القصص التربوية

القصص التربوية9%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360188 / تحميل: 10450
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وترك المُقابلة بالشَّرِّ؛ لتحرز بذلك نعيمها، وتصون بها دينها؛ ثمَّ قالت لزينب: يا بنت عم، كيف رأيت صنيع الله بنا في العقوق فأحببت التأسيِّ بنا. ثمَّ ولَّت باكية وكرهت الخيزران أنْ تُخالف زينب فيها فغمزت الخيزران بعض جواريها، فعدلت بها إلى بعض المقاصير، وأمرت بتغيير حالها والإحسان إليها، فلمَّا دخل المهدي عليها. وقد انصرفت زينب - وكان مِن شأنه الاجتماع مع خواصِّ حرمه في كلِّ عَشيَّة - قصَّت عليه الخيزران قِصَّتها، وما أمرت به مِن تغيير حالها، فدعا بالجارية التي ردَّتها، فقال لها: لمَّا رددتيها إلى المقصورة ما الذي سمعتيها تقول؟ قالت: لحقتها في المَمرِّ الفُلانيِّ وهي تبكي في خروجها مؤتسية، وهي تقرأ ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ) ، ثمَّ قال للخيزران: والله والله، لو لم تفعلي بها ما فعلت ما كلَّمتك أبداً، وبكى بُكاءً كثيراً، وقال: اللَّهمَّ، إنِّي أعوذ بك مِن زوال النعمة. وأنكر فعل زينب، وقال: لولا أنَّها أكبر نسائنا لحلفت ألا أُكلِّمها. ثمَّ بعث إليها بعض الجواري إلى مقصورتها التي أُخليت لها، وقال للجارية: اقرئي عليها السّلام منِّي، وقولي لها: يا بنت عَمِّ، إن أخواتك قد اجتمعنَ عندي، ولولا أنَّي أغمك لجئناك؛ فلمَّا سمعت الرسالة علمت مُراد المهدي؛ وقد حضرت زينب بنت سليمان؛ فجاءت مزنة تسحب أذيالها؛ فأمرها بالجلوس، ورحَّب بها واستدناها، ورفع منزلتها فوق منزلة زينب بنت سليمان بن علي، ثمَّ تفاوضوا أخبار أسلافهم، وأيَّام الناس، والدول وتنقُّلها، فما تركت لأحد في المجلس كلاماً، فقال لها المهدي: يا بنت عم، والله، لولا أنِّي لا أُحبُّ أنْ أجعل لقوم أنت منهم مِن أمرنا شيئاً لتزوَّجتك، ولكنْ لا شيء أصون لك مِن حِجابي، وكونك مع أخواتي في قصري: لك ما لهنَّ، وعليك ما عليهنَّ، إلى أنْ يأتيك أمر مَن له الأمر فيما حَكم به على الخَلق، ثمَّ أقطعها مِثل ما لهنَّ مِن الإقطاع وأخدمها وأجازها، فأقامت في قصره إلى أنْ قُبِض المهدي وأيَّام الهادي وصدراً مِن أيَّام

٢٨١

الرشيد، وماتت في خلافته، لا يُفرَّق بينها وبين نساء بني هاشم وخواصِّ حرائرهم وجواريهم، فلمَّا قُبِضت جزع الرشيد والحَرم جزعاً شديداً.

لقد كانت مزنة في ذلك اليوم امرأة شابَّة تعيسة ومهزومة، بينما كانت زينب سيِّدة مُسنَّة ذات قُدرة ومكانة، وكانت مكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيَّة تستوجب على زينب أنْ تُلاطفها وتحميها، أو على الأقل تسكت في هذا الوضع الحسَّاس، ولا تكون حَجر عَثرة يمنع الآخرين مِن إبراز مَحبَّتهم وعطفهم، لا أنْ تسعى للانتقام مِن خِلال ذكر حادثة مؤلمة، وتُحطِّم قلبها أكثر فأكثر، وبدل مُساعدتها تسعى لسحقها. لقد ارتكبت زينب المُسنَّة هذا الخطأ الكبير؛ فسقطت مِن عَليائها بعمل غير إنسانيٍّ، وفقدت قيمتها وأهميَّتها في عائلة العباسيِّين (١).

____________________

(١) الشيوخ والشباب، ج٢.

٢٨٢

طلب العلم مِن المَهد إلى اللَّحد

في الماضي والحاضر هناك الكثير مِن المُسنِّين المسلمين، مِن العلماء أو الأشخاص العاديِّين، الذين صرفوا مرحلة الشيخوخة في سبيل التكامُل الروحي، والسموِّ المعنويِّ لتأمين السعادة الأبديَّة عِبر العلم وأداء الفرائض والسُّنَن الإلهيَّة.

وقع العالم المشهور أبو ريحان البيروني طريح الفراش في ساعات عمره الأخيرة، وجاءه الفقيه أبو الحسن علي بن عيسى لعيادته، وبينما هو في تلك الحال سأل الفقيه عن مسألة فقال له الفقيه: أتسأل وأنت في هذا الحال؟!

فقال البيروني: يا رجل، قل لي: أيُّهما أفضل، أنْ أعرف هذه المسألة وأموت، أمْ أنْ أموت جاهلاً بها؟

قال الفقيه: ذكرت له المسألة وخرجت ولم أبتعد كثيراً حتَّى سمعت صوت البُكاء يتعالى مِن بيت أبي ريحان (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٣

ما الموت إلاَّ قَنطرةً

قال علي بن الحسين (عليه السلام):

(لمَّا اشتدَّ الأمر بالحسين (عليه السلام) نظر إليه مَن كان معه... وكان الحسين (عليه السلام) وبعض مَن معه مِن خصائصه تُشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعضٍ: انظروا لا يُبالي بالموت!

فقال لهم الحسين (عليه السلام):

صبراً بني الكرام! فما الموت إلاَّ قنطرةٌ يعبر بكم عن البؤس والضرَّاء إلى الجِنان الواسعة والنعيم الدائمة).

٢٨٤

السرور بلقاء الله

كان حبيب بن مظاهر الأسدي مِن المؤمنين ومِن الأصحاب الأوفياء للإمام الحسين (عليه السلام) وقد نال شرف الشهادة يوم عاشوراء. عندما كان هذا الشيخ الكبير يستعدُّ لمُنازلة الأعداء والخروج إلى ميدان القتال كان يبتسم.

فقال له يزيد بن حصين الهمداني - وكان أكبر قُرَّاء القرآن ـ: يا أخي، ليست هذه ساعة ابتسام!

قال: فأيُّ موضع أحقُّ مِن هذا بالسرور؟!

والله، ما هو إلاَّ أنْ تميل علينا هذه الطُّغاة بسيوفهم فنُعانق الحُور العين، ونذهب إلى مقرِّنا الأبديِّ عند الله سبحانه وتعالى (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٥

لا يجتمع الشَّراب مع العقل

كان المأمون العباسي، وبهدف الدراسة والتحقيق في المسائل العلميَّة، يعقد مَحفلاً للعلماء في يوم مِن أيَّام الأسبوع. وكان يُحتِّم على العلماء أنْ يجتمعوا في ذلك اليوم أمام الخليفة، كما كان يسمح لعلماء الولايات بالحضور أيضاً.

وفي يوم مِن أيَّام انعقاد هذا المجلس بحضور المأمون، دخل رجل ذو ثياب رَثَّة وجلس في نهاية صَفِّ الحاضرين، فأُلقيت مسألة في المجلس أجاب عليها ذلك الرجل إجابةً كاملة، بحيث اتَّجهت إليه الأنظار واستحسنه جميع العلماء، فأمر المأمون باستقدامه وإجلاسه في مُقدَّمة صفوف العلماء، وطُرِحت مسألة أُخرى أجاب عليها ذلك الرجل أفضل إجابة، فأمر الخليفة أنْ يُقدِّموه ويُجلسوه بالقُرب منه.

بعد ساعة انفضَّ المجلس وأخذ العلماء يُغادرون المكان، فنهض الرجل الفقير وتهيَّأ للذهاب، فأمره الخليفة بالبقاء. ولم يمضِ وقت طويل حتَّى جيء بالشراب وبدأ السُّقاة بتوزيعه، فبان القَلق على وجه الرجل العالم لمُشاهدة ذلك، فنهض وطلب الإذن بالانصراف وقال: إنَّني جِئت اليوم بحالة الفَقر والرِّداء القديم للمُشاركة في مجلس العلماء، وقد أوصلني عقلي القاصر مِن آخر المجلس إلى صفوف الكبار، وأجلسني إلى جوار الخليفة، فليس مِن اللائق أنْ أشرب الشراب، وأفقد عَقلي الذي رفع مقامي، ثمَّ إنَّني أخشى أنْ يُفقدني السُّكْر عِنان نفسي، وأرتكب عملاً غير مُناسب وأُصبح موضع تحقير أمام خليفة المسلمين. وسمع المأمون حديث الرجل العالم فأعفاه مِن الاشتراك في المجلس وأمر بمَنحه مئة ألف درهم (١) .

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٦

لا إله إلاَّ الله حِصني

حين وافى الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السلام) نيسابور، وأراد أنْ يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا: يا بن رسول الله، ترحل عنَّا ولا تُحدِّثنا بحديث نستفيده منك! وكان قد قعد في العماريَّة، فأطلع رأسه وقال:

(سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله عَزَّ وجَلَّ يقول:

(لا إله إلا الله حِصني؛ فمَن دخل حِصني أَمِنَ مِن عذابي).

فلمَّا تحرَّكت الراحلة، نادى:

(بشروطها، وأنا مِن شروطها) (١) .

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٧

لا نسجد إلا لله عَزَّ وجَلَّ

قبل أنْ يُهاجر الرسول الكريم مِن مَكَّة، كان ضغط المُشركين الشديد على المسلمين قد جعل حياتهم مُرَّة لا تُطاق. فهاجر فريق منهم بموافقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحبشة لاجئين؛ لكي يأمنوا بعض الوقت مِن كلِّ ذاك الضغط وتلك الشِّدَّة.

فبعث المُشركون بعمارة بن الوليد، وعمرو بن العاص إلى الحبشة، مُحمَّلين بهدايا كثيرة لكي يُعيدوا المُهاجرين إلى مَكَّة فيستأنفوا تعذيبهم.

وصل الرجلان إلى الحبشة ووزَّعا الهدايا على حاشية المَلك، كما قدَّما للملك هدية تُليق به، وطلبا منه أنْ يأمر اللاجئين بالعودة إلى بلادهم.

كان النجاشي - ملك الحبشة - رجلاً حكيماً، فرفض تسليم المُهاجرين إلى المُشركين قبل أنْ يُحقِّق في أمرهم قائلاً: إنَّهم قد قصدوني مِن دون الآخرين. فلا بُدَّ أنْ أُقابلهم بنفسي، وأستمع إلى ما يقولون، وأتعرَّف على طِراز تفكيرهم، ومِن ثمَّ أُقرِّر ما أرى.

وأمر بالمُهاجرين فأحضروا بين يديه.

كان الارتماء على الأرض والسجود يُعتبَر غاية الخضوع والانكسار أمام الملك. غير أنَّ مدرسة الإسلام كانت قد علَّمت أتباعها في كلمة التوحيد درس العِزَّة والكرامة، وأفهمتهم أنَّ السجود لا يكون إلاَّ في حضرة الله تعالى، الذي هو خالق العالم ومالك كلِّ شيء في عالم الوجود، وأنَّ الإنسان المسلم ليس له أنْ يسجد لغير الله، ولا أنْ يُساوم على جوهرة الإيمان الثمينة وعِزَّة نفسه مَهْما تكُن الظروف.

٢٨٨

سُئل أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): أيصلح السجود لغير الله تعالى؟ قال: (لا).

قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟!

فقال: (إنّ مَن سَجَدَ بأمر الله فقد سجد لله فكأنَّ سجوده لله؛ إذ كان عن أمر الله تعالى).

وكان يومئذ مِن الرسوم المالوفة أنْ يسجد للنجَّاشي كلُّ مَن يدخل عليه، كدليل على تذلُّل وخُضوعه له. وقد شقَّ ذلك على المُهاجرين؛ إذ كان السجود للنجّاشي يتعارض والحُرِّيَّة الإسلاميَّة، ويُناقض المبدأ الذي تقوم عليه كلمة التوحيد، كما أنَّ الامتناع عن السجود كان يُمكن أنْ يُثير غضب النجّاشي فيأمر بطردهم مِن البلاد، فكانت حياتهم بذلك تتعرَّض للخطر أو يتعرَّضون للانتقام والتعذيب على أيدي المُشركين. وهكذا كانوا على مُفترق طريقين، وكان عليهم أنْ يتَّخذوا القَرار فوراً. لقد كان الإيمان بالله وبالتوحد على درجة مِن الرسوخ والعُمق في نفوسهم بحيث إنَّهم قرَّروا عدم السجود للنجّاشي، وليكُن ما يكون بعد ذلك.

يقول جعفر الطيَّار - أحد هؤلاء المُهاجرين ـ:

دخلنا مجلس النجّاشي ولم نسجد، فقال مَن حضره: ما لكم لا تسجدون للملك؟

قلنا: لا نسجد إلاَّ لله عَزَّ وجَلَّ (١).

____________________

(١) كتاب آية الكرسي.

٢٨٩

لا أفعل هذا أبداً ولا أسجد لغير الله

مِثل هذا وقع لدحية الكلبي في بلاد الروم. فقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أواخر أيَّامه برسائل إلى عدد مِن مُلوك الدول، كان منهم القيصر - ملك الروم - يدعوهم إلى الإسلام، فحمل كلَّ رسالة منها رسولٌ خاصٌّ لإيصاله. ووقع اختيار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على دحية الكلبي ليحمل رسالته للقيصر، وكان دحية مِن المؤمنين الذين تربُّوا في مدرسة الإسلام على هُدى كلمة التوحيد. فرحل حتَّى وصل عاصمة ملك الرُّوم.

فقال قوم مُلك الروم لدحية: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثمَّ لا ترفع رأسك حتَّى يأذن لك.

قال دحية: لا أفعل هذا أبداً ولا أسجد لغير الله.

لقد أصبحت هذه الجُرأة والحُرِّيَّة مِن نصيب المسلمين في مدرسة الإسلام، وهي كلَّها مِن بركة الإيمان بالله والتوكُّل على قُدرة الله غير المحدودة (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٠

لو كان عبداً لأطاع مولاه

بشر بن الحارث الحافي، مِن أهالي مَرْو، كان قد أمضى شَطراً مِن عُمره في المعصية والانغماس في الشهوات غير المشروعة. في أحد الأيَّام مَرَّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في الزقاق الذي تقع فيه دار بشر هذا، فاتَّفق أنْ فُتح الباب وخرجت منه إحدى جواري بشر، فرأت الإمام وعرفته. وكان الإمام يعرف أنَّ هذه هي دار بشر، فسأل الجارية عن سيِّدها هل هو حُرٍّ أم عبد؟ فقالت: إنَّه حُرٌّ.

قال: (صحيح ما تقولين؛ إذ لو كان عبداً لوفَّى بشروط العبوديَّة وأطاع مولاه).

قال الإمام ذلك واستأنف السير في طريقه، فعادت الجارية إلى الدار ونقلت إلى سيِّدها ما قاله الإمام، فاضطربت حال بشر وثارت في داخله عاصفة مِن الانفعالات، وأسرع بالخروج مِن الدار يطلب الإمام حتَّى أدركه، وتاب على يديه، وهَجر ما كان يرتكبه مِن آثام، واتَّخذ طريق الله وإطاعته. وعندما خرج للِّحاق بالإمام كان حافي القدمين؛ لذلك ظلَّ منذ ذلك اليوم وحتَّى نهاية عُمره حافياً، إحياءً لذكرى تلك اللحظة واحتراماً للقائه بالإمام، واحتفاءً بعودته إلى الصراط المُستقيم، فعرف بـ (بشر الحافي) بعد ذاك (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩١

أين مُكوكبها؟

خرج أعرابي بالليل فإذا بجارية جميلة فراودها عن نفسها، فقالت:

أما لك زاجر مِن عقلك إذا لم يكُن لك واعِظ مِن دينك؟!

فقال: والله، ما يرانا إلاَّ الكواكب.

فأخجله كلامها، فقال لها: إنما كنت مازح.

إنَّ كلام هذه المرأة المسلمة الطاهر الصريح يُبيِّن هذه الحقيقة، وهي كيف أنَّ الإيمان بالله وبإحاطة علمه هو الضمان لتنفيذ القانون الإلهي، بحيث يستطيع أنْ يمنع الإنسان المؤمن مِن ارتكاب عملٍ منافٍ للعِفَّة، حتَّى في ليلة ظلماء وفي صحراء خالية (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٢

أبو ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً

كان أبو ذر الغفاري يقضي ساعات آخر عُمره في صحراء الرَّبذة، وكانت زوجته تبكي عنده فسألها أبو ذر:

ما يبكيك؟!.

فقالت: ستموت وحيداً في هذه الصحراء، فماذا أصنع بجُثَّتك؟! وأنّى لي ما أُكفِّنك به؟!

فقال لها أبو ذر: لا تبكي، فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم - وأنا عنده في نَفر - يقول: (ليَموتَنَّ رجلٌ منكم بفلاةٍ مِن الأرض تشهده عِصابةٌ مِن المؤمنين).

ثمَّ قال لها: إنَّ جميع مَن حضروا ذلك المجلس قد ماتوا وهم في الحاضرة بين أهاليهم، ولم يبقَ منهم سواي، وها أنا أموت في فَلاة. فانظري إلى الطريق وسوف ترين صدق ما أخبرتك به.

فقالت زوجته: كيف يُمكن أنْ يمرَّ أُناس في هذه الصحراء، وقد انتهى موسم الحَجِّ؟!

فقال لها أبو ذر: لم أكذِّبك الخبر أبداً. راقبي الطريق. ثمَّ أسلم الروح.

وما انقضت ساعة حتَّى ظهرت قافلة وتقدَّمت إلى صحراء الربذة، وقد كان فيها مالك بن الأشتر، فأخبرتهم زوجة أبي ذر بموت زوجها، فترحَّم عليه الجميع آسفين، ولكنَّهم فرحوا للتوفيق الذي نالوه بتجهيز أحد أولياء الله ودفنه فغسَّلوه وكفَّنوه، ووقف الجميع بإمامة مالك بن الأشتر يُصلُّون عليه ثمَّ دفنوه (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٣

عمَّار تقتله الفئة الباغية

كان عمّار بن ياسر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد تحمَّل بعد إسلامه الكثير مِن العذاب على أيدي المُشركين.

وفي حرب صِفِّين كان عمّار بين صفوف وجند أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونال الشهادة في تلك الحرب. كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته قد أخبر خبرين غيبيَّين عن عمّار، وبعد مضيِّ سوات طويلة تحقَّق الخبران.

الأول: هو أنَّه قال:

(إنَّ عمّاراً سوف تقتله الفئة الباغية).

وكان هذا الخبر قد سمعه أُناس كثيرون مِن النبي مُباشرة، أو مِمَّن سمعه مِن النبي الكريم، حتَّى إنَّ بعضهم اتَّخذ مِن ذلك وسيلة للتمييز بين أتباع الحَقِّ وأتباع الباطل في حرب صِفِّين.

شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسُلُّ سيفاً. وشهد صِفِّين ولم يُقاتل، وقال: لا أُقاتل حتَّى يُقتل عمّار فأنظر مَن يقتله؛ فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (... تقتله الفئة الباغية).

فلمَّا قُتل عمّار قال خزيمة: ظهرت لي الضلالة. ثمَّ ندم وقاتل حتَّى قُتِل.

قال عمّار بن ياسر يوم صِفِّين: ائتوني بشربةٍ، فأُتي بشربة لبن فقال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (آخر شربة تشربها مِن الدنيا شربة لبن) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٤

تأويل خُطبة الإمام عليٍّ (عليه السلام) المعروفة بالزوراء

نقل العلاَّمة الحلِّي (رضوان الله عليه) عن أبيه أنَّه قال: إنَّ ما منع أهل الكوفة والحلَّة وكربلاء والنجف أنْ يُقتلوا قَتلاً عامَّاً في فتنة المغول، ونجوا مِن هُجوم جنود هولاكو عليهم؛ هو أنَّه عندما وصل هولاكو إلى خارج بغداد، وقبل أنْ يفتحها، كان أكثر أهل الحلَّة قد دفعهم الخوف إلى ترك منازلهم واللجوء إلى البطاح، ولم يبقَ فيهم في المدينة إلاَّ القليل، كان منهم أبي، والسيِّد ابن طاوس، والفقيه ابن أبي العِزِّ. فقرَّر هؤلاء الثلاثة أنْ يكتبوا رسالة إلى هولاكو يُعلنون فيها إطاعتهم له.

كتبوا الرسالة وبعثوا بها مع شخصٍ غير عربيٍّ. وعند وصول الرسالة إلى هولاكو أصدر أمراً بأسمائهم وأرسله مع شخصين هما (نكله)، و(علاء الدين) وأوصاهما بأنْ يقولا لكاتبي الرسالة: إذا كان ما كتبتموه مِن صميم القلب، وأنَّ ما في قلوبكم يُطابق ما في رسالتكم، فاقدموا علينا.

جاء مبعوثا هولاكو إلى الحلَّة وأبلغا رسالة هولاكو إلى الثلاثة. إلاَّ أنَّهم شعروا بالخوف مِن لُقيا هولاكو؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفون عاقبة الأمر. فقال أبي للمبعوثين: ألا يكفي أنْ أذهب أنا وحدي إلى هولاكو؟ قالا: بلى، فسافر مع المبعوثيَن. ولم تكن بغداد قد فُتحت بعد، ولم يكن الخليفة العبَّاسي قد قُتل. وعندما وصل أبي إلى هولاكو سأله هذا: كيف بادرتم إلى مُكاتبتي؟ وكيف جئتني قبل أنْ تدري نتيجة الأمر بيني وبين الخليفة؟ أنَّى لكم الثقة بأنَّ الأمر بيني وبين الخليفة لا يؤدِّي إلى التصالح وأنِّي لن أتركه؟

فقال له أبي: كتابة الرسالة إليك ومُثولي بين يديك إنَّما كانا للرواية التي وصلتنا مِن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

٢٩٥

قال في خطبة الزوراء:

(... وما أدراك ما الزَّوراء! أرض ذات أثلٍ، يشتدُّ فيها البُّنيان، وتكثر فيها السكَّان، ويكون فيها مخادم وخزَّان، يتَّخذها وُلد العباس موطناً، ولزخُرفهم مسكناً، تكون لهم دار لهو ولعب، يكون بها الجور الجائر، والخوف المُخيف، والأئمَّة الفَجرة، والأُمراء الفسقة، والوزراء الخونة، تخدمهم أبناء فارس والروم، لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن مُنكرٍ إذا نكروه، تكتفي الرّجال منهم بالرجال، والنّساء بالنّساء، فعند ذلك الغمِّ العميم، والبُكاء الطويل، والويل لأهل الزّوراء مِن سطوات التُّرك، وهُمْ قومٌ صغار الحدق، وجوههم كالمَجانِّ المُطوَّقة، لباسهم الحديد، جردٌ مُردٌ، يَقدمهم ملكٌ يأتي مِن حيث بدا مُلكهم، جهوريٌّ الصَّوت، قويُّ الصّولة، عالي الهِمَّة، لا يمرُّ بمدينةٍ إلاّ فتحها، ولا تُرفع عليه رايةً إلاّ نكسها، الويل الويل لمَن ناوأه فلا يزال كذلك حتَّى يظفر).

بعد أنْ قرأ والد العلاَّمة الحلِّي الخُطبة قال لهولاكو: إنَّ الأوصاف التي ذكرها عليٌّ (عليه السلام) في الخُطبة نراها جميعاً فيك؛ ولهذا كتبنا الرسالة وسعيت إليك. فتقبَّل هولاكو آراءهم بحسن القَبول، وكتب له أمراً جعل فيه أهل الحلَّة موضع رعايته.

ولم يمضِ طويل وقت حتَّى فتح هولاكو بغداد وقتل المُستعصم، آخر خُلفاء بني العبَّاس. وحسبما يقول البستاني في دائرة معارفه: بأنَّه قَتَل في هذا الحدث الدمويِّ أكثر مِن مليوني شخصٍ، ونُهبت أموال كثيرة، وأُحرقت دور كثيرة. واتَّضح أخيراً أنَّ عُلماء الحلَّة الثلاثة كانوا قد فهموا خُطبة علي (عليه السلام) على حقيقتها وطبَّقوها على هولاكو وجنوده، فكان تمييزهم الصحيح وكتابتهم الرسالة في الوقت المُناسب قد أنقذوا أرواح أهل الحلَّة والكوفة والنجف وكربلاء مِن موت مُحقَّق، فنجوا مِن مذبحة جماعيَّة (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٦

لم يُقدَّم إلا بما عُهِد إليه فيه

غرفة الأزدي، يُقال له: (صحبة)، وهو مِن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ومِن أصحاب الصُّفَّة

، وهو الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وآله) أنْ يُبارك له الله في صفقته، قال: دخلني شَكٌّ مِن شأن عليٍّ، فخرجت معه على شاطئ الفرات، فعدل عن الطريق ووقف ووقفنا حوله، فقال:

(هذا موضع رواحلهم، ومَناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، بأبي مَن لا ناصر له في الأرض ولا في السّماء إلاّ الله!).

فلمَّا قُتِل الحسين (عليه السلام) خرجت حتَّى أتيت المكان الذي قُتِلوا فيه، فإذا هو كما قال، ما أخطأ شيئاً.

قال: فاستغفرت الله مِمَّا كان مِن الشَّكِّ، وعلمت أنَّ عليَّاً (رضي الله عنه) لم يُقدَّم إلا بما عُهِد إليه فيه) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

٢٩٧

مِثالان لخُلق الإنسان الكريم

في حرب اليرموك كان عدد مِن الجنود المسلمين يتقدَّمون إلى ميدان المُبارزة، وبعد بِضع ساعات مِن مُجالدة العدوِّ، يُقتل بعضهم، ويعود بعضهم سالمين أو مجروحين، ويبقى آخرون مُثقلين بالجراح مطروحين على أرض المعركة.

عن حذيفة العدوي أنَّه قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍّ لي بين القتلى ومعي شيء مِن الماء، وأنا أقول: إنْ كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت: أسقيك؟

فأشار إليَّ أنْ: نعم.

فإذا برجل يقول: آه! فأشار إليَّ ابن عَمِّي أنْ: انطلق إليه واسقِه، فإذا هو هشام بن العاص.

فقلت: أسقيك؟

فأشار إليَّ أنْ: نعم، فسمع آخر يقول: آه! فأشار إليَّ أنْ: انطلق إليه.

فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمِّي فإذا هو قد مات.

لم يكُن شرب الماء أو عدم شربه ذا تأثير في حياة هؤلاء الجنود الثلاثة وموتهم؛ لأنَّ جراحهم كانت عميقة، والدماء التي نزفت منهم كانت قد اقتربت بهم مِن الموت، ولم يكُن ثَمَّة أملٍ في بقائهم أحياءً.

ولكنَّ العِبرة اللافتة للانتباه في هذه الحكاية التاريخيَّة والجديرة بالتمجيد، هي الأخلاق الكريمة التي تحلَّى بها هذان الجُنديَّان المسلمان في إيثار غيرهما بشرب الماء، على الرَّغم مِن عطشهما ونزف الدَّم منهما، فعاشا حتَّى آخر لحظات حياتهما إنسانين، وفارقا الدنيا وهما مِثالان لخُلق الإنسان الكريم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٢٩٨

اُلامُ على السخاء وإنَّ هذا لأسخى مِنِّي!

خرج عبد الله بن جعفر يوماً إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم، وفيه غُلام أسود يقوم عليه، فأتى بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب، فدنا مِن الغُلام، فرمى إليه بقُرص فأكله، ثمَّ رمى بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غُلام، كمْ قوتُك في اليوم؟

قال: ما رأيت.

قال: فلِمَ آثرت هذا الكلب؟

قال: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وإنَّه جاء مِن مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت أنْ أرُدَّه.

قال: فما أنت صانع اليوم؟

قال: أطوي يومي هذا.

فقال عبد الله بن جعفر: أُلامُ على السخاء وإنَّ هذا لأسخى مِنِّي.

فاشترى الحائط وما فيه مِن النخيل والآلات، واشترى الغُلام ثمَّ أعتقه ووهب له الحائط بما فيه.

٢٩٩

أعتق مِن العبيد

بقدر ما قتلت مِن بناتك

كان قيس بن عاصم في الجاهليَّة، مِن رؤساء القبائل وأشرافها، أسلم بعد ظهور الإسلام، سعى في أواخر عمره إلى نيل المغفرة مِن الله تعالى على ما كان قد ارتكب مِن آثام، فحضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:

في الماضي، دفعت الجاهليَّة الآباء إلى أنْ يدفنوا بأيديهم بناتهم البريئات وهُنَّ أحياء، وقمتُ أنا نفسي بوأد اثنتي عشرة مِن بناتي، في فترات مُتقاربة، أمَّا الثالثة عشرة فقد وضعتها زوجتي في الخفاء وأظهرت لي أنَّ الوليد نزل ميِّتاً، بينما أرسلت البنت إلى أهلها دون علمي.

مضت السنون حتَّى اتَّفق يوماً أني كنت عائداً مِن رحلة لي، فوجدت صبيَّة صغيرة في داري وإذا لاحظت شبهها الشديد بأولادي، راودني الشكُّ فيها.

وأخيراً علمت أنَّها ابنتي فأخذت بيد البنت وهي تصرخ باكية، وجرجرتها إلى مكانٍ بعيد، دون أنْ ألتفت إلى توسُّلاتها، والعهد الذي قطعته على نفسها بأنَّها سوف تعود إلى أخوالها، ولن تجلس على مائدتي أبداً، ولكنْ مع ذلك دفنتها حيَّة.

سكت قيس ينتظر جواباً.

كانت الدموع تنهمر مِن عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول هامساً:

(مَنْ لا يَرحم لا يُرحَم).

ثمَّ التفت إلى قيس وقال: (ينتظرك يوم سيّئٌ).

فسأله قيس: ماذا أفعل لأخُفِّف مِن آثامي؟

قال النبي: (أعتق مِن العبيد بقدر ما قتلت مِن بناتك) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٠

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421