. (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٥

ذِمَّة المسلم واحدة حُرَّاً كان أم عبداً

خرج فضيل بن زيد الرقاشي مع جنوده؛ لمُحاصرة قلعة تُسمَّى بـ: (سهرياج) ، في أيَّام عبد الله بن عامر بن كريز، وقد سار إلى فارس فافتتحها. وكان الجيش قد صَمَّم على أنْ يفتح القلعة في يوم واحد.

يقول فضيل في ذلك:

(... كنَّا قد صَمَّمنا أنْ نفتحها في يومنا، وقاتلنا أهلها ذات يوم، فرجعنا إلى مُعسكرنا، وتخلَّف عبد مَملوك مِنَّا، فراطنوه؛ فكتب لهم أماناً ورمى به في سَهمٍ.

قال: فغدونا إلى القتال، وقد خرجوا مِن حِصنهم، وقالوا: هذا أمانكم).

لم يكن إعطاء الأمان مِن مسلم إلى الكفَّار بالأمر المُستبعَد في نظر الجيش، ولكنْ شُكَّ في كون الأمان الصادر مِن العبد، كالأمان الصادر مِن الحُرِّ...

فكتبنا بذلك إلى عمر، فكتب إلينا: إنَّ العبد المسلم مِن المسلمين، ذِمَّته كذِمَّتكم فليُنفَّذ أمانه... فأنفذناه (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٦

حِفظ الوديعة أيَّاً كانت

حصل أحد موالي الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، الذين أعتقهم على ثروة لا بأس بها، نتيج جهوده ونشاطه. وفي بعض الأيَّام تعرَّض الإمام (عليه السلام) لضائقة ماليَّة شديدة، فطلب مِن مولاه الذي أعتقه أنْ يُقرِضه مبلغاً مِن المال، قدرُه عشرة آلاف درهم، يدفعه إليه عند الاستطاعة، فطلب المولى مِن الإمام سنداً أو وثيقة.

مَدَّ الإمام يده إلى طرف ردائه، واستخرج هُدبَة خيط منه، وقال له: (هذه وثيقتي عندك، إلى أنْ أرُدَّ إليك مالك).

ثقل على المُقرض أنْ يوافق على وثيقة كهذه، ولكنَّه سلم المال نظراً إلى شخصيَّة الإمام (عليه السلام) وأخذ الهُدبة ووضعها في عُلبة صغيرة. ثمَّ وافق أنَّ الإمام تيسَّرت أُموره بعد مُدَّة قصيرة، فردَّ المبلغ إلى صاحبه... ثمَّ قال له: (قد أحضرت إليك المبلغ، فهات وثيقتي).

فقال مولاه له: جُعلت فِداك ضيَّعته.

قال: (إذاً، لا تأخذ مالك مِنِّي، ليس مِثلي يُستَخفُّ بذِمَّته).

قال: فأخرج الرجل الحَقَّ، فإذا فيه الهُدبة، فأعطاه عليُّ بن الحسين (عليه السلام) الدراهم، وأخذ الهُدبة فرمى بها وانصرف.

إنَّ خيطاً مِن رِداء لا قيمة له، ولكنْ عندما يكون الخيط رمزاً لتعهُّدٍ، صادرٍ مِن شخصٍ شريفٍ، فإنَّ قيمته ترتفع، إلى أنْ يُصبح وثيقة لدَين عن عشرات الآلاف، مِن الدراهم والدنانير، ويتقبَّله الدائن بكلِّ ثِقة واطمئنان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٧

المؤمن إذا وعد وفى

بعد وقعة صِفِّين، ظهر حزب جديد باسم الخوارج، ضَمَّ رجالاً جُهلاء بحقيقة الدين والعلم، قاموا بجرائم عظيمة طوال سنين طويلة. وقامت السُّلطات الزمنيَّة بقمع هذا الحزب، فأُحضروا إلى مجلس الحَجَّاج؛ ليُعاقبهم على ذلك، فعين لكلِّ عقوبته.. وعندما وصل إلى آخر رجل منهم، رفع المؤذِّن الأذان، مُعلناً دخول وقت الصلاة، فقام الحَجَّاج وسلَّم المُتَّهم إلى أحد الحاضرين واسمه عنبسة، وقال له: خُذه معك إلى البيت، وأحضره لي غداً حتَّى أُقرِّر عقوبته. فنفَّذ عنبسة الأمر، وأخرجه معه مِن قصر الإمارة.

في الطريق قال المُتَّهم لعنبسة: هل يُرجى مِنك خير؟

فقال له عنبسة: ما تُريد؟ لعلِّي أوفَّق لأعمل لك خيراً.

فقال المُتَّهم: والله، لستُ خارجيَّاً ولم أشهر سيفي على أحد، وأنا بريء مِن هذه التُّهمة المنسوبة لي. ورغم أنَّهم قبضوا عليَّ وأنا بريء، فإنَّ أملي برحمة الله كبير، وأعلم أنَّ فضله سيشملني، ولا أُعذَّب مِن دون ذنب، ولكنْ أرجوك أنْ تسمح لي بالذهاب إلى أهلي هذه الليلة؛ لأودِّعهم وأوصيهم بوصايا، وأؤدِّي حقوق الناس وسأحضر إليك غداً صباحاً.

يقول عنبسة: استغربت مِن هذا الطلب، فلم أجبه، فكرَّر عليَّ السؤال، حتَّى أثَّر كلامه في نفسي، وخطر في بالي أنْ أتوكَّل على الله، وأنزل عند رغبته؛ فصمَّمت على ذلك، وقلت له: اذهب، ولكنْ يجب أنْ تُعاهدني على الرجوع غداً.

فقال الرجل: عاهدتك على أنْ أحضر غداً صباحاً، وأُشهِد الله على هذا العهد.

ثمَّ ذهب حتَّى غاب عن عيني، ولكنْ ما إنْ عُدُّت إلى نفسي، حتَّى اضطربت اضطراباً شديداً، وندمت على ما فعلت، فقد عرَّضت نفسي لغضب الحَجَّاج دون

٣٨

سبب، ولازَمَني الاضطراب حتَّى ذهابي إلى البيت، فذكرت ذلك لأهلي فلاموني... ولكنْ لاتَ حين مَناصٍ.

لم أنَم تلك الليلة، فكنت أتململ تملُمل السليم، وأتقلَّب كالثَّكلى. وعند الصباح وفَّى الرجل بعهده، فتعجَّبت مِن مَجيئه، وقلت له: لماذا حضرت؟!

قال: مَن آمن بالله، وأعتقد قُدرته وعظمته، وعاهد على أمرٍ، وجعل الله شهيداً على عهده؛ فلا يُخلِف عهده.

فأخذته إلى قصر الإمارة في الساعة المُقرَّرة، وذكرت للحَجَّاج ما جرى بيني وبينه في الليلة السابقة، فتعجَّب مِن إيمان الرجل ووفائه بعهده. ثمَّ قال: أتُريد أنْ أعفو عنه لأجلك.

فقلت: لو تكرَّمت عليَّ بذلك، فلك المِنَّة بذلك.

فعفا الحَجَّاج عن المُتَّهم، وأخرجه عنبسة مِن دار الإمارة، وقال له بلُطف ولين: اذهب فأنت حُرٌّ.

ذهب الرجل دون أنْ يشكر لي جميل صنعي، ودون أنْ يُقابل الإحسان ولو بكلمة شُكراً، فتألَّمت مِن هذا الجَفاء والتنكُّر للمعروف، وقلت في نفسي: لعلَّه مجنون!

وفي اليوم الثاني، حدث ما لم يكن بالحُسبان، فقد حضر الرجل، وشكرني على إنقاذه مِن الورطة التي وقع فيها، ثمَّ قال: إنَّ المُنقذ الحقيقي هو الله تعالى، وكنتَ أنت الواسطة في ذلك، فلو أنَّني شكرتك بالأمس على إحسانك، لكنت قد أشركتك بالله في النعمة التي أنعمها عليَّ؛ وهذا ليس بمُستحسن، فرأيت مِن الواجب عليَّ أنْ أذهب لأداء واجب الشُّكر والحمد بين يدي الله تعالى أولاً، ثمَّ أحضر لأداء واجب الشُّكر لك. ثمَّ شكر لي جميل صُنعي وإحساني، واعتذر وانصرف (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٣٩

التوبة مِن الكذب أوَّلاً

أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلٌ فقال: إنِّي رجل لا أُصلِّي، وأرتكب المحارم، وأكذِب، فمِن أيِّ شيءٍ أتوب؟!

قال: (مِن الكَذِب).

فاستقبله فعاهد أنْ لا يَكذِب، فلمَّا انصرف وأراد الفاحشة، قال في نفسه: إنْ قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل زنيت بعدما عاهدت؟ فإنْ قلت: لا؛ كذبت، وإنْ قلت: نعم؛ ضربني الحَدّ (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطا بشيء غير صحيح ، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ، لأنّ فيها تعارضا واضحا مع الآيات التالية ، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض ، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطا ، بقرائن الآيات التالية ، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول :( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) وأصلحوا أموركم ومسير حياتكم( وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) .

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم» ، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل) ، إذ تقول :( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث :

الخطوة الأولى : التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.

الخطوة الثّانية : الإيمان بالله والاستسلام له.

الخطوة الثّالثة : العمل الصالح.

فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقا لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.

أمّا بشأن المراد من( اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند البارئعزوجل ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ ، والبعض الآخر مباح ، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات

١٢١

والمستحبات ، مع الانتباه إلى تدرّجها.

وقال البعض : إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة ، بدليل ما ورد في الآية (٢٣) من هذه السورة الزمر( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) . وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.

* * *

بحثان

١ ـ باب التوبة مفتوح للجميع

من المشاكل التي تقف عائقا في طريق بعض المسائل التربوية ، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جزاء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها ، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة ، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله ، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.

هذا التفكير يبقى كابوسا مخفيا يرافقه كالظل ، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى ، وتحدثه نفسه : ما الفائدة من التوبة؟

فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك ، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب ، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيدا ما ذكرناه ، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.

التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عند ما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للانفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة ، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها ، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين

١٢٢

التائبين ، حيث ورد (كمن ولدته أمه).

وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم ، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفا التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله ، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.

ونقرا في رواية وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(١) .

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام جاء فيه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(٢) .

ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط ، لأنّ البارئعزوجل حكيم ولا يفعل شيئا عبثا ، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده ، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة ، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لا بدّ منه.

ومن جهة اخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة ، وأن تحدث انقلابا وتغيرا في داخله وذاته.

ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء أسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.

ومن ناحية ثالثة يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه ، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة ، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر ، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الاول ، الصّفحة ١٢٧ ، مادة التوبة.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، الصفحة ٢١٦ ، باب التوبة ، الحديث ١٠.

١٢٣

٢ ـ اصحاب الأحمال الثقيلة

بعض المفسّرين أوردوا أسبابا متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر ، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.

ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد ، عند ما قتل حمزة عمّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدرا ، وقد كان حمزة قائدا شجاعا كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اخرى : إنّه كان درعا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدائهم ، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي ، ولكنّه كان خائفا من عدم قبول إسلامه ، ولما أسلم قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحشي؟» قال : نعم ، قال : «أخبرني كيف قتلت عميّ» فأخبره ، فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك» فلحق بالشام فمات في الخمر(١) . وهنا تساءل أحدهم : هل أن هذه الآية تخص وحشيا فقط أم تشمل كلّ المسلمين ، فأجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّها تشمل الجميع.

ومنها قصة النباش ـ قال : دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكيا فسلّم فردّعليه‌السلام ثمّ قال : «ما يبكيك ، يا معاذ؟» فقال : يا رسول الله ، إنّ بالباب شابا طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادخل عليّ الشاب يا معاذ» فأدخله عليه فسلم فردّعليه‌السلام قال : «ما يبكيك يا شاب؟»

قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ، إن أخذني اللهعزوجل ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل أشركت بالله شيئا؟».

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد ٢ ، الصفحة ٦٣٧ ، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ، وتفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٣.

١٢٤

قال : أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئا.

قال : «أقتلت النفس التي حرّم الله؟».

قال : لا.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الجبال الرواسي».

فقال الشاب : فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق».

قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها ، وأشجارها وما فيه من الخلق.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي».

قال : فإنّها أعظم من ذلك.

قال : فنظر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال : «ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟».

فخّر الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم».

قال الشاب : لا والله يا رسول الله ، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟».

قال : بلى ، أخبرك : إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت

١٢٥

منصرفا ، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين ، فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبدا فما ترى يا رسول الله.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تنحى عنّي يا فاسق ، إنّي أخاف أن أحترق بنارك ، فما أقربك من النّار!

فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّدا فيها ، ولبس مسحا وغل يديه جميعا إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول ثمّ قال : اللهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب لي دعائي فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) (١) .

الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول ، وإنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل ، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الانتباه أكثر ، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اخرى : إن مثل أولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوبا ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضي.

وقد ذكر «الفخر الرازي» أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات إذ قال : إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا : يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا ، فكيف نسلم؟!(٢) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٢٤ (طبع بيروت).

(٢) التّفسير الكبير لفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ذيل آيات البحث.

١٢٦

الآيات

( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) )

التّفسير

الندم لا ينفع في ذلك اليوم :

الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة ، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع ، ففي البداية تقول :( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) (١) .

«يا حسرتا» : هي في الأصل (يا حسرتي) ، (حسرة أضيفت إليها ياء

__________________

(١) في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة ، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذرا أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا). (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل ، (إنّي كنت من الساخرين).

١٢٧

المتكلم) ، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لانحساره ممّا لا يمكن استدراكه.

ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس ، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل ، فلا اطلاق على هذه الموارد.

نعم ، فعند ما يرد الإنسان إلى ساحة المحشر ، ويرى بأمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزوا ولعبا ، يصرخ فجأة (وا حسرتاه) إذ يمتلئ قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق ، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

أما فيما يخصّ معنى( جَنْبِ اللهِ ) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة» ، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر ، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم ، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم ، وهنا( جَنْبِ اللهِ ) تعني أن الأمور ترجع إلى جانب الله ، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه ، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه ، وكلها مجموعة في هذا المعنى.

وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى ، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله ، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.

ثمّ تضيف الآية( أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عند ما يوقف أمام ميزان الحساب ، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة ، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اخرى( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ

١٢٨

الْمُحْسِنِينَ ) .

وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضا ـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم ، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها ، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين.

والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.

حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر.

ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين ، عند ما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه البارئعزوجل على عباده المتقين.

ويتوسلون إلى البارئعزوجل ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد ، عند ما يرون العذاب الإلهي الأليم.

القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول :( بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (١) .

إنّ قولك : لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين ، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله ، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات ، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبير والكفر!

__________________

(١) رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث ، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته ، ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر ، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان ، وقد قال البعض : إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.

١٢٩

فهل يمكن أن يعاقب البارئعزوجل أحدا من دون أن يتمّ حجّته عليه؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أعدّت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي ، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي ، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله ، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟

الجواب : لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها ، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم.

وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى البارئعزوجل كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا ، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (٢٨) من سورة الأنعام :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) والآية (١٠٠) من سورة المؤمنون ، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوية.

والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني ، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضا ، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة ، في حين أنّ البارئعزوجل أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها ، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب ، إنّما هو نوع من اليقظة الاضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عند ما يعودون إلى حالتهم الطبيعية. حقا إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عند ما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج ، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

١٣٠

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ التفريط في جنب الله

قلنا : إنّ( جَنْبِ اللهِ ) التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة ، تشمل كلّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ التفريط في جنب الله يشمل كلّ أنواع التفريط في طاعة أوامر الله ، واتباع ما جاء في الكتب السماوية ، والتأسي بالأنبياء والأولياء.

ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأئمّة الأطهار هم المقصودون بـ( جَنْبِ اللهِ ) ، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام إذ قال في تفسير :( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) : «جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم»(٢) .

كما نقرأ في تفسير عليّ بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «نحن جنب الله»(٣) .

والمعنى ذاته ورد في روايات اخرى لأئمّة أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام .

وكما قلنا مرارا فإنّ هذه التفاسير إنّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة ، لأنّ من المسلّم أنّ اتباع نهج الأئمّة إنّما هو اتباع للرسول وطاعة لله ، إذ أنّ الأئمةعليهم‌السلام لا ينطقون بشيء من عندهم.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، الصفحة ٤٩٥.

(٣) تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة ٤٩٥.

١٣١

وفي حديث آخر تمّ تعريف العلماء غير العالمين بأنّهم مصداق واضح للمتحسرين ، وحيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقرعليه‌السلام ، جاء فيه : «إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثمّ خالفوه ، وهو قول اللهعزوجل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله»(١) .

٢ ـ على أعتاب الموت أو القيامة؟

هل أنّ تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عند ما شاهدوا العذاب الإلهي في الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم ساحة القيامة؟

المعنى الثّاني أنسب ، لأنّ الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة ، والشاهد على هذا القول هو الآية (٣١) من سورة الأنعام التي تقول :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها ) .

والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٤٩٦.

١٣٢

الآيات

( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) )

التّفسير

الله خالق كلّ شيء وحافظه :

الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا ، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم ، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر ، إذ تقول :( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) .

ثم تضيف( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .

لا شكّ أن عبارة( كَذَبُوا عَلَى اللهِ ) لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة ، لكن

١٣٣

الآية ـ هنا ـ تستهدف أولئك الذين قالوا بوجود شريك لله ، أو باتخاذ الله ولدا من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيحعليه‌السلام هو ابن الله ، وأمثال هذه المزاعم والادعاءات.

وكلمة «مستكبر» تطلق دائما على أولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير ، ولكن المراد منها ـ هنا ـ أولئك الذين يستكبرون على الأنبياء ، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة ، ويرفضون قبولها واتباعها.

اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم ، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان ، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا ، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضا ، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة.

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة ، ولون الوجه يكون بلون القلب ، فالذي قلبه أسود ومظلم ، يكون وجهه مظلما وأسود ، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعا بالنور.

وهو ما ورد في الآيتين (١٠٦) و (١٠٧) من سورة آل عمران( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيتعليهم‌السلام ، أن الكذب على الله ، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة ، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذبا ، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما أجاب الإمام على سؤال

١٣٤

يتعلق بتفسير هذه الآية ، وقال : «من زعم أنّه إمام وليس بإمام ، قيل : وإن كان علويا فاطميا؟ قال : وإن كان علويا فاطميا»(١) .

وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز ، لأنّ الادعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.

وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الإمام المعصوم حديثا مختلقا ، اعتبر كاذبا على الله ، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى.

لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله ، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله ، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان ، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) (٢) .

الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار ، لم يقولوا شيئا من عندهم ، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة ، لأنّها تعود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الحقيقة مهمّة جدا ، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها ، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّما هي منقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

«حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول اللهعزوجل »(٣) .

__________________

(١) الإعتقادات الإمامية ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث).

(٢) مجمع البيان ذيل آية البحث.

(٣) أصول الكافي ، المجلد ١ ، صفحة ٥١ (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث ١٤.

١٣٥

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد ، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر ، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (١) . ولهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها ، وقد ورد في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر ، شكى إلى اللهعزوجل شدة حرّه ، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فأحرق جهنم»(٢) .

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة ، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة ، إذ تقول :( وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ) (٣) .

ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني ،( لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

نعم ، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور ، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّا ـ كلّ الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك ، وتواصل مجادلة المشركين ، حيث تقول :( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) .

العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون ، كما ورد

__________________

(١) البقرة ، ٣٤.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث.

(٣) «مفازة» : مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر ، و (الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببية ، وبالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالخلاص والفلاح ، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ.

١٣٦

في الآية (٣٨) من السورة هذه( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

ولكنّهم ابتلوا بالانحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية) ، في بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم ، وكانوا يلجؤون إليها عند ما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أمور الكون وحفظه هي بيد خالقه ، وليس بيد أحد آخر ، ولهذا يجب اللجوء إليه دائما.

وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها : الكفيل ، والحافظ ، والمدبر للأمر.

ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أو شر ، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة ، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة ، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان.

وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة ، إذ قالوا : إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضا ، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله ، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها.

إنّ خطأ أولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيدا ، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا ، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.

فأعمالنا تتعلق بالله ، وتتعلق بنا أيضا ، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة البارئعزوجل ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه ، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل ، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه ، حيث إنّه أراد أن نكون

١٣٧

أحرارا وننفذ الأعمال بأختيارنا ، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا.

لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال ، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.

فإذا قال أحد : إنّ الإنسان يخلق أعماله ، ولا دخل للهعزوجل فيها ، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين ، خالق كبير وخالق صغير ، وإذا قال آخر : إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها ، فقد انحرف ، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله ، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال ، ثمّ يحمّلنا مسئوليتها! لأنّ في هذه الحالة ، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثا.

لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد ، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا ، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض ، لأنّها طولية وليست عرضية.

أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة ، إذ تقول :( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«مقاليد» : كما يقول أغلب اللغويين ، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف : إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني المفتاح ، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل ، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى ، ولذا فإن( مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) تعني مفاتيح السماوات والأرض.

هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد : مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني.

١٣٨

ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عند ما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض ، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماما عن تقديم أدنى عمل لهم.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي ، لقد سئلت عن عظيم المقاليد ، هو أن تقول عشرا إذا أصبحت ، وعشرا إذا أمسيت ، لا إله الّا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي ويميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير»(١) .

ثم أضاف : «من قالها عشرا إذا أصبح ، وعشرا إذا أمسى ، أعطاه الله خصالا ستا أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان».

أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتما ـ لا يستحق كل ، هذه المكافآت ، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.

هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني.

من مجموع كلّ الأمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد ، يمكن الحصول على نتيجة جيدة ، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام ، ولهذا فإن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٧١٩ ، وتفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلد ٩ ، الصفحة ٤١٧ ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث).

١٣٩

البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) .

هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحيانا يدعون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى احترام آلهتهم وعبادتها ، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو الهي عن عبادتها ، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبدا ، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة ، لأنّهم لا يجهلون فقط البارئعزوجل ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.

إنّ التعبير بـ «تأمروني» ، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي ، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.

أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبارة الباريعزوجل رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته ، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها.

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421