القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360271 / تحميل: 10452
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الأخرى ، وكذا الحال مع الأثمار ، وهو ما يشير إليه القرآن بقوله :( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

وقد نقل قول عالم البيئة (مترلينك) بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح : (لو قدّر أن تفنى أنواع النحل ـ الوحشي والأهلي ـ فإنّ مائة ألف نوع من النباتات والثمار والأوراد ستفنى ، أي أنّ تمدننا سيفنى أيضا)(1) . ذلك لأنّ دور النحل في نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إلى مياسم إناثها من الأهمية بحيث يجعل بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إنتاج العسل نفسه.

والحقيقة أنّ ما يتناوله النحل من أنواع الثمار إنّما هو بالقوّة لا بالفعل ، ولهذا فهو يساهم في عملية تكوينها ، فما أشمل وأدق التعبير القرآني( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) !

2 ـ السّبل المذللة!

لقد توصل العلماء المتخصصون بدراسة حياة النحل إلى ما يلي : تخرج في كل صباح مجموعة من النحل لمعرفة أماكن وجود الأوراد وتعيينها ، ثمّ تعود إلى الخلية لتخبر بقية النحل عن أماكن الورود والجهات التي ينبغي التوجه إليها ، ومقدار الفاصلة بين الورود والخلية.

ويستعمل النحل أحيانا لأجل تعيين طرق وصوله إلى الأوراد علامات خاصّة كأن يشخص طبيعة الروائح المنتشرة على طول الطريق أو ما شابه ذلك ، وذلك لضمان عدم إضاعة الطريق ذهابا وإيابا.

ولعل عبارة( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) إشارة لهذه الحركة.

__________________

(1) أول جامعة ، الجز الخامس ، ص 55.

٢٤١

3 ـ أين يصنع العسل؟

ربّما ، إلى الآن يوجد من يتصور بأنّ النحل يمتص رحيق الأوراد ويجمعه في فمه ثمّ يخزنه في الخلية ، وهذا خلاف الواقع ، فالنحلة تجمع الرحيق في حفر خاصّة داخل بدنها يطلق عليها علميا اسم (الحوصلة) وهي بمثابة معامل مختبرات كيمياوية خاصّة تقوم بعمليات تحويل وتغيير مختلفة لرحيق الأزهار ، حتى يصل إلى إنتاج العسل ، الذي تقوم النحلة بإخراجه وجمعه في الخلية.

والمدهش أن سورة النحل مكية ، وكما هو معلوم بأنّ مكّة منطقة جافة ليس فيها نحل لعدم توفر النباتات والأوراد التي يحتاجها ومع ذلك فالقرآن الكريم يتحدث بكل دقة عن النحل ويشير إلى أدق أعماله (إنتاج العسل) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

4 ـ ألوان العسل المختلفة

تتفاوت ألوان العسل وفقا لتنوع الأوراد التي يؤخذ رحيقها منها فيبدو أحيانا بلون اللبن القاتم ، وأحيانا أخرى يكون أصفر اللون ، أو أبيض فضي ، أو ليس له لون ، وتارة تراه شفافا ، وتارة أخرى ذهبي أو تمري وقد تراه مائلا إلى السواد!

ولهذا التفاوت في اللون حكمة بالغة قد تبيّنت أخيرا مفادها : إنّ للون الغذاء أثّر بالغ في تحريك رغبة الإنسان إليه.

وهذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضا ، فكانوا يعتنون بإظهار لون الغذاء المشهي لدرجة كانوا يضيفون إليه بعض المواد تحصيلا لما يريدون كإضافة الزعفران وما شابهه.

ولهذا الموضوع بحوث مفصلة في كتب التغذية لا يسمح لنا المجال بعرضها كاملة خوفا من الابتعاد عن مجال التّفسير.

٢٤٢

5 ـ العسل والشفاء من الأمراض :

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعالة لكثير من الأمراض ، ولا زلنا نجهل الكثير من فوائدها على الرغم من كثرة ما عرفناه ، والشيء المهم في موضوعنا ما توصل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث أنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية ، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل!

وقد صرّح العلماء بكثير من تلك الخواص الوقائية والعلاجية والمقوية.

فالعسل : سريع الامتصاص من قبل الدم ، ولهذا فهو غذاء مقوّ ومؤثر جدّا في تكوين الدم.

والعسل : ينقي المعدة والأمعاء من العفونة.

والعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : أثر مهم في رفع التعب وتشنج العضلات.

والعسل : يقوي الشبكية العصبية للأطفال (إذا ما أطعمت الأم أثناء الحمل).

ويرفع نسبة الكالسيوم في الدم.

ونافع لتقوية الجهاز الهضمي (وبالخصوص لمن أبتلي بنفخ البطن).

وبما أنّه سريع الاحتراق فهو يعمل على توليد الطاقة بسرعة فائقة بالإضافة لترميمه للقوى.

والعسل أيضا : مقوّ للقلب ، مساعد في علاج أمراض الرئة ، نافع للإسهال لخاصيته في قتل المكروبات.

ويعتبر العسل عاملا مهما من عوامل معالجة قرحة المعدة والاثنى عشري.

٢٤٣

وهو دواء نافع لعلاج الروماتيزم ، ونقصان قوّة نمو العضلات ، ورفع الآلام العصبية.

وبالإضافة إلى ذلك فهو نافع في رفع السعال وعامل مهم لتصفية الصوت.

والخلاصة : إنّ خواص العسل العلاجية أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر.

ومع ذلك كله فإنّه يدخل في صناعة الأدوية لتلطيف الجلد وللتجميل ، ويستعمل لطول العمر ، ولعلاج ورم الفم واللسان والعين ، ويستعمل أيضا لمعالجة الإرهاق ، وتشقق الجلد ، وما شابه ذلك.

أمّا المواد والفيتامينات الموجودة في العسل فكثيرة جدّا. وفيه من المواد المعدنية : الحديد ، الفسفور ، البوتاسيوم ، اليود ، المغنيسيوم ، الرصاص ، النحاس ، السلفور ، النيكل ، الصوديوم وغيرها.

ومن المواد الآلية فيه : الصمغ ، حامض اللاكتيك ، حامض الفورميك ، حامض السيتريك والتاتاريك والدهون العطرية.

أمّا ما يحويه من الفيتامينات ، ففيه ، فيتامينات (أ، ب ، ث ، د ، ك)

( K ,D ,C ,B ,A ).

ويعتقد البعض باحتوائه على فيتامين (پ ب) ( P B ) أيضا.

وأخيرا : فالعسل علاج لصحة وجمال الإنسان.

وصرحت الرّوايات كذلك بخواص العسل العلاجية ، وورد الكثير عن أمير المؤمنينعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام من أنّهم قالوا : «ما استشفى الناس بمثل العسل»(1) .

وبرواية أخرى : «لم يستشف مريض بمثل شربة عسل»(2) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من شرب العسل في كل شهر مرّة يريد ما

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 73 ، إلى 75.

(2) المصدر السابق.

٢٤٤

جاء به القرآن ، عوفي من سبعة وسبعين داء»(1) .

وثمّة أحاديث أخرى حول أهمية العسل في علاج آلام البطن.

ونذكر أنّ لكل حكم عام أو قاعدة كلية استثناء ، ولهذا فقد ورد النهي عن تناول العسل في بعض الحالات النادرة.

6 ـ( لِلنَّاسِ ) :

وممّا يجذب النظر أن خبراء النحل يرون كفاية امتصاص وردتين أو ثلاث لسد جوع النحلة ، إلّا أنّها تحط على (250) وردة في كل ساعة (كمعدل) ولأجل ذلك تقطع مسافة كيلومترات ، وعلى الرغم من قصر عمر النحلة ، إلّا أنّها تنتج كمية لا بأس بها من العسل ، وقد لا يصدق كثرة ما تنتجه قياسا لما تعيشه من عمر ، ولكنّ ما تقوم به من مثابرة وعمل دؤوب لا يعرف الكلل والملل قد هيأها لأن تقوم بهذا العمل الكبير العجيب.

وكل ذلك السعي وتلك المثابرة ليس في واقعه لملء بطنها بقدر ما عبّر عنه القرآن الكريم ب( لِلنَّاسِ ) .

7 ـ ملاحظات مهمّة بخصوص العسل :

أثبت العلم الحديث أنّ العسل من المواد الغذائية التي تبقى على الدوام طازجة وسالمة ومحافظة على كل ما تحويه في فيتامينات مهما طالت المدّة لأنّه من المواد غير القابلة للفساد.

ويعزو العلماء سبب ذلك لوجود نسبة البوتاسيوم الوافية فيه المانع من نمو الجراثيم ، بالإضافة لاحتوائه على بعض المواد المقاومة للعفونة كحامض الفورميك فمضافا لكون العسل مانع من نمو الجراثيم ، فهو قاتل لها أيضا ولهذا السبب فقد استعمله المصريون القدماء في عملية التحنيط.

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 190.

٢٤٥

ويقول العلماء : لا ينبغي حفظ العسل في أواني فلزية.

ويقول القرآن في هذا الجانب :( ... مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) ، أي : إنّ بيوت النحل لا ينبغي أن تكون إلّا بين الأحجار والأخشاب.

وملاحظة مهمّة أخرى : للاستفادة من خواصه الصّحيحة والعلاجية ينبغي عدم تعريضه لحرارة الطبخ. يعتقد البعض أنّ تعبير القرآن بكلمة «شراب» إشارة لهذه المسألة ، فهو من المشروبات وليس من المأكولات كي يعرض لحرارة الطبخ.

وثمة ملاحظة أخرى : على الرغم ممّا تسببه لسعة النحل من الألم ، إلّا أن لهذا أثر علاجي أيضا ، ومع ذلك ونتيجة لطبع النحل اللطيف فإنّه لا يلسع أحدا بلا سبب ، بل نحن ندفعه إلى ذلك ونضطره ليلسعنا عن علم أو جهل.

ومن الأسباب التي تدفع النحل للسع الإنسان : عدم ارتياحه للروائح الكريهة ، وعند ما يقترب الإنسان من الخلية لجني نتاج النحل فهي لا تلسعه إلّا إذا كانت يده ملوّثة أو أن في لباسه رائحة كريهة ، أو عند ما يمدّ الإنسان يده إلى خلية ما وبدون أن يغسل يده يمدّها إلى خلية أخرى ، فإن نحل الثّانية ستسرع في لسعه لأنه قد نقل إليها رائحة خلية أجنبية!

وعلى الرغم من أنّ اللسع يحمل أهدافا دفاعية ، إلّا أنّه بالنسبة للنحل يعني الانتحار لأنّه بمجرّد أن تقوم النحلة باللسع فإنّها قد كتبت على نفسها مصير الموت!

وقد وضع العلماء المتخصصون برنامجا معينا لمعالجة الأمراض كالروماتيزم والمالاريا والآلام العصبية وغيرها عن طريق لسعات النحل ، وإلّا فإنّ لسع النحل قد يؤدي إلى آلام مؤذية تصل في بعض حالاتها إلى مخاطر كبيرة.

وقد يتحمل الإنسان لسعة أو عدّة لسعات ، ولكنّ الأمر حينما يصل إلى (200 ـ 300) لسعة فإنّ ذلك سيؤدي إلى التسمم واضطرابات في القلب ، وإذا ما وصل العدد إلى (500) لسعة فسوف يؤدي إلى شلل الجهاز التنفسي ، وربّما يؤدي إلى الموت.

٢٤٦

8 ـ عجائب حياة النحل

كان القدماء يعرفون القدر اليسير عن حياة النحل ، أمّا اليوم ونتيجة لدراسات العلماء الواسعة فقد تبيّن أن للنحل حياة منظمة جدّا ويتخللها : تقسيم أعمال ، توزيع مسئوليات وبرنامج عمل دقيق جدّا.

ومدينة النحل : أكثر المدن نظافة ، وأكثرها نظاما ، كلّها عمل إنّها مدينة على خلاف كل مدن البشر ، فليس فيها بطالة ولا فقر ، والكل يعيش حياة تمدن جميل وكل أفراد المدينة يخضعون لقوانينها ولا ترى مخالفا للضوابط القانونية ولا مقصرا في عمله إلّا ما ندر ، وإذا ما حدث ذلك كأن تذهب إحدى النحلات إلى وردة كريهة الرائحة وتمتص رحيقها ، فإنّها ستخضع للتفتيش عند أعتاب المدينة ثمّ تحاكم في محكمة صحراوية ، والإعدام بالموت هو المعروف عن ارتكاب مثل هذه الأخطاء!

يقول (مترلينك) عالم البيئة البلجيكي الذي أجرى العديد من الدراسات حول حياة النحل والنظام العجيب الذي يحكم مدنها : إنّ ملكة النحل (أو على الأصح أمّ الخلية) لا تعيش في مدينتها ، كما نتصور من سلطتها وإصدارها الأوامر ، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة في إطاعتها للقواعد والأنظمة الكلية السائدة إنّنا لا نعلم كيف وضعت هذه القوانين والأنظمة ، وننتظر أن نفهم هذا الأمر يوما ما ، ونعرف واضع هذه المقررات ، إلّا أنّنا نسميه مؤقتا (روح الخلية)!!

إنّ الملكة تطيع روح الخلية شأنها شأن بقية الأفراد.

إنّنا لا نعلم أين توجد روح هذه الخلية؟ وفي أي فرد من سكنة مدينة النحل قد حلّت؟

إلّا أنّنا نعلم أن روح الخلية ليست شبيهة بغريزة الطيور ، ونعلم أيضا أنّ روح الخلية ليست عادة وإرادة عمياء تحكم عنصر ونوع النحل ، إنّ روح الخلية تقوم بتحديد وظيفة كل فرد من أفراد الخلية وفق استعداده ، وتوجه كل واحد منها نحو عمل معين.

٢٤٧

إنّ روح الخلية تأمر النحل المهندس والبناء والعامل ببناء البيوت ، وهي التي تأمر سكنة المدينة جميعا بالهجرة منها في يوم معين وساعة معينة ، وتتجه نحو حوادث ومشاق غير معلومة من أجل تحصيل مسكن ومأوى جديد!

إنّنا لا نستطيع أن نفهم في أي مجمع شورى قد طرحت قوانين مدينة النحل التي وضعتها روح الخلية واتخذ قرارها بتنفيذها ، من يصدر الأمر بالحركة في اليوم المعين؟

نعم ، إنّ في الخلية مقدمات هجرة من أجل إطاعة الإله الذي بيده مصير النحل(1) .

إنّ العالم المذكور قد واجه الإبهام في فهم هذه المسألة ، لما علقت في ذهنه من ترسبات الفكر المادي!

ولكننا نفهم بيسر من أين جاءت تلك القوانين والبرامج؟ ومن الآمر بها؟ وذلك من خلال الاستهداء بنور القرآن.

ما أجمل ما عبّر عنه القرآن حين قوله :( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

أو هل ثمة تعبير أوسع وأشمل وأنطق من هذا؟!

لم نذكر فيما قلناه عن النحل إلّا النزر اليسير لأنّ منهج التّفسير لا يسمع لذا بمواصلة هذا الموضوع(2) .

ونظن كفاية هذا القدر للمتفكر السائر نحو معرفة عظمة الله :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

* * *

__________________

(1) تلخيص من كتاب (النحل) ، تأليف مترلينك.

(2) اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها : أوّل جامعة وآخر نبي ، والنحل ، تأليف مترلينك ، وعجائب عالم الحيوانات.

٢٤٨

الآيات

( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) )

التّفسير

سبب اختلاف الأرزاق :

بيّنت الآيات السابقة قسما من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان ، لتكون دليلا حسيا لمعرفته جل شأنه ، وتواصل هذه الآيات مسألة إثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر ، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار الإنسان ، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدّر لذلك.

٢٤٩

فيبتدأ القول ب( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) .

فمنه الممات كما كانت الحياة منه ، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأي من الطرفين (الحياة والموت).

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضا ، فمنكم من يموت في شبابه أو في كهولته( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) (1) .

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (2) .

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم نعم ف( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) فكل القدرات بيده جل وعلا ، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة ، وكذا أخذه لا يكون إلّا عند ما يلزم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإنسان وإنّما( وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) فأصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفا أن يكونوا معهم على قدم المساواة:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) .

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم ، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهما من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ، بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب

__________________

(1) «أرذل» : من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية ، والمقصود من «أرذل العمر» : السنين المتقدمة جدّا من عمر الإنسان حيث الضعف والنسيان ، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية ، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها تبدأ من عمر (75) عامّا ، وبعض آخر من (90) وآخرون اعتبروها من (95) والحق أنّها لا تحدد بعمر ، وإنّما تختلف من شخص لآخر.

(2) عبارة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإنسان ، فيكون مفهومها أنّ دماغ الإنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن يكون معناها العلّة ، أي أنّ الله تعالى يوصل الإنسان إلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان ، فيفهم الناس بأنّهم لا يملكون شيئا من أنفسهم.

٢٥٠

على حياتهم! بل كان الأولى بهم لو التفتوا إلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئا جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!

هل التفاضل في الرّزق من العدالة؟!

وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه : هل أنّ إيجاد التفاوت والاختلاف في الأرزاق بين الناس ، ينسجم مع عدالة اللهعزوجل ومساواته بين خلقه ، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟

لأجل الإجابة ، ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين :

1 ـ إنّ الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشئ بين الناس جزاء اختلاف استعداداتهم وقابليتهم من واحد لآخر.

والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد ، ممّا يؤدي إلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر.

ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس ، الّا أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث لأنّها ليست أكثر من استثناء ، أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال ، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإنساني جانبا وانزلقت في طرق الظلم والاستغلال).

وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد ، ولكننا عند ما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسميا ونفسيا وأخلاقيا ، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إلى ذلك (ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إطار مجتمع

٢٥١

سليم خال من الاستغلال).

وعلى أية حال فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالاستعدادات ، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضا ، وإن أمكن أن يكون بعض ذلك اكتسابيا ، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعا. فإذن وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية ، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة إلّا إذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث : الشكل ، اللون ، الاستعداد ولا يعتريهم أيّ اختلاف! وإذا ما افترضنا حدوث ذلك فإنّه بداية المشاكل والويلات!

2 ـ لو نظرنا إلى بدن إنسان ما ، أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد ، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟

وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإنسان لا يختلف عن شبكية عينه؟

وهل من الصواب أن نعبر كل ذلك شيئا واحدا؟!

ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيّ معنى ، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي ، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي : الشكل الواحد ، الذوق الواحد ، الفكر الواحد ، بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإجابة بالنفي قطعا ، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب ، لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة ، والكل يريد شيئا واحدا ، ويحبون غذاء واحدا ، ولا يرغبون إلّا بعمل واحد!

وبديهيا ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض ، ولو افترض لها الدوام ، فإنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت

٢٥٢

بون شاسع.

وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي ، وليكون التفاوت في الاستعدادات دافعا لتربية وإنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد. ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبدا.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري ، لا. أبدا وإنّما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إلى التجاوز والتعدي على الحقوق).

إنّ الاختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا : ذلك المفهوم الاصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغلة وأخرى مستغلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبدا ، ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات والسعي وبذل الجهد ، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض ـ فتأمل.

وبعبارة أخرى ، إن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء ، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة ، فمع تفاوتها إلّا أنّها ليست متزاحمة ، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وخلاصة القول : ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الاستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعا لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبي(1) .

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث :( أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ

__________________

(1) لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الاختلاف في الاستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (32) من سورة النساء ـ فيراجع.

٢٥٣

يَجْحَدُونَ ) .

وذلك إشارة إلى أن هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة المصطنعة) إنّما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «الله» كما كان في الآيتين السابقتين ، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية ، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضا تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات ، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت ، ثمّ التفاوت في الأرزاق والاستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث ، حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و.. الأرزاق الطيبة.

وتقول الآية :( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) لتكون سكنا لأرواحكم وأجسادكم وسببا لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلا فاصلة :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) .

«الحفدة» بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء ، أمّا في هذه الآية ـ كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين ـ فالمقصود منها أولاد الأولاد ، واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإناث دون الذكور من الأولاد.

ويعتقد قسم آخر من المفسّرين : أن «بنون» تطلق على الأولاد الصغار ، و «الحفدة» تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم.

واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد ، من الأبناء كان أم من غيرهم(1) .

__________________

(1) وفي هذه الحال يجب أن لا تكون «حفدة» معطوفة على «بنين» بل على «أزواجا» ، ولكنّ هذا العطف خلاف الظاهر الذي يشير إلى عطفها على «بنين» ـ فتأمل.

٢٥٤

ويبدو أن المعنى الأوّل (أولاد الأولاد) أقرب من غيره ، بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم «حفدة» في الأصل.

وعلى أية حال فوجود القوى الإنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإنسان من النعم الإلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإنسان ، لأنّهم يعينون ماديا ومعنويا في حياته الدنيا.

ثمّ يقول القرآن الكريم :( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

«الطيبات» هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف ، سواء كان ماديا أو معنويا ، فرديا أو اجتماعيا.

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة الله ، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم ، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق ، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) .

فما أعجب هذا الزيغ! وأية حال باتوا عليها! عجبا لهم وتعسا لنسيانهم مسبب الأسباب ، وذهابهم لما لا ينفع ولا يضر ليقدسوه معبودا!!!

* * *

بحثان

1 ـ أسباب الرزق :

على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الاستعداد والمواهب عند الناس ، إلّا أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد ، فالأكثر سعيا أكثر نجاحا في الحياة والعكس صحيح.

ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطا بين ما يحصل عليه الإنسان وبين سعيه ،

٢٥٥

فقال بوضوح :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (1) .

ومن الأمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي من قبيل:التقوى، الأمانة ، إطاعة القوانين الإلهية والالتزام بأصول العدل ، كما أشارت إلى ذلك الآية (96) من سورة الأعراف :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

وكما في الآيتين (2 و 3) من سورة الطلاق :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

وكما أشارت الآية (17) من سورة التغابن بخصوص أثر الإنفاق في سعة الرزق ـ :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) .

ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن الجوانب الإنسانية والروحية لذلك).

وخلاصة القول إنّ اقتصاد المجتمع إن بني على أسس التقوى والصلاح والتعاون والإنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قويا مرفوع الرأس ، أمّا لو بني على الاستغلال والظلم والاعتداء وعدم الاهتمام بالآخرين ، فسيكون المجتمع متخلفا اقتصاديا وتتلاش فيه أواصر الحياة والاجتماعية.

ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى ، وحتى روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تكسلوا في طلب معايشكم ، فإن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»(2) .

وروي عنه أيضا : «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله»(3) .

__________________

(1) سورة النجم ، 39.

(2) الوسائل ، ج 12 ، ص 48.

(3) الوسائل ج 12 ، ص 43.

٢٥٦

وحتى أنّ الأمر قد وجّه إلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق(1) وذكر أنّ من جملة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة ، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون الله أن يرزقهم!

وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد الله ، وذم السعي فيه ، فكيف يتمّ تفسير ذلك؟!

وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين :

1 ـ دقة النظر والتحقق في المصادر الإسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها ـ سواء في هذا الموضوع أو غيره ـ إنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية ، لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع ، فكل آية أو رواية إنّما تنظر إلى بعد معين من أبعاد الموضوع ، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.

فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية ، ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إلى ما يريدونه ، تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.

وإذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد ، تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته.

فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإفراط والتفريط في مجتمعه.

فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد الله هي غلق أبواب الحرص والشر وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية ، وليس هدفها إطفاء شعلة

__________________

(1) الوسائل ، ج 12 ، ص 50.

٢٥٧

الحيوية والنشاط في الإعمال والاكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.

وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول : إنّ كثيرا من الأرزاق إن لم تطلبوها تطلبكم.

2 ـ إنّ كلّ شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى اللهعزوجل ، وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى ، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران :( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وخلاقية الإنسان إنّما هي في حقيقتها من اللهعزوجل .

ولو توقف لطف الله (فرضا) عن الإنسان ـ ولو للحظة واحدة ـ لما كان ثمّة شيء اسمه الإنسان.

ويقول الإنسان الموحد حينما يركب وسيلة : «سبحان الذي سخر لنا هذا».

وعند ما يحصل على نعمة ما ، يقول : «وما بنا من نعمة فمنك»(1) .

ويقول عند ما يخطو في سبيل الإصلاح ـ كما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس ـ :( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (2) .

وإلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو تفريط ، هو أساس كسب الرزق ، وما يوصل إلى الإنسان من رزق بغير سعي وعمل إنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي ، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان ، حيث قال : «يا ابن آدم ، الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك»(3) .

__________________

(1) من أدعية التعقيبات لصلاة العصر ، كما في كتب الدعاء.

(2) سورة هود ، 88.

(3) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 379.

٢٥٨

2 ـ مواساة الآخرين :

أشارت الآيات إلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ومنها : ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية : «لا يجوز الرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله»(1) .

وروي أيضا عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عن العبيد : «إنّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكسون وأطعموهم ممّا تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه وإزاره من غير تفاوت(2) .

والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول :( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) أنّ الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإمكان ، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 68.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 68

٢٥٩

الآيتان

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) )

التّفسير

لا تجعلوا لله شبيها :

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة ، وتشير إلى موضوع الشرك ، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً ) .

وليس لا يملك شيئا فقط ، بل( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) أن يخلقوا شيئا.

وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام ، لأنّها لا تضرّكم ولا تنفعكم وليس لها أيّ أثر على مصيركم ، فالرزق مثلا والذي به تدور عجلة الحياة سواء كان من السماء (كقطرات المطر وأشعة الشمس وغير ذلك) أو ما يستخرج من الأرض ، إنّما هو خارج عن اختيار الأصنام ، لأنّها موجودات فاقدة لأية قيمة ولا تملك الإرادة ، وإن هي إلّا خرافات صنعتها العصبية الجاهلية

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وترك المُقابلة بالشَّرِّ؛ لتحرز بذلك نعيمها، وتصون بها دينها؛ ثمَّ قالت لزينب: يا بنت عم، كيف رأيت صنيع الله بنا في العقوق فأحببت التأسيِّ بنا. ثمَّ ولَّت باكية وكرهت الخيزران أنْ تُخالف زينب فيها فغمزت الخيزران بعض جواريها، فعدلت بها إلى بعض المقاصير، وأمرت بتغيير حالها والإحسان إليها، فلمَّا دخل المهدي عليها. وقد انصرفت زينب - وكان مِن شأنه الاجتماع مع خواصِّ حرمه في كلِّ عَشيَّة - قصَّت عليه الخيزران قِصَّتها، وما أمرت به مِن تغيير حالها، فدعا بالجارية التي ردَّتها، فقال لها: لمَّا رددتيها إلى المقصورة ما الذي سمعتيها تقول؟ قالت: لحقتها في المَمرِّ الفُلانيِّ وهي تبكي في خروجها مؤتسية، وهي تقرأ ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ) ، ثمَّ قال للخيزران: والله والله، لو لم تفعلي بها ما فعلت ما كلَّمتك أبداً، وبكى بُكاءً كثيراً، وقال: اللَّهمَّ، إنِّي أعوذ بك مِن زوال النعمة. وأنكر فعل زينب، وقال: لولا أنَّها أكبر نسائنا لحلفت ألا أُكلِّمها. ثمَّ بعث إليها بعض الجواري إلى مقصورتها التي أُخليت لها، وقال للجارية: اقرئي عليها السّلام منِّي، وقولي لها: يا بنت عَمِّ، إن أخواتك قد اجتمعنَ عندي، ولولا أنَّي أغمك لجئناك؛ فلمَّا سمعت الرسالة علمت مُراد المهدي؛ وقد حضرت زينب بنت سليمان؛ فجاءت مزنة تسحب أذيالها؛ فأمرها بالجلوس، ورحَّب بها واستدناها، ورفع منزلتها فوق منزلة زينب بنت سليمان بن علي، ثمَّ تفاوضوا أخبار أسلافهم، وأيَّام الناس، والدول وتنقُّلها، فما تركت لأحد في المجلس كلاماً، فقال لها المهدي: يا بنت عم، والله، لولا أنِّي لا أُحبُّ أنْ أجعل لقوم أنت منهم مِن أمرنا شيئاً لتزوَّجتك، ولكنْ لا شيء أصون لك مِن حِجابي، وكونك مع أخواتي في قصري: لك ما لهنَّ، وعليك ما عليهنَّ، إلى أنْ يأتيك أمر مَن له الأمر فيما حَكم به على الخَلق، ثمَّ أقطعها مِثل ما لهنَّ مِن الإقطاع وأخدمها وأجازها، فأقامت في قصره إلى أنْ قُبِض المهدي وأيَّام الهادي وصدراً مِن أيَّام

٢٨١

الرشيد، وماتت في خلافته، لا يُفرَّق بينها وبين نساء بني هاشم وخواصِّ حرائرهم وجواريهم، فلمَّا قُبِضت جزع الرشيد والحَرم جزعاً شديداً.

لقد كانت مزنة في ذلك اليوم امرأة شابَّة تعيسة ومهزومة، بينما كانت زينب سيِّدة مُسنَّة ذات قُدرة ومكانة، وكانت مكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيَّة تستوجب على زينب أنْ تُلاطفها وتحميها، أو على الأقل تسكت في هذا الوضع الحسَّاس، ولا تكون حَجر عَثرة يمنع الآخرين مِن إبراز مَحبَّتهم وعطفهم، لا أنْ تسعى للانتقام مِن خِلال ذكر حادثة مؤلمة، وتُحطِّم قلبها أكثر فأكثر، وبدل مُساعدتها تسعى لسحقها. لقد ارتكبت زينب المُسنَّة هذا الخطأ الكبير؛ فسقطت مِن عَليائها بعمل غير إنسانيٍّ، وفقدت قيمتها وأهميَّتها في عائلة العباسيِّين (١).

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٨٢

طلب العلم مِن المَهد إلى اللَّحد

في الماضي والحاضر هناك الكثير مِن المُسنِّين المسلمين، مِن العلماء أو الأشخاص العاديِّين، الذين صرفوا مرحلة الشيخوخة في سبيل التكامُل الروحي، والسموِّ المعنويِّ لتأمين السعادة الأبديَّة عِبر العلم وأداء الفرائض والسُّنَن الإلهيَّة.

وقع العالم المشهور أبو ريحان البيروني طريح الفراش في ساعات عمره الأخيرة، وجاءه الفقيه أبو الحسن علي بن عيسى لعيادته، وبينما هو في تلك الحال سأل الفقيه عن مسألة فقال له الفقيه: أتسأل وأنت في هذا الحال؟!

فقال البيروني: يا رجل، قل لي: أيُّهما أفضل، أنْ أعرف هذه المسألة وأموت، أمْ أنْ أموت جاهلاً بها؟

قال الفقيه: ذكرت له المسألة وخرجت ولم أبتعد كثيراً حتَّى سمعت صوت البُكاء يتعالى مِن بيت أبي ريحان (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٣

ما الموت إلاَّ قَنطرةً

قال علي بن الحسين (عليه السلام):

(لمَّا اشتدَّ الأمر بالحسين (عليه السلام) نظر إليه مَن كان معه... وكان الحسين (عليه السلام) وبعض مَن معه مِن خصائصه تُشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعضٍ: انظروا لا يُبالي بالموت!

فقال لهم الحسين (عليه السلام):

صبراً بني الكرام! فما الموت إلاَّ قنطرةٌ يعبر بكم عن البؤس والضرَّاء إلى الجِنان الواسعة والنعيم الدائمة).

٢٨٤

السرور بلقاء الله

كان حبيب بن مظاهر الأسدي مِن المؤمنين ومِن الأصحاب الأوفياء للإمام الحسين (عليه السلام) وقد نال شرف الشهادة يوم عاشوراء. عندما كان هذا الشيخ الكبير يستعدُّ لمُنازلة الأعداء والخروج إلى ميدان القتال كان يبتسم.

فقال له يزيد بن حصين الهمداني - وكان أكبر قُرَّاء القرآن ـ: يا أخي، ليست هذه ساعة ابتسام!

قال: فأيُّ موضع أحقُّ مِن هذا بالسرور؟!

والله، ما هو إلاَّ أنْ تميل علينا هذه الطُّغاة بسيوفهم فنُعانق الحُور العين، ونذهب إلى مقرِّنا الأبديِّ عند الله سبحانه وتعالى (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٥

لا يجتمع الشَّراب مع العقل

كان المأمون العباسي، وبهدف الدراسة والتحقيق في المسائل العلميَّة، يعقد مَحفلاً للعلماء في يوم مِن أيَّام الأسبوع. وكان يُحتِّم على العلماء أنْ يجتمعوا في ذلك اليوم أمام الخليفة، كما كان يسمح لعلماء الولايات بالحضور أيضاً.

وفي يوم مِن أيَّام انعقاد هذا المجلس بحضور المأمون، دخل رجل ذو ثياب رَثَّة وجلس في نهاية صَفِّ الحاضرين، فأُلقيت مسألة في المجلس أجاب عليها ذلك الرجل إجابةً كاملة، بحيث اتَّجهت إليه الأنظار واستحسنه جميع العلماء، فأمر المأمون باستقدامه وإجلاسه في مُقدَّمة صفوف العلماء، وطُرِحت مسألة أُخرى أجاب عليها ذلك الرجل أفضل إجابة، فأمر الخليفة أنْ يُقدِّموه ويُجلسوه بالقُرب منه.

بعد ساعة انفضَّ المجلس وأخذ العلماء يُغادرون المكان، فنهض الرجل الفقير وتهيَّأ للذهاب، فأمره الخليفة بالبقاء. ولم يمضِ وقت طويل حتَّى جيء بالشراب وبدأ السُّقاة بتوزيعه، فبان القَلق على وجه الرجل العالم لمُشاهدة ذلك، فنهض وطلب الإذن بالانصراف وقال: إنَّني جِئت اليوم بحالة الفَقر والرِّداء القديم للمُشاركة في مجلس العلماء، وقد أوصلني عقلي القاصر مِن آخر المجلس إلى صفوف الكبار، وأجلسني إلى جوار الخليفة، فليس مِن اللائق أنْ أشرب الشراب، وأفقد عَقلي الذي رفع مقامي، ثمَّ إنَّني أخشى أنْ يُفقدني السُّكْر عِنان نفسي، وأرتكب عملاً غير مُناسب وأُصبح موضع تحقير أمام خليفة المسلمين. وسمع المأمون حديث الرجل العالم فأعفاه مِن الاشتراك في المجلس وأمر بمَنحه مئة ألف درهم (١) .

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٦

لا إله إلاَّ الله حِصني

حين وافى الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السلام) نيسابور، وأراد أنْ يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا: يا بن رسول الله، ترحل عنَّا ولا تُحدِّثنا بحديث نستفيده منك! وكان قد قعد في العماريَّة، فأطلع رأسه وقال:

(سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله عَزَّ وجَلَّ يقول:

(لا إله إلا الله حِصني؛ فمَن دخل حِصني أَمِنَ مِن عذابي).

فلمَّا تحرَّكت الراحلة، نادى:

(بشروطها، وأنا مِن شروطها) (١) .

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٧

لا نسجد إلا لله عَزَّ وجَلَّ

قبل أنْ يُهاجر الرسول الكريم مِن مَكَّة، كان ضغط المُشركين الشديد على المسلمين قد جعل حياتهم مُرَّة لا تُطاق. فهاجر فريق منهم بموافقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحبشة لاجئين؛ لكي يأمنوا بعض الوقت مِن كلِّ ذاك الضغط وتلك الشِّدَّة.

فبعث المُشركون بعمارة بن الوليد، وعمرو بن العاص إلى الحبشة، مُحمَّلين بهدايا كثيرة لكي يُعيدوا المُهاجرين إلى مَكَّة فيستأنفوا تعذيبهم.

وصل الرجلان إلى الحبشة ووزَّعا الهدايا على حاشية المَلك، كما قدَّما للملك هدية تُليق به، وطلبا منه أنْ يأمر اللاجئين بالعودة إلى بلادهم.

كان النجاشي - ملك الحبشة - رجلاً حكيماً، فرفض تسليم المُهاجرين إلى المُشركين قبل أنْ يُحقِّق في أمرهم قائلاً: إنَّهم قد قصدوني مِن دون الآخرين. فلا بُدَّ أنْ أُقابلهم بنفسي، وأستمع إلى ما يقولون، وأتعرَّف على طِراز تفكيرهم، ومِن ثمَّ أُقرِّر ما أرى.

وأمر بالمُهاجرين فأحضروا بين يديه.

كان الارتماء على الأرض والسجود يُعتبَر غاية الخضوع والانكسار أمام الملك. غير أنَّ مدرسة الإسلام كانت قد علَّمت أتباعها في كلمة التوحيد درس العِزَّة والكرامة، وأفهمتهم أنَّ السجود لا يكون إلاَّ في حضرة الله تعالى، الذي هو خالق العالم ومالك كلِّ شيء في عالم الوجود، وأنَّ الإنسان المسلم ليس له أنْ يسجد لغير الله، ولا أنْ يُساوم على جوهرة الإيمان الثمينة وعِزَّة نفسه مَهْما تكُن الظروف.

٢٨٨

سُئل أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): أيصلح السجود لغير الله تعالى؟ قال: (لا).

قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟!

فقال: (إنّ مَن سَجَدَ بأمر الله فقد سجد لله فكأنَّ سجوده لله؛ إذ كان عن أمر الله تعالى).

وكان يومئذ مِن الرسوم المالوفة أنْ يسجد للنجَّاشي كلُّ مَن يدخل عليه، كدليل على تذلُّل وخُضوعه له. وقد شقَّ ذلك على المُهاجرين؛ إذ كان السجود للنجّاشي يتعارض والحُرِّيَّة الإسلاميَّة، ويُناقض المبدأ الذي تقوم عليه كلمة التوحيد، كما أنَّ الامتناع عن السجود كان يُمكن أنْ يُثير غضب النجّاشي فيأمر بطردهم مِن البلاد، فكانت حياتهم بذلك تتعرَّض للخطر أو يتعرَّضون للانتقام والتعذيب على أيدي المُشركين. وهكذا كانوا على مُفترق طريقين، وكان عليهم أنْ يتَّخذوا القَرار فوراً. لقد كان الإيمان بالله وبالتوحد على درجة مِن الرسوخ والعُمق في نفوسهم بحيث إنَّهم قرَّروا عدم السجود للنجّاشي، وليكُن ما يكون بعد ذلك.

يقول جعفر الطيَّار - أحد هؤلاء المُهاجرين ـ:

دخلنا مجلس النجّاشي ولم نسجد، فقال مَن حضره: ما لكم لا تسجدون للملك؟

قلنا: لا نسجد إلاَّ لله عَزَّ وجَلَّ (١).

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٩

لا أفعل هذا أبداً ولا أسجد لغير الله

مِثل هذا وقع لدحية الكلبي في بلاد الروم. فقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أواخر أيَّامه برسائل إلى عدد مِن مُلوك الدول، كان منهم القيصر - ملك الروم - يدعوهم إلى الإسلام، فحمل كلَّ رسالة منها رسولٌ خاصٌّ لإيصاله. ووقع اختيار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على دحية الكلبي ليحمل رسالته للقيصر، وكان دحية مِن المؤمنين الذين تربُّوا في مدرسة الإسلام على هُدى كلمة التوحيد. فرحل حتَّى وصل عاصمة ملك الرُّوم.

فقال قوم مُلك الروم لدحية: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثمَّ لا ترفع رأسك حتَّى يأذن لك.

قال دحية: لا أفعل هذا أبداً ولا أسجد لغير الله.

لقد أصبحت هذه الجُرأة والحُرِّيَّة مِن نصيب المسلمين في مدرسة الإسلام، وهي كلَّها مِن بركة الإيمان بالله والتوكُّل على قُدرة الله غير المحدودة (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٠

لو كان عبداً لأطاع مولاه

بشر بن الحارث الحافي، مِن أهالي مَرْو، كان قد أمضى شَطراً مِن عُمره في المعصية والانغماس في الشهوات غير المشروعة. في أحد الأيَّام مَرَّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في الزقاق الذي تقع فيه دار بشر هذا، فاتَّفق أنْ فُتح الباب وخرجت منه إحدى جواري بشر، فرأت الإمام وعرفته. وكان الإمام يعرف أنَّ هذه هي دار بشر، فسأل الجارية عن سيِّدها هل هو حُرٍّ أم عبد؟ فقالت: إنَّه حُرٌّ.

قال: (صحيح ما تقولين؛ إذ لو كان عبداً لوفَّى بشروط العبوديَّة وأطاع مولاه).

قال الإمام ذلك واستأنف السير في طريقه، فعادت الجارية إلى الدار ونقلت إلى سيِّدها ما قاله الإمام، فاضطربت حال بشر وثارت في داخله عاصفة مِن الانفعالات، وأسرع بالخروج مِن الدار يطلب الإمام حتَّى أدركه، وتاب على يديه، وهَجر ما كان يرتكبه مِن آثام، واتَّخذ طريق الله وإطاعته. وعندما خرج للِّحاق بالإمام كان حافي القدمين؛ لذلك ظلَّ منذ ذلك اليوم وحتَّى نهاية عُمره حافياً، إحياءً لذكرى تلك اللحظة واحتراماً للقائه بالإمام، واحتفاءً بعودته إلى الصراط المُستقيم، فعرف بـ (بشر الحافي) بعد ذاك (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩١

أين مُكوكبها؟

خرج أعرابي بالليل فإذا بجارية جميلة فراودها عن نفسها، فقالت:

أما لك زاجر مِن عقلك إذا لم يكُن لك واعِظ مِن دينك؟!

فقال: والله، ما يرانا إلاَّ الكواكب.

فأخجله كلامها، فقال لها: إنما كنت مازح.

إنَّ كلام هذه المرأة المسلمة الطاهر الصريح يُبيِّن هذه الحقيقة، وهي كيف أنَّ الإيمان بالله وبإحاطة علمه هو الضمان لتنفيذ القانون الإلهي، بحيث يستطيع أنْ يمنع الإنسان المؤمن مِن ارتكاب عملٍ منافٍ للعِفَّة، حتَّى في ليلة ظلماء وفي صحراء خالية (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٢

أبو ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً

كان أبو ذر الغفاري يقضي ساعات آخر عُمره في صحراء الرَّبذة، وكانت زوجته تبكي عنده فسألها أبو ذر:

ما يبكيك؟!.

فقالت: ستموت وحيداً في هذه الصحراء، فماذا أصنع بجُثَّتك؟! وأنّى لي ما أُكفِّنك به؟!

فقال لها أبو ذر: لا تبكي، فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم - وأنا عنده في نَفر - يقول: (ليَموتَنَّ رجلٌ منكم بفلاةٍ مِن الأرض تشهده عِصابةٌ مِن المؤمنين).

ثمَّ قال لها: إنَّ جميع مَن حضروا ذلك المجلس قد ماتوا وهم في الحاضرة بين أهاليهم، ولم يبقَ منهم سواي، وها أنا أموت في فَلاة. فانظري إلى الطريق وسوف ترين صدق ما أخبرتك به.

فقالت زوجته: كيف يُمكن أنْ يمرَّ أُناس في هذه الصحراء، وقد انتهى موسم الحَجِّ؟!

فقال لها أبو ذر: لم أكذِّبك الخبر أبداً. راقبي الطريق. ثمَّ أسلم الروح.

وما انقضت ساعة حتَّى ظهرت قافلة وتقدَّمت إلى صحراء الربذة، وقد كان فيها مالك بن الأشتر، فأخبرتهم زوجة أبي ذر بموت زوجها، فترحَّم عليه الجميع آسفين، ولكنَّهم فرحوا للتوفيق الذي نالوه بتجهيز أحد أولياء الله ودفنه فغسَّلوه وكفَّنوه، ووقف الجميع بإمامة مالك بن الأشتر يُصلُّون عليه ثمَّ دفنوه (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٣

عمَّار تقتله الفئة الباغية

كان عمّار بن ياسر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد تحمَّل بعد إسلامه الكثير مِن العذاب على أيدي المُشركين.

وفي حرب صِفِّين كان عمّار بين صفوف وجند أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونال الشهادة في تلك الحرب. كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته قد أخبر خبرين غيبيَّين عن عمّار، وبعد مضيِّ سوات طويلة تحقَّق الخبران.

الأول: هو أنَّه قال:

(إنَّ عمّاراً سوف تقتله الفئة الباغية).

وكان هذا الخبر قد سمعه أُناس كثيرون مِن النبي مُباشرة، أو مِمَّن سمعه مِن النبي الكريم، حتَّى إنَّ بعضهم اتَّخذ مِن ذلك وسيلة للتمييز بين أتباع الحَقِّ وأتباع الباطل في حرب صِفِّين.

شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسُلُّ سيفاً. وشهد صِفِّين ولم يُقاتل، وقال: لا أُقاتل حتَّى يُقتل عمّار فأنظر مَن يقتله؛ فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (... تقتله الفئة الباغية).

فلمَّا قُتل عمّار قال خزيمة: ظهرت لي الضلالة. ثمَّ ندم وقاتل حتَّى قُتِل.

قال عمّار بن ياسر يوم صِفِّين: ائتوني بشربةٍ، فأُتي بشربة لبن فقال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (آخر شربة تشربها مِن الدنيا شربة لبن) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٤

تأويل خُطبة الإمام عليٍّ (عليه السلام) المعروفة بالزوراء

نقل العلاَّمة الحلِّي (رضوان الله عليه) عن أبيه أنَّه قال: إنَّ ما منع أهل الكوفة والحلَّة وكربلاء والنجف أنْ يُقتلوا قَتلاً عامَّاً في فتنة المغول، ونجوا مِن هُجوم جنود هولاكو عليهم؛ هو أنَّه عندما وصل هولاكو إلى خارج بغداد، وقبل أنْ يفتحها، كان أكثر أهل الحلَّة قد دفعهم الخوف إلى ترك منازلهم واللجوء إلى البطاح، ولم يبقَ فيهم في المدينة إلاَّ القليل، كان منهم أبي، والسيِّد ابن طاوس، والفقيه ابن أبي العِزِّ. فقرَّر هؤلاء الثلاثة أنْ يكتبوا رسالة إلى هولاكو يُعلنون فيها إطاعتهم له.

كتبوا الرسالة وبعثوا بها مع شخصٍ غير عربيٍّ. وعند وصول الرسالة إلى هولاكو أصدر أمراً بأسمائهم وأرسله مع شخصين هما (نكله)، و(علاء الدين) وأوصاهما بأنْ يقولا لكاتبي الرسالة: إذا كان ما كتبتموه مِن صميم القلب، وأنَّ ما في قلوبكم يُطابق ما في رسالتكم، فاقدموا علينا.

جاء مبعوثا هولاكو إلى الحلَّة وأبلغا رسالة هولاكو إلى الثلاثة. إلاَّ أنَّهم شعروا بالخوف مِن لُقيا هولاكو؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفون عاقبة الأمر. فقال أبي للمبعوثين: ألا يكفي أنْ أذهب أنا وحدي إلى هولاكو؟ قالا: بلى، فسافر مع المبعوثيَن. ولم تكن بغداد قد فُتحت بعد، ولم يكن الخليفة العبَّاسي قد قُتل. وعندما وصل أبي إلى هولاكو سأله هذا: كيف بادرتم إلى مُكاتبتي؟ وكيف جئتني قبل أنْ تدري نتيجة الأمر بيني وبين الخليفة؟ أنَّى لكم الثقة بأنَّ الأمر بيني وبين الخليفة لا يؤدِّي إلى التصالح وأنِّي لن أتركه؟

فقال له أبي: كتابة الرسالة إليك ومُثولي بين يديك إنَّما كانا للرواية التي وصلتنا مِن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

٢٩٥

قال في خطبة الزوراء:

(... وما أدراك ما الزَّوراء! أرض ذات أثلٍ، يشتدُّ فيها البُّنيان، وتكثر فيها السكَّان، ويكون فيها مخادم وخزَّان، يتَّخذها وُلد العباس موطناً، ولزخُرفهم مسكناً، تكون لهم دار لهو ولعب، يكون بها الجور الجائر، والخوف المُخيف، والأئمَّة الفَجرة، والأُمراء الفسقة، والوزراء الخونة، تخدمهم أبناء فارس والروم، لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن مُنكرٍ إذا نكروه، تكتفي الرّجال منهم بالرجال، والنّساء بالنّساء، فعند ذلك الغمِّ العميم، والبُكاء الطويل، والويل لأهل الزّوراء مِن سطوات التُّرك، وهُمْ قومٌ صغار الحدق، وجوههم كالمَجانِّ المُطوَّقة، لباسهم الحديد، جردٌ مُردٌ، يَقدمهم ملكٌ يأتي مِن حيث بدا مُلكهم، جهوريٌّ الصَّوت، قويُّ الصّولة، عالي الهِمَّة، لا يمرُّ بمدينةٍ إلاّ فتحها، ولا تُرفع عليه رايةً إلاّ نكسها، الويل الويل لمَن ناوأه فلا يزال كذلك حتَّى يظفر).

بعد أنْ قرأ والد العلاَّمة الحلِّي الخُطبة قال لهولاكو: إنَّ الأوصاف التي ذكرها عليٌّ (عليه السلام) في الخُطبة نراها جميعاً فيك؛ ولهذا كتبنا الرسالة وسعيت إليك. فتقبَّل هولاكو آراءهم بحسن القَبول، وكتب له أمراً جعل فيه أهل الحلَّة موضع رعايته.

ولم يمضِ طويل وقت حتَّى فتح هولاكو بغداد وقتل المُستعصم، آخر خُلفاء بني العبَّاس. وحسبما يقول البستاني في دائرة معارفه: بأنَّه قَتَل في هذا الحدث الدمويِّ أكثر مِن مليوني شخصٍ، ونُهبت أموال كثيرة، وأُحرقت دور كثيرة. واتَّضح أخيراً أنَّ عُلماء الحلَّة الثلاثة كانوا قد فهموا خُطبة علي (عليه السلام) على حقيقتها وطبَّقوها على هولاكو وجنوده، فكان تمييزهم الصحيح وكتابتهم الرسالة في الوقت المُناسب قد أنقذوا أرواح أهل الحلَّة والكوفة والنجف وكربلاء مِن موت مُحقَّق، فنجوا مِن مذبحة جماعيَّة (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٦

لم يُقدَّم إلا بما عُهِد إليه فيه

غرفة الأزدي، يُقال له: (صحبة)، وهو مِن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ومِن أصحاب الصُّفَّة

، وهو الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وآله) أنْ يُبارك له الله في صفقته، قال: دخلني شَكٌّ مِن شأن عليٍّ، فخرجت معه على شاطئ الفرات، فعدل عن الطريق ووقف ووقفنا حوله، فقال:

(هذا موضع رواحلهم، ومَناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، بأبي مَن لا ناصر له في الأرض ولا في السّماء إلاّ الله!).

فلمَّا قُتِل الحسين (عليه السلام) خرجت حتَّى أتيت المكان الذي قُتِلوا فيه، فإذا هو كما قال، ما أخطأ شيئاً.

قال: فاستغفرت الله مِمَّا كان مِن الشَّكِّ، وعلمت أنَّ عليَّاً (رضي الله عنه) لم يُقدَّم إلا بما عُهِد إليه فيه) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٧

مِثالان لخُلق الإنسان الكريم

في حرب اليرموك كان عدد مِن الجنود المسلمين يتقدَّمون إلى ميدان المُبارزة، وبعد بِضع ساعات مِن مُجالدة العدوِّ، يُقتل بعضهم، ويعود بعضهم سالمين أو مجروحين، ويبقى آخرون مُثقلين بالجراح مطروحين على أرض المعركة.

عن حذيفة العدوي أنَّه قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍّ لي بين القتلى ومعي شيء مِن الماء، وأنا أقول: إنْ كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت: أسقيك؟

فأشار إليَّ أنْ: نعم.

فإذا برجل يقول: آه! فأشار إليَّ ابن عَمِّي أنْ: انطلق إليه واسقِه، فإذا هو هشام بن العاص.

فقلت: أسقيك؟

فأشار إليَّ أنْ: نعم، فسمع آخر يقول: آه! فأشار إليَّ أنْ: انطلق إليه.

فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمِّي فإذا هو قد مات.

لم يكُن شرب الماء أو عدم شربه ذا تأثير في حياة هؤلاء الجنود الثلاثة وموتهم؛ لأنَّ جراحهم كانت عميقة، والدماء التي نزفت منهم كانت قد اقتربت بهم مِن الموت، ولم يكُن ثَمَّة أملٍ في بقائهم أحياءً.

ولكنَّ العِبرة اللافتة للانتباه في هذه الحكاية التاريخيَّة والجديرة بالتمجيد، هي الأخلاق الكريمة التي تحلَّى بها هذان الجُنديَّان المسلمان في إيثار غيرهما بشرب الماء، على الرَّغم مِن عطشهما ونزف الدَّم منهما، فعاشا حتَّى آخر لحظات حياتهما إنسانين، وفارقا الدنيا وهما مِثالان لخُلق الإنسان الكريم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٢٩٨

اُلامُ على السخاء وإنَّ هذا لأسخى مِنِّي!

خرج عبد الله بن جعفر يوماً إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم، وفيه غُلام أسود يقوم عليه، فأتى بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب، فدنا مِن الغُلام، فرمى إليه بقُرص فأكله، ثمَّ رمى بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غُلام، كمْ قوتُك في اليوم؟

قال: ما رأيت.

قال: فلِمَ آثرت هذا الكلب؟

قال: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وإنَّه جاء مِن مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت أنْ أرُدَّه.

قال: فما أنت صانع اليوم؟

قال: أطوي يومي هذا.

فقال عبد الله بن جعفر: أُلامُ على السخاء وإنَّ هذا لأسخى مِنِّي.

فاشترى الحائط وما فيه مِن النخيل والآلات، واشترى الغُلام ثمَّ أعتقه ووهب له الحائط بما فيه.

٢٩٩

أعتق مِن العبيد

بقدر ما قتلت مِن بناتك

كان قيس بن عاصم في الجاهليَّة، مِن رؤساء القبائل وأشرافها، أسلم بعد ظهور الإسلام، سعى في أواخر عمره إلى نيل المغفرة مِن الله تعالى على ما كان قد ارتكب مِن آثام، فحضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:

في الماضي، دفعت الجاهليَّة الآباء إلى أنْ يدفنوا بأيديهم بناتهم البريئات وهُنَّ أحياء، وقمتُ أنا نفسي بوأد اثنتي عشرة مِن بناتي، في فترات مُتقاربة، أمَّا الثالثة عشرة فقد وضعتها زوجتي في الخفاء وأظهرت لي أنَّ الوليد نزل ميِّتاً، بينما أرسلت البنت إلى أهلها دون علمي.

مضت السنون حتَّى اتَّفق يوماً أني كنت عائداً مِن رحلة لي، فوجدت صبيَّة صغيرة في داري وإذا لاحظت شبهها الشديد بأولادي، راودني الشكُّ فيها.

وأخيراً علمت أنَّها ابنتي فأخذت بيد البنت وهي تصرخ باكية، وجرجرتها إلى مكانٍ بعيد، دون أنْ ألتفت إلى توسُّلاتها، والعهد الذي قطعته على نفسها بأنَّها سوف تعود إلى أخوالها، ولن تجلس على مائدتي أبداً، ولكنْ مع ذلك دفنتها حيَّة.

سكت قيس ينتظر جواباً.

كانت الدموع تنهمر مِن عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول هامساً:

(مَنْ لا يَرحم لا يُرحَم).

ثمَّ التفت إلى قيس وقال: (ينتظرك يوم سيّئٌ).

فسأله قيس: ماذا أفعل لأخُفِّف مِن آثامي؟

قال النبي: (أعتق مِن العبيد بقدر ما قتلت مِن بناتك) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421