القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359925 / تحميل: 10441
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأدب خير مِن الذهب

يقول علي الإسكافي:

كنت حاجب أمير بغداد، وكنت أؤدِّي وظائف الحجابة وقد ساءت أوضاعي وأخذ الأمير يشكُّ بي، فأصدر أمراً بسجني ومُصادرة أموالي كلِّها، وسُجنت فترةً مِن الزمن وعانيت الذِّلَّ واليأس والألم.

في أحد الأيَّام أخبرني شرطة السجن بمجيء إسحاق بن إبراهيم الطاهري، رئيس شرطة بغداد وذلك لإحضاري، فانتابني القلق كثيراً، وخفت على حياتي فيئستُ مِن الحياة، ثمَّ اقتادوني إليه فسلَّمت عليه باحترام.

ضحك إسحاق وقال: إنَّ أخي عبد الله بن طاهر بعث لي برسالة مِن خراسان يتشفع لك، وقد وافق أمير بغداد على شفاعتي.

أصدر الأمير أمراً بإطلاق سراحي مِن السجن وأرجع جميع أموالي، ثمَّ قال لي: الآن يُمكنك الذهاب إلى بيتك فشكرت الله، ومِن شِدَّة الفرح انهمرت دموعي.

في اليوم الثاني ذهبت لزيارة الأمير إسحاق الطاهري، وشكرته على صنيعه الحسن، ودعوت الله له بالخير وقلت له: إنِّي لم أحضر لزيارة عبد الله وهولا يعرفني، فما هو السبب في عَطفه عليَّ وعنايته بيَّ.

فقال: قبل عِدَّة أيَّام وصلت رسالة مِن أخي وكتب فيها ما يلي: كانت مكاتيب أمير بغداد قبل الآن تُشعر باللُّطف والمُودَّة والمحبَّة، وكان حاجب الأمير يكتب عبارات رائقة، وكانت تلك الرسائل السبب في استحكام العَلاقات الحَسنة وتقوية العواطف والأُلفة فيما بيننا، وبعد مُدَّة تغيَّرت لهجة الرسائل، وبدت فيها الخشونة والسماجة.

ويقول: إنَّ هذه التغيُّرات كانت مِن قِبَل الأمير، حيث عزل الحاجب وسجنه

٣٠١

واستبدل بغيره، ولكن الحاجب السابق كان شخصاً عارفاً بوظيفته، وله أُسلوب خاصٌّ بكتابة الرسائل، وكان يُراعي مراتب الأدب والاحترام؛ فتجب مُساعدته ومعرفة معصيته، فإذا كانت قبالة للعفو فأنا أعفو عنه، وإذا كانت لمال فيُسدَّد مِن حسابي. اطُلب مِن الأمير العفو عنه وإرجاعه إلى عمله السابق.

وأنا قد أدَّيت رسالة أخي إلى الأمير، ولحُسن الحظِّ فقد قُبلت شفاعته عند الأمير.

بعد هذا التفصيل مِن قبل إسحاق الطاهري، أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه هديَّة الأمير لحُبِّه لك، وبعد عِدَّة أيَّام رجعت إلى عملي السابق حاجباً للأمير، ورجعت عِزَّتي مَرَّة أُخرى، وحُلَّت مشاكلي واحدة تلو الأُخرى (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٢

.. والعافين عن الناس

والله يُحبُّ المُحسنين

أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد، قال: حدَّثني جَدَّي، قال: حدَّثني محمد بن جعفر وغيره، قالوا: وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل مِن أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يُكلِّمه. فلمَّا انصرف قال لجُلسائه: (قد سمعتم ما قال الرجل، وأنا أُحبُّ أنْ تبلغوا معي إليه حتَّى تسمعوا مِنِّي رَدِّي عليه).

قال: فقالوا له: نفعل، وقد كنَّا نُحبُّ أنْ تقول له وتقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: ( ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

فعلمنا أنَّه لا يقول له شيئاً.

قال: فخرج حتَّى أتى منزل الرجل، فنادى عليه، قال: (قولوا له: هذا علي بن الحسين).

قال: فخرج إلينا مُتوثِّباً للشَّرِّ، وهو لا يشكُّ أنَّه إنَّما جاء مُكافئاً له على ما كان منه: فقال له علي بن الحسين (عليه السلام):

(يا أخي، إنَّك كنت وقفت عليَّ آنفاً وقلت، فإنْ كنتَ قد قلتَ ما فيَّ، فأنا أستغفر الله منه، وإنْ كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ، غَفر الله لك).

قال: فقبَّل الرجل ما بين عينيه وقال: بلى، قلت ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به.

كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قادراً على التحدُّث مع ذلك الرجل بخشونة، وعلى معُاقبته بموجب الموازين الشرعيَّة، ولكنَّه - فَضلاً عن كونه لم يشتدَّ في الكلام معه ولم يُعاقبه، فإنَّه - واجهه بكلِّ نُبل وأدب، وقابل عمله السيِّئ بالإحسان، فناداه أوَّلاً بـ: (يا أخي)، فأوجد بذلك جوَّاً مِن المَحبَّة والتفاهُم، ومِن ثمَّ أشار إلى أقواله. وعلى الرغم مِن وضوح الحقيقة، ومِن معرفة كليهما بمَن هو المُذنب، فإنَّ الإمام السّجاد (عليه السلام) لم يتَّهمه بالذنب، بلْ طلب مِن الله المغفرة للمُذنب الحقيقيِّ، بادئاً بنفسه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٣

ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك

حُكي أنَّ مالكاً الأشتر كان يجتاز سوق الكوفة، وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السَّوقة فازدرى زيَّه، فرماه ببندقة تهاوناً به.

فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك! أتدري مَن رميت؟!

فقال: لا.

قيل له: هذا مالك، صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يُصلِّي فلمَّا انفتل، أكبَّ الرجل على قدميه يُقبِّلهما، فقال: ما الأمر؟

قال: أعتذر إليك مِمَّا صنعت.

فقال: لا بأس عليك؛ فوالله، ما دخلت المسجد إلاَّ لأستغفرنَّ لك (١).

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٤

مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً

عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال:

(كان علي (عليه السلام) إذا صلَّى الفجر لم يزل مُعقبِّاً إلى أنْ تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفُقراء والمساكين وغيرهم مِن الناس فيُعلِّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه مِن مجلسه ذلك، فقام يوماً فمَرَّ برجل فرماه بكلمةِ هجوٍ - قال: ولم يُسمِّه محمد بن علي (عليه السلام) - فرجع عَوده على بدئه، حتَّى صعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة.

فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّه ليس شيء أحبُّ إلى الله، ولا أعمَّ نفعاً مِن حِلم إمام وفقهه.

ولا شيء أبغض إلى الله ولا أعمَّ ضرراً مِن جهل إمام وخرقِهِ.

ألاْ وإنَّه مَن لم يكن له في نفسه واعظ لم يكن له مِن الله حافظ.

ألاْ وإنَّه مَن أنصف مِن نفسه لم يزده الله إلاَّ عِزَّاً.

ألا وإنَّ الذِّلَّ في طاعة الله أقرب إلى الله مِن التعزُّز في معصيته.

أما إنِّي لو أشاء لقلت..

فقال رجل: أو تعفو وتصفح فأنت أهلٌ لذلك.

فقال: عفوت وصفحت).

كثيراً ما اتَّفق في حياة الإمام علي (عليه السلام) أنْ تَجرَّأ عليه بعض الجَهلة، وافتروا عليه بعض الأقاويل، فعفا عنهم الإمام وقابل إساءتهم بالإحسان؛ إذ إنَّ العفو عنهم

٣٠٥

والتغاضي عن إساءاتهم لم يكن ليَنتج عنهما أيُّ ضررٍ، بلْ كانا أحياناً يُعتبران نوعاً مِن العقاب لهم على ترك هذه الرذيلة. ولكنْ في مثل هذه الحالات كان العفو مع السكوت يُسبب أضراراً، لأنَّ العفو مِن دون قيد ولا شرط كان كفيلاً بأنْ يُحمل على ضعف الإمام، وربَّما حمل المُسيء على المضيِّ في إساءاته أكثر؛ ولهذا عزم الإمام على تعنيف المُسيء وإخراج فِكرة الأعمال العدوانيَّة مِن رأسه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٦

الإيمان عمل كلُّه والقول بعضه

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له:

أيُّها العالِم، أخبرني أيُّ الأعمال أفضل عند الله؟

قال: (ما لا يقبل الله شيئاً إلاَّ به).

قلت: وما هو؟

قال: (الإيمان بالله الذي لا إله إلاّ هو أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حَظَّاً).

قال: قلت: ألا تُخبرني عن الإيمان، أهو قول وعمل، أم قول بلا عمل؟

فقال: (الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك العمل، بغرض مِن الله بُيِّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حُجَّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه).

قال: قلت: صِفه لي، جُعلت فداك! حتَّى أفهمه.

قال: (الإيمان حالات ودرجات وطبقات منازل، فمنه التامُّ المُنتهي تمامه، ومنه الناقص البيِّن نُقصانه، ومنه الراجح الزائد رُجحانه).

قلت: إنَّ الإيمان ليتمُّ وينقص ويزيد؟

قال: (نعم).

قلت: كيف ذلك؟

قال: (لأنَّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح (١) ابن آدم وقسَّمه عليها

____________________

(١) الجوارح في اللُّغة: هي الأعضاء التي بها يقوم الجسم بفعاليَّاته الإراديَّة، والتي يكسب بها الخير والشَّرَّ.

٣٠٧

وفرَّقه فيه، فليس مِن جوارحه حاجةً إلاَّ وقد وكِّلت مِن الإيمان بغير ما وكِّلت به أُختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا تَرِد الجوارح ولا تصدر إلاَّ عن رأيه وأمره...) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٨

مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله

إنَّ أعرابيَّاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

يا رسول الله، الرجل يُقاتل للمَغنم، والرجل يُقاتل ليُذكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٠٩

الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل الهِجرة، يغتنم فرصة تجمع القبائل والعشائر العربيَّة، التي كانت تَفِد على مَكَّة مِن كلِّ حَدبٍ وصوبٍ ليزورهم في مضاربهم يدعوهم إلى عبادة الأحد، وإلى التحرُّر مِن عبوديَّة الأصنام، ويُعلن لهم رسالة نبوَّته.

وذات مَرَّة، عندما كان التجمُّع قد اشتدَّ في مِنى، بدأ بإعلان دعوته، مُتَّجهاً أوَّلاً إلى مضارب بني كلب، ومِن ثمَّ إلى مضارب بني حنيفة، عارضاً على هاتين القبيلتين الدخول في الإسلام، ولكنَّهما رفضتا دعوته وردَّتاه، فاتَّجه إلى بني عامر وعرض عليهم الإسلام.

وكان رجل مِن رؤسائهم اسمه (بحيرة) قد جذبه مظهر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهجته الرصينة النافذة، فقال: لو أُتيح لي أنْ أستميل هذا الرجل عن قريش إليَّ، لاستطعت وبقُدرته أُسيطر على العرب جميعاً وأستحوذ على طاعتهم.

ثمَّ التفت إلى رسول الله وقال: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثمَّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر مِن بعدك؟

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الأمر إلى الله يضعه حيثُ يَشاء).

فقال له: أفتُهدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

لم يكن بنو عامر يُدركون ما في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يفهموا معنى أنْ يكون الأمر لله يضعه حيثُ يشاء. ولو أنَّ نبيَّ الإسلام قَبِلَ - يومذاك - ما طلبه (بحيرة) لكان يَعد بني عامر مِن بعده، ويُحيي آمالهم بالمُستقبل، ولالتفَّ حوله أبناء تلك

٣١٠

القبيلة، يضعون تحت أمره كلَّ ما كان فيهم مِن قوَّة وسلاح، ولكنَّ الإسلام ينتشر بسُرعة، وكان هذا بذاته يُعدُّ نجاحاً كبيراً، وفائدة عُظمى. وكان قائد الإسلام، المبعوث مِن الله لتربية الإنسان، والقدوة في مكارم الأخلاق، ما كان ليخطو خُطوة لا تَّتفق وشرف الإنسانيَّة، ولا يَعِدُ بما لا حقيقة له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١١

الماء لا يُمنَع عن أحد

صِفِّين أرض تقع غرب نهر الفرات بين (الرقة) و(بالس)، حيث دارت رحى حربٍ ضَروسٍ بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش مُعاوية، أصابت كلا الطرفين بخسائر كبيرة، فقد جاء في بعض الروايات أنَّ جيش علي (عليه السلام) ضَمَّ تسعين ألف جنديٍّ، بينما بلغ جيش مُعاوية مِئة وعشرون ألفاً.

كانت أرض صِفِّين مُرتفعة عن نهر الفرات، فكانوا يستخدمون الدلاء للاستقاء. ولكنْ في المناطق المزدحمة بالقوافل وبالأنعام والأغنام التي ترد الماء، لم يكن للدلاء نفع كبير، فكان الناس قد شقُّوا طريقاً في المناطق المُنخفضة للوصول إلى شريعة الماء بحيواناتهم وإبلهم فيَردِونها ويحملون مِن الماء ما يحتاجونه في رحلتهم.

في صِفِّين كانت الشريعة عريضة تَفي لسقي كلا الجيشين دون عناء، ولوصول الفُرسان إلى الماء، هُمْ وخيولهم، لحمل ما يحتاجون مِن الماء. وقبل اندلاع حرب صِفِّين، عزم مُعاوية بن أبي سفيان على الاستيلاء على شريعة الفرات، ومنع جيش علي (عليه السلام) مِن الوصول إلى الماء، للتضييق عليهم، والانتصار في الحرب. ونفَّذ معاوية عزمه، فوَكَل لحراسة الشريعة جيشاً قوامه أربعون ألف جنديٍّ بإمرة أبي الأعور؛ ليمنعوا جيش علي (عليه السلام) عن الماء.

وإذ حاول نفر مِن جنود الإمام الوصول إلى الماء، منعهم جنود مُعاوية، وتجالدوا ساعة، ثمَّ عاد جنود الإمام إلى مُعسكرهم دون ماء. وانتشر خبر ضرب الحصار على شريعة الفرات، فغضب جنود الإمام، وأرادوا أنْ يبدأوا الهجوم بأسرع ما يُمكن لطرد جيش مُعاوية عن شريعة الماء، ولكنَّ الإمام علي (عليه السلام) لم يكن يُريد أنْ يكون هو البادئ بالحرب، فيحتكم إلى السيف قبل إتمام الحُجَّة على مُعاوية وجيشه.

٣١٢

ولكي يُبيِّن الموقف، استدعى عبد الله بن بديل، وصعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، وطلب إليهم الذهاب إلى مُعاوية ليقولوا له: إنَّه لم يأت بجيشه ليُحارب على الماء، فليأمر مُعاوية جنوده بإخلاء طريقهم إلى الماء.

انطلق أعضاء الوفد إلى مُعاوية وأبلغوه رسالة الإمام (عليه السلام)، وتحدَّثوا بأنفسهم عن الأمر أيضاً، وراحوا يُحذِّرون مُعاوية مِن إراقة الدماء وإشعال الفتنة. كما أنَّ بعضاً مِن حاشية مُعاوية الذين حضروا المجلس أوردوا بعض الكلام، وكان بعضهم شديد المُعارضة لاحتكار الماء، غير أنَّ مُعاوية ظلَّ مُصرَّاً على موقفه وردَّ الوفد خائباً.

رجع أعضاء الوفد وشرحوا للإمام ما جرى في مجلس مُعاوية.

وإذ سمع الجيش بالخبر اشتدَّ به الغضب، وتهيَّأ لخوض معركة دامية. وبعد أنْ أرخى الليل سُدوله وغَطَّى الظلام كلَّ شيء، خرج الإمام علي (عليه السلام) مِن خيمته يتفقَّد العسكر، فسمع الجنود في خيامهم يتحدَّثون عن ظلم مُعاوية، ومُحاصرة شريعة الماء، ومُشكلة العطش. كانوا يترنَّمون بالشعر الحماسيِّ، ويتحاورون في شؤون الحرب وهم ينتظرن صدور الأمر بالحرب.

وعند عودته إلى خيمته، دخل عليه الأشعث بن قيس، ثمَّ مالك الأشتر وأخذا يشرحان ظروف فُقدان الماء واستعداد الجنود للمُباشرة بالحرب، وطلبا مِن الإمام أنْ يُصدِر أمره بالهجوم على جيش مُعاوية لتحرير شريعة الماء، وإنهاء هذه الحالة الشائنة. كان الإمام قد أوفد وفده إلى مُعاوية وأتمَّ الحُجَّة عليه دون أنْ ينصاع مُعاوية للحقِّ، فلم يجد الإمام (عليه السلام) بُدَّاً مِن أنْ يأمر ببدء الحرب، فخاطبهم قائلاً:

(فإن القوم قد بدأوكم بالظلم، وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعُدوان).

عاد مالك والأشعث إلى جنودهما قائلين لهم: مَن لا يخاف الموت فليتهيَّأ لبزوغ الفجر. فتطوَّع لذلك نحو اثني عشر ألف جنديٍّ. وبدأت الحرب عند بزوغ

٣١٣

الشمس. وكانت حرباً شديدة، قُتِل فيها مِن الجانبين خَلق كثير، ولكنَّ قتلى جيش الشام كان أكثر عدداً. وانتصر جيش الإمام (عليه السلام)، ودُحر جيش مُعاوية وانهزم ووقعت شريعة الماء بيد جيش الإمام.

بعد هذه الهزيمة سأل مُعاوية عمرو بن العاص: ما رأيك؟ ألا ترى أنَّ عليَّاً سيمنع الماء عنَّا؟ فردَّ عليه عمرو بن العاص قائلاً: لا أرى عليَّاً يمنع الماء عن مخلوق.

مضى على ذلك يومان مِن دون حادث بشأن الماء. وفي اليوم الثالث أرسل مُعاوية وفداً مؤلَّفاً مِن اثني عشر رجلاً إلى الإمام علي (عليه السلام) يستجيزونه في الاستسقاء، فقال قائلهم في حضرة الإمام (عليه السلام): ملكتَ فامنح، وجُد علينا الماء، وأعفُ عمَّا سلف مِن مُعاوية.

فقال لهم الإمام (عليه السلام): عودوا إلى مُعاوية وأبلغوه أنَّ أحداً لا يمنعهم عن الماء. وأمر أنْ يُنادى بذلك بين الجنود. فاستتبَّ الهدوء على شطِّ الفرات ثلاثة أيَّام، يَرِده كلا الطرفين. ولكنْ عادت إلى مُعاوية فِكرة الاستيلاء على الشطِّ واحتكار الماء، فبادر إلى خدعة يبعد بها جنود الإمام عن مواضعهم عند الشريعة، ليحتلَّ مواضعهم. فأمر أنْ يكتب على شاخص خشبي: يُحذِّركم واحد مِن عباد الله المُحبِّين لأهل العراق مِن أنَّ مُعاوية ينوي كسر سَدِّ الفرات ليَغرق الجنود على الشطَّ، فكونوا على حذر.

وفي الليل وضِع الشاخص في قوس ورُمي به بين جنود العراق. وعند طلوع الفجر لاحظ جنديٌّ الشاخص وقرأ ما عليه، وناوله غيره، حتَّى أوصلوه إلى الإمام (عليه السلام)، فقال: (هذه خدعة مِن مُعاوية، يُريد إرعابكم ليُشتَّتكم).

وعند الصُّبح شاهد العراقيُّون مئتين مِن جنود مُعاوية الأشدَّاء يحملون المعاول والمجارف، يقدمون إلى حيث سدِّ الفرات، وبدأوا التخريب فيه وهُمْ يتصايحون،

٣١٤

فصدَّق العراقيُّون مقولة صاحب الشاخص، وأنَّه قد نصح لهم، فارتأى القادة ورؤساء القبائل أنْ الصلاح في ترك شريعة الماء لينجوا بأنفسهم مِن خطر مُحتمل. ولم يأت المغرب حتَّى كانت الشريعة قد أُخليت مِن الجند ومِمَّا حولها مِن الخيام والمرابض.

وعند مُنتصف الليل أمر مُعاوية جنوده باحتلال الشريعة، وأنْ ينصبوا خيامهم بمكان خيام جند الإمام (عليه السلام). وعند الصُّبح أدرك العراقيُّون أنَّ مُعاوية قد خدعهم، وخجلوا مِن عدم تصديق الإمام، وندموا على ما فرط منهم، وجاء بعض الرؤساء يطلبون العفو مِن الإمام، ووعدوه ببذل كلِّ ما يستطيعون لجبر هذا الكسر الشائن. وتقدَّم مالك والأشعث يخطبان في الجنود، الذين كانوا يشعرون بالخجل وبالغضب، فأثارتهم خُطبهما وأهاجتهم، حتَّى إنَّهم جرَّدوا سيوفهم مِن أغمادها وتعاهدوا على الموت، وانحدروا نحو الميدان كالأسود الهائجة، واشتبكوا مع جُند مُعاوية في حرب ضَروس دمويَّة، فقُتل عدد مِن الجانبين، ولم ينقض النهار حتَّى ضعف جنود مُعاوية على المُقاومة وولُّوا الأدبار حتَّى ثلاثة فراسخ، وانتصر جيش الإمام علي (عليه السلام)، واستعاد سيطرته على شطِّ الفرات.

وتقدَّم الأشعث إلى الإمام علي (عليه السلام) يُهنِّئه بالانتصار ويستأذنه في منع الماء عن جيش مُعاوية، فرفض الإمام ذلك وقال: إنَّ الماء يجب أنْ يكون في مُتناول الجميع. ولكيلا يظنَّ مُعاوية أنَّه ممنوع مِن الماء، لم ينتظر الإمام مجيء وفد مِن مُعاوية، بلْ بادر بإرسال مبعوث يُخبر مُعاوية بأنَّه لا يُقابل عمله القبيح بمثله، وله أنْ يستقي لجنوده كالسابق.

٣١٥

هي حُرَّة لِمَمْشاك

عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بلي ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً فقال: يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.

قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق، فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله، فنظر إليه، فقال:

يا عليُّ غَيْرُ هذا أحبُّ إليَّ؛ أترى صاحبه يُقيلنا؟

فقلت: لا أدري.

فقال: انظُر.

فجئت إلى صاحبه، فقلت: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كره هذا، يُريد ثوباً دونه؛ فأقلنا فيه، فردَّ عليَّ الدراهم وجئت بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر فإذا جارية تبكي، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شأنك؟

قالت: يا رسول الله، إنَّ أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت، فلا أجسر أنْ أرجع إليهم.

أعطاها رسول الله أربعة دراهم وقال لها: إرجعي إلى أهلك.

ومضى رسول الله إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله. وخرج فرأى رجلاً عُرياناً يقول: مَن كساني كساه الله مِن ثياب الجَنَّة، فخلع رسول الله قميصه الذي اشتراه وكسا السائل، ثمَّ رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله.

ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق.

فقال لها رسول الله: ما لك لا تأتين أهلك؟

٣١٦

قالت: يا رسول الله، إنِّي قد أبطأت عليهم وأخاف أنْ يضربوني.

فقال لها رسول الله: مُرِّي بين يديَّ ودُلِّيني على أهلك.

فجاء رسول الله حتَّى وقف بباب دارهم، ثمَّ قال:السلام عليكم يا أهل الدار. فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فلم يُجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوَّل السلام والثاني.

قالوا: يا رسول الله، سمعنا سلامك فأحببنا أنْ نستكثر منه.

فقال رسول الله: إنَّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله، هي حُرَّة لممشاك) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٧

الآن يدخل كلامي في أُذنك

في القَرن السادس الهِجري وصل (ابن سلاَّر) - وكان ضابطاً في الجيش المصري - إلى مقام الوزارة، وراح يحكم الناس بكلِّ اقتدار.

كان هذا مِن جِهة شجاعاً نشيطاً ذكيَّاً، وكان مِن جِهة أُخرى أنانيَّاً فظَّاً ظالماً، وقد خدم أثناء حُكمه كثيراً، كما ظلم كثيراً.

عندما كان (ابن سلار) ضابطاً في الجيش، حكم عليه بدفع غرامة، فشكا الأمر إلى (أبي الكرم) مُحاسب الديوان وأوضح له الأمر. غير أنَّ أبا الكرم أهمل كلامه بحَقٍّ أو بدون حَقٍّ، وقال له: إنَّ كلامك لا يدخل في أُذني. فغضب ابن سلار منه وحقد عليه، وما أنْ تسلَّم مقام الوزارة حتَّى انتهز الفرصة للانتقام، فألقى القبض عليه، وأمر أنْ يدقَّ في أُذنه مسمار طويلاً، فدقَّ حتَّى خرج مِن أُذنه الأُخرى. ومع كلِّ صرخة مِن صرخات أبي الكرم عند طَرق المسمار في أُذنه، كان ابن سلار يقول له: الآن يدخل كلامي في أُذنك. ثمَّ أمر بشنق جُثَّته الهامدة بتعليقه مِن المسمار الداخل في رأسه.

لقد جرح أبو الكرم خاطر ابن سلار وأصاب قلبه بكلامه. ولو كان ابن سلار مِن ذوي السجايا الإنسانيَّة، سليم الفكر، لبرئ جُرح قلبه بعد بضعة أسابيع أو شهور، ولنَسي تلك الحادثة المُرَّة، ولكنَّه كان مُصاباً في فكره بفساد الأخلاق، فلم يلتئم جُرحه بسبب أنانيَّته وحِقده وحُبِّه للانتقام.

ولهذا، وبعد مرور عِدَّة سنوات ووصوله إلى الوزارة، ونيله فرصة للانتقام، انتقم مِن ذلك الكلام الجارح، وشفى غليله، ولكنَّه في سبيل ذلك ارتكب عملاً وحشيَّاً بعيداً عن الإنسانيَّة، فقتل رجلاً شَرَّ قتلة بسبب ما تفوَّه به (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٨

لم يُعطَ أحدٌ شيئاً أضرَّ له في آخرته

مِن طلاقة لسانه

أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرابيٌّ وقال له:

ألستَ خيرنا أباً وأُمَّاً، وأكرمنا عقباً، ورئيسنا في الجاهليَّة والإسلام؟

فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: (يا أعرابيُّ، كمْ دون لسانك مِن حجاب؟).

قال: اثنان، شَفتان وأسنان.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (فما كان في واحد مِن هذين ما يردُّ عنَّا غرب لسانك هذا؟ أما إنَّه لم يُعطَ أحد في دنياه شيئاً هو أضرُّ له في آخرته مِن طلاقة لسانه. يا عليُّ، قُمْ فاقطع لسانه).

فظنَّ النّاس أنَّه يقطع لسانه، فأعطاه دراهم.

لقد كان كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث إنَّ الحاضرين حسبوا أنَّ عليَّاً (عليه السلام) سوف يقطع لسانه فعلاً، ولكنَّ قائد الإسلام أعرب بكلماته الشديدة عن عدم استحسانه لما تفوَّه به الأعرابي مِن جِهة، وأفهم الحُضَّار، مِن جِهة أُخرى، أنَّ التملُّق والمُداجاة مِن العيوب الخلقية الكبيرة وأنَّ على المسلمين أنْ يحذروا التخلُّق بمثل هذا الخُلق المُذلِّ الشائن (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣١٩

المجالس بالأمانة

قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام): إنَّ فلاناً ينسبك إلى أنَّك ضالٌّ مُبتدعٌ.

فقال للقائل: (ما رعيت حَقَّ مُجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدَّيت حَقِّي حيث أبلغتني عن أخي ما لستُ أعلمه).

عندما يسمع البعض أحداً يغتاب صاحباً له ينقلون إليه الغيبة، بدلاً مِن أنْ يدافعوا عنه، ظانِّين أنَّهم بهذا يُقدِّمون خِدمة لصاحبهم مِن جِهة بإطلاعه على ما يُقال عنه، ويكشفون له، مِن جِهة أُخرى، مقدار ما يُكنُّونه له مِن حُبٍّ وصداقة، ولكنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) اعتبر هذا العمل مُثيراً للفتنة ومِن العيوب المعنويَّة والسيِّئات الأخلاقيَّة، فقبَّح فعل النمَّام وانتقد عمله مِن جِهتين.

٣٢٠

تقدم المسلمين في مجال الاقتصاد السياسي وعلم النفس والعلوم الاجتماعية

في هذا الصدد يقول الكاتب المسيحي جورجي زيدان :

« الغريب هو ان الاوروبيين يتصوّرن انفسهم مؤسسوا علم « الاقتصاد السياسي » ، في حين ان الفارابي العالم المسلم الشهير كتب قبل الف سنة كتاب « السياسية المدنية » وبحث في ذلك ، كما ان « ابن خلدون » العالم المسلم الآخر بحث الموضوع أيضاً(1) .

ويذكر «ميلير» : المسلمون هم أول من اخترع علم النفس(2) .

ويقول احد العلماء الاوروبيون : مؤسس العلوم الاجتماعية هو الفيلسوف المسلم الكبير « ابن الجاثب »(3) .

مصطلحات المسلمين وكلماتهم في اوروبا

يقول السيد سديلو(4) :

________________

(1) تاريخ الحضارة الاسلامية.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) المصدر نفسه.

(4) Mr. Sedillot

٣٢١

« بما ان المسلمين استطاعوا السيطرة علىٰ البحر المتوسط منذ القرن الثامن الميلادي ، فان اغلب المصطلحات الالفاظ المستخدمة في المجال البحري في اللغتين الفرنسية والايطالية ، مأخوذة عن مفردات عربية بالاساس ، مثل : اميرال(1) وساكادر(2) وفلوت(3) وفرجال وكورفت(4) وكرافل(5) وكذلك بوسورل(6) التي يتصورها الكثير خطأ مأخوذة عن الصينيين في حين ان المسلمين هم الذين جاؤا بها الىٰ اوروبا ، كما ان الجيوش الاوروبية عندما عرفت النظام والمراتب في داخلها فقد تعلمت الرتب والمناصب العسكرية وكذلك الصياح في ساحة القتال من المسلمين كما ان كلمات مثال : البارود والقنبلة والهاون ( نوع من المدفعية ) ، اصلها عربي ، وكذلك العديد من المصطلحات الادارية ، مثل : معون وغابل وتاي وتاريف ودوآن وبازا وغيرها من الكلمات التي دخلت القاموس اللغوي الاوروبي من بغداد وقرطبة.

________________

(1) جنرال في القوة البحرية.

(2) Escadre ( سرب ) ، مجموعة سفن قتال بحرية يقودها شخص واحد.

(3) Flutte آلة موسيقية.

(4) Caracelle

(5) Cravelle

(6) Biussule ( بوصلة ).

٣٢٢

اسباب تقدّم المسلمين ورقيهم

الدكتور : ايها الشيخ ! صحيح أن هؤلاء الأوروبيين الذين يفتخرون علينا اليوم إلى هذا الحدّ كانوا تلامذتنا بالامس ؟! كانوا يستجدوننا العلم للحد الذي اصبحوا يختالون بما كسبوه من علومنا ، ويمتصون دماءنا بهذا الشكل ، نهاية في الوقاحة وعدم الوفاء ؟ ولست أعجب من ذلك ، بل أعجب للسبيل الذي جاء به المسلمون من خلاله كل هذا المجد والعظمة ؟

الشيخ : مجد المسلمين وعظمتهم بالامس كانت في تمسكهم بدينهم واحكام الاسلام ، وهذا الأمر لا يدعوا إلى العجب ، لأن الباري عزّ وجلّ وعد عباده بذلك في القرآن فقال جلّ شأنه :

( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

سعادة الدكتور ! أن سبب تقدّم المسلمين وتعاليهم هو ما ذكرناه من تمسكهم بالاسلام ، لانه وكما اشرنا في مباحث سابقة ، ليس الاسلام كالمسيحية ، دين رهبانية وعزلة ، أو مجموعة من النصائح الاخلاقية فقط ، فالاسلام دين يدعو ويُرغّب إلى طلب العلم ، ومن الناحية القانونية يمتلك مجموعة متكاملة في جميع شؤون الحياة المادية منها والمعنوية.

اذن ، فأتباع مثل هذا الدين الطبيعي أن تكون نتيجته التكامل على جميع الأصعدة. ولبيان العوامل والاسباب التي ادت إلى تقدم المسلمين وتكاملهم

٣٢٣

بهذا الشكل السريع ، نشير إلى بعضها مما ورد القرآن الكريم ، وبشكل مجمل :

قَسَمُ القرآن :

القسم والايمان التي جاءت في القرآن هي احدى الدوافع التي رغبت المسلمين في الماضي لتلقّي العلوم ، وعادة يكون ما يُقسم به مقدّساً عند الشخص الذي يقسم ، وكلما كان الطرف الذي يقسم جليلاً وعظيماً ، ازدادت قدسية وعظمة ما يُقسم به.

والقسم في القرآن يصدر عن الله عزّ وجلّ ومع ذلك نجده يقسم بالظواهر الطبيعية في العالم ، مثل : الشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والليل والنهار والزيتون والقلم و الخ.

أجل هذا القسم القرآني ، هدفه لفت انتباه الانسان إلى عظمة الوجود وظاهره ، والحث على دراسة ذلك والتأمل فيه ، والغريب ! هو أن القرآن يقسم بالقلم في عصر مظلم كانت الجزيرة العربية تعيشه قبل اربعة عشر قرناً ، وليس بالقلم فحسب بل وما يصدر عنه ، قال تعالى :

( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومثل هذا القسم غير موجود اليوم حتى في أكثر بلدان العالم تقدّماً.

٣٢٤

ظواهر الوجود ومعرفة الله

تعلمون أن الأصل العقائدي الأول في الاسلام هو معرفة الله ، لكن أهم سبيل يعرضه القرآن لمعرفة الله هو التأمل في اسرار الخلق ، وظواهر الوجود. ولمعرفة رب العالمين الحكيم والقادر ، يدعو القرآن الانسان إلى البحث والدراسة في السماوات والارض واسرارهما وللتأمل في خلق الحيوان والنبات والقوانين المعقدة الموجودة في الوجود وكذلك التأمل في الانسان نفسه كمخلوق من قبل الباري عزّ وجلّ.

أجل ففي ذلك العصر الذي لم يكن فيه شيء يذكر عن علم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان والفيزيولوجيا والتشريح وعلم الفلك بمفاهيمها العلمية الحديثة.

في ذلك العصر كان القرآن الكريم يدعو البشرية إلى تعلم مثل هذه المسائل ومعرفة حقائق العالم العلمية.

مكانة العلم والعلماء من منظار القرآن

العالم الثالث الذي جعل المسلمون يتجهون نحو العلم والمعرفة العلمية للعالم ، هي التعابير التي طرحها القرآن الكريم عن العلم والعلماء. ففي موارد عديدة عبّر القرآن الكريم عن العلم والمعرفة بالنور ، واعتبر الجهل ظلمة ، قال بأن العلماء هم المبصرون والجهلة هي العمي ، وقد اختصّ القرآن الكريم

٣٢٥

العلماء المتقون بالاجلال والرفعة ، وقد استخدم في ذلك تشابيه جميلة وتعابير ظريفة.

الترغيب والحثّ المثمر

وقد اثمرت بسرعة هذه العوامل الثلاث التي ذكرناه بالاضافة إلى ترغيب وحث القرآن وائمة المسلمين لتعلم العلم ، ولم يمض أكثر من نصف قرن على ظهور الاسلام ونشوء المجتمع الاسلامي ، حتى شهد التاريخ أكبر عملية نهوض معرفية في شتى مجالات المعرفة بين المسلمين ، وكان التقدّم سريعاً للحدّ الذي تمكن من تنشأ مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في مختلف المجالات العلمية ومن جميع المناطق التي دخلها الاسلام.

هؤلاء العلماء الذين يعد كل منهم نابغة عصره في مجال تخصصه ، والذين انتشر العلم على ايديهم في العالم.

٣٢٦

ماذا يعني حرمة التشبه بالكفار ؟

اصدقائي الأعزاء !

لا يدفع الاسلام الانسان المؤمن إلى تعلم العلم والمعرفة بجميع فروعها فقط ، بل أنه ألزم المسلمين لتتبع العلم وتعلمه من خلال احكام وأوامر دينية بسيطة في تعابيرها ، لكي يقطع بذلك تبعية المجتمع المسلم إلى غيره من المجتمعات ، وهذه الاحكام كثيرة جداً ، سأكتفي بنقل واحدة منها سمعناها جميعاً ، ولربما ضحكنا منها استهزئنا بها ، واعتبرناها مقولات رجعية ؟ وذلك الحكم ، هو « حرمة التشبّه بالكفار » ومن أجل بيان أفضل للقضية ، وسأقدم لكم هذا الإيضاح :

اصدقائي الأعزاء !

لو ان شعباً غير مسلم ( كافر ) صنع اليوم ـ على سبيل المثال ـ نوع من القبعات سيكون حراماً على المسلمين استعماله ما دام يعتبر وضعه على الرأس تشبّهاً ـ ذلك الشعب الكافر ـ ولكن لو أن مسلماً كان قد اخترع قبعة مشابهة لذلك الطراز ، فان استعامله جائزاً.

وهنا يتّضح أن هذف الاسلام الاساسي من هذا الحكم هو ليس منع المسلمين من استعمال هذا الطراز من القبعات ، بدليل انه كان سيمنعه حتى لو

٣٢٧

كان مخترعه مسلماً ، في حين أن الامر يختلف عن ذلك وأن هدف الاسلام من ذلك التحريم وهذا التجويز هو ايجاد وخلق روح الاستقلال والاعتماد على الذات بين المسلمين ، وتخليصهم من تبعات الحاجة إلى الاخرين وتقليد الشعوب الاجنبية ( الكافرة ) حتى في شؤون حياتهم العادية ، مثل الملابس و الخ.

اصدقاي الأعزاء !

اترك لكم الحكم في هذه القضية ! لو أن المسلمين عملوا بهذا الحكم واحيوه بشكل حقيقي ، أي أنهم أحيوا روح الاستقلال والاعتماد على الذات وعدم التبعية للكافرين ، ألم يكن هذا كافياً لضمان سيادتهم وعزّهم ؟! ولو كانوا عملوا بهذا الأمر المقدس ( عدم التشبه بالكفار ) هل كانوا بحاجة لأن يمدّوا أيديهم نحو الناهبين الدوليين يستعبدونهم ؟! ألم يكن تطبيق هذا الحكم الديني البسيط ، كافياً ، لأن يجعل المسلمين يمتلكون ادواتهم الحضارية دون الحاجة للاخرين ؟ ألم يكن بوسع هذا القانون البسيط أن يجعل المسلمين يخترعون بأنفسهم كل ما يحتاجونه من طائرات وسفن وغواصات و الخ ، كما تمكن المسلمون في الماضي ، ومن خلال فهمهم لحقيقة الحكم المقدس وتطبيقه ، ليس فقط اختراع كل ما يحتاجونه من ادوات ووسائل في حياتهم بل ضمن لهم سيادتهم ومجدهم وعظمتهم على جميع انحاء العالم.

العقيد : كلامك منطقي وصحيح ، ولكن المسلمون اليوم ضعفاء ومضطرون إلى استجداء الدول الأوروبية لتأمين حاجاتهم ومتطلبات حياتهم اليومية.

الشيخ : هذا كلام خاطيء تماماً ، لأنه حتى الدول الصغيرة اليوم تستطيع

٣٢٨

أن تعتمد على نفسها وتقف على قدميها ، وتقطع تبعيتها للعالم الأوروبي المستعمر ، وأن تصنع كل ما تحتاجه بنفسها من خلال عمل جاد وفكر خلّاق ، وأكبر شاهد على ذلك ، دولة اليابان التي تعتبر دولة شرقية صغيرة مقارنة بالكثير من الدول الكبيرة التي لا زالت متخلفة ، فهذا الشعب ومن خلال روح الاستقلال والاعتماد على الذات التي يمتلكها استطاع أن يصنع كل ما يحتاجه ( ويحتاجه الاخرون ! ) في حياتهم اليومية من الابرة حتى السيارة والقطار والسفينة والطائرة و وعشرات البضائع التي تغزوا جميع العالم اليوم. مع أن هذه الدولة الشرقية تمتلك نفس الشروط التي نمتلكها نحن بل وربما اصعب منا ، كما أن عدد سكانها لا يزيد على ثلاثة وثمانون مليون نسمة أيضاً !

لقد قدمت اليابان لجميع الدول الصغيرة درساً في الاعتماد على الذات والروح الاستقلالية من اجل قطع التبعية والخلاص من التخلف ، ( وهو ما أمر به الاسلام قبل قرون من عدم التشبّه بالكفار ) ، وبالاضافة إلى ذلك فالبلدان الاسلامية اليوم تمتلك امكانيات كثيرة بشرية وطبيعية ، وظروفها الاقتصادية والثقافية مساعدة جداً للنهوض والتحرر الحقيقي ، لكنها وبسبب ابتعادها عن الاسلام الحقيقي ، لم تستطع تفعيل امكانيتها وقدراتها العظيمة تلك ، والمؤسف حقاً أن هذه الامكانيات والقدرات اصبحت بذاتها بلاءً على الاُمّة الاسلامية والشعوب المسلمة.

قصة غريبة عن السيد جمال الدين في مصر

حسن ، الطالب الجامعي : بتصوري ان حالة المسلمين اليوم وصلت إلى

٣٢٩

حدّ اليأس من الخلاص والتحرر من هذا العار والذل ، لأنهم ، لم يكتفوا بتقليد اعمى لتلامذة امسهم والتسابق على ذلك ، بل فقدوا جميع قدراتهم البشرية والالهية امامهم وفسحوا المجال بانفسهم للغرب المستعمر أن يتدخل في بلادهم وينفذ في مؤسساتهم كالطاعون ، ومن المستحيل أن تستطيع هذه السفينة المترهلة أن تصل يوماً إلى ساحل الأمان.

الشيخ : اليأس وفقدان الأمل من الذنوب الكبيرة في الاسلام ، وباعتقادي لو رجع الناس إلى الاسلام فانهم يستطيعون تلافي ما فات ، والوقوف امام قوى الاعداء ، بالعمل والسعي المتواصل ، فالاسلام دين الحيوية والنشاط والالهام ، ويمكن أن يبعث الروح في اجساد الشعوب الساكنة ، ولاثبات ما ادعيته لارجع بكم إلى صدر الاسلام حيث تمكن عدّة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً لا تملك شيئاً يذكر من السلاح والعدّة ، أن تقف امام قوّة كبيرة تفوقها اضعافاً مضاعفة في العدد ومدججة بالسلاح والعتاد ، بل وتنتصر عليها وتهزمها هزيمة فادحة ، بل أروي لكي قصّة غريبة عن ثورة السيد جمال الدين الافغاني في مصر ، والتي حدثت في أواخر القرن الماضي بداية عصر النهضة الذي نشهده حالياً.

تأمّلوا بدقّة ما تقرأون

ملخّص القصّة ، هو أنه في سنة 1300 هجرية كانت جميع الدول الاسلامية تخضع لسيطرة مباشرة من قبل الدول الاوروبية ، وكان الخناق يشتدّ يوماً بعد يوم على المسلمين فيها ، ولم تكن من بين تلك الدول إلّا ايران وتركيا لا

٣٣٠

تخضعان بشكل مباشر للسيطرة الاستعمارية ، وكانتا مستقلّتان اسميّاً.

في تلك الحقبة المظلمة قام أحد المسلمين الغيارى وأحد العلماء الأجلاء ، وهو السيد جمال الدين الاسدآبادي « الافغاني » بحركة نهضوية ، بعد رحلات قام بها في ارجاء العالم الاسلامي واطّلع من قرب على المحنة التي يعاني منها المسلمون ، فدعى المسلمين إلى الثورة على واقعهم والخلاص من الانحطاط الذي يعيشونه ، لكن دعوته تلك لم يستجيب لها احد ، سوى الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية فيما بعد ، فسافر مع السيد جمال الدين إلى باريس واخذا يصدران من هناك مجلة « العروة الوثقى » ، وبالمقالات الثورية التي كانا يكتبانها في المجلة التي كانت ترسل إلى الدول العربية والاسلامية ، كانا يحثان المسلمين على النهوض والخروج من جمودهم وغفلتهم ، ولأن تلك الكلمات كانت تخرج من قلوب متحرّقة على الاسلام ووضع المسلمين ، بدأت تجد اثرها في قلوب وعقول الناس شيئاً فشيئاً ، لكن والدول الاستعمارية التفتتبسرعة إلى الأمر وحالت دون وصول المجلة إلى البلدان الاسلامية ( الدول التي كانت تخضع للسيطرة البريطانية والفرنسية ) ، وبهذا فشلت الخطوة الاُولى التي قام بها السيد جمال الدين لتحرير البلدان الاسلامية ، ولكن هذا الفشل لم يجعله ييأس ، لذلك تحرك مباشرة من باريس ومعه الشيخ محمد عبده وحلّوا في مصر ، وقاما هناك بتأسيس جمعية اسمياها « الجمعية الوطنية » ودعيا الشعب المصري للأنخراط في صفوفها ، ولأن الجمعية لم تكن مثل سائر الجميعات والاحزاب في العالم ، لم يكن فيها مكان للبذيئين والسارقين والمنافقين ، كانت الجميعية خلافاً لجميع الاحزاب السياسية لا تسعى لتسلّم السلطة والجلوس على كرسي الحكم ، أو لدعم والحفاظ على سلطة الآخرين

٣٣١

ومن الشخصيات العميلة والضحلة ، لذلك لم ينخرط فيها من كل مصر سوى اربعين شخصاً فهموا معنى التضحية.

وفي الجلسة الخامسة عشر للجمعية الوطنية ، وبحضور جميع الأعضاء ، قام السيد جمال الدين خطيباً فيهم وقال :

ملخّص كلمة السيد جمال الدين

« الهي ، صدقت حيث قلت :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، وقولك حقّ ، فقد تأسست هذه الجمعية المقدّسة باسمك ولنصرة دينك ».

ثم خاطب اعضاء الجمعية فقال :

« ايها السادة الأعزاء : القرآن هو الدستور المقدّس الذي يعتبر دليل حقانية الاسلام حتى يوم القيامة وهو أيضاً ضمان سعادة الانسانية.

آه آه ، على هذا القرآن المقدّس الذي غفل المسلمون عنه فأصبح مهجوراً ، هذا القرآن المقدّس الذي تمكن عالم الامس على الرغم من انحطاطه أن يصل إلى تلك المرتبة الحضارية على ضوء تعاليمه النوارنية.

آه آه على القرآن الذي أصبح يستفاد منه فقط فيما يلي :

تلاوته على قبور الموتى في ليالي الجمعة ، امرار وقت الصائمين ، كفارة الذنوب ، العوبة « المكتبخانات »(1) ، دفع الحسد ، القسم الكاذب ، للاستجداء به

________________

(1) المدارس القديمة أو الملا.

٣٣٢

على ارصفة الطرق ، زينة قماط الطفل ، قلائد للعرائس و الخ.

آه ، على هذا الكتاب السماوي الذي اصبح الاهتمام به اليوم اقل من الاهتمام بديوان حافظ وكتاب المثنوي وديوان الشاعر السعدي ، فلو قرأ شيء من تلك الدواوين في محفل ، لرأيت القوم يشهقون ويزفرون ويفتحون قلوبهم فضلاً عن عيونهم واسماعهم ، وكم هي استفادتهم من المعاني العرشية ! والعرفانية ! والخيالية ! الموجودة في تلك الأبيات.

أي وحقّك اللّهمَّ أنت القائل وقولك الحقّ :( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) .

سبحانك اللّهمَّ أنت القائل وقولك حقّ :( إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .

لقد ادرنا اوجه قلوبنا عن طاعتك المقدّسة ، فأبدلت سعادتنا وعزّنا بالذلِّ والشقاء ».

بعد ذلك نزل السيد جمال الدين من على المنبر ، فيما كان العديد من اعضاء الجمعية قد اغمي عليهم من شدّة البكاء والآخرون أيضاً يبكون ، والسيد جمال الدين كان يبكي أيضاً ويكرر هذه الجملة :

أي وحقِّك اللّهمَّ ، نسيناك ، فأنسينا انفسنا ، حتى اغمي عليه ووقع على الأرض ، وبقي على تلك الحالة ثلاثة ساعات ، فيما كان اعضاء الجمعية في بكاء ونحيب ، بعد ذلك قام السيد جمال الدين من غيبوبته بعد ان دعي له بطبيب ، فرجع اعضاء الجمعية إلى حالتهم الاُولى واستأنفت الجلسة الرسمية.

٣٣٣

المواد السبعة عشر التي ادت إلى ثورة مصر

ثم عادوا للتباحث ، واقترحوا حلولاً للخروج من ذلك الواقع المرّ والمأساوي ، واتّفق الجميع إلى أن عظمة المسلمين ومجدهم السابق كان بسبب تطبيقهم لاحكام الاسلام المقدّسة ، كما أن العامل الوحيد الذي انتهى بهم إلى هذا الشقاء ، هو ابتعادهم عن الاسلام واحكامه ، وعلى هذا الاساس ، فالعلاج الوحيد للحالة المأساوية هو العمل باحكام الاسلام وقوانينه السامية ، ولهذا تم اقرار برنامج عمل يتضمّن سبع عشرة مادّة ، وتعهّد جميع اعضاء الجمعية العمل على تطبيق ذلك البرنامج بمنتهى الجدّية والدقّة ، وهذا نص البرنامج :

1 ـ على كلِّ واحد من اعضاء الجمعية قراءة ما لا يقل عن حزب واحد من القرآن الكريم بدقّة وتأمّل في اليوم.

2 ـ اقامة الصلوات اليومية ( الواجبة ) جماعة.

3 ـ عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4 ـ دعوة غير المسلمين إلى الاسلام.

5 ـ الجدل بالّتي هي أحسن مع المبشرين النصارى.

6 ـ الاحسان للفقراء قدر المستطاع.

7 ـ القيام بأي عمل مشروع يطلب منهم ، أو انهم يقومون بالعمل فور علمهم به حتى لو لم يطلب منهم ذلك.

٣٣٤

8 ـ عدم الاغفال عن صلة الرحم وزيارة الأقرباء.

9 ـ عيادة المرضى.

10 ـ السؤال عن المسلم الذي يفتقد في السوق أو المسجد ، وسبب غيابه ، حتى لو كانت لديه مشكلة ، يسعون في حلّها.

11 ـ زيادة الاشخاص الذين يعودون من سفر مشروع.

12 ـ دفع الحقوق ( المالية ) لمستحقيها.

13 ـ لا يقصروا في ارشاد الناس بقوانين الدين أو شؤوناته.

14 ـ تربية انفسهم وترويضها على الابتعاد عن الصفات الرذيلة خاصة التكبّر والانانية والعجب وحبّ الرئاسة.

15 ـ العفو عن اخطاء وزلّات اخوتهم المسلمين.

16 ـ التعامل بلين مع الناس ومداراتهم.

17 ـ الاحجام عن عمل أو قول ليس فيه نفع مادي أو معنوي لهم أو لسائر المسلمين.

وكان كل عضو يحمل معه دفتراً صغيراً يسجل فيه ما عمله من تلك المواد السبعة عشر ، لكي تسجل جميعها في سجل الجمعية ، ولأن تنفيذ بعض المواد كان يحتاج إلى ميزانية مالية ، لذلك قرّر هؤلاء الاربعون وبشكل أولي بيع كل ما في حياتهم من تجمّلات وتقنعوا باقل العيش واندر الأكل ، لكي يمولوا صندوق الجمعية بتلك الأموال ، لكي لا تتوقّف النشاطات بسبب العجر المالي.

٣٣٥

ابرز اعمال الجمعية الوطنية المصرية لفترة شهر

عمل اعضاء الجمعية الوطنية المصرية بقيادة السيد جمال الدين الاسدآبادي ( الافغاني ) لمدّة شهر واحد بمنتهى الدقّة على ضوء تلك المواد ، وكانت نتيجة العمل وابرز النشاطات كالتالي :

1 ـ عيادة الف وخمسمائة مريض.

2 ـ زيارة الفين وسبمعمائة مسافر.

3 ـ تفقّد خمسمائة مسلم غابوا عن المحافل العامة.

4 ـ قضاء حاجة اثناء عشرة الف محتاج.

5 ـ تاب على ايديهم ثمانمائة سكّير ( معتاد على شرب الخمرة ).

6 ـ ادخال الف وثلاثمائة شخص إلى دائرة المصلّين بعد أن كانوا لا يصلّون.

7 ـ تابت على ايديهم اربعمائة امرأة من الفاحشات والمنحرفات.

8 ـ ونتيجة لنصحهم ، استقال ثمانون شخصاً عن العمل في الدوائر البريطانية.

9 ـ جعلوا خمسمائة ثري مصري يتقاعد عن شراء اشياء للزينة كانت تأتي من الخارج ، خاصة من بريطانيا.

10 ـ منحوا خمسة وسبعين شخصاً متضرراً ، رأسمال للعمل.

٣٣٦

11 ـ أمَّنوا مؤونة مئتين وستّة فقير حقيقي لمدّة سنة.

12 ـ اسلم على ايديهم 35 نصرانيّاً و 15 يهوديّاً و 70 وثني.

13 ـ اقاموا اربع واربعين مجلس مناظرة مع مبشري النصارى الذين كانوا مسنودين من قبل الحكومة الانجليزية في مصر ، وأوردوا عليهم 120 اشكال لم يستطيعوا الاجابة عليها.

كانت هذه اُمّهات اعمال الجمعية التي لا يزيد عددها على اربعين شخصاً ولمدّة شهر واحد فقط.

ردود الفعل على نشاط الجمعية الذي استمر شهراً واحداً

اصدقائي الأعزاء !

إذا اردتم أن تعرفوا كيف أن مجرد العمل بقوانين الاسلام تكون نتيجتها المجد والعظمة للمسلمين واندحار اعداءهم ، انتبهوا إلى ردود الفعل التي حصلت على نشاطات الجميعة الوطنية المصرية والتي استمرت شهراً واحداً :

شاهد اللورد كرومر المستشار المالي البريطاني في مصر ، أن نفوذ بريطانيا في مصر قلّ دفعة واحدة إلى 45% ، فيما تدنّت التجارة البريطانية 35% ، واستقال عن العمل في الدوائر البريطانية ثمانين موظفاً مسلماً مدرّباً ، وليس هناك أحد يتقدّم للعمل في الوظائف الشاغرة ، كما رأى اللورد كرومر وهو لا يصدق من شدّة التعجب ، أن ممثلي الشركات البريطانية وخاصة تلك التي تبيع وسائل الزينة والإناقة والترف ، ارتفعت اصواتهم لعدم وجود

٣٣٧

مستهلكين ، ويقولون أن عوائدنا اقل حتى من ايجارات محلاتنا واجور عمالنا وموظفينا ، كما أن عدداً من المأمورين المصريين المسؤولين عن اخذ الضرائب من محلات المشروبات الكحولية ودور البغاء الرسمية والسينمات والمسارح ، قدموا استقالات عن العمل ، ولاحظ اللورد كرومر نشاطات المبشرين على مدى خمسة وثلاثين سنة لا تعادل 16/1 من نشاطات الجمعية الوطنية المصرية خلال فترة شهر ، كل ذلك خلق عنده وساوس وخوف كبير ، فبعث مباشرة بتقارير مهولة إلى لندن.

تقارير اللورد كرومر

يقول اللورد كرومر في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

« وبهذا اُحذّر قادة بريطانيا من خطر داهم ، فلو بقيت نشاطات الجمعية الوطنية بقيادة السيد جمال الدين سنة اُخرى ، لن تتلاشى سياسة وتجارة الحكومة البريطانية في آسيا وافريقيا فقط ، بل نخاف من وقوع نفوذ جميع الدول الأوروبية بخطر في جميع انحاء العالم ».

ويقول في تقرير ثاني :

« الجمعية الوطنية المصرية ، أسوء صاعقة تقف امام مخطّطاتنا ، لذا يجب اصدار امر عاجل بتشتيت افرادها وحلّها ».

وفي تقرير ثالث له ، يقول :

« الجمعية الوطنية المصرية خير دليل على تسلّط المسلمين المحيّر

٣٣٨

للعقول على ثلث بلدان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً ، بفترة قصيرة ».

وفي تقرير لاحد المبشرين النصارى رفعه إلى كنيسة سان بول التي كانت أكبر كنيسة في ذلك العصر ، يقول :

« ليس هناك اغرب من هذه الحادثة ، وهي تقهقر سبعمائة مليون مسيحي من ابناء الانجيل امام اربعين مسلماً يحملون بين جنباتهم روح عالم دين هو السيد جمال ».

وأيضاً ، يذكر أحد الأطباء الاجانب الذي كان يعمل في مستشفى بور سعيد ، في كتابه الصادر في ذلك الوقت والذي يحمل عنوان « فلسفة الجمعيات » :

« لو استمرت نشاطات الجمعية الوطنية المصرية على شكلها المحيّر للعقول هذا ، إلى عشرين سنة اُخرى ، ستحوّل العالم كلّه ميداناً لأفكارها ».

وفي رسالة بعث يها رئيس البرلمان البريطاني في مصر إلى أحد كبار الصيارفة في لندن ، جاء فيها :

« ومن عجائب العصر ، هو أن السياسة الأوروبية في مصر اليوم ، وغداً في جميع انحاء العالم ، سحقت على يد اربعين نفر من المسلمين ، الذين لا يملكون سلاحاً سوى الدين والعمل بالقوانين الدينيّة ».

ويكتب أحد المسؤولين الانجليز إلى زوجته في لندن ، فيقول :

« ان روح السعادة التي تنتشر في المجتمع الاسلامي اسرع من البرق ، ستؤثر على الشعوب الأوروبية بوجه عام والشعب البريطاني بالخصوص ليس

٣٣٩

فقط التخلي عن مستعمراتهم ، بل حصر انفسهم بقلعة حصينة في مركز العالم بين الشمال والجنوب ».

وجراء كثرة التقارير المرفوعة ، رأت الحكومة البريطانية ان افساح المجال امام هذه الجمعية للعمل سنوات اُخرى ، مع هذا البرنامج الذي تمتلكه الجمعية ، سيجعل من الصعب على أية قوة الوقوف امام قدراتها الخارقة ، لذلك ابرقت إلى الحكومة في مصر امراً بسرعة حلّ الجمعية وتشتيت شمل افرادها ومعاقبتهم بأشد العقوبات ، وكانت النتيجة نفي السيد جمال الدين من مصر بعد ان اعلنت الاحكام العرفية هناك ، وحكم على الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات سجن.

أمّا سائر أعضاء الجمعية فتعرضوا لضغوطات وأحكام مشابهة بشكل يندى له جبين الانسانية ، وبهذا الشكل أفل النجم الذي سطع لشهر واحد في سماء المسلمين ، وعادت بريطانيا إلى نهب خيرات المسلمين وامتصاص دماءهم دون ان يزعجها احد أو يقض مضجعها.

اصدقائي الاعزاء !

والآن الحكم لكم ، فلو كان اربعون مسلماً ومن خلال تمسكهم بتعاليم الاسلام المقدّسة أن يتحولوا إلى قوة بهذا الحجم ترعب الأعداء ، فكيف لو تمسك ستمائة مليون مسلم في عصرنا الحاضر باسلامهم وأحكام دينهم ، ألا يستطيعون اعادة مجدهم وعظمتهم السالفة وينشروا حكومتهم على جميع العالم ؟

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421