القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360291 / تحميل: 10453
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ ٢ ).

٢. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران: ١١٣ ـ ١١٤ ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لـمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) ( آل عمران: الآيات١١٠، ١١١، ١١٢ ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم، تمشّياً مع الحقيقة، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ) .

٦١

أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه، ويثبت على أمر الله، ويتلوا آيات الله فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية ١١٠ بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلّا شرارنا فأنزل الله:( لَيْسُوا سَوَاءً ـ إلى قوله ـمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم(١) .

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ٤٨٨، راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥.

٦٢

بأنّهم يتلون آيات الله آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

٣. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام ـ ٩٢ ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى ـ ٧ ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي(١) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود، كما وافاك بيانها.

__________________

(١) بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته، حيث أنّه سبحانه قال:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب، وإنّه منزّل من ربّهم: مصدّق لما تقدمه من الكتب، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

٦٣

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته، وأن ّ الله سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

وصريح هذه الآية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه، عربياً كان أو أعجمياً، شرقياً كان أم غربياً، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين، لكنّه حسب أنّ الله تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء ـ ٨٢ ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلّا تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين، فالمسيح كان رسول الله، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل(١) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

__________________

(١) نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل، لما ثبت من بعثهعليه‌السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

٦٤

إليهم وإلى غيرهم وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول الله إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام، فهو مع كونه رسول الله إلى الناس جميعاً، ومع أنّه أمره الله أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها(١) أمره الله سبحانه أن يقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢، الشورى ـ ٧ ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه: « انّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث(٢) .

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله، من اُولي العزم من الرسل، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال، مراعين في ذلك شرائط البلاغة، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال: « انّي رسول

__________________

(١) الأنعام ـ ١١٩.

(٢) أنظر ص ١٣٥ من كتابنا هذا.

٦٥

الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي، فإلي وحدي »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى:: التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال: ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس »(٢) .

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص، فعند ذلك يصح لك أن تقول: بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول: بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته، مكية، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته، فضلاً عن الاجهار بعالميتها، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ١ ص ١٩٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٧ وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

٦٦

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكّة صالحاً. كما في قوله سبحانه:( وَمَا هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم ـ ٥٢ ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله:( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ) والسورة مكية، وإن شئت قلت: انّ الظروف في مكّة كانت مختلفة متلوّنة، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر(١) مبني على أمرين :

__________________

(١) ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج ٣، ص ٣٣٤، و ج ٥، ص ٢٢ والمفردات للراغب مادة « اُم ».

٦٧

الأوّل: انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف ـ ٨٢ ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة، ذات أبواب متفرّقة، لقوله سبحانه:( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف ـ ٦٧ ).

الثاني: قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها، من تحت مكة، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء، ثمّ برز سائر اجزائها، عن تحت الماء تدريجاً، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال: إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة، فيصير المراد من « أُمّ القرى »، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن عباس، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله: « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها »(١) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً: فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكّة، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم. وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكّة ومن حولها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢.

٦٨

وهذا إمام اللغة ابن فارس، يقول في مقاييسه: « أُمّ القرى، مكّة، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه: إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له، أُمّ القرى، ثم أتى بأمثلة وقال: فصنعاء أُمّ القرى في اليمن، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا(١) .

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص، بل هو والعرف في ذلك سواسية، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلّا ما يراد في نظائرها، فإذا قيل: هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها، فلا يراد إلّا نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها، حكماً وسياسة واقتصاداً، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً، وهكذا إذا قيل: بعث نبي الإسلام لينذر مكّة ومن حولها، لا يراد منه إلّا أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره، صحيح، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل، ودون اثباته خرط القتاد، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى، على مكّة، من غير أن يكون لهم علم

__________________

(١) تاريخ بيهق ج ص ٢٢ بتعريب منّا.

٦٩

ولا عهد بهذه المعارف، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج، والحق في الجواب ما أوضحناه.

٤. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه:( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء: ١٩٨ ـ ١٩٩ ) فلأجل ذلك بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية، فضلاً عن المبادئ العامّة.

٧٠

وإلى ذلك تهدف الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم ـ ٤ ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم، أعني الاهتداء فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج، والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: « أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم »، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

٧١

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه، بل مفاده: أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه(١) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه، لسان قومه ليس رسولاً من الله سبحانه، وهو صحيح، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلّا امرأته(٢) .

__________________

(١) هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة، راجع الميزان ج ١٢ ص ١٣ وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.

(٢) الميزان ج ١٢ ص ١٣.

٧٢

هل كانت

نبوّة نوح والكليم والمسيح

عالمية ؟

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالمية، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل: في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني: في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث: في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليلعليه‌السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

٧٣

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلّا فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ )، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه(١) .

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه، قال سبحانه:( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود: ٣٦ ـ ٣٧ ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

إنّ العلّامة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

__________________

(١) لاحظ الآيات ٢٥ ـ ٤٨ من سورة هود، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

٧٤

عليه‌السلام في الجزء العاشر من تفسيره القـيّـم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالتهعليه‌السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه:( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح ـ ٢٦ )، وقوله تعالى:( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلّا مَن رَّحِمَ ) ( هود ـ ٤٣ ) وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات ـ ٧٧ ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة: أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس ـ ٧٨ ).

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً، وكذا المراد بالثانية: « لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله » وكذا المراد بالثالثة: « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثمّ انّه ـ قدّس الله سرّه ـ أفاد أنّه لم يستوفوا حقّ الكلام في هذا البحث ثمّ اختار هو عموميّة نبوّته ورسالته بتقديم مقدّمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية الله أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق، ومنهج الكمال والسعادة، وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

٧٥

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت: الواجب في عناية الله تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة، وقد أخبر الله سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ )، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح، ولو لم تكن عامة للبشر، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين(١) .

ملاحظات في كلام العلّامة الطباطبائي

وفيما ذكرهقدس‌سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً: فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية الله تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٧٦

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً: فإنّ ما استفادهرحمه‌الله من الآية ب‍ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً: انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال:( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ) وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال: تبين الجواب عن السؤال: هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثمّ أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين(١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٧

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه، والله سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل: في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني: في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم(١) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته، دون العكس(٢) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين، فنقول :

المقام الأوّل: في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة ـ ٩٢ ).

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف ـ ٥ ).

__________________

(١) وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.

(٢) لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

٧٨

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى:( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ ٨٥ ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء ١٧٦ ـ ١٧٧ ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال: بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد، كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه:( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٠٥ ).

وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٣٤ ).

وقوله سبحانه:( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ ) ( طه: ٤٣ و ٤٤ ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

٧٩

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء: ١٦ ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون:( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ ٢٧ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف ـ ٤٦ ).

وقوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل ١٥ ـ ١٦ ).

وقوله سبحانه:( وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات ـ ٣٨ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة الله والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون(١) .

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من الله بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان بالله سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد الله واستضعافهم، ويؤيده أنّه لـمّا أدركه الغرق قال فرعون:( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس ـ ٩٠ ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس ـ ٩١ ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين، شيء.

أمّا أوّلاً: فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني إسرائيل فقط ليخلصهم

__________________

(١) راجع سورة طه: الآيات ٤٢ ـ ٧٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم

رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه نظر إلى بعض الأطفال فقال: (ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم!).

فقيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المُشركين؟

فقال: (لا، مِن آبائهم المؤمنين لا يُعلِّمونهم شيئاً مِن الفرائض، وإذا علَّموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرضٍ يسير مِن الدنيا، فأنا منهم بريءٌ وهُمْ مِنِّي بُرآءُ) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦١

مَن سعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان

كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله!

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكُفَّها عن المسألة ويُغنيها عن الناس فهو في سبيل الله.

وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين و ذُرِّيَّةٍ ضعافٍ ليُغنيهم ويكُفَّيهم فهو في سبيل الله

وإنْ كان يسعى تفاخُراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٢

تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات

روى علي بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

قال لي: (ما فعل عمر بن مسلم؟).

قلت: جُعِلت فِداك! أقبل على العبادة وترك التِّجارة.

فقال: (ويحَه، أما عَلم أنَّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٣

أنا أصبِر عن اللَّحم

روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مَرَّ بقصَّابٍ وعنده لحمٌ سَمين.

فقال: يا أمير المؤمنين، هذا اللَّحم سمين اشترِ منه.

فقال (عليه السلام): (ليس الثمنُ حاضراً).

فقال: أنا أصبر يا أمير المؤمنين.

فقال له: (أنا أصبر عن اللَّحم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٤

اعمل واحمل على رأسك

واستغنِ عن الناس

جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنَّه لا يملك يداً سالمةً، ولا مالاً ليُتاجر به، فأبى عليه أنْ يُضيِّع عِزَّته وشرفه بذل السؤال فقال له:

(اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن الناس) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٥

أحسن الناس مَعاشاً

قال علي بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي: (يا عليُّ، مَن أحسن الناس معاشاً؟).

قلت: أنت - يا سيدي - أعلم به مِنِّي.

فقال (عليه السلام): (يا عليُّ، مَن حسن معاش غيره في معاشه) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٦

أسوأ حالٍ أنْ يُرى المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً

نبيُّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في حديث له، عن حالة الضلال الخطيرة هذه للمسلمين قال:

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفَسق شبَّانكم ولم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهوا عن مُنكرٍ؟!).

فقيل له: ويكون ذلك - يا رسول الله ـ؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمُنكر ونهيتم عن المعروف؟!).

فقيل: يا رسول الله، ويكون ذلك؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٧

لا حاجة للعِباد بالمُحرَّم مِن الأشياء

بعث محمد بن سنان رسالة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وسأله فيها عن تصوُّر بعض المسلمين أنَّ الحلال والحلال في الإسلام لا يستند على أساس مصلحة وفساد الناس، بلْ عِبادة وطاعة الله تبارك وتعالى، فكتب إليه الإمام (عليه السلام):

(قد ضَلَّ مَن قال ذلك ضَلالاً بعيداً).

وقال (عليه السّلام) ضمن الرسالة عن مُحرَّمات الإسلام:

(ووجدنا المُحرَّم مِن الأشياء لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مُفسداً داعياً إلى الفَناء والهلاك) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٨

الحلال والحرام لمَصلحة العباد

يقول المفضل بن عمر: سألت الإمام الصادق (عليه السلام):

لماذا حرَّم الله تعالى الخَمر، والمِيتة، والدَّم، ولحَم الخِنزير على الناس؟

فقال (عليه السلام):

(إنَّ حرام الله وحلاله لم يكن على أساس الرَّغبة والزُّهد، ولكنَّه خَلق فعَلِم ما تقوم به أبدانهم وما يُصلِحهم؛ فأحلَّه لهم واباحه تفضُّلاً منه عليهم لمصلحتهم، وعَلِم ما يضرُّهم فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٩

ترحيب المسلمين بتحريم الخَمر

ذات يوم دعا سعد بن أبي وقَّاص أحد الأنصار، وكان قد تآخى معه فتناولا الطعام والشراب وسكر الاثنان، وهُما في حالةِ السُّكر ذكرا مَفاخر الجاهليَّة، وبالتدريج وصل الأمر بينهما إلى الشِّجار، فتناول الأنصاري عِظام فَكِ بعيرٍ كان على المائدة وضرب به وجه سعد فَشَجَّ له أنفه.

بعد هذه الحادثة نزلت آية منع الخَمر: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (المائدة: ٩٠ - ٩١).

مع نزول آية التحريم زالت عادة شِرب الخَمر وصناعتها، ورحَّب الناس بهذا الأمر الإلهيِّ ترحيباً حارَّاً، وأراقوا الخمر التي في بيوتهم، وحطَّموا كوؤس الشراب، بحيث إنَّ رائحة الخَمر كانت تُشتُّم في طُرقات المدينة عِدَّة أيَّام.

عندما أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر التحريم، كان هناك شابٌّ أسرع إلى المنزل ليُخبر والديه بالخبر، وعندما وصل إلى المنزل وجد أباه مع عددٍ مِن الضيوف يتساقون الخَمر، وكان الأبّ يُقرِّبُ قدح الخمر مِن فَمهِ، فصاح فيه الابن: لا تشرب يا أبه؛ لأنَّ الله سبحانه قد حَرَّم شِرب الخَمر، فأطاع الأبّ فوراً وجمع مائدة الشراب، وهكذا فعل بقيَّة المسلمين (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٠

هدانا الله بأحمدَ المهديِّ النبيِّ

كان عمرو بن الجَموح سيِّداً مِن سادات بني سلمة، وشريفاً مِن أشرافهم، وكان قد اتَّخذ في داره صَنماً مِن خشب يُقال له: (مَناة) كما كانت الأشراف تصنع، تتَّخذ إلهاً تُعظِّمه وتُقدِّسه، فلمَّا أسلم فتيان مِن بني سلمة، معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجَموح، في فتيانٍ منهم مِمَّن أسلم وشَهِد العَقبة، كانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفر بني سلمة - وفيها عذر الناس - مُنكَّساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلَكم! مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثمَّ يغدو يتلمَّسه حتَّى إذا وجده غسله وطهَّرهُ وطيَّبه، ثمَّ قال: أما والله، لو أعلم مَن فعل هذا بك لأُخزينَّه، فإذا أمسى عمرو ونام عدوا عليه، ففعلوا به مِثل ذلك، فيغدو فيجده في مِثل ما كان فيه مِن الأذى، فيغسلهُ ويُطهِّره ويُطيِّبهُ، ثمَّ يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مِثل ذلك، فلمَّا أكثروا عليه استخرجه مِن حيث ألقوه يوماً فغسلهُ وطَهَّرهُ وطَيَّبهُ، ثمَّ جاء بسيفه فعلَّقه عليه، ثمَّ قال: إنِّي - والله - ما أعلم مَن يصنع بك ما ترى، فإنْ كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلمَّا أمسى عمرو ونام، عدوا عليه، فأخذوا السيف مِن عُنقه ثمَّ أخذوا كلباً مَيِّتاً فقرنوه به...، ثمَّ ألقوه في بئر مِن آبار بني سلمة فيها عَذر مِن عَذر الناس، ثمَّ غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتَّى وجده في تلك البئر مُنكَّساً مقروناً بكلبٍ مَيِّتٍ، فلمَّا رآه وأبصر شأنه، وكلَّمه مَن أسلم مِن قومه فأسلم برحمة الله، وحَسُنَ إسلامُهُ، فقال - حين أسلم وعرف مِن الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر مِن أمره، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مِمَّا كان فيه مِن العَمى والضلالة ـ:

٢٧١

والله لـو كـنت إلهاً لم تكنْ

أنت وكلبٌ وسْطَ بئرٍ في قَرَنْ

أفٍّ لـمَلقاك إلـهاً مُـسْتَدَنْ

الآن فتَّشناك عن سوء الغَبَنْ

الـحمد لـله العليِّ ذي المِنن

الـواهب الرزَّاق ديَّان الدِّيَنْ

هـو الـذي أنـقذني مِن أنْ

أكـون في ظُلْمَةِ قَبرٍ مُرتَهَنْ

بأحمدَ المهديِّ النبيِّ المؤتَمن (١)

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٢

ما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتصرَّف برِفقٍ لهداية الناس، ويُذكِّرهم بالتعاليم الإصلاحيَّة بكلِّ أدبٍ ولين، وهذا العمل بحدِّ ذاته كان مِن عوامل نفوذ كلامه (صلى الله عليه وآله) في قلوب الناس.

عن هلال بن الحكم قال: لمَّا قَدِمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) علمت أُموراً مِن أُمور الإسلام، وكان فيما علمت، قيل لي: إذا عطست، فاحمد الله، وإذا عطس العاطس اطلب الرحمة له.

فبينا أنا في الصلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بعين شَزَر؟! فسبَّح القوم فلمَّا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاته، قال: (مَن المُتكلِّم؟).

قالوا: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال:

(إنَّما الصلاة للقراءة ولذكر الله عَزَّ وجَلَّ، وإذا كنت في الصلاة فليكُن ذلك حالك). قال: فما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٣

ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فَضلٌ

كان أبو ذر الغفاري مِن الرجال الإلهيِّين، ومِن الأصحاب المُحترمين للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وذات يوم زلَّ في الكلام أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بحَقِّ بلال بن رباح الحبشي، فقال له: يا بن السوداء إشارة إلى أُمِّه.

غضب لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألقاها في وجه أبي ذر عنيفةً مُخفية: (يا أبا ذر، طُفَّ الصَّاعُ! ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فضل).

أيْ أنْ لا يتصوَّر البِّيض أنَّهم أفضل مِن السود، بلْ إنَّ جميعهم مُتساوون وأفضلهم مَن اتَّصف بالإنسانيَّة والعلم والتقوى، وسار في طريق الفضائل لنيل الكمال اللائق به (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٤

مشورةٌ في وقتها

خالد البرمكي كان مِن أصحاب الرأي والمَشورة، وربطته مع قحطبة عَلاقات اجتماعيَّة. وقد استفاد قحطبة، خلال أيَّام حُكمه، مِن الآراء والأفكار الصائبة لخالد، ومنها:

عندما وصلت الأنباء عن استعداد ابن ضبارة لقتال قحطبة، وأنَّ جيشه عبر الحدود ودخل أراضي قحطبة، تلقَّى الأخير هذه الأنباء بقَلقٍ شديدٍ، فجهَّز خمسين ألف فارس تجهيزاً كاملاً، وتحرَّك حتَّى وصل قُرب الحدود، ولكنَّه لم يجد أثراً لجيش العدوِّ، فاطمأنَّ وأمر جنوده بالاستراحةِ في أرضٍ واسعةٍ مكشوفةٍ، وعزم على البقاء في تلك المنطقة عِدَّة أيَّام.

يقول خالد: ذات ليلة كنت جالساً في خيمتي، فإذا بغزال يُسرع فجأة نحو الخيمة خائفاً مُضطرباً، فقام مَن كان موجوداً في الخيمة للإمساكِ بالغزال، فأمرتهم أنْ يكفُّوا عن الغزال ويُسرعوا لوضع السروج على الخيول ويستعدُّوا للقتال؛ لأنَّ العدوَّ قريب مِنَّا. وأسرعتُ إلى قحطبة وقلت له: أصدر أمرك إلى الجنود ليستعدُّوا؛ فابن ضبارة وجيشه يقتربون مِنَّا. أصدر أوامره، وخرج الجنود مِن الخِيم، وأعدُّوا الخيول واستعدُّوا للقتال، ولم يطل الأمر حتَّى وصل جيش ابن ضبارة، وكان جنودنا مُستعدِّين، وفاجأوا جيش العدوِّ وهجموا عليهم، واحتدم قتال شديد، فقُتِل ابن ضبارة، وكان الانتصار الكبير مِن نصيب جيش قحطبة.

بعد انتهاء القتال سألني قحطبة: مَن أخبرك بقدوم جيش العدوِّ؟!

قلت: لم يُخبرني أحد، ولكنَّني رأيت غزالاً خائفاً في الليل يركضُ داخلاً خيمتي، وكنت أعلم أنَّ الغزال الوحشي يخاف مِن الإنسان، ولكنَّه لا يقترب منه إلاَّ في الأوقات التي يحسُّ فيها بخطر، ثمَّ إنَّ الغزال لا يترك مكانه ولا يبتعد عن

٢٧٥

تلك المنطقة مُسرعاً في ظلام الليل، علمت أنَّ وراءه جيش كبير مُخيف يتحرَّك؛ ولذا التجأ إلينا مِن خوفه.

فتعجَّب قحطبة لذكاء خالد وسُرعة فَهمِهِ؛ فأثنى عليه كثيراً ومنحه الجوائز والعطايا وقرَّبَهُ إليه (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٦

مَن يبخل بفضله يُستغَن عنه ويُذمَّ

كان هناك رجل قويٌّ حُكم منطقةً واسعةً مِن الهند، وكان مولعاً بجمع المال والثروة، مُعتقداً أنَّ الغِنى يعني القوَّة؛ ولذا يُحبُّ أنْ يسعى كثيراً ليزيد مِن ثروته، فيزيد بهذه الطريقة قُدرته وقوَّته.

كان لهذا الحاكم وزير عاقل وذكيٌّ مُخالف لطريقته، فكان يستغلُّ كلَّ فرصة تسنح لينصح الحاكم في أنْ يُعطي مِن ثروته للناس؛ ليكسب قلوبهم ويبعث فيهم السرور، ويجذب إلى نفسه الأنظار، فكان يقول له: ضَحِّ بشيءٍ مِن ثروتك؛ كي لا يتمرَّد عليك الجيش ويسوء حاله، فالمال لا يخلق الرجال ولكنْ بإمكان الرجل أنْ يحصل على الكثير مِن المال.

ورغم أنَّ الوزير عَلِم أنَّ الحاكم قد أغاظه تكرار نصحه، لكنَّه لم يكفَّ عن أداء واجبه واستمرَّ في تقديم نصائحه.

وذات يوم أصرَّ الوزير أكثر مِن الأيَّام السابقة على نصائحه، وبدون أنْ يُجيب الحاكم على الوزير أمر بإحضار قدح مِن العَسل، ثمَّ وضعه أمام الوزير، ولم يمضِ وقت طويل حتَّى اجتمع ذُباب كثير على العَسل، بعد أنْ شاهد الوزير ذلك طلب الإذن بالانصراف، وخرج مِن المجلس وهو يقول في نفسه: لقد عرفت ما يقصده الحاكم، فقد أراد إفهامي أنَّ الذهب كالعسل، فكما يجتمع الذُّباب على العسل، يجتمع الناس بوجود الذهب، ولهذا السبب بادرتُ إلى جمع الثروة.

وصبر الوزير حتَّى المساء، وعندما أرخى الليل سدوله مَلأ قدحاً بالعسل وأخذه إلى بيت الحاكم، وطلب اللقاء به لأمرٍ مُهمِّ، فَسُمِح له، ومَثُلَ أمام الحاكم ووضع قدح العسل أمامه على الأرض، وجلس هو على جانب في صمت وبما أنَّ الوقت كان ليلاً، لم تقترب ذُبابة واحدة مِن العسل، وبعد ساعةٍ تحدَّث الوزير

٢٧٧

وقال: أيُّها الحاكم الكبير، إنَّ الناس يأتون لأخذ الذهب عندما يُعطى لهم، تماماً مِثل الذُّباب عندما يجتمع على العسل في النهار، أمَّا في غير وقتهِ فلا يوجد مَن يهتمُّ بالذهب تماماً، مِثل هذا الليل المُظلم لا توجد ذُبابة واحدة تحطُّ على العسل.

اهتزَّ الحاكم بشِدَّة لكلام الوزير الذكي، وانتبه لنفسه، وما كان منه إلاَّ أنْ أثنى عليه واستحسنه، وشمله بعطفه وعنايته الخاصَّة. بعد ذلك سلك الحاكم أُسلوباً جديداً، إذ بدأ يبذل ثروته في سبيل رفاه الناس وتحسين معيشة جنوده وموظَّفيه، وهكذا اكتسب قلوب الناس ومحبَّتهم له (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٨

التحرُّز عن الزَّلل والخطأ أمام الأعداء

كان هناك رجل يُدعى جميل يعمل كاتباً لسنواتٍ طويلة في بلاطِ الساسانيِّين، وقد أدرك عصر الإمام علي (عليه السلام)، وفي زمن خلافته (عليه السلام) كان جميل قد بلغ أرذل العمر وعندما عاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن النهروان، وسأل عن حال جميل أخبروه أنَّه لا زال على قيد الحياة، فأمر بإحضاره، وعند مثوله بين يدي الإمام علي (عليه السلام)، وجده الإمامُ (عليه السلام) يحتفظ بذكائِهِ، ولم يفقد إلاَّ بصره فسأله (عليه السلام): (كيف ينبغي للإنسانِ - يا جميل - أنْ يكون؟).

قال: يجب أنْ يكون قليل الصديق كثير العدوِّ.

ـ (أحسنتَ يا جميل، فقد أجمع الناس على أنَّ كثرة الأصدقاء أولى).

فقال: ليس الأمر على ما ظنُّوا؛ فإنَّ الأصدقاء إذا كُلِّفوا السعي في حاجة الإنسان لم ينهضوا بها كما يجب وينبغي.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قد امتحنت هذا فوجدته صواباً. فما منفعة كثرة الأعداء؟).

قال: إنَّ الأعداء إذا كثروا يكون الإنسان مُتحرِّزاً أنْ ينطق بما يؤاخَذ عليه، أو تبدر منه زَلَّة يؤاخَذ عليها، فيبقى على هذه الحالة سليماً مِن الخطايا والزَّلل. فاستحسن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٩

كفرتْ بأنعُم الله فأذاقها لِبَاس الجُوع والخَوف

كانت الخيزران أُمُّ الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أُمَّهات أولاد الخُلفاء وغيرهنَّ مِن بنات بني هاشم، وهي على بساطٍ أرمنيٍّ وهُنَّ على نمارق أرمنيَّة، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهُنَّ مرتبة، فبينا هُنَّ كذلك إذ دخل خادم لها فقال:

بالباب امرأة ذات حُسنٍ وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، تأبى أنْ تُخبر باسمها وشأنها غيركنَّ، وتروم الدخول عليكنَّ، وقد كان المهدي تقدَّم إلى الخيزران بأنْ تَلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي مِن آدابها، وخُذي مِن أخلاقها؛ فإنَّها عجوز لنا قد أدركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذَن لها، فدخلت امرأة ذات بَهاء وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلَّمت فأوضحت عن بيان، قالوا لها: مَن أنت؟ قالت: أنا مُزنَة امرأة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما تَرَيْنَ. ووالله، ما لأطمار الرثَّة التي عليَّ إلاَّ عارية، وإنَّكم لمَّا غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا، لم نأمَن مِن مُخالطة العامَّة على ما نحن فيه مِن الضرر على بادرة إلينا ذيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حِجابكم على أيَّة حالة كانت، حتَّى تأتي دعوة مِن له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن علي، فقالت لها: لا خفّف الله عنك يا مزنة، أتذكرين وقد دخلت عليك بحرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق، فكلَّمتك في جثّة إبراهيم الإمام، فانتهرتيني وأمرت بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم؟! فوالله، لقد كان مروان أرعى للحَقِّ منك؛ لقد دخلت إليه فحلف أنَّه ما قتله، وهو كاذب، وخيَّرني بين أنْ يدفنه أو يدفع إليَّ جُثَّته وعرض عليَّ مالاً فلم أقبله.

فقالت مزنة: والله، ما نظنُّ هذا الحالة أدَّتني إلى ما ترينه إلاّ بالفِعال التي كانت منِّي وكأنَّكِ استحسنتِه، فحرَّضت الخيزران على فعل مثله، إنَّما كان يجب أنْ تُحضيها على فعل الخير

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421