القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360550 / تحميل: 10455
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأدب خير مِن الذهب

يقول علي الإسكافي:

كنت حاجب أمير بغداد، وكنت أؤدِّي وظائف الحجابة وقد ساءت أوضاعي وأخذ الأمير يشكُّ بي، فأصدر أمراً بسجني ومُصادرة أموالي كلِّها، وسُجنت فترةً مِن الزمن وعانيت الذِّلَّ واليأس والألم.

في أحد الأيَّام أخبرني شرطة السجن بمجيء إسحاق بن إبراهيم الطاهري، رئيس شرطة بغداد وذلك لإحضاري، فانتابني القلق كثيراً، وخفت على حياتي فيئستُ مِن الحياة، ثمَّ اقتادوني إليه فسلَّمت عليه باحترام.

ضحك إسحاق وقال: إنَّ أخي عبد الله بن طاهر بعث لي برسالة مِن خراسان يتشفع لك، وقد وافق أمير بغداد على شفاعتي.

أصدر الأمير أمراً بإطلاق سراحي مِن السجن وأرجع جميع أموالي، ثمَّ قال لي: الآن يُمكنك الذهاب إلى بيتك فشكرت الله، ومِن شِدَّة الفرح انهمرت دموعي.

في اليوم الثاني ذهبت لزيارة الأمير إسحاق الطاهري، وشكرته على صنيعه الحسن، ودعوت الله له بالخير وقلت له: إنِّي لم أحضر لزيارة عبد الله وهولا يعرفني، فما هو السبب في عَطفه عليَّ وعنايته بيَّ.

فقال: قبل عِدَّة أيَّام وصلت رسالة مِن أخي وكتب فيها ما يلي: كانت مكاتيب أمير بغداد قبل الآن تُشعر باللُّطف والمُودَّة والمحبَّة، وكان حاجب الأمير يكتب عبارات رائقة، وكانت تلك الرسائل السبب في استحكام العَلاقات الحَسنة وتقوية العواطف والأُلفة فيما بيننا، وبعد مُدَّة تغيَّرت لهجة الرسائل، وبدت فيها الخشونة والسماجة.

ويقول: إنَّ هذه التغيُّرات كانت مِن قِبَل الأمير، حيث عزل الحاجب وسجنه

٣٠١

واستبدل بغيره، ولكن الحاجب السابق كان شخصاً عارفاً بوظيفته، وله أُسلوب خاصٌّ بكتابة الرسائل، وكان يُراعي مراتب الأدب والاحترام؛ فتجب مُساعدته ومعرفة معصيته، فإذا كانت قبالة للعفو فأنا أعفو عنه، وإذا كانت لمال فيُسدَّد مِن حسابي. اطُلب مِن الأمير العفو عنه وإرجاعه إلى عمله السابق.

وأنا قد أدَّيت رسالة أخي إلى الأمير، ولحُسن الحظِّ فقد قُبلت شفاعته عند الأمير.

بعد هذا التفصيل مِن قبل إسحاق الطاهري، أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه هديَّة الأمير لحُبِّه لك، وبعد عِدَّة أيَّام رجعت إلى عملي السابق حاجباً للأمير، ورجعت عِزَّتي مَرَّة أُخرى، وحُلَّت مشاكلي واحدة تلو الأُخرى (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٢

.. والعافين عن الناس

والله يُحبُّ المُحسنين

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، قال: حدَّثني جَدَّي، قال: حدَّثني محمد بن جعفر وغيره، قالوا: وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل مِن أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يُكلِّمه. فلمَّا انصرف قال لجُلسائه: (قد سمعتم ما قال الرجل، وأنا أُحبُّ أنْ تبلغوا معي إليه حتَّى تسمعوا مِنِّي رَدِّي عليه).

قال: فقالوا له: نفعل، وقد كنَّا نُحبُّ أنْ تقول له وتقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: ( ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

فعلمنا أنَّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتَّى أتى منزل الرجل، فنادى عليه، قال: (قولوا له: هذا علي بن الحسين).

قال: فخرج إلينا مُتوثِّباً للشَّرِّ، وهو لا يشكُّ أنَّه إنَّما جاء مُكافئاً له على ما كان منه: فقال له علي بن الحسين (عليه السلام):

(يا أخي، إنَّك كنت وقفت عليَّ آنفاً وقلت، فإنْ كنتَ قد قلتَ ما فيَّ، فأنا أستغفر الله منه، وإنْ كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ، غَفر الله لك).

قال: فقبَّل الرجل ما بين عينيه وقال: بلى، قلت ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به.

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قادراً على التحدُّث مع ذلك الرجل بخشونة، وعلى معُاقبته بموجب الموازين الشرعيَّة، ولكنَّه - فَضلاً عن كونه لم يشتدَّ في الكلام معه ولم يُعاقبه، فإنَّه - واجهه بكلِّ نُبل وأدب، وقابل عمله السيِّئ بالإحسان، فناداه أوَّلاً بـ: (يا أخي)، فأوجد بذلك جوَّاً مِن المَحبَّة والتفاهُم، ومِن ثمَّ أشار إلى أقواله. وعلى الرغم مِن وضوح الحقيقة، ومِن معرفة كليهما بمَن هو المُذنب، فإنَّ الإمام السّجاد (عليه السلام) لم يتَّهمه بالذنب، بلْ طلب مِن الله المغفرة للمُذنب الحقيقيِّ، بادئاً بنفسه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٣

ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك

حُكي أنَّ مالكاً الأشتر كان يجتاز سوق الكوفة، وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السَّوقة فازدرى زيَّه، فرماه ببندقة تهاوناً به.

فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك! أتدري مَن رميت؟!

فقال: لا.

قيل له: هذا مالك، صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يُصلِّي فلمَّا انفتل، أكبَّ الرجل على قدميه يُقبِّلهما، فقال: ما الأمر؟

قال: أعتذر إليك مِمَّا صنعت.

فقال: لا بأس عليك؛ فوالله، ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك (١).

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٤

مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً

عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال:

(كان علي (عليه السلام) إذا صلَّى الفجر لم يزل مُعقبِّاً إلى أنْ تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفُقراء والمساكين وغيرهم مِن الناس فيُعلِّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه مِن مجلسه ذلك، فقام يوماً فمَرَّ برجل فرماه بكلمةِ هجوٍ - قال: ولم يُسمِّه محمد بن علي (عليه السلام) - فرجع عَوده على بدئه، حتَّى صعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة.

فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّه ليس شيء أحبُّ إلى الله، ولا أعمَّ نفعاً مِن حِلم إمام وفقهه.

ولا شيء أبغض إلى الله ولا أعمَّ ضرراً مِن جهل إمام وخرقِهِ.

ألاْ وإنَّه مَن لم يكن له في نفسه واعظ لم يكن له مِن الله حافظ.

ألاْ وإنَّه مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً.

ألا وإنَّ الذِّلَّ في طاعة الله أقرب إلى الله مِن التعزُّز في معصيته.

أما إنِّي لو أشاء لقلت..

فقال رجل: أو تعفو وتصفح فأنت أهلٌ لذلك.

فقال: عفوت وصفحت).

كثيراً ما اتَّفق في حياة الإمام علي (عليه السلام) أنْ تَجرَّأ عليه بعض الجَهلة، وافتروا عليه بعض الأقاويل، فعفا عنهم الإمام وقابل إساءتهم بالإحسان؛ إذ إنَّ العفو عنهم

٣٠٥

والتغاضي عن إساءاتهم لم يكن ليَنتج عنهما أيُّ ضررٍ، بلْ كانا أحياناً يُعتبران نوعاً مِن العقاب لهم على ترك هذه الرذيلة. ولكنْ في مثل هذه الحالات كان العفو مع السكوت يُسبب أضراراً، لأنَّ العفو مِن دون قيد ولا شرط كان كفيلاً بأنْ يُحمل على ضعف الإمام، وربَّما حمل المُسيء على المضيِّ في إساءاته أكثر؛ ولهذا عزم الإمام على تعنيف المُسيء وإخراج فِكرة الأعمال العدوانيَّة مِن رأسه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٦

الإيمان عمل كلُّه والقول بعضه

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له:

أيُّها العالِم، أخبرني أيُّ الأعمال أفضل عند الله؟

قال: (ما لا يقبل الله شيئاً إلاَّ به).

قلت: وما هو؟

قال: (الإيمان بالله الذي لا إله إلاّ هو أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حَظَّاً).

قال: قلت: ألا تُخبرني عن الإيمان، أهو قول وعمل، أم قول بلا عمل؟

فقال: (الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك العمل، بغرض مِن الله بُيِّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حُجَّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه).

قال: قلت: صِفه لي، جُعلت فداك! حتَّى أفهمه.

قال: (الإيمان حالات ودرجات وطبقات منازل، فمنه التامُّ المُنتهي تمامه، ومنه الناقص البيِّن نُقصانه، ومنه الراجح الزائد رُجحانه).

قلت: إنَّ الإيمان ليتمُّ وينقص ويزيد؟

قال: (نعم).

قلت: كيف ذلك؟

قال: (لأنَّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح (١) ابن آدم وقسَّمه عليها

____________________

(١) الجوارح في اللُّغة: هي الأعضاء التي بها يقوم الجسم بفعاليَّاته الإراديَّة، والتي يكسب بها الخير والشَّرَّ.

٣٠٧

وفرَّقه فيه، فليس مِن جوارحه حاجةً إلاَّ وقد وكِّلت مِن الإيمان بغير ما وكِّلت به أُختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا تَرِد الجوارح ولا تصدر إلاَّ عن رأيه وأمره...) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٨

مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله

إنَّ أعرابيَّاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

يا رسول الله، الرجل يُقاتل للمَغنم، والرجل يُقاتل ليُذكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٩

الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل الهِجرة، يغتنم فرصة تجمع القبائل والعشائر العربيَّة، التي كانت تَفِد على مَكَّة مِن كلِّ حَدبٍ وصوبٍ ليزورهم في مضاربهم يدعوهم إلى عبادة الأحد، وإلى التحرُّر مِن عبوديَّة الأصنام، ويُعلن لهم رسالة نبوَّته.

وذات مَرَّة، عندما كان التجمُّع قد اشتدَّ في مِنى، بدأ بإعلان دعوته، مُتَّجهاً أوَّلاً إلى مضارب بني كلب، ومِن ثمَّ إلى مضارب بني حنيفة، عارضاً على هاتين القبيلتين الدخول في الإسلام، ولكنَّهما رفضتا دعوته وردَّتاه، فاتَّجه إلى بني عامر وعرض عليهم الإسلام.

وكان رجل مِن رؤسائهم اسمه (بحيرة) قد جذبه مظهر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهجته الرصينة النافذة، فقال: لو أُتيح لي أنْ أستميل هذا الرجل عن قريش إليَّ، لاستطعت وبقُدرته أُسيطر على العرب جميعاً وأستحوذ على طاعتهم.

ثمَّ التفت إلى رسول الله وقال: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثمَّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر مِن بعدك؟

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء).

فقال له: أفتُهدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

لم يكن بنو عامر يُدركون ما في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يفهموا معنى أنْ يكون الأمر لله يضعه حيثُ يشاء. ولو أنَّ نبيَّ الإسلام قَبِلَ - يومذاك - ما طلبه (بحيرة) لكان يَعد بني عامر مِن بعده، ويُحيي آمالهم بالمُستقبل، ولالتفَّ حوله أبناء تلك

٣١٠

القبيلة، يضعون تحت أمره كلَّ ما كان فيهم مِن قوَّة وسلاح، ولكنَّ الإسلام ينتشر بسُرعة، وكان هذا بذاته يُعدُّ نجاحاً كبيراً، وفائدة عُظمى. وكان قائد الإسلام، المبعوث مِن الله لتربية الإنسان، والقدوة في مكارم الأخلاق، ما كان ليخطو خُطوة لا تَّتفق وشرف الإنسانيَّة، ولا يَعِدُ بما لا حقيقة له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١١

الماء لا يُمنَع عن أحد

صِفِّين أرض تقع غرب نهر الفرات بين (الرقة) و(بالس)، حيث دارت رحى حربٍ ضَروسٍ بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش مُعاوية، أصابت كلا الطرفين بخسائر كبيرة، فقد جاء في بعض الروايات أنَّ جيش علي (عليه السلام) ضَمَّ تسعين ألف جنديٍّ، بينما بلغ جيش مُعاوية مِئة وعشرون ألفاً.

كانت أرض صِفِّين مُرتفعة عن نهر الفرات، فكانوا يستخدمون الدلاء للاستقاء. ولكنْ في المناطق المزدحمة بالقوافل وبالأنعام والأغنام التي ترد الماء، لم يكن للدلاء نفع كبير، فكان الناس قد شقُّوا طريقاً في المناطق المُنخفضة للوصول إلى شريعة الماء بحيواناتهم وإبلهم فيَردِونها ويحملون مِن الماء ما يحتاجونه في رحلتهم.

في صِفِّين كانت الشريعة عريضة تَفي لسقي كلا الجيشين دون عناء، ولوصول الفُرسان إلى الماء، هُمْ وخيولهم، لحمل ما يحتاجون مِن الماء. وقبل اندلاع حرب صِفِّين، عزم مُعاوية بن أبي سفيان على الاستيلاء على شريعة الفرات، ومنع جيش علي (عليه السلام) مِن الوصول إلى الماء، للتضييق عليهم، والانتصار في الحرب. ونفَّذ معاوية عزمه، فوَكَل لحراسة الشريعة جيشاً قوامه أربعون ألف جنديٍّ بإمرة أبي الأعور؛ ليمنعوا جيش علي (عليه السلام) عن الماء.

وإذ حاول نفر مِن جنود الإمام الوصول إلى الماء، منعهم جنود مُعاوية، وتجالدوا ساعة، ثمَّ عاد جنود الإمام إلى مُعسكرهم دون ماء. وانتشر خبر ضرب الحصار على شريعة الفرات، فغضب جنود الإمام، وأرادوا أنْ يبدأوا الهجوم بأسرع ما يُمكن لطرد جيش مُعاوية عن شريعة الماء، ولكنَّ الإمام علي (عليه السلام) لم يكن يُريد أنْ يكون هو البادئ بالحرب، فيحتكم إلى السيف قبل إتمام الحُجَّة على مُعاوية وجيشه.

٣١٢

ولكي يُبيِّن الموقف، استدعى عبد الله بن بديل، وصعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، وطلب إليهم الذهاب إلى مُعاوية ليقولوا له: إنَّه لم يأت بجيشه ليُحارب على الماء، فليأمر مُعاوية جنوده بإخلاء طريقهم إلى الماء.

انطلق أعضاء الوفد إلى مُعاوية وأبلغوه رسالة الإمام (عليه السلام)، وتحدَّثوا بأنفسهم عن الأمر أيضاً، وراحوا يُحذِّرون مُعاوية مِن إراقة الدماء وإشعال الفتنة. كما أنَّ بعضاً مِن حاشية مُعاوية الذين حضروا المجلس أوردوا بعض الكلام، وكان بعضهم شديد المُعارضة لاحتكار الماء، غير أنَّ مُعاوية ظلَّ مُصرَّاً على موقفه وردَّ الوفد خائباً.

رجع أعضاء الوفد وشرحوا للإمام ما جرى في مجلس مُعاوية.

وإذ سمع الجيش بالخبر اشتدَّ به الغضب، وتهيَّأ لخوض معركة دامية. وبعد أنْ أرخى الليل سُدوله وغَطَّى الظلام كلَّ شيء، خرج الإمام علي (عليه السلام) مِن خيمته يتفقَّد العسكر، فسمع الجنود في خيامهم يتحدَّثون عن ظلم مُعاوية، ومُحاصرة شريعة الماء، ومُشكلة العطش. كانوا يترنَّمون بالشعر الحماسيِّ، ويتحاورون في شؤون الحرب وهم ينتظرن صدور الأمر بالحرب.

وعند عودته إلى خيمته، دخل عليه الأشعث بن قيس، ثمَّ مالك الأشتر وأخذا يشرحان ظروف فُقدان الماء واستعداد الجنود للمُباشرة بالحرب، وطلبا مِن الإمام أنْ يُصدِر أمره بالهجوم على جيش مُعاوية لتحرير شريعة الماء، وإنهاء هذه الحالة الشائنة. كان الإمام قد أوفد وفده إلى مُعاوية وأتمَّ الحُجَّة عليه دون أنْ ينصاع مُعاوية للحقِّ، فلم يجد الإمام (عليه السلام) بُدَّاً مِن أنْ يأمر ببدء الحرب، فخاطبهم قائلاً:

(فإن القوم قد بدأوكم بالظلم، وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعُدوان).

عاد مالك والأشعث إلى جنودهما قائلين لهم: مَن لا يخاف الموت فليتهيَّأ لبزوغ الفجر. فتطوَّع لذلك نحو اثني عشر ألف جنديٍّ. وبدأت الحرب عند بزوغ

٣١٣

الشمس. وكانت حرباً شديدة، قُتِل فيها مِن الجانبين خَلق كثير، ولكنَّ قتلى جيش الشام كان أكثر عدداً. وانتصر جيش الإمام (عليه السلام)، ودُحر جيش مُعاوية وانهزم ووقعت شريعة الماء بيد جيش الإمام.

بعد هذه الهزيمة سأل مُعاوية عمرو بن العاص: ما رأيك؟ ألا ترى أنَّ عليَّاً سيمنع الماء عنَّا؟ فردَّ عليه عمرو بن العاص قائلاً: لا أرى عليَّاً يمنع الماء عن مخلوق.

مضى على ذلك يومان مِن دون حادث بشأن الماء. وفي اليوم الثالث أرسل مُعاوية وفداً مؤلَّفاً مِن اثني عشر رجلاً إلى الإمام علي (عليه السلام) يستجيزونه في الاستسقاء، فقال قائلهم في حضرة الإمام (عليه السلام): ملكتَ فامنح، وجُد علينا الماء، وأعفُ عمَّا سلف مِن مُعاوية.

فقال لهم الإمام (عليه السلام): عودوا إلى مُعاوية وأبلغوه أنَّ أحداً لا يمنعهم عن الماء. وأمر أنْ يُنادى بذلك بين الجنود. فاستتبَّ الهدوء على شطِّ الفرات ثلاثة أيَّام، يَرِده كلا الطرفين. ولكنْ عادت إلى مُعاوية فِكرة الاستيلاء على الشطِّ واحتكار الماء، فبادر إلى خدعة يبعد بها جنود الإمام عن مواضعهم عند الشريعة، ليحتلَّ مواضعهم. فأمر أنْ يكتب على شاخص خشبي: يُحذِّركم واحد مِن عباد الله المُحبِّين لأهل العراق مِن أنَّ مُعاوية ينوي كسر سَدِّ الفرات ليَغرق الجنود على الشطَّ، فكونوا على حذر.

وفي الليل وضِع الشاخص في قوس ورُمي به بين جنود العراق. وعند طلوع الفجر لاحظ جنديٌّ الشاخص وقرأ ما عليه، وناوله غيره، حتَّى أوصلوه إلى الإمام (عليه السلام)، فقال: (هذه خدعة مِن مُعاوية، يُريد إرعابكم ليُشتَّتكم).

وعند الصُّبح شاهد العراقيُّون مئتين مِن جنود مُعاوية الأشدَّاء يحملون المعاول والمجارف، يقدمون إلى حيث سدِّ الفرات، وبدأوا التخريب فيه وهُمْ يتصايحون،

٣١٤

فصدَّق العراقيُّون مقولة صاحب الشاخص، وأنَّه قد نصح لهم، فارتأى القادة ورؤساء القبائل أنْ الصلاح في ترك شريعة الماء لينجوا بأنفسهم مِن خطر مُحتمل. ولم يأت المغرب حتَّى كانت الشريعة قد أُخليت مِن الجند ومِمَّا حولها مِن الخيام والمرابض.

وعند مُنتصف الليل أمر مُعاوية جنوده باحتلال الشريعة، وأنْ ينصبوا خيامهم بمكان خيام جند الإمام (عليه السلام). وعند الصُّبح أدرك العراقيُّون أنَّ مُعاوية قد خدعهم، وخجلوا مِن عدم تصديق الإمام، وندموا على ما فرط منهم، وجاء بعض الرؤساء يطلبون العفو مِن الإمام، ووعدوه ببذل كلِّ ما يستطيعون لجبر هذا الكسر الشائن. وتقدَّم مالك والأشعث يخطبان في الجنود، الذين كانوا يشعرون بالخجل وبالغضب، فأثارتهم خُطبهما وأهاجتهم، حتَّى إنَّهم جرَّدوا سيوفهم مِن أغمادها وتعاهدوا على الموت، وانحدروا نحو الميدان كالأسود الهائجة، واشتبكوا مع جُند مُعاوية في حرب ضَروس دمويَّة، فقُتل عدد مِن الجانبين، ولم ينقض النهار حتَّى ضعف جنود مُعاوية على المُقاومة وولُّوا الأدبار حتَّى ثلاثة فراسخ، وانتصر جيش الإمام علي (عليه السلام)، واستعاد سيطرته على شطِّ الفرات.

وتقدَّم الأشعث إلى الإمام علي (عليه السلام) يُهنِّئه بالانتصار ويستأذنه في منع الماء عن جيش مُعاوية، فرفض الإمام ذلك وقال: إنَّ الماء يجب أنْ يكون في مُتناول الجميع. ولكيلا يظنَّ مُعاوية أنَّه ممنوع مِن الماء، لم ينتظر الإمام مجيء وفد مِن مُعاوية، بلْ بادر بإرسال مبعوث يُخبر مُعاوية بأنَّه لا يُقابل عمله القبيح بمثله، وله أنْ يستقي لجنوده كالسابق.

٣١٥

هي حُرَّة لِمَمْشاك

عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بلي ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً فقال: يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.

قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق، فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله، فنظر إليه، فقال:

يا عليُّ غَيْرُ هذا أحبُّ إليَّ؛ أترى صاحبه يُقيلنا؟

فقلت: لا أدري.

فقال: انظُر.

فجئت إلى صاحبه، فقلت: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كره هذا، يُريد ثوباً دونه؛ فأقلنا فيه، فردَّ عليَّ الدراهم وجئت بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر فإذا جارية تبكي، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شأنك؟

قالت: يا رسول الله، إنَّ أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت، فلا أجسر أنْ أرجع إليهم.

أعطاها رسول الله أربعة دراهم وقال لها: إرجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله. وخرج فرأى رجلاً عُرياناً يقول: مَن كساني كساه الله مِن ثياب الجَنَّة، فخلع رسول الله قميصه الذي اشتراه وكسا السائل، ثمَّ رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله.

ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق.

فقال لها رسول الله: ما لك لا تأتين أهلك؟

٣١٦

قالت: يا رسول الله، إنِّي قد أبطأت عليهم وأخاف أنْ يضربوني.

فقال لها رسول الله: مُرِّي بين يديَّ ودُلِّيني على أهلك.

فجاء رسول الله حتَّى وقف بباب دارهم، ثمَّ قال:السلام عليكم يا أهل الدار. فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فلم يُجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوَّل السلام والثاني.

قالوا: يا رسول الله، سمعنا سلامك فأحببنا أنْ نستكثر منه.

فقال رسول الله: إنَّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله، هي حُرَّة لممشاك) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٧

الآن يدخل كلامي في أُذنك

في القَرن السادس الهِجري وصل (ابن سلاَّر) - وكان ضابطاً في الجيش المصري - إلى مقام الوزارة، وراح يحكم الناس بكلِّ اقتدار.

كان هذا مِن جِهة شجاعاً نشيطاً ذكيَّاً، وكان مِن جِهة أُخرى أنانيَّاً فظَّاً ظالماً، وقد خدم أثناء حُكمه كثيراً، كما ظلم كثيراً.

عندما كان (ابن سلار) ضابطاً في الجيش، حكم عليه بدفع غرامة، فشكا الأمر إلى (أبي الكرم) مُحاسب الديوان وأوضح له الأمر. غير أنَّ أبا الكرم أهمل كلامه بحَقٍّ أو بدون حَقٍّ، وقال له: إنَّ كلامك لا يدخل في أُذني. فغضب ابن سلار منه وحقد عليه، وما أنْ تسلَّم مقام الوزارة حتَّى انتهز الفرصة للانتقام، فألقى القبض عليه، وأمر أنْ يدقَّ في أُذنه مسمار طويلاً، فدقَّ حتَّى خرج مِن أُذنه الأُخرى. ومع كلِّ صرخة مِن صرخات أبي الكرم عند طَرق المسمار في أُذنه، كان ابن سلار يقول له: الآن يدخل كلامي في أُذنك. ثمَّ أمر بشنق جُثَّته الهامدة بتعليقه مِن المسمار الداخل في رأسه.

لقد جرح أبو الكرم خاطر ابن سلار وأصاب قلبه بكلامه. ولو كان ابن سلار مِن ذوي السجايا الإنسانيَّة، سليم الفكر، لبرئ جُرح قلبه بعد بضعة أسابيع أو شهور، ولنَسي تلك الحادثة المُرَّة، ولكنَّه كان مُصاباً في فكره بفساد الأخلاق، فلم يلتئم جُرحه بسبب أنانيَّته وحِقده وحُبِّه للانتقام.

ولهذا، وبعد مرور عِدَّة سنوات ووصوله إلى الوزارة، ونيله فرصة للانتقام، انتقم مِن ذلك الكلام الجارح، وشفى غليله، ولكنَّه في سبيل ذلك ارتكب عملاً وحشيَّاً بعيداً عن الإنسانيَّة، فقتل رجلاً شَرَّ قتلة بسبب ما تفوَّه به (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٨

لم يُعطَ أحدٌ شيئاً أضرَّ له في آخرته

مِن طلاقة لسانه

أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرابيٌّ وقال له:

ألستَ خيرنا أباً وأُمَّاً، وأكرمنا عقباً، ورئيسنا في الجاهليَّة والإسلام؟

فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: (يا أعرابيُّ، كمْ دون لسانك مِن حجاب؟).

قال: اثنان، شَفتان وأسنان.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (فما كان في واحد مِن هذين ما يردُّ عنَّا غرب لسانك هذا؟ أما إنَّه لم يُعطَ أحد في دنياه شيئاً هو أضرُّ له في آخرته مِن طلاقة لسانه. يا عليُّ، قُمْ فاقطع لسانه).

فظنَّ النّاس أنَّه يقطع لسانه، فأعطاه دراهم.

لقد كان كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث إنَّ الحاضرين حسبوا أنَّ عليَّاً (عليه السلام) سوف يقطع لسانه فعلاً، ولكنَّ قائد الإسلام أعرب بكلماته الشديدة عن عدم استحسانه لما تفوَّه به الأعرابي مِن جِهة، وأفهم الحُضَّار، مِن جِهة أُخرى، أنَّ التملُّق والمُداجاة مِن العيوب الخلقية الكبيرة وأنَّ على المسلمين أنْ يحذروا التخلُّق بمثل هذا الخُلق المُذلِّ الشائن (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٩

المجالس بالأمانة

قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام): إنَّ فلاناً ينسبك إلى أنَّك ضالٌّ مُبتدعٌ.

فقال للقائل: (ما رعيت حَقَّ مُجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدَّيت حَقِّي حيث أبلغتني عن أخي ما لستُ أعلمه).

عندما يسمع البعض أحداً يغتاب صاحباً له ينقلون إليه الغيبة، بدلاً مِن أنْ يدافعوا عنه، ظانِّين أنَّهم بهذا يُقدِّمون خِدمة لصاحبهم مِن جِهة بإطلاعه على ما يُقال عنه، ويكشفون له، مِن جِهة أُخرى، مقدار ما يُكنُّونه له مِن حُبٍّ وصداقة، ولكنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) اعتبر هذا العمل مُثيراً للفتنة ومِن العيوب المعنويَّة والسيِّئات الأخلاقيَّة، فقبَّح فعل النمَّام وانتقد عمله مِن جِهتين.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

حاصل هذا الاعتراض : إنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته ، أو من قدم قدرته قدم مقدوره ، وكلاهما باطل ؛ بل قدرته أزلية إجماعا ، متعلّقة في الأزل بمقدوراته.

فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا(٢) .

وأجاب شارح « المواقف » عن هذا الاعتراض بأنّ « القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهيّة للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم الحادثة عليه.

ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويا لا يترتّب عليه وجود الفعل ، ولها تعلّق آخر به حال حدوثه ، تعلّقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلّقها المعنوي قدم آثارها ، فاندفع الإشكال بحذافيره »(٣) .

وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحريّ أن يتعجّب من تعجّبه ؛ لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد ، وهي من صفات الكمال.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٨.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) شرح المواقف ٦ / ٩٦.

٣٤١

فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم كونها مؤثّرة في الفعل ، من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لا يبحث عنها؟!

وأمّا قوله : ( أن لا فرق بينها وبين اللون ) ؛ فقد أبطلنا هذا القول في ما سبق مرارا ، بأنّ اللون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ، ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتّب على فعله الثواب والعقاب والتكليف ؛ والله أعلم.

قال الإمام الرازي : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة(١) الحيوانية ، وهي القوّة العضلية التي هي بحيث متى انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين ، حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر ، حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل.

والقدرة أيضا تطلق على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلّا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ؛ وذلك لاختلاف الشرائط وهذه القدرة مع الفعل ؛ لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثّر التامّ(٢) .

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولذلك حكم بأنّها مع الفعل ، وأنّها لا تتعلّق بالضدّين.

والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوّة العضلية ، فلذلك قالوا بوجودها

__________________

(١) انظر : المواقف : ١٥٤ ، وجاء في تفسير الفخر الرازي ١ / ١٤٦ ما نصّه : « وأعلم أنّ لفظ القوّة يقرب من لفظ القدرة » وهو مؤدّى « القدرة تطلق على مجرّد القوّة » ، فلاحظ!

(٢) انظر : شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٣٦١.

٣٤٢

قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المتضادّة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين(١) .

وبهذا يخرج جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » فإنّه غير قادر ، بمعنى أنّه لم يحصل له بعد القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضلية.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٦ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٤٣

وأقول :

لا أثر لمخالفة القدرة القديمة للحادثة في الماهيّة ؛ لأنّ دليل الأشاعرة السابق المانع من تقدّم القدرة الحادثة آت في القديمة أيضا ، كدليلهم الآخر الآتي في كلام القوشجي.

على أنّ المخالفة ممنوعة بمقتضى مذهبهم ؛ لأنّ القدرتين من الأعراض واقعا في مذهبهم ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.

قال القوشجي : « احتجّت الأشاعرة على أنّ القدرة مع الفعل لا قبله بوجهين :

أحدهما : إنّها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لا نعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلّة ، وهو محال.

وأجيب عنه : أمّا أوّلا : فبالنقض بقدرة الله تعالى ، وما يقال من أنّ العرض لا يطلق على صفاته تعالى ، وأنّ صفاته ليست مغايرة لذاته ، فممّا لا يجدي نفعا ، ولأنّ الكلام في المعاني لا في إطلاق الألفاظ »(١) .

وأمّا قول شارح « المواقف » : « ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل » إلى آخره(٢) .

ففيه : إنّه إذا جاز ذلك في القديمة فليجز مثله في الحادثة ، بأن تكون

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٦٢.

(٢) شرح المواقف ٦ / ٩٦.

٣٤٤

نفسها وتعلّقها المعنوي متقدّمين على الفعل كما هو المطلوب ، إذ لا ندّعي تقدّمها على الفعل بتعلّقها الموجب لوجوده.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن تعجّب المصنّف ، فقد مرّ ما فيه ، من أنّ البحث عن تقدّمها أو مقارنتها ، إنّما هو فرع تأثيرها ومبنيّ عليه ، فإذا زعموا أنّها غير مؤثّرة ، كان بحثهم عن جهة التقدّم والمقارنة فضولا ، وإن كان البحث عنها من جهة أخرى صحيحا.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة واللون

ففيه : إنّ المطلوب هو الفرق بالنسبة إلى الدخل بالفعل ، لا الفرق بأيّ وجه كان ، وما ذكره من صورة الاختيار ، قد عرفت أنّه لا فائدة فيه مع عدم تأثير القدرة.

على أنّه لا يتوقّف خلق صورة الاختيار على خلق القدرة بعد فرض عدم الأثر لهما.

كما إنّ القدرة بلا تأثير لا تصحّح العقاب والثواب ، ولا تخرج العبد عن الجبر الحقيقي.

وأمّا كلام الرازي ، فهو في الحقيقة تسليم منه لخصومهم ؛ لأنّ محلّ النزاع هو المعنى الأوّل ، الذي لا يخالف المعنى الثاني بذات القدرة ، وإنّما يخالفه بعدم اجتماع شرائط تأثيرها.

كما إنّ احتمال الرازي لإرادة الأشعري للمعنى الثاني خطأ ، كما ذكره شارح « المواقف » ؛ لأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثّرة عند الأشعري ، فكيف يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير؟!

وأمّا ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب ابن سينا

ففيه : ما حكاه السيّد السعيد عن ابن سينا في كلام له متّصل بهذا

٣٤٥

الجواب ، فإنّه صرّح به بأنّ : القدرة ليست إلّا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّ على من فسّرها بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

ونقل السيّدرحمه‌الله أيضا عن ابن سينا أنّه أبطل القول بأنّ القدرة مع الفعل ، حيث إنّه في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز ، من « إلهيّات الشفاء » قال : « وقد قال بعض الأوائل ـ وغاريقون منهم ـ : إنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم.

وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير.

فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد ليس يقوى على القيام ، أي :

لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟! وإنّ الخشب ليس بجبلّته أن ينحت بابا ، فكيف ينحت؟!

وهذا القائل لا محالة غير قوي على أنّ يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى »(١) .

* * *

__________________

(١) الإلهيّات من كتاب الشفاء : ١٨٢ ، إحقاق الحقّ ٢ / ١٥١.

٣٤٦

القدرة صالحة للضدّين

قال المصنّف ـ عطّر الله مرقده ـ(١) :

المطلب الرابع عشر

في أنّ القدرة صالحة للضدّين

ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فإنّهم قالوا : القدرة غير صالحة للضدّين(٢) ، وهذا مناف لمفهوم القدرة ، فإنّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك.

فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير ، لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٠.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٤ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٦ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٣ ، المواقف : ١٥٣ ، شرح المواقف ٦ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

٣٤٧

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين ، بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله.

بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا ، سواء كانا متضادّين أو متماثلين أو مختلفين ، لا معا ولا على سبيل البدل ، بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلّا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور(٢) .

ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر.

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة(٣) .

وأنا أقول : ولعلّ النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلّقا بمقدور واحد ، وهو الكائن عند حدوث الفعل ، فكلّ فرد له متعلّق.

والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد.

والمعتزلي لا يقول : إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٥٢.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٢٦ ، المواقف : ١٥٣.

(٣) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٤١٥ ، شرح المواقف ٦ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ٨٥ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٣.

٣٤٨

وحصل منه الفعل ، فعين ذلك الفرد يتعلّق بضده ، بل يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنزاع لفظي ؛ تأمّل.

وأمّا ما ذكره من : « أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا ؛ لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرّا لا قادرا ».

فالجواب عن ذلك : إنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور له ، فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن ، وأنّه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه

ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ، فإنّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا يرى أنّ من أحاط به بناء من جميع جوانبه ، بحيث يعجز عن التقلّب من جهة إلى أخرى ، فإنّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم ، مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٦ / ١٠٤.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تعلّق القدرة بالشيء قد يكون بمعنى أنّه إن شاء فعله فعله ، وإن شاء تركه تركه ، وهو معنى صحّة الطرفين وصلاحيّتهما.

وقد يكون بمعنى تأثيرها في متعلّقها ، وهذا بالضرورة لا يقع بالطرفين ؛ لأنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، لعدم إمكان اجتماعهما.

ولا ريب أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في المعنى الأوّل ، إذ لو كان مقصود الأشاعرة هو المعنى الثاني ، لاستدلوا بما هو ضروري ، من أنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، ولم يحتاجوا إلى كلفة بنائه على مقارنة القدرة للمقدور التي تمحّلوا للاستدلال عليها.

وحينئذ فلا وجه لما زعمه الخصم من كون النزاع لفظيا ؛ لأنّه إذا كان محلّ النزاع هو التعلّق بالمعنى الأوّل كما عرفت ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القدرة المطلقة ؛ لأنّها هي التي تصلح للنقيضين ، لا فرد القدرة الخاصّ الجامع لشرائط التأثير ؛ لأنّه إنّما يكون فردا خاصّا عند التأثير بأحد الطرفين ، فلا يمكن أن يصلح في هذا الحين للتأثير بالطرف الآخر.

ولا يخفى أنّ هذا الذي جمع به الخصم وأظهر التفرّد به راجع إلى ما جمع به الرازي ؛ لأنّ القدرة المطلقة هي القوّة العضلية ، وفردها هو القوّة

٣٥٠

المستجمعة لشرائط التأثير(١) .

وأمّا ما أجاب به عن إلزام المصنّف ، فمناف لما توهّمه من كون النزاع لفظيا ، إذ لو سلّموا تعلّق القدرة المطلقة بالطرفين ، كما هو محلّ دعوى المصنّف ، لقال : نحن لا نمنع هذا حتّى ينافي مفهوم القدرة ، وإنّما نمنع تعلّق فردها بالطرفين وهو لا ينافي مذهبكم.

ولكن قد يعذر الخصم على إتيان هذه المنافاة ؛ لأنّه لا يعرف من الاستدلال والردّ إلّا ما في « المواقف » وشرحها ، كما هو دأبه في هذا الكتاب ، وقد وجد هذا الكلام في « شرح المواقف » فأورده بلفظه جهلا بأنّه ينفي ما توهّمه(٢) .

ثمّ إنّه واضح البطلان ؛ لأنّا نختار منه الشقّ الأوّل من ترديده ، ونحكم بسفسطة مانعه ، إذ لو كان الفعل الذي لا يتمكّن فاعله من تركه مقدورا له ، لكان كلّ فعل تلبّس به الشخص ولم يقدر على تركه مقدورا له ، وكذا كلّ ترك تلبّس به ولم يقدر على نقيضه

فيكون من سقط من شاهق قادرا على هذا السقوط في حين السقوط ، وكان تارك الطيران إلى السماء قادرا على الترك ، وهو عين السفسطة.

ومن هذا القبيل مثال البناء الذي ذكره ، فإنّ دعوى قدرة من أحاط به البناء وعجز عن التقلّب شبيهة بدعوى القدرة في هذه الأمثلة.

نعم ، هو قادر على الكون في البناء المذكور ، وعلى السقوط في

__________________

(١) تقدّم قول الفخر الرازي في الصفحة ٣٤٢.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ١٠٤.

٣٥١

المثال السابق ، قبل الكون وقبل السقوط ، وأمّا حينهما فهما غير مقدورين له في هذا الحين

وضرورة العقلاء حاكمة بذلك ، ودعوى الإجماع منّا ومنهم مع وضوح الكذب علينا غير غريبة!

* * *

٣٥٢

الإنسان مريد لأفعاله

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المطلب الخامس

عشر في الإرادة

ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فإنّه مريد ؛ لأنّها صفة تقتضي التخصيص ، وأنّها نفس الداعي(٢) .

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فأثبتوا صفة زائدة عليه(٣) .

وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ؛ لأنّ الفعل إذا كان صادرا عن الله تعالى ومستندا إليه ، وكان لا مؤثّر إلّا الله تعالى ، فأيّ دليل حينئذ يدلّ على ثبوت الإرادة؟! وكيف يمكن ثبوتها لنا؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣١.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ـ ٩٣ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ٩٧ ـ ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٦٢ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩ ، المحيط بالتكليف : ٢٣٢ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٢٤ ـ ٣٤٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٤.

(٣) الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٣ وما بعدها ، تمهيد الأوائل : ٢٩٩ و ٣١٧ ، الملل والنحل ١ / ٨٢ ـ ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٠٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٤٣ ، المسائل الخمسون : ٥٢ و ٥٣ ، شرح المقاصد ٤ / ١٢٨ و ٢٧٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٥٣

لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على الفعل ، كذا يقدر على الترك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والترك ، وإنّما يتخصّص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع.

فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز له اتّباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات؟!

وهل يشكّ عاقل في أنّه قادر مريد ، وأنّه فرق بين حركاته الإرادية وحركة الجماد؟!

وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربّه؟!

وهل تتمّ له المحاجّة عند الله تعالى بأنّي اتّبعت هؤلاء ، ولا يسأل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟!

وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز مطلقا؟!

فكيف لأمثال هؤلاء؟!

فما يكون جوابه غدا لربّه؟!

وما علينا إلّا البلاغ المبين!

وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضالّ عن زلله ، ويستمرّ المستقيم على معتقده.

* * *

٣٥٤

وقال الفضل (١) :

هذا المطلب لا يتحصّل مقصوده من عباراته الركيكة ، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وأنّه لا مؤثّر إلّا هو ، يوجب عدم إثبات صفة الإرادة.

وقد علمت في ما سلف بطلان هذا ، فإنّ وجود القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثّرتين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد ـ كما مرّ مرارا ـ والله أعلم.

وما ذكره من الطامّات قد كرّره مرّات ، ومن كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل ، وما أحسن ما قلت في تطويلاته شعرا :

لقد طوّلت والتطويل حشو

وفي ما قلته نفع قليل

وقالوا الحشو لا التطويل لكن

كلامك كلّه حشو طويل

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦١.

٣٥٥

وأقول :

لم يخف على المصنّف أنّ وجود القدرة والإرادة في العبد ضروري ، كيف وقد صرّح به هنا ، وصرّح في ما سبق بأنّهما مؤثّران بالضرورة؟!

ولكن لمّا علم من حالهم أنّهم يكابرون الضرورة ، ويطالبون بإقامة الأدلّة على الأمور البديهية ، كما كابروا في أمر تأثيرهما وفي غيره من الأمور السابقة ، جرى على منوالهم في المقام ، وألزمهم بعدم وجود الدليل على وجود القدرة والإرادة ، بناء على مذهبهم من كون المؤثّر هو الله تعالى وحده ، بل يلزمهم الحكم بعدم وجود الإرادة ، إذ لا يتصوّر وجه حاجة إليها غير تخصيص أحد الطرفين المقدورين.

فإذا منعوا صلاحية القدرة للطرفين وقالوا : إنّها هي المخصّصة لأحدهما ، لم يكن معنى لتخصيص الإرادة ، فيلزمهم نفي وجود ما علم وجوده بالضرورة ، وينسدّ طريق ثبوته ، لا سيّما والله سبحانه لا يفعل العبث.

ودعوى الأشاعرة ترتّب التكليف والثواب والعقاب على وجودها المجرّد عن التأثير ، قد عرفت بطلانها.

وأمّا ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات ، وإيراد الحشو في العبارات ، فهو موكول إلى المنصف.

وكفاك في معرفة تضلّعه في البيان وسموّ مداركه ، ما سمّاه شعرا واستحسنه من هذين البيتين ونحوهما!!

* * *

٣٥٦

المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب السادس عشر

في المتولّد

ذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد من أفعالنا [ مستند إلينا ](٢) .

وخالفت أهل السنّة في ذلك ، وتشعّبوا في ذلك ، وذهبوا كلّ مذهب.

فزعم معمّر(٣) : إنّه لا فعل للعبد إلّا الإرادة ، وما يحصل بعدها فهو

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٢.

(٢) أوائل المقالات : ١٠٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ، تقريب المعارف : ١٠٨ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٠.

(٣) هو : أبو عمرو ـ أو : أبو المعتمر ـ معمّر بن عبّاد البصري السلمي ، مولاهم العطّار ، المتكلّم المعتزلي ، المتوفّى سنة ٢١٥ ه‍ ، تفرّد بمقالات أنكرها عليه معتزلة البصرة ففرّ إلى بغداد ، وكان يقول : « في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار » ، وكان بينه وبين النظّام مناظرات ومنازعات ، له عدّة تصانيف ، منها : كتاب المعاني ، كتاب الاستطاعة ، كتاب الجزء الذي لا يتجزّأ والقول بالأعراض والجواهر.

انظر ترجمته في : الفهرست ـ للنديم ـ : ٢٨٩ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٤٦ رقم ١٧٦ ، طبقات المعتزلة : ٥٤.

٣٥٧

من طبع المحلّ(١) .

وقال بعض المعتزلة (٢) : لا فعل للعبد إلّا الفكر(٣) .

وقال النظّام : لا فعل للعبد إلّا ما يوجد في محلّ قدرته ، وما يجاورها فهو واقع بطبع المحلّ(٤) .

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد من فعل الله تعالى(٥) .

وقد خالف الكلّ ما هو معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل

فإنّا نستحسن المدح والذمّ على المتولّد كالمباشر ، كالكتابة والبناء والقتل ، وغيرها.

وحسن المدح والذمّ فرع على العلم بالصدور عنّا ، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبنّاء المجيدين في صنعتهما ، البارعين فيها ، فقد كابر مقتضى عقله(٦) .

* * *

__________________

(١) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ وفيه أنّه قول ثمامة بن الأشرس والجاحظ أيضا حكاية عن أبي القاسم البلخي في كتاب « المقالات » ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٧ ، الملل والنحل ١ / ٥٩ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) هو ثمامة بن الأشرس النميري.

(٣) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ ، الفرق بين الفرق : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٦١ ـ ٦٢ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٢.

(٤) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٩ / ١١ ، الملل والنحل ١ / ٤٩ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٦٠.

(٥) تمهيد الأوائل : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٠ ، المواقف : ٣١٦ ، شرح العقائد النسفية : ١٥١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧١.

(٦) راجع : الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ـ ٧٥ ، تقريب المعارف : ١٠٨ ـ ١٠٩.

٣٥٨

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ، ورأوا فيها ترتّبا ، قالوا بالتوليد ، وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخر ، نحو حركة اليد وحركة المفتاح.

والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الكائنات إلى الله تعالى ابتداء.

وأمّا ترتّب المدح والذمّ للعبد ؛ فلأنّه محلّ للفعل ومباشر وكاسب له.

وكذا ما يترتّب على فعله(٢) وإن أحدثه الله تعالى بقدرته ، فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرّ مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٦٥.

(٢) تقدّم في الهامش رقم ٥ من الصفحة السابقة.

٣٥٩

وأقول :

فيه ما عرفت أنّه لا يصحّ إسناد جميع أفعال العباد إلى الله سبحانه ، وأنّ الكسب لا يغني في دفع شيء من الإشكالات السابقة ، إذ لا أثر للعبد فيه كأصل الفعل ، لاستناد جميع الكائنات عندهم إلى الله سبحانه.

وحينئذ فلا محلّ لمدح العبد وذمّه على المتولّد بطريق أولى ؛ لأنّه فعل الله تعالى بلا أثر للعبد فيه أصلا عندهم.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421