القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360551 / تحميل: 10455
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

المقصد الثاني

وهو يشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الرَّكْب الحسيني أرض الشام

ويكون على فصلين:

الفصل الأول

الركب الحسينيّ في الكوفة

٨١

٨٢

الفصل الأول

« الرَّكْب الحسينيّ في الكوفة »

الرأس المقدّس يسبق الركْب إلى الكوفة:

مرّ بنا أنّ الطبري من المؤرّخين الذين رووا أنّ عمر بن سعد أرسل برأس الإمامعليه‌السلام - بعد قتله مباشرة - مع خولّي بن يزيد، وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله ابن زياد، لكنّه حينما يواصل روايته(١) . يقول: (فأقبل به خولّي، فأراد القصر فوجد باب القصر مُغلقاً، فأتى منزله(٢) ، فوضعه تحت أُجانه في منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد، والأُخرى من الحضرميين، يُقال لها: النوّار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثني أبي، عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين فوضعه تحت أُجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت:

____________________

(١) تُلاحَظ هنا ثغرة تأريخية؛ إذ لا نعلم كيف انفرد خولّي بالرأس، وكيف اختفى حميد بن مسلم الأزدي عن مسرح قصّة حمْل الرأس إلى ابن زياد!

(٢) وكان منزله على فرسخ من الكوفة. (راجع مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٣٠٤، ورياض الأحزان: ١٦).

٨٣

فقلت: ويلَك! جاء الناس بالذهب والفضّة، وجئت برأس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! لا والله، لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداً!

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلست انظر، فوالله، ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأُجانة! ورأيت طيراً بيضاً تُرفرف حولها!

قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد ...)(١).

أمّا السيّد هاشم البحراني فيقول: (إنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله، بعدما عُرِض عليه رأس الحسينعليه‌السلام ، دعا بخولّي بن يزيد الأصبحي وقال له: خُذْ هذا الرأس حتّى أسألك عنه.

فقال: سمعاً وطاعة.

فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان، إحداهما ثعلبية، والأُخرى مُضَرية، فدخل على المضريّة، فقالت: ما هذا؟!

فقال: هذا رأس الحسين بن عليّ وفيه مُلك الدنيا!

فقالت له: أبشِر! فإنّ خصمك غداً جدّه محمّد المصطفى!

ثم قالت: والله، لا كنت لي ببعْل، ولا أنا لك بأهل! ثمّ أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه!

فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية، فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟

قال: هذا رأس خارجيّ، خرج على عبيد الله بن زياد.

فقالت: وما اسمه؟

فأبى أن يُخبرها ما اسمه، ثمّ تركه على التراب وجعل عليه أُجانة.

قال: فخرجت امرأته في الليل، فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء! فجاءت إلى الأجانة، فسمعت أنيناً وهو يقرأ! إلى طلوع الفجر! وكان آخر ما قرأ:

____________________

(١) تأريخ الطبري: ٣: ٣٣٥.

٨٤

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ، وسمعت حول الرأس دويّاً كدويّ الرعد! فعلمت أنّه تسبيح الملائكة!

فجاءت إلى بعْلها وقالت: رأيت كذا وكذا، فأيّ شيء تحت الأجانة؟!

فقال: رأس خارجي، فقتله الأمير عبيد الله بن زياد، وأُريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية؛ ليُعطيني عليه مالاً كثيراً!

قالت: ومَن هو؟!

قال: الحسين بن عليّ!

فصاحت وخرّت مغشيّة عليها! فلما أفاقت قالت: يا ويلك! يا شرّ المجوس! لقد آذيت محمّداً في عترته! أما خفت من إله الأرض والسماء؛ حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيّدة نساء العالمين؟!

ثمّ خرجت من عنده باكية، فلما قامت رفعت الرأس وقبّلته ووضعته في حِجْرها وجعلت تُقبّله وتقول: لعن الله قاتلك! وخصمه جدّك المصطفى!

فلما جَنّ الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنّ البيت قد انشقّ بنصفين وغشيَه نور! فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حِجْرها وبكَتا!

قالت: فقلت لهما: بالله، مَن أنتما؟

قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد! وهذه ابنتي فاطمة الزهراء! ولقد شكرناك، وشكر الله لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنّة!

قال: فانتبهت من النوم والرأس في حِجرها، فلما أصبح الصبح جاء بعْلُها لأخذ الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك! طلّقني! فوالله، لا جمعني وإيّاك بيت!

فقال: ادفعي لي الرأس وافعلي ما شئت!

فقالت: لا والله، لا أدفعه إليك!

٨٥

فقتلها وأخذ الرأس، فعجّل الله بروحها إلى الجنّة في جوار سيّدة النساء)(١).

منازل الطريق من كربلاء إلى الكوفة (٢) :

لم نجد في المصادر التأريخيّة - في ضوء مُتابعتنا - ذكراً وتفصيلاً لما جرى على الركب الحسيني في الطريق بين كربلاء والكوفة، غير أنّ هناك خبراً كاشفاً، عن أنّ (الحنّانة) كانت أحد هذه المنازل، يقول الشهيد الأوّل (ره): (فإذا نزلتَ الثويّة، وهي الآن تلّ بقُرب الحنّانة، عن يسار الطريق لمن يقصد من الكوفة إلى المشهد، فصلّ عندها ركعتين، كما روي أنّ جماعة من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام دُفنوا هناك، وقُلْ ما تقوله عند رؤية القبّة الشريفة، فإذا بلغت العَلَمَ وهي الحنّانة، فصلّ ركعتين، فقد روى محمّد بن أبي عمير، عن المفضّل قال: جاز الصادقعليه‌السلام بالقائم المائل في طريق الغريّ فصلّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢٤ رقم ١٨٥، وانظر: ص١١٤، وهذه الرواية بهذا النحو رواها المرحوم السيّد البحراني مُرسلة، ولعلّه قد انفرد بها.

(٢) قال البراقي: كانت الكوفة واسعة كبيرة تتّصل قُراها وجباباتها إلى الفرات الأصلي وقُرى العذار، فهي تبلغ ستّة عشر ميلاً وثُلُثي ميل.

وقال البراقي أيضاً: أحد حدودها خندق الكوفة المعروف (بكري سعد)، والحدّ الآخر القاضي الذي هو بقرب القائم إلى أن يصل قريباً من القرية المعروفة اليوم بـ (الشنافيّة)، والحدّ الآخر الفرات، الذي هو مُمتدّ من الديوانية إلى الحسكة إلى القرية المعروفة اليوم بـ (أبو قوارير) وهي منزل الرماحيّة، والحدّ الرابع قرى العذار التي هي من نواحي الحلّة السيفيّة. (راجع: تاريخ الكوفة: ١٣٤).

وقال ياقوت الحموي: ذكر أنّ فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة آلاف دار لليمن. (مُعجم البلدان: ٤: ٤٩٢).

٨٦

فقال:(هذا موضع رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، وضعوه هاهنا لما توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه ...) (١) .

وقال الشيخ محمّد مهدي الحائري: (وقال المرحوم - وحيد عصره - شيخنا النوري نوّر الله مضجعه: إنّه كان قريباً من النجف الأشرف ميل من الجص والآجر، ويقال له: القائم. ويسمّونه: بالعَلَمْ. فلما قُبض أمير المؤمنينعليه‌السلام وجاءوا إلى النجف الأشرف، فلما وصلوا إلى العَلَم والقائم انحنى تعظيماً لأمير المؤمنين كالراكع فسمّوه بالحنّانة، وزيد في شرفه أنّه لما جيء برأس الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة ووصل هناك وقد مضى من الليل شطره، فوضع اللعين الحامل الرأس المبارك في ذلك المقام، وهذا أوّل منزل نزل به رأس الحسينعليه‌السلام في طريق الكوفة، بقي غريباً وحيداً في ذلك المقام، ثمّ بنوا مسجداً في ذلك المكان وسُمِّي بمسجد الحنّانة، ويُستحب فيه الدعاء والزيارة وقيل: سُمّي بالحنانة؛ لأنّه لما وضِع رأس الحسينعليه‌السلام في ذلك الموضع سُمِع من الرأس الشريف حنين وأنين إلى الصباح، والله العالم)(٢) .

بقيّة الركب الحسينيّ:

تفاوتت المصادر التأريخية في عدد الباقين من الركب الحسينيّ، وفي أسماء الأسرى منهم، حينما أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة، فقد قال ابن سعد في طبقاته: (ولم يفلت من أهل بيت الحسين بن عليّ الذين معه إلاّ خمسة نفر: عليّ بن

____________________

(١) المزار: ٦٩، وانظر: جواهر الكلام: ٢٠: ٩٣.

(٢) معالى السبطين: ٢: ٩٦.

٨٧

الحسين الأصغر، وهو أبو بقيّة وِلْد الحسين بن عليّ اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وحسن بن حسن بن عليّ،(١) وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولا بقيّة له، والقاسم بن عبد الله بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإنّ هؤلاء استُضعفوا، فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب، وفاطمة ابنتا عليّ بن أبي طالب، وفاطمة، وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف(٢) الكلبية امرأة الحسين بن علي، وهي أمّ سكينة وعبد الله المقتول ابنَي الحسين بن علي، وأمّ محمّد بنت حسن بن عليّ امرأة عليّ بن حسين، وموالي لهم ومماليك عبيد وإماء، قدم بهم على عبيد الله بن زياد مع رأس الحسين بن علي ورؤوس مَن قُتِل معه رضي الله عنه وعنهم)(٣) .

وقال الطبري: (وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته

____________________

(١) قال السيّد ابن طاووس (ره): (وروى مُصنِّف كتاب المصابيح: أنّ الحسن بن الحسن المثنّى قَتل بين يدي عمّه الحسينعليه‌السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً، وأصابته ثماني عشرة جراحة، فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة، فحمله إلى الكوفة وداواه حتّى برئ وحملَه إلى المدينة) (راجع: اللهوف: ١٩١).

ومفاد ظاهر هذا الخبر، أنّ الحسن المثنّى لم يكن مع الأسرى في الركب الحسينيّ، الذين أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة.

(٢) المشهور أنّ الربابّ بنت امرئ القيس.

(٣) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي (ره): ص٧٨، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: ٣: ٣٠٣ في نقله عن طبقات ابن سعد. وانظر: تسمية مَن قُتِل مع الحسينعليه‌السلام : ١٥٧.

٨٨

ومَن كان معه من الصبيان وعليّ بن الحسين مريض)(١) .

وفي مقاتل الطالبيين: (وحمل أهله أسرى، وفيهم عمرو، وزيد، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن عليّ قد ارتثّ جريحاً، فحُمل معهم، وعليّ بن الحسين الذي أمّه أمّ ولد، وزينب العقيلة، وأمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين ...)(٢) .

وقال الشيخ عماد الدين الطبري في كامل البهائي: (وكنّ جميعهنّ عشرين نسوة، وكان لزين العابدين في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، ولمحمّد الباقر أربع، وكانا كلاهما في كربلاء وحفظهما الله تعالى)(٣) .

ويُستفاد من (الفائدة الثالثة) التي ذكرها المحقِّق السماوي في كتابه إبصار العين: أنّ زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلمانيرضي‌الله‌عنه كانت في الركب الحسيني أيضاً، وهي أمّ الشهيد عمرو بن جنادةرضي‌الله‌عنه الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه (٤) في هذا الركب، وأمّ الشهيد وهب الذي كان نصرانيّاًرضي‌الله‌عنه (٥) ، وآخرون قد يكشف عنهم التحقيق الدقيق.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٦، ومقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٤، ومُثير الأحزان: ٨٣ وفيه أيضاً في ص ٩٨: (قال علي بن الحسينعليه‌السلام :(أُدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغلَّلون ...) .

(٢) مقاتل الطالبيين: ١١٩، وانظر: اللهوف: ١٩١، وانظر: تاريخ أبي الفداء: ١: ٢٦٦ وفيه: (ثمّ بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء والأطفال إلى يزيد بن معاوية وفيهنّ ابنة عقيل بن أبي طالب ...).

(٣) الكامل البهائي لعماد الدين الطبري: ٢٩٠.

(٤) راجع: إبصار العين: ٢٢٠.

(٥) راجع: أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

٨٩

متى دخل الركب الحسينيّ الكوفة؟

أكثر المصادر التأريخيّة، تذكر أنّ عمر بن سعد كان قد ارتحل من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر بعد الزوال، حاملاً معه بقايا الركب الحسينيّ، وفي ضوء حساب المسافة وسرعة الدوابّ في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر بن سعد ومَن معه يُمسون عند مشارف الكوفة أوّل الليل - أيّ ليلة الثاني عشر - هذا إذا كان قد جدّوا السير إلى الكوفة.

من هنا؛ فإنَّ الأرجح أنَّ الركب الحسينيّ قد بات ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد، في منزل من منازل الطريق القريبة جدّاً من الكوفة أو على مشارفها، والظاهر أنّ عمر بن سعد كان قد دخل الكوفة نهار اليوم الثاني عشر مع عسكره وبقيّة الركب الحسيني أسرى وسبايا، ودخوله الكوفة نهاراً لا ليلاً أمرٌ يقتضيه العامل الإعلامي، وزهو الانتصار، والمباهاة بالظفر، في صدر كلٍّ من ابن زياد وابن سعد وأعوانهما.

وهناك أيضاً إشارات تأريخية، تؤكِّد أنّ دخول عمر بن سعد الكوفة كان في النهار، منها: ما رواه سهل بن حبيب الشهرزوري قال: فدخلتُ الكوفة فوجدت الأسواق مُعطّلة، والدكاكين مُغلّقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حلقاً حلقاً، منهم مَن يبكي سرّاً، ومنهم مَن يضحك جهراً، فتقدّمت إلى شيخ منهم وقلت له: يا شيخ، ما نزل بكم؟! أراكم مُجتمعين كتائب! ألكم عيد لستُ أعرفه للمسلمين؟!

فأخذ بيدي وعدل بي ناحية عن الناس، وقال: يا سيّدي، ما لنا عيد! ثمّ بكى بحرقة ونحيب!

فقلت: أخبرني يرحمك الله؟!

قال: بسبب عسكرين أحدهما منصور، والآخر مهزوم مقهور!

فقلت: لمن هذان العسكران؟!

٩٠

فقال: عسكر ابن زياد، وهو ظافر منصور! وعسكر الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وهو مهزوم مكسور!

ثمّ قال: وا حرقتاه! أن يدخل علينا رأس الحسين!

فما استتمّ إذ سمعت البوقات تُضرب، والرايات تخفق قد أقبلت، فمددت طرْفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة)(١) .

إعلان حالة الطوارئ القصوى في الكوفة!

لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه، بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرُق والشوارع؛ خوفاً من النّاس أن يتحرّكوا حميّة وغيرة على أهل البيتعليهم‌السلام ، إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق؛ حتّى يغلب على الناس الخوف والخشية.(٢)

كما أمر عبيد الله بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح، ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها، واجتمع مئة ألف إنسان للنظر إليه، منهم مَن كان يُهنِّئ، ومنهم مَن كان يُعزّي!(٣).

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢١.

(٢) راجع: معالي السبطين: ٢: ٥٧، وروضة الشهداء: ٢٨٨.

(٣) راجع: كامل البهائي: ٢٩٠ / ولا يخفى على المتتبّع العارف أنّ عدد نفوس أهل الكوفة آنذاك (سنة ٦١ هـ ق) قد يربو على ثلاثمئة ألف نسمة؛ ذلك لأنّ الكوفيين الذين كاتبوا الإمام الحسينعليه‌السلام في سنة ٦٠ هـ بعد موت معاوية، ذكروا له عن وجود مئة ألف مقاتل! فلو أنّ كلّ =

٩١

كيف استقبلت الكوفة بقيّة الركب الحسينيّ؟!

كانت الكوفة قد خرجت عن بكرة أبيها؛ لتشهد احتفال ابن زياد بمقدم جيشه الظافر في الظاهر! ولتشهد بقايا العسكر الذي قاتله جيش عمر بن سعد، ولتتصفّح وجوه السبايا!

ومن أهل الكوفة مَن كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عُظم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أنّ السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الرؤوس المشالات على أطراف الأسنّة هي رؤوس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعُظم الرزيّة!

ومنهم مَن كان أُمويّ الميل والهوى، أو جاهلاً لم يعلم بحقائق الأحداث، مُتوهّماً أنّ والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغْر من ثغور المسلمين! وجيء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويُهنِّئ مَن يلقاه بهذه المناسبة!!

قال صاحب رياض الأحزان: (وقد مُلئت شوارعها - أي الكوفة - وسككها وأزقَّتها من الرجال والنسوان، والشيوخ والشبّان، والصبايا والصبيان، من الموالف

____________________

= واحد من هؤلاء ينتمي إلى عائلة من ثلاثة أفراد (في ضوء حساب المعدّل)، لكان مجموع نفوس الكوفة آنذاك حوالي ثلاثمئة ألف نسمة، ويُساعد على ما ذهبنا إليه، أنّ عمر بن الخطّاب في سنة ٢٢ هـ. ق كان قد صرّح بصدد أهل الكوفة قائلاً: وأيّ شيء أعظم من مئة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟! وأُحيطت الكوفة على مئة ألف مقاتل. (راجع: الكامل في التاريخ: ٣: ٣٢)، وهذا في سنة ٢٢ هـ؛ فلا شكّ أن نفوسهم بعد ٣٨ سنة قد بلغ حوالي ثلاثة أمثال عددهم سنة ٢٢ هـ.

٩٢

والمخالف، وحزب الرحمان، وأولياء الشيطان، منهم باكٍ ومُنتحب، ومنهم ضاحك وطرِب، منهم عارف بالواقعة العظمى، وأنّها جرت على آل النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنهم جاهل غافل عن البلوى)(١) .

وروى الشيخ الطوسي بسنده، عن حذلم بن ستير(٢) ، قال: (قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستّين، مُنصرف عليّ بن الحسينعليهما‌السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يُحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلما أقبل على الجِمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمْن!(٣) ، فسمعت عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وهو يقول بصوت ضئيل - وقد نهكته العلّة! وفي عنُقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقه! -:(إنّ هؤلاء النسوة يبكين! فمَن قتلنا؟!) (٤) .

ويقول اليعقوبي في تاريخه: (وحملوهنّ إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين! فقال عليّ بن الحسين:(هؤلاء يبكين! فمَن

____________________

(١) رياض الأحزان: ٤٨ /، ونقل أيضاً عن تذكرة الأئمّة للعلاّمة المجلسي أنهّ (قال بعض النظّار والمتفرّجين لبعض شماتةً بهم: إنّ الله تعالى نِعْمَ ما كافى هؤلاء به عمّا أحدثوه وأبدعوه وفعلوه!

وكان هو في ذلك، إذ طارت من السماء حجارة وأصابت فمه وسقط ميّتاً لعنه الله).

(٢) في رجال الشيخ الطوسي: ١١٣ ورد اسمه (حذيم بن شريك الأسدي)، وروى الطبرسي في كتابه الاحتجاج عنه حديث ورد الإمام السجّادعليه‌السلام الكوفة مع أهل البيت، وخطبة زينب الكبرى في الكوفة. (راجع: الاحتجاج: ٢: ٣٢٠ رقم ٣٢٢)، وفي البحار: ٤٥: ١٠٨ (بشير بن خزيم الأسدي)، وفي مُستدركات علم رجال الحديث: ٢: ٣٧: (بشير بن جزيم الأسدي: لم يذكروه، وهو راوي خطبة مولاتنا زينبعليها‌السلام بالكوفة.).

(٣) التدمتْ المرأة: ضربت صدرها في النياحة، وقيل: ضربت وجهها في المآتم.

(٤) أمالي الطوسي: ٩١، واللهوف: ١٩٢، وأمالي المفيد: ٣٢٠، والفصول المهمّة: ١٩٢، والمنتخب للطريحي: ٣٥٠.

٩٣

قتلَنا؟!) (١) .

ويقول ابن أعثم الكوفي: (وساق القوم حُرَم رسول الله من كربلاء، كما تُساق الأُسارى! حتّى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس إليهم فجعلوا يبكون وينوحون ...)(٢) .

وقال السيد ابن طاووس (ره): (قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيّات فقالت: من أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !!

فنزلت المرأة من سطحها، فجمعت لهنّ مُلاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهنّ فتغطّين)(٣) .

ويصف حاجب عبَيد الله بن زياد حال الناس ذلك اليوم فيقول: (.. ثمّ أمر بعليّ بن الحسينعليه‌السلام فغُلّ، وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملاء رجالاً ونساء يضربون وجوههم ويبكون ...!!)(٤) .

مسلم الجصّاص يصف حال الكوفة يومذاك!

قال العلاّمة المجلسي (ره): (رأيت في بعض الكُتب المعتبرة(٥) ، روى مُرسلاً عن مسلم الجصاص، قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢: ١٧٧.

(٢) الفتوح: ٥: ١٣٩.

(٣) اللهوف: ١٩١.

(٤) أمالي الشيخ الصدوق: ١٤٠ المجلس ٣١ حديث رقم ٣.

(٥) لا يُعرَف السرّ في عدم ذكر العلاّمة المجلسي (ره) اسم هذا الكتاب الذي وصفه من الكُتب المعتبرة.

٩٤

أُجصّص الأبواب، وإذا أنا بالزعقات(١) قد ارتفعت من جنبات الكوفة! فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟!

قال: الساعة أتَوا برأس خارجيّ خرج على يزيد.

فقلت: مَن هذا الخارجي؟!

فقال: الحسين بن علي!

قال: فتركت الخادم حتّى خرج، ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهب!(٢) ، وغسلت يدي من الجصّ، وخرجت من ظَهر القصر وأتيت إلى الكُناس، فبينما أنا واقف والناس يتوقَّعون وصول السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شِقّة(٣) تُحمل على أربعين جَملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمةعليها‌السلام ، وإذا بعليّ بن الحسينعليه‌السلام على بعير بغير وطاء! وأوداجه تشخب دماً! وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أُمّة السوء لا سَقياً لربعكم

يا أُمّة لم تراعِ جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نُشيِّد فيكم دينا

بني أُميّة ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تُلبُّون داعينا(٤)

تُصفِّقون علينا كفَّكم فرحاً

وأنتم في فجاج الأرض تسْبونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البريّة من سُبل المضلِّينا

____________________

(١) قال ابن منظور: والزعق: الصياح. (لسان العرب: ٦: ٤٦).

(٢) وفي هذا إشارة إلى أنّ مسلماً الجصّاص كان من مُحبيّ أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) والشِّقّة: الشظيّة أو القطعة المشقوقة من لوح أو خشب أو غيره. (لسان العرب: ١٠: ١٨٢).

(٤) يُلاحَظ في هذا البيت وما بعده ضعف وركاكة ظاهرة، ولعلّ هذه الأبيات من نظم آخرين ثمّ ألحقت بالأبيات الثلاثة الأُولى، والله العالم.

٩٥

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزناً

والله يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يُناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمّ كلثوم، وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام!

وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواهم وترمي به إلى الأرض.

قال: كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم!

ثمّ إنّ أمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم:

صهٍ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم؟! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء!

فبينما هي تُخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسينعليه‌السلام (١) ، وهو رأسٌ زهريٌّ قمرىٌّ، أشبه الخلْق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولحيته كسواد السّبج(٢) قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع! والرمح تلعب بها (كذا) يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمُقدّم المحمِل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:

يا هلالاً لما استتمّ كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مُقدَّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلِّمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

____________________

(١) ظاهر هذا الخبر يُخالف الأخبار التي مضت قبل هذا، والمصرِّحة بأنّ رأس الإمامعليه‌السلام أُخذ من ساعته إلى ابن زياد بيد خولّي وحميد بن مسلم، إلاّ أنّ الرؤوس المقدّسة جيء من القصر بها إلى حيث يمرّ الركب تلك الساعة داخل الكوفة. والله العالم.

(٢) السَّبَج: حجر أسود شديد السواد برّاق.

٩٦

يـا أخـي قـلبك الشفيق علينا

مـا لـه قد قسا وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر

مـع الـيُتْم لا يُـطيق وجوبا

كـلّما أوجـعوه بالضرب نادا

ك بـذلٍّ يـغيض دمعاً سكوبا

يـا أخـي ضُـمَّه إليك وقرِّبه

وسـكِّـن فؤاده الـمرعوبا

مـا أذلّ الـيتيم حـين يُنادي

بـأبيه ولا يراه مُجيبا) (١) .

إشارة:

لا شكّ بأنّ الصدقة الواجبة حرام على أهل البيتعليهم‌السلام وعلى ذراريهم، وهي - كما ورد في الأثر(٢) - أوساخ الناس، وأنّها لا تحلّ على محمّد ولا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، فلماذا منعَتْ السيّدة أمّ كلثوم أو زينبعليها‌السلام الأطفال من أخذ ما كان يُقدِّمه لهم أهل الكوفة من تمر وخبز وجوز؟ ألأنّ ذلك كان صدقة واجبة وهي محرّمة عليهم؟ أمْ كان ذلك احتياطاً، فلرّبما كان بعض ذلك من الصدقة الواجبة؟ أمْ كان ذلك محمولاً على الكراهة أو الحُرمة بتعليل خاص؟

يقول الشيخ الأنصاري (ره) في كتاب الزكاة(٣) ما نصّه: (ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، وبه وردت أخبار كثيرة، إلاّ أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٥: ١١٤ - ١١٥.

(٢) قال ابن عبّاس: (وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيراً ما يقول عن الصدقة: هي أوساخ النّاس، وأنّها لا تحلّ لمحمّد ولا آل محمّد. (كشف الغمّة عن هذه الأمّة للشعراني: ١٥٤). وانظر: وسائل الشيعة: ٦: ١٨٥ باب ٢٩ من أبواب المستحقّين للزكاة.

(٣) كتاب الزكاة: ٣٥٢.

٩٧

على نهي الإمامعليه‌السلام عن ماء المسجد؛ مُعلّلاً بأنّها صدقة، وقد اشتُهر حكاية منع سيدتنا زينب أو أمّ كلثومعليها‌السلام للسبايا عن أخذ صدقات أهل الكوفة؛ مُعلِّلتين بكونها صدقة، ويمكن حملها على الكراهة أو الحرمة، إذا كان الدفع على وجه المهانة كما احتمله في شرح المفاتيح).

وفي طول ذلك، يمكن أن نقول: بأنّ من المحتمل أيضاً، أنّ سيدتناعليها‌السلام أرادت من وراء ردّ عطايا أهل الكوفة ومنع السبايا منها - مع فرض الكراهة - أن تُعرِّف النّاس بأنّ سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين فرض الله مودّتهم واتِّباعهم، وأنّ يزيد بن معاوية وعامله ابن زياد قد عصيا الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بارتكاب ما ارتكبا من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى ينكشف للنّاس من أهل الكوفة عُظم الجريمة والرزيّة، وفظاعة ما اجترحوه من ذنب الانقياد ليزيد وابن زياد وأتباعهما.

خُطبة بطلة كربلاءعليها‌السلام :

ولما رأت العقيلة زينبعليها‌السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة، قد ملأت الشوارع والطرق والسكك، اندفعت إلى الخطابة وإلى التبليغ وإلى تبيان ما جرى على أهل بيت النبوّة، وأخذت تُحمِّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول الله، وتُوخِز ضمائرهم وتُحرق قلوبهم، بتعريفهم عُظم ما اجترحوا من جُرم، وقبح ما ألبسوا أنفسهم من عارٍ لا يُغسَل أبد الدهر!

قال السيّد ابن طاووس (ره): (قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أرَ خَفرةً - والله - أنطق منها! كأنّها تُفرغ من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! وقد أومأت إلى النّاس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس

٩٨

وسكنت الأجراس!! ثمّ قالت:

الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار! أمّا بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مَثَلكم كمَثل الذي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخَلاً بينكم! ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف النَّطف، والصدر الشّنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دِمنة، أو كفضّة (كقصّة خ ل) على ملحودة!؟! ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدره ألسنتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء - وفي بعضها - خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض أو ملاء السماء!

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لا يَحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد!

٩٩

قال الراوي: فوالله، لقد رأيت النّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم! ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي حتّى اخضلّت لحيته! وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي! كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى!)(١) .

____________________

(١) اللهوف: ١٩٢، وانظر: أمالي المفيد: ٣٢١، والفتوح: ٥: ١٣٩، وأمالي الطوسي: ١: ٩٠، ومُثير الأحزان: ٨٦، ومناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١١٥، والبحار: ٤٥: ١٦٢.

وروى المرحوم الطبرسي هذه الخطبة الغرّاء، بتفاوت وفيه زيادة: ثمّ أنشأت تقول:

مـاذا تـقولون إنّ قال النبيّ لكم

مـاذا صـنعتم وأنـتم آخر الأُمم

بـأهل بـيتي وأولادي تـكرمتي

مـنهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

إنّـي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم

مثل العذاب الذي أودى على إرَم

ثمّ ولّت عنهم.

وفيه أيضاً: فقال علي بن الحسينعليه‌السلام :

(يا عمّة اسكتي! ففي الباقي عن الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير مُعلّمة، فهمةٌ غير مُفهَّمة، إنّ البكاء والحنين لا يردّان مَن قد أباده الدهر!) .

فسكتت، ثمّ نزلعليه‌السلام وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، ودخل الفسطاط.

الاحتجاج: ٢: ١٠٩ / ويُلاحظ في إضافة الطبرسي (ره) أنّ قوله: (ثمّ نزل وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط) كاشف عن أنّ ما نقله من قول الإمام السجادعليه‌السلام ، كان قد صدر منه إلى عمّتهعليها‌السلام عند مشارف المدينة المنوّرة حين العودة إليها - على احتمال أقوى - أو في كربلاء، عند عودتهم إليها من الشام.

ذلك؛ لأنّهعليه‌السلام لم يكن له فسطاط في مسير السبي والأسر، ولم يكن له أن يُنزل النساء باختياره حيث يشاء! فتأمّل!

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم

رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه نظر إلى بعض الأطفال فقال: (ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم!).

فقيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المُشركين؟

فقال: (لا، مِن آبائهم المؤمنين لا يُعلِّمونهم شيئاً مِن الفرائض، وإذا علَّموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرضٍ يسير مِن الدنيا، فأنا منهم بريءٌ وهُمْ مِنِّي بُرآءُ) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦١

مَن سعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان

كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله!

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكُفَّها عن المسألة ويُغنيها عن الناس فهو في سبيل الله.

وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين و ذُرِّيَّةٍ ضعافٍ ليُغنيهم ويكُفَّيهم فهو في سبيل الله

وإنْ كان يسعى تفاخُراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٢

تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات

روى علي بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

قال لي: (ما فعل عمر بن مسلم؟).

قلت: جُعِلت فِداك! أقبل على العبادة وترك التِّجارة.

فقال: (ويحَه، أما عَلم أنَّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٣

أنا أصبِر عن اللَّحم

روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مَرَّ بقصَّابٍ وعنده لحمٌ سَمين.

فقال: يا أمير المؤمنين، هذا اللَّحم سمين اشترِ منه.

فقال (عليه السلام): (ليس الثمنُ حاضراً).

فقال: أنا أصبر يا أمير المؤمنين.

فقال له: (أنا أصبر عن اللَّحم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٤

اعمل واحمل على رأسك

واستغنِ عن الناس

جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنَّه لا يملك يداً سالمةً، ولا مالاً ليُتاجر به، فأبى عليه أنْ يُضيِّع عِزَّته وشرفه بذل السؤال فقال له:

(اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن الناس) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٥

أحسن الناس مَعاشاً

قال علي بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي: (يا عليُّ، مَن أحسن الناس معاشاً؟).

قلت: أنت - يا سيدي - أعلم به مِنِّي.

فقال (عليه السلام): (يا عليُّ، مَن حسن معاش غيره في معاشه) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٦

أسوأ حالٍ أنْ يُرى المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً

نبيُّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في حديث له، عن حالة الضلال الخطيرة هذه للمسلمين قال:

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفَسق شبَّانكم ولم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهوا عن مُنكرٍ؟!).

فقيل له: ويكون ذلك - يا رسول الله ـ؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمُنكر ونهيتم عن المعروف؟!).

فقيل: يا رسول الله، ويكون ذلك؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٧

لا حاجة للعِباد بالمُحرَّم مِن الأشياء

بعث محمد بن سنان رسالة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وسأله فيها عن تصوُّر بعض المسلمين أنَّ الحلال والحلال في الإسلام لا يستند على أساس مصلحة وفساد الناس، بلْ عِبادة وطاعة الله تبارك وتعالى، فكتب إليه الإمام (عليه السلام):

(قد ضَلَّ مَن قال ذلك ضَلالاً بعيداً).

وقال (عليه السّلام) ضمن الرسالة عن مُحرَّمات الإسلام:

(ووجدنا المُحرَّم مِن الأشياء لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مُفسداً داعياً إلى الفَناء والهلاك) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٨

الحلال والحرام لمَصلحة العباد

يقول المفضل بن عمر: سألت الإمام الصادق (عليه السلام):

لماذا حرَّم الله تعالى الخَمر، والمِيتة، والدَّم، ولحَم الخِنزير على الناس؟

فقال (عليه السلام):

(إنَّ حرام الله وحلاله لم يكن على أساس الرَّغبة والزُّهد، ولكنَّه خَلق فعَلِم ما تقوم به أبدانهم وما يُصلِحهم؛ فأحلَّه لهم واباحه تفضُّلاً منه عليهم لمصلحتهم، وعَلِم ما يضرُّهم فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٩

ترحيب المسلمين بتحريم الخَمر

ذات يوم دعا سعد بن أبي وقَّاص أحد الأنصار، وكان قد تآخى معه فتناولا الطعام والشراب وسكر الاثنان، وهُما في حالةِ السُّكر ذكرا مَفاخر الجاهليَّة، وبالتدريج وصل الأمر بينهما إلى الشِّجار، فتناول الأنصاري عِظام فَكِ بعيرٍ كان على المائدة وضرب به وجه سعد فَشَجَّ له أنفه.

بعد هذه الحادثة نزلت آية منع الخَمر: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (المائدة: ٩٠ - ٩١).

مع نزول آية التحريم زالت عادة شِرب الخَمر وصناعتها، ورحَّب الناس بهذا الأمر الإلهيِّ ترحيباً حارَّاً، وأراقوا الخمر التي في بيوتهم، وحطَّموا كوؤس الشراب، بحيث إنَّ رائحة الخَمر كانت تُشتُّم في طُرقات المدينة عِدَّة أيَّام.

عندما أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر التحريم، كان هناك شابٌّ أسرع إلى المنزل ليُخبر والديه بالخبر، وعندما وصل إلى المنزل وجد أباه مع عددٍ مِن الضيوف يتساقون الخَمر، وكان الأبّ يُقرِّبُ قدح الخمر مِن فَمهِ، فصاح فيه الابن: لا تشرب يا أبه؛ لأنَّ الله سبحانه قد حَرَّم شِرب الخَمر، فأطاع الأبّ فوراً وجمع مائدة الشراب، وهكذا فعل بقيَّة المسلمين (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٠

هدانا الله بأحمدَ المهديِّ النبيِّ

كان عمرو بن الجَموح سيِّداً مِن سادات بني سلمة، وشريفاً مِن أشرافهم، وكان قد اتَّخذ في داره صَنماً مِن خشب يُقال له: (مَناة) كما كانت الأشراف تصنع، تتَّخذ إلهاً تُعظِّمه وتُقدِّسه، فلمَّا أسلم فتيان مِن بني سلمة، معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجَموح، في فتيانٍ منهم مِمَّن أسلم وشَهِد العَقبة، كانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفر بني سلمة - وفيها عذر الناس - مُنكَّساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلَكم! مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثمَّ يغدو يتلمَّسه حتَّى إذا وجده غسله وطهَّرهُ وطيَّبه، ثمَّ قال: أما والله، لو أعلم مَن فعل هذا بك لأُخزينَّه، فإذا أمسى عمرو ونام عدوا عليه، ففعلوا به مِثل ذلك، فيغدو فيجده في مِثل ما كان فيه مِن الأذى، فيغسلهُ ويُطهِّره ويُطيِّبهُ، ثمَّ يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مِثل ذلك، فلمَّا أكثروا عليه استخرجه مِن حيث ألقوه يوماً فغسلهُ وطَهَّرهُ وطَيَّبهُ، ثمَّ جاء بسيفه فعلَّقه عليه، ثمَّ قال: إنِّي - والله - ما أعلم مَن يصنع بك ما ترى، فإنْ كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلمَّا أمسى عمرو ونام، عدوا عليه، فأخذوا السيف مِن عُنقه ثمَّ أخذوا كلباً مَيِّتاً فقرنوه به...، ثمَّ ألقوه في بئر مِن آبار بني سلمة فيها عَذر مِن عَذر الناس، ثمَّ غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتَّى وجده في تلك البئر مُنكَّساً مقروناً بكلبٍ مَيِّتٍ، فلمَّا رآه وأبصر شأنه، وكلَّمه مَن أسلم مِن قومه فأسلم برحمة الله، وحَسُنَ إسلامُهُ، فقال - حين أسلم وعرف مِن الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر مِن أمره، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مِمَّا كان فيه مِن العَمى والضلالة ـ:

٢٧١

والله لـو كـنت إلهاً لم تكنْ

أنت وكلبٌ وسْطَ بئرٍ في قَرَنْ

أفٍّ لـمَلقاك إلـهاً مُـسْتَدَنْ

الآن فتَّشناك عن سوء الغَبَنْ

الـحمد لـله العليِّ ذي المِنن

الـواهب الرزَّاق ديَّان الدِّيَنْ

هـو الـذي أنـقذني مِن أنْ

أكـون في ظُلْمَةِ قَبرٍ مُرتَهَنْ

بأحمدَ المهديِّ النبيِّ المؤتَمن (١)

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٢

ما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتصرَّف برِفقٍ لهداية الناس، ويُذكِّرهم بالتعاليم الإصلاحيَّة بكلِّ أدبٍ ولين، وهذا العمل بحدِّ ذاته كان مِن عوامل نفوذ كلامه (صلى الله عليه وآله) في قلوب الناس.

عن هلال بن الحكم قال: لمَّا قَدِمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) علمت أُموراً مِن أُمور الإسلام، وكان فيما علمت، قيل لي: إذا عطست، فاحمد الله، وإذا عطس العاطس اطلب الرحمة له.

فبينا أنا في الصلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بعين شَزَر؟! فسبَّح القوم فلمَّا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاته، قال: (مَن المُتكلِّم؟).

قالوا: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال:

(إنَّما الصلاة للقراءة ولذكر الله عَزَّ وجَلَّ، وإذا كنت في الصلاة فليكُن ذلك حالك). قال: فما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٣

ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فَضلٌ

كان أبو ذر الغفاري مِن الرجال الإلهيِّين، ومِن الأصحاب المُحترمين للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وذات يوم زلَّ في الكلام أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بحَقِّ بلال بن رباح الحبشي، فقال له: يا بن السوداء إشارة إلى أُمِّه.

غضب لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألقاها في وجه أبي ذر عنيفةً مُخفية: (يا أبا ذر، طُفَّ الصَّاعُ! ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فضل).

أيْ أنْ لا يتصوَّر البِّيض أنَّهم أفضل مِن السود، بلْ إنَّ جميعهم مُتساوون وأفضلهم مَن اتَّصف بالإنسانيَّة والعلم والتقوى، وسار في طريق الفضائل لنيل الكمال اللائق به (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٤

مشورةٌ في وقتها

خالد البرمكي كان مِن أصحاب الرأي والمَشورة، وربطته مع قحطبة عَلاقات اجتماعيَّة. وقد استفاد قحطبة، خلال أيَّام حُكمه، مِن الآراء والأفكار الصائبة لخالد، ومنها:

عندما وصلت الأنباء عن استعداد ابن ضبارة لقتال قحطبة، وأنَّ جيشه عبر الحدود ودخل أراضي قحطبة، تلقَّى الأخير هذه الأنباء بقَلقٍ شديدٍ، فجهَّز خمسين ألف فارس تجهيزاً كاملاً، وتحرَّك حتَّى وصل قُرب الحدود، ولكنَّه لم يجد أثراً لجيش العدوِّ، فاطمأنَّ وأمر جنوده بالاستراحةِ في أرضٍ واسعةٍ مكشوفةٍ، وعزم على البقاء في تلك المنطقة عِدَّة أيَّام.

يقول خالد: ذات ليلة كنت جالساً في خيمتي، فإذا بغزال يُسرع فجأة نحو الخيمة خائفاً مُضطرباً، فقام مَن كان موجوداً في الخيمة للإمساكِ بالغزال، فأمرتهم أنْ يكفُّوا عن الغزال ويُسرعوا لوضع السروج على الخيول ويستعدُّوا للقتال؛ لأنَّ العدوَّ قريب مِنَّا. وأسرعتُ إلى قحطبة وقلت له: أصدر أمرك إلى الجنود ليستعدُّوا؛ فابن ضبارة وجيشه يقتربون مِنَّا. أصدر أوامره، وخرج الجنود مِن الخِيم، وأعدُّوا الخيول واستعدُّوا للقتال، ولم يطل الأمر حتَّى وصل جيش ابن ضبارة، وكان جنودنا مُستعدِّين، وفاجأوا جيش العدوِّ وهجموا عليهم، واحتدم قتال شديد، فقُتِل ابن ضبارة، وكان الانتصار الكبير مِن نصيب جيش قحطبة.

بعد انتهاء القتال سألني قحطبة: مَن أخبرك بقدوم جيش العدوِّ؟!

قلت: لم يُخبرني أحد، ولكنَّني رأيت غزالاً خائفاً في الليل يركضُ داخلاً خيمتي، وكنت أعلم أنَّ الغزال الوحشي يخاف مِن الإنسان، ولكنَّه لا يقترب منه إلاَّ في الأوقات التي يحسُّ فيها بخطر، ثمَّ إنَّ الغزال لا يترك مكانه ولا يبتعد عن

٢٧٥

تلك المنطقة مُسرعاً في ظلام الليل، علمت أنَّ وراءه جيش كبير مُخيف يتحرَّك؛ ولذا التجأ إلينا مِن خوفه.

فتعجَّب قحطبة لذكاء خالد وسُرعة فَهمِهِ؛ فأثنى عليه كثيراً ومنحه الجوائز والعطايا وقرَّبَهُ إليه (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٦

مَن يبخل بفضله يُستغَن عنه ويُذمَّ

كان هناك رجل قويٌّ حُكم منطقةً واسعةً مِن الهند، وكان مولعاً بجمع المال والثروة، مُعتقداً أنَّ الغِنى يعني القوَّة؛ ولذا يُحبُّ أنْ يسعى كثيراً ليزيد مِن ثروته، فيزيد بهذه الطريقة قُدرته وقوَّته.

كان لهذا الحاكم وزير عاقل وذكيٌّ مُخالف لطريقته، فكان يستغلُّ كلَّ فرصة تسنح لينصح الحاكم في أنْ يُعطي مِن ثروته للناس؛ ليكسب قلوبهم ويبعث فيهم السرور، ويجذب إلى نفسه الأنظار، فكان يقول له: ضَحِّ بشيءٍ مِن ثروتك؛ كي لا يتمرَّد عليك الجيش ويسوء حاله، فالمال لا يخلق الرجال ولكنْ بإمكان الرجل أنْ يحصل على الكثير مِن المال.

ورغم أنَّ الوزير عَلِم أنَّ الحاكم قد أغاظه تكرار نصحه، لكنَّه لم يكفَّ عن أداء واجبه واستمرَّ في تقديم نصائحه.

وذات يوم أصرَّ الوزير أكثر مِن الأيَّام السابقة على نصائحه، وبدون أنْ يُجيب الحاكم على الوزير أمر بإحضار قدح مِن العَسل، ثمَّ وضعه أمام الوزير، ولم يمضِ وقت طويل حتَّى اجتمع ذُباب كثير على العَسل، بعد أنْ شاهد الوزير ذلك طلب الإذن بالانصراف، وخرج مِن المجلس وهو يقول في نفسه: لقد عرفت ما يقصده الحاكم، فقد أراد إفهامي أنَّ الذهب كالعسل، فكما يجتمع الذُّباب على العسل، يجتمع الناس بوجود الذهب، ولهذا السبب بادرتُ إلى جمع الثروة.

وصبر الوزير حتَّى المساء، وعندما أرخى الليل سدوله مَلأ قدحاً بالعسل وأخذه إلى بيت الحاكم، وطلب اللقاء به لأمرٍ مُهمِّ، فَسُمِح له، ومَثُلَ أمام الحاكم ووضع قدح العسل أمامه على الأرض، وجلس هو على جانب في صمت وبما أنَّ الوقت كان ليلاً، لم تقترب ذُبابة واحدة مِن العسل، وبعد ساعةٍ تحدَّث الوزير

٢٧٧

وقال: أيُّها الحاكم الكبير، إنَّ الناس يأتون لأخذ الذهب عندما يُعطى لهم، تماماً مِثل الذُّباب عندما يجتمع على العسل في النهار، أمَّا في غير وقتهِ فلا يوجد مَن يهتمُّ بالذهب تماماً، مِثل هذا الليل المُظلم لا توجد ذُبابة واحدة تحطُّ على العسل.

اهتزَّ الحاكم بشِدَّة لكلام الوزير الذكي، وانتبه لنفسه، وما كان منه إلاَّ أنْ أثنى عليه واستحسنه، وشمله بعطفه وعنايته الخاصَّة. بعد ذلك سلك الحاكم أُسلوباً جديداً، إذ بدأ يبذل ثروته في سبيل رفاه الناس وتحسين معيشة جنوده وموظَّفيه، وهكذا اكتسب قلوب الناس ومحبَّتهم له (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٨

التحرُّز عن الزَّلل والخطأ أمام الأعداء

كان هناك رجل يُدعى جميل يعمل كاتباً لسنواتٍ طويلة في بلاطِ الساسانيِّين، وقد أدرك عصر الإمام علي (عليه السلام)، وفي زمن خلافته (عليه السلام) كان جميل قد بلغ أرذل العمر وعندما عاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن النهروان، وسأل عن حال جميل أخبروه أنَّه لا زال على قيد الحياة، فأمر بإحضاره، وعند مثوله بين يدي الإمام علي (عليه السلام)، وجده الإمامُ (عليه السلام) يحتفظ بذكائِهِ، ولم يفقد إلاَّ بصره فسأله (عليه السلام): (كيف ينبغي للإنسانِ - يا جميل - أنْ يكون؟).

قال: يجب أنْ يكون قليل الصديق كثير العدوِّ.

ـ (أحسنتَ يا جميل، فقد أجمع الناس على أنَّ كثرة الأصدقاء أولى).

فقال: ليس الأمر على ما ظنُّوا؛ فإنَّ الأصدقاء إذا كُلِّفوا السعي في حاجة الإنسان لم ينهضوا بها كما يجب وينبغي.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قد امتحنت هذا فوجدته صواباً. فما منفعة كثرة الأعداء؟).

قال: إنَّ الأعداء إذا كثروا يكون الإنسان مُتحرِّزاً أنْ ينطق بما يؤاخَذ عليه، أو تبدر منه زَلَّة يؤاخَذ عليها، فيبقى على هذه الحالة سليماً مِن الخطايا والزَّلل. فاستحسن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٩

كفرتْ بأنعُم الله فأذاقها لِبَاس الجُوع والخَوف

كانت الخيزران أُمُّ الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أُمَّهات أولاد الخُلفاء وغيرهنَّ مِن بنات بني هاشم، وهي على بساطٍ أرمنيٍّ وهُنَّ على نمارق أرمنيَّة، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهُنَّ مرتبة، فبينا هُنَّ كذلك إذ دخل خادم لها فقال:

بالباب امرأة ذات حُسنٍ وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، تأبى أنْ تُخبر باسمها وشأنها غيركنَّ، وتروم الدخول عليكنَّ، وقد كان المهدي تقدَّم إلى الخيزران بأنْ تَلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي مِن آدابها، وخُذي مِن أخلاقها؛ فإنَّها عجوز لنا قد أدركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذَن لها، فدخلت امرأة ذات بَهاء وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلَّمت فأوضحت عن بيان، قالوا لها: مَن أنت؟ قالت: أنا مُزنَة امرأة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما تَرَيْنَ. ووالله، ما لأطمار الرثَّة التي عليَّ إلاَّ عارية، وإنَّكم لمَّا غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا، لم نأمَن مِن مُخالطة العامَّة على ما نحن فيه مِن الضرر على بادرة إلينا ذيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حِجابكم على أيَّة حالة كانت، حتَّى تأتي دعوة مِن له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن علي، فقالت لها: لا خفّف الله عنك يا مزنة، أتذكرين وقد دخلت عليك بحرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق، فكلَّمتك في جثّة إبراهيم الإمام، فانتهرتيني وأمرت بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم؟! فوالله، لقد كان مروان أرعى للحَقِّ منك؛ لقد دخلت إليه فحلف أنَّه ما قتله، وهو كاذب، وخيَّرني بين أنْ يدفنه أو يدفع إليَّ جُثَّته وعرض عليَّ مالاً فلم أقبله.

فقالت مزنة: والله، ما نظنُّ هذا الحالة أدَّتني إلى ما ترينه إلاّ بالفِعال التي كانت منِّي وكأنَّكِ استحسنتِه، فحرَّضت الخيزران على فعل مثله، إنَّما كان يجب أنْ تُحضيها على فعل الخير

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421