القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360169 / تحميل: 10449
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

7 - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة; لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟

١٠١

البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام الحسينعليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(1) .

____________________

(1) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 41.

١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته:

ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ )(1) وأمه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحي

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلب

بأرض الطف أولادَ النبي

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(2) .

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(3) .

أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(4) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 179.

(2) بحار الأنوار: 44 / 309.

(3) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42.

(4) حياة الإمام الحسين: 2 / 181 - 182.

١٠٣

وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد:

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(1) .

شغفه بالقرود:

وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتَ خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:

كم من كرام وقوم ذوو محافظة

جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس

____________________

(1) راجع الفخري لابن الطقطقي: 45، وتاريخ اليعقوبي: 2/230، وتاريخ الطبري: 4/368، والبداية والنهاية: 8/236 - 239.

١٠٤

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريس

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(1)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود(2)

إدمانه على الخمر:

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السكر، ومن شعره في الخمر:

أقول لصحب ضمّت الخمر شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيم ولذّة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم(3)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصفه ليزيد بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(4) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 182، نقلاً عن جواهر المطالب: 143.

(2) أنساب الأشراف: 2 / 2.

(3) حياة الإمام الحسين: 2 / 183، نقلاً عن تأريخ المظفري.

(4) تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.

١٠٥

وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(1) .

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(2) .

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...(3)

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:

شميسة كرم برجها قعردنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

اذا اُنزلت من دنِّها في زجاجة

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمد

فخذها على دين المسيح ابن مريمِ(4)

وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

إسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنّين فغنّوا، وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(5) .

____________________

(1) تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.

(2) البداية والنهاية: 8 / 216، الكامل لابن الأثير: 4 / 45.

(3) المصدر السابق.

(4) تتمة المنتهى: 43.

(5) مروج الذهب: 2 / 94.

١٠٦

ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(1) .

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن لحيته)(2) .

إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلحاد يزيد وحقده على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

____________________

(1) مروج الذهب: 2 / 94.

(2) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 7 / 170.

١٠٧

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ

قد قتلنا القرم من أشياخهم

وعدلناه ببدر فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزلْ

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ(1)

بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:

ادع إلهك في السماء فإنّني

أدعو عليك رجال عك وأشعرا(2)

جرائم حكم يزيد:

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم:

1 - انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه‌السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

2 - إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 187، نقلاً عن البداية والنهاية: 8 / 192.

(2) مروج الذهب: 2 / 95.

١٠٨

الحسينعليه‌السلام وأنكروه عليه.

3 - إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(1) .

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أن العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة

____________________

(1) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42 وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 180. عن المناقب: 71 للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في سموّ الذات: 59 العلائلي.

١٠٩

حياتهم قبل الفتح الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلابدّ إذن من القول بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

١١٠

الفصل الثاني:

مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل: موقفهعليه‌السلام من البيعة ليزيد

1 - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام تكمن في صدريهما، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(1) .

وخاطب أبو سفيان بني أمية ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(2) .

وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

____________________

(1) الاستيعاب: 2 / 690.

(2) مروج الذهب: 1 / 440، تأريخ ابن عساكر: 6 / 407.

١١١

الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

كما أنّ الانحراف السياسي الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ أو أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه خالف سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(2) من بعده.

وقد خلت الساحة السياسية للزمرة الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليعليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسنعليه‌السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسنعليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسنعليه‌السلام .

يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

____________________

(1) مروج الذهب: 2 / 343، وشرح النهج: 2 / 357.

(2) الإمامة والسياسة: 1 / 189.

١١٢

فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد. من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها(1) ، فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(2) .

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة; ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(3) .

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 249، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 195، والإمامة والسياسة: 2 / 262.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 249.

(3) وفيات الأعيان: 5 / 389، والإمامة والسياسة: 1 / 182، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 196.

١١٣

وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

2 - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:

لمس معاوية رفض العائلة الأُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده الإمام الحسينعليه‌السلام - وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن تلك السبل:

أ - استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع الأمة لولايته(1) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب - بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(2) .

ج - استقدام وفود من وجهاء الأنصار(3) ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي ينفذ منها إليهم.

د - إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل مروان واستعمل سعيداً(4) .

هـ - اغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام

____________________

(1) الأغاني: 8 / 71، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: 234: للويس شيخو اليسوعي.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 250.

(3) الكامل في التأريخ: 3 / 250.

(4) تأريخ الطبري: 4 / 18.

١١٤

كبير في نفوس الجماهير، فاغتال الإمام الحسنعليه‌السلام وسعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(1) .

و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(2) ; إذ وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

3 - محاولات الإمام الحسينعليه‌السلام لإيقاظ الأمة:

لم يخلد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام - مراعياً ظروف الأمة وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمامعليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف:

1 - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد.

2 - محاولة جمع كلمة الأمة.

3 - فضح جرائم معاوية.

4 - استعادة حقّ مضيّع.

5 - تذكير الأمة بمسؤوليّاتها.

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين: 29، وتأريخ الطبري: 5 / 253، والكامل في التأريخ: 3 / 352.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 252، والإمامة والسياسة: 1 / 200.

١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد:

أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمامعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك

١١٦

عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذْعنَ للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلى النصف.

فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمامعليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل

فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(1) .

وقد اتّسم موقف الإمام الحسينعليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: 2 / 219 - 220.

١١٧

محاولة جمع كلمة الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمامعليه‌السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسينعليه‌السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الأمة، وأن تردّهم في فتنة(2) .

فضح جرائم معاوية:

كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: 2/223.

(2) المصدر السابق: 2 / 224.

١١٨

ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء ورحلة الصيف.

وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واتّق شقّ عصا هذه الأمة

١١٩

وأن تردّهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك، فإنْ فعلتُ فإنه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني واسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)(1) .

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع:

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة لتدعيم ملكه، كما كان يهب

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2/235 عن الإمامة والسياسة: 1 / 284، والدرجات الرفيعة: 334، وراجع الغدير: 10 / 161.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم

رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّه نظر إلى بعض الأطفال فقال: (ويلٌ لأولاد آخر الزمان مِن آبائهم!).

فقيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المُشركين؟

فقال: (لا، مِن آبائهم المؤمنين لا يُعلِّمونهم شيئاً مِن الفرائض، وإذا علَّموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرضٍ يسير مِن الدنيا، فأنا منهم بريءٌ وهُمْ مِنِّي بُرآءُ) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦١

مَن سعى تفاخراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان

كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً مع أصحابه ذات يوم، فنظر إلى شابٍّ ذي جَلدٍ وقوَّة وقد بكَّر يسعى.

فقالوا: ويحَ هذا! لو كان شبابه وجَلده في سبيل الله!

فقال (صلى الله عليه وآله): (لا تقولوا هذا؛ فإنَّه إنْ كان يسعى على نفسه ليكُفَّها عن المسألة ويُغنيها عن الناس فهو في سبيل الله.

وإنْ كان يسعى على أبوين ضعيفين و ذُرِّيَّةٍ ضعافٍ ليُغنيهم ويكُفَّيهم فهو في سبيل الله

وإنْ كان يسعى تفاخُراً وتكاثُراً فهو في سبيل الشيطان) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٢

تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات

روى علي بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

قال لي: (ما فعل عمر بن مسلم؟).

قلت: جُعِلت فِداك! أقبل على العبادة وترك التِّجارة.

فقال: (ويحَه، أما عَلم أنَّ تارك الطلب لا يُستجاب له دعوات؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٣

أنا أصبِر عن اللَّحم

روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مَرَّ بقصَّابٍ وعنده لحمٌ سَمين.

فقال: يا أمير المؤمنين، هذا اللَّحم سمين اشترِ منه.

فقال (عليه السلام): (ليس الثمنُ حاضراً).

فقال: أنا أصبر يا أمير المؤمنين.

فقال له: (أنا أصبر عن اللَّحم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٤

اعمل واحمل على رأسك

واستغنِ عن الناس

جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: إنَّه لا يملك يداً سالمةً، ولا مالاً ليُتاجر به، فأبى عليه أنْ يُضيِّع عِزَّته وشرفه بذل السؤال فقال له:

(اعمل واحمل على رأسك واستغنِ عن الناس) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٥

أحسن الناس مَعاشاً

قال علي بن شعيب: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي: (يا عليُّ، مَن أحسن الناس معاشاً؟).

قلت: أنت - يا سيدي - أعلم به مِنِّي.

فقال (عليه السلام): (يا عليُّ، مَن حسن معاش غيره في معاشه) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٦

أسوأ حالٍ أنْ يُرى المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً

نبيُّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في حديث له، عن حالة الضلال الخطيرة هذه للمسلمين قال:

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفَسق شبَّانكم ولم تأمروا بمعروفٍ ولم تنهوا عن مُنكرٍ؟!).

فقيل له: ويكون ذلك - يا رسول الله ـ؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، فكيف بكم إذا أمرتم بالمُنكر ونهيتم عن المعروف؟!).

فقيل: يا رسول الله، ويكون ذلك؟!

قال: (نعم، وشَرٌّ مِن ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف مُنكراً والمُنكر معروفاً؟!) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٧

لا حاجة للعِباد بالمُحرَّم مِن الأشياء

بعث محمد بن سنان رسالة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وسأله فيها عن تصوُّر بعض المسلمين أنَّ الحلال والحلال في الإسلام لا يستند على أساس مصلحة وفساد الناس، بلْ عِبادة وطاعة الله تبارك وتعالى، فكتب إليه الإمام (عليه السلام):

(قد ضَلَّ مَن قال ذلك ضَلالاً بعيداً).

وقال (عليه السّلام) ضمن الرسالة عن مُحرَّمات الإسلام:

(ووجدنا المُحرَّم مِن الأشياء لا حاجة للعباد إليه، ووجدناه مُفسداً داعياً إلى الفَناء والهلاك) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٨

الحلال والحرام لمَصلحة العباد

يقول المفضل بن عمر: سألت الإمام الصادق (عليه السلام):

لماذا حرَّم الله تعالى الخَمر، والمِيتة، والدَّم، ولحَم الخِنزير على الناس؟

فقال (عليه السلام):

(إنَّ حرام الله وحلاله لم يكن على أساس الرَّغبة والزُّهد، ولكنَّه خَلق فعَلِم ما تقوم به أبدانهم وما يُصلِحهم؛ فأحلَّه لهم واباحه تفضُّلاً منه عليهم لمصلحتهم، وعَلِم ما يضرُّهم فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٦٩

ترحيب المسلمين بتحريم الخَمر

ذات يوم دعا سعد بن أبي وقَّاص أحد الأنصار، وكان قد تآخى معه فتناولا الطعام والشراب وسكر الاثنان، وهُما في حالةِ السُّكر ذكرا مَفاخر الجاهليَّة، وبالتدريج وصل الأمر بينهما إلى الشِّجار، فتناول الأنصاري عِظام فَكِ بعيرٍ كان على المائدة وضرب به وجه سعد فَشَجَّ له أنفه.

بعد هذه الحادثة نزلت آية منع الخَمر: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (المائدة: ٩٠ - ٩١).

مع نزول آية التحريم زالت عادة شِرب الخَمر وصناعتها، ورحَّب الناس بهذا الأمر الإلهيِّ ترحيباً حارَّاً، وأراقوا الخمر التي في بيوتهم، وحطَّموا كوؤس الشراب، بحيث إنَّ رائحة الخَمر كانت تُشتُّم في طُرقات المدينة عِدَّة أيَّام.

عندما أعلن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر التحريم، كان هناك شابٌّ أسرع إلى المنزل ليُخبر والديه بالخبر، وعندما وصل إلى المنزل وجد أباه مع عددٍ مِن الضيوف يتساقون الخَمر، وكان الأبّ يُقرِّبُ قدح الخمر مِن فَمهِ، فصاح فيه الابن: لا تشرب يا أبه؛ لأنَّ الله سبحانه قد حَرَّم شِرب الخَمر، فأطاع الأبّ فوراً وجمع مائدة الشراب، وهكذا فعل بقيَّة المسلمين (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٠

هدانا الله بأحمدَ المهديِّ النبيِّ

كان عمرو بن الجَموح سيِّداً مِن سادات بني سلمة، وشريفاً مِن أشرافهم، وكان قد اتَّخذ في داره صَنماً مِن خشب يُقال له: (مَناة) كما كانت الأشراف تصنع، تتَّخذ إلهاً تُعظِّمه وتُقدِّسه، فلمَّا أسلم فتيان مِن بني سلمة، معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجَموح، في فتيانٍ منهم مِمَّن أسلم وشَهِد العَقبة، كانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفر بني سلمة - وفيها عذر الناس - مُنكَّساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلَكم! مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلة؟

ثمَّ يغدو يتلمَّسه حتَّى إذا وجده غسله وطهَّرهُ وطيَّبه، ثمَّ قال: أما والله، لو أعلم مَن فعل هذا بك لأُخزينَّه، فإذا أمسى عمرو ونام عدوا عليه، ففعلوا به مِثل ذلك، فيغدو فيجده في مِثل ما كان فيه مِن الأذى، فيغسلهُ ويُطهِّره ويُطيِّبهُ، ثمَّ يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مِثل ذلك، فلمَّا أكثروا عليه استخرجه مِن حيث ألقوه يوماً فغسلهُ وطَهَّرهُ وطَيَّبهُ، ثمَّ جاء بسيفه فعلَّقه عليه، ثمَّ قال: إنِّي - والله - ما أعلم مَن يصنع بك ما ترى، فإنْ كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلمَّا أمسى عمرو ونام، عدوا عليه، فأخذوا السيف مِن عُنقه ثمَّ أخذوا كلباً مَيِّتاً فقرنوه به...، ثمَّ ألقوه في بئر مِن آبار بني سلمة فيها عَذر مِن عَذر الناس، ثمَّ غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.

فخرج يتبعه حتَّى وجده في تلك البئر مُنكَّساً مقروناً بكلبٍ مَيِّتٍ، فلمَّا رآه وأبصر شأنه، وكلَّمه مَن أسلم مِن قومه فأسلم برحمة الله، وحَسُنَ إسلامُهُ، فقال - حين أسلم وعرف مِن الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر مِن أمره، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مِمَّا كان فيه مِن العَمى والضلالة ـ:

٢٧١

والله لـو كـنت إلهاً لم تكنْ

أنت وكلبٌ وسْطَ بئرٍ في قَرَنْ

أفٍّ لـمَلقاك إلـهاً مُـسْتَدَنْ

الآن فتَّشناك عن سوء الغَبَنْ

الـحمد لـله العليِّ ذي المِنن

الـواهب الرزَّاق ديَّان الدِّيَنْ

هـو الـذي أنـقذني مِن أنْ

أكـون في ظُلْمَةِ قَبرٍ مُرتَهَنْ

بأحمدَ المهديِّ النبيِّ المؤتَمن (١)

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج١.

٢٧٢

ما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتصرَّف برِفقٍ لهداية الناس، ويُذكِّرهم بالتعاليم الإصلاحيَّة بكلِّ أدبٍ ولين، وهذا العمل بحدِّ ذاته كان مِن عوامل نفوذ كلامه (صلى الله عليه وآله) في قلوب الناس.

عن هلال بن الحكم قال: لمَّا قَدِمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) علمت أُموراً مِن أُمور الإسلام، وكان فيما علمت، قيل لي: إذا عطست، فاحمد الله، وإذا عطس العاطس اطلب الرحمة له.

فبينا أنا في الصلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بعين شَزَر؟! فسبَّح القوم فلمَّا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاته، قال: (مَن المُتكلِّم؟).

قالوا: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال:

(إنَّما الصلاة للقراءة ولذكر الله عَزَّ وجَلَّ، وإذا كنت في الصلاة فليكُن ذلك حالك). قال: فما رأيت مُعلِّماً أرفق مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٣

ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فَضلٌ

كان أبو ذر الغفاري مِن الرجال الإلهيِّين، ومِن الأصحاب المُحترمين للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وذات يوم زلَّ في الكلام أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بحَقِّ بلال بن رباح الحبشي، فقال له: يا بن السوداء إشارة إلى أُمِّه.

غضب لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألقاها في وجه أبي ذر عنيفةً مُخفية: (يا أبا ذر، طُفَّ الصَّاعُ! ليس لابنِ البيضاء على ابنِ السوداء فضل).

أيْ أنْ لا يتصوَّر البِّيض أنَّهم أفضل مِن السود، بلْ إنَّ جميعهم مُتساوون وأفضلهم مَن اتَّصف بالإنسانيَّة والعلم والتقوى، وسار في طريق الفضائل لنيل الكمال اللائق به (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٤

مشورةٌ في وقتها

خالد البرمكي كان مِن أصحاب الرأي والمَشورة، وربطته مع قحطبة عَلاقات اجتماعيَّة. وقد استفاد قحطبة، خلال أيَّام حُكمه، مِن الآراء والأفكار الصائبة لخالد، ومنها:

عندما وصلت الأنباء عن استعداد ابن ضبارة لقتال قحطبة، وأنَّ جيشه عبر الحدود ودخل أراضي قحطبة، تلقَّى الأخير هذه الأنباء بقَلقٍ شديدٍ، فجهَّز خمسين ألف فارس تجهيزاً كاملاً، وتحرَّك حتَّى وصل قُرب الحدود، ولكنَّه لم يجد أثراً لجيش العدوِّ، فاطمأنَّ وأمر جنوده بالاستراحةِ في أرضٍ واسعةٍ مكشوفةٍ، وعزم على البقاء في تلك المنطقة عِدَّة أيَّام.

يقول خالد: ذات ليلة كنت جالساً في خيمتي، فإذا بغزال يُسرع فجأة نحو الخيمة خائفاً مُضطرباً، فقام مَن كان موجوداً في الخيمة للإمساكِ بالغزال، فأمرتهم أنْ يكفُّوا عن الغزال ويُسرعوا لوضع السروج على الخيول ويستعدُّوا للقتال؛ لأنَّ العدوَّ قريب مِنَّا. وأسرعتُ إلى قحطبة وقلت له: أصدر أمرك إلى الجنود ليستعدُّوا؛ فابن ضبارة وجيشه يقتربون مِنَّا. أصدر أوامره، وخرج الجنود مِن الخِيم، وأعدُّوا الخيول واستعدُّوا للقتال، ولم يطل الأمر حتَّى وصل جيش ابن ضبارة، وكان جنودنا مُستعدِّين، وفاجأوا جيش العدوِّ وهجموا عليهم، واحتدم قتال شديد، فقُتِل ابن ضبارة، وكان الانتصار الكبير مِن نصيب جيش قحطبة.

بعد انتهاء القتال سألني قحطبة: مَن أخبرك بقدوم جيش العدوِّ؟!

قلت: لم يُخبرني أحد، ولكنَّني رأيت غزالاً خائفاً في الليل يركضُ داخلاً خيمتي، وكنت أعلم أنَّ الغزال الوحشي يخاف مِن الإنسان، ولكنَّه لا يقترب منه إلاَّ في الأوقات التي يحسُّ فيها بخطر، ثمَّ إنَّ الغزال لا يترك مكانه ولا يبتعد عن

٢٧٥

تلك المنطقة مُسرعاً في ظلام الليل، علمت أنَّ وراءه جيش كبير مُخيف يتحرَّك؛ ولذا التجأ إلينا مِن خوفه.

فتعجَّب قحطبة لذكاء خالد وسُرعة فَهمِهِ؛ فأثنى عليه كثيراً ومنحه الجوائز والعطايا وقرَّبَهُ إليه (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٦

مَن يبخل بفضله يُستغَن عنه ويُذمَّ

كان هناك رجل قويٌّ حُكم منطقةً واسعةً مِن الهند، وكان مولعاً بجمع المال والثروة، مُعتقداً أنَّ الغِنى يعني القوَّة؛ ولذا يُحبُّ أنْ يسعى كثيراً ليزيد مِن ثروته، فيزيد بهذه الطريقة قُدرته وقوَّته.

كان لهذا الحاكم وزير عاقل وذكيٌّ مُخالف لطريقته، فكان يستغلُّ كلَّ فرصة تسنح لينصح الحاكم في أنْ يُعطي مِن ثروته للناس؛ ليكسب قلوبهم ويبعث فيهم السرور، ويجذب إلى نفسه الأنظار، فكان يقول له: ضَحِّ بشيءٍ مِن ثروتك؛ كي لا يتمرَّد عليك الجيش ويسوء حاله، فالمال لا يخلق الرجال ولكنْ بإمكان الرجل أنْ يحصل على الكثير مِن المال.

ورغم أنَّ الوزير عَلِم أنَّ الحاكم قد أغاظه تكرار نصحه، لكنَّه لم يكفَّ عن أداء واجبه واستمرَّ في تقديم نصائحه.

وذات يوم أصرَّ الوزير أكثر مِن الأيَّام السابقة على نصائحه، وبدون أنْ يُجيب الحاكم على الوزير أمر بإحضار قدح مِن العَسل، ثمَّ وضعه أمام الوزير، ولم يمضِ وقت طويل حتَّى اجتمع ذُباب كثير على العَسل، بعد أنْ شاهد الوزير ذلك طلب الإذن بالانصراف، وخرج مِن المجلس وهو يقول في نفسه: لقد عرفت ما يقصده الحاكم، فقد أراد إفهامي أنَّ الذهب كالعسل، فكما يجتمع الذُّباب على العسل، يجتمع الناس بوجود الذهب، ولهذا السبب بادرتُ إلى جمع الثروة.

وصبر الوزير حتَّى المساء، وعندما أرخى الليل سدوله مَلأ قدحاً بالعسل وأخذه إلى بيت الحاكم، وطلب اللقاء به لأمرٍ مُهمِّ، فَسُمِح له، ومَثُلَ أمام الحاكم ووضع قدح العسل أمامه على الأرض، وجلس هو على جانب في صمت وبما أنَّ الوقت كان ليلاً، لم تقترب ذُبابة واحدة مِن العسل، وبعد ساعةٍ تحدَّث الوزير

٢٧٧

وقال: أيُّها الحاكم الكبير، إنَّ الناس يأتون لأخذ الذهب عندما يُعطى لهم، تماماً مِثل الذُّباب عندما يجتمع على العسل في النهار، أمَّا في غير وقتهِ فلا يوجد مَن يهتمُّ بالذهب تماماً، مِثل هذا الليل المُظلم لا توجد ذُبابة واحدة تحطُّ على العسل.

اهتزَّ الحاكم بشِدَّة لكلام الوزير الذكي، وانتبه لنفسه، وما كان منه إلاَّ أنْ أثنى عليه واستحسنه، وشمله بعطفه وعنايته الخاصَّة. بعد ذلك سلك الحاكم أُسلوباً جديداً، إذ بدأ يبذل ثروته في سبيل رفاه الناس وتحسين معيشة جنوده وموظَّفيه، وهكذا اكتسب قلوب الناس ومحبَّتهم له (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٨

التحرُّز عن الزَّلل والخطأ أمام الأعداء

كان هناك رجل يُدعى جميل يعمل كاتباً لسنواتٍ طويلة في بلاطِ الساسانيِّين، وقد أدرك عصر الإمام علي (عليه السلام)، وفي زمن خلافته (عليه السلام) كان جميل قد بلغ أرذل العمر وعندما عاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن النهروان، وسأل عن حال جميل أخبروه أنَّه لا زال على قيد الحياة، فأمر بإحضاره، وعند مثوله بين يدي الإمام علي (عليه السلام)، وجده الإمامُ (عليه السلام) يحتفظ بذكائِهِ، ولم يفقد إلاَّ بصره فسأله (عليه السلام): (كيف ينبغي للإنسانِ - يا جميل - أنْ يكون؟).

قال: يجب أنْ يكون قليل الصديق كثير العدوِّ.

ـ (أحسنتَ يا جميل، فقد أجمع الناس على أنَّ كثرة الأصدقاء أولى).

فقال: ليس الأمر على ما ظنُّوا؛ فإنَّ الأصدقاء إذا كُلِّفوا السعي في حاجة الإنسان لم ينهضوا بها كما يجب وينبغي.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قد امتحنت هذا فوجدته صواباً. فما منفعة كثرة الأعداء؟).

قال: إنَّ الأعداء إذا كثروا يكون الإنسان مُتحرِّزاً أنْ ينطق بما يؤاخَذ عليه، أو تبدر منه زَلَّة يؤاخَذ عليها، فيبقى على هذه الحالة سليماً مِن الخطايا والزَّلل. فاستحسن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) .

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٧٩

كفرتْ بأنعُم الله فأذاقها لِبَاس الجُوع والخَوف

كانت الخيزران أُمُّ الهادي والرشيد في دارها المعروفة اليوم بأشناس، وعندها أُمَّهات أولاد الخُلفاء وغيرهنَّ مِن بنات بني هاشم، وهي على بساطٍ أرمنيٍّ وهُنَّ على نمارق أرمنيَّة، وزينب بنت سليمان بن علي أعلاهُنَّ مرتبة، فبينا هُنَّ كذلك إذ دخل خادم لها فقال:

بالباب امرأة ذات حُسنٍ وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، تأبى أنْ تُخبر باسمها وشأنها غيركنَّ، وتروم الدخول عليكنَّ، وقد كان المهدي تقدَّم إلى الخيزران بأنْ تَلزم زينب بنت سليمان بن علي، وقال لها: اقتبسي مِن آدابها، وخُذي مِن أخلاقها؛ فإنَّها عجوز لنا قد أدركت أوائلنا، فقالت الخيزران للخادم: ائذَن لها، فدخلت امرأة ذات بَهاء وجَمال في أطمار رَثَّةٍ، فتكلَّمت فأوضحت عن بيان، قالوا لها: مَن أنت؟ قالت: أنا مُزنَة امرأة مروان بن محمد، وقد أصارني الدهر إلى ما تَرَيْنَ. ووالله، ما لأطمار الرثَّة التي عليَّ إلاَّ عارية، وإنَّكم لمَّا غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا، لم نأمَن مِن مُخالطة العامَّة على ما نحن فيه مِن الضرر على بادرة إلينا ذيل موضع الشرف، فقصدناكم لنكون في حِجابكم على أيَّة حالة كانت، حتَّى تأتي دعوة مِن له الدعوة، فاغرورقت عَيْنَا الخيزران ونظرت إليها زينب بنت سليمان بن علي، فقالت لها: لا خفّف الله عنك يا مزنة، أتذكرين وقد دخلت عليك بحرَّان وأنت على هذا البساط بعينه، ونساء قرابتكم على هذه النمارق، فكلَّمتك في جثّة إبراهيم الإمام، فانتهرتيني وأمرت بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال في آرائهم؟! فوالله، لقد كان مروان أرعى للحَقِّ منك؛ لقد دخلت إليه فحلف أنَّه ما قتله، وهو كاذب، وخيَّرني بين أنْ يدفنه أو يدفع إليَّ جُثَّته وعرض عليَّ مالاً فلم أقبله.

فقالت مزنة: والله، ما نظنُّ هذا الحالة أدَّتني إلى ما ترينه إلاّ بالفِعال التي كانت منِّي وكأنَّكِ استحسنتِه، فحرَّضت الخيزران على فعل مثله، إنَّما كان يجب أنْ تُحضيها على فعل الخير

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421