القصص التربوية

القصص التربوية18%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 359970 / تحميل: 10444
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

دمشق قوله: (... فبينا أنا كذلك، حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس أشبه الناس وجهاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جِمال بغير وطاء ...)(١) .

وإنّ صفة دخول بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام على يزيد كاشفة عن حالهم الأصعب أثناء الطريق، يقول السيّد ابن طاووس (ره): (ثمّ أُدخِل ثِقل الحسينعليه‌السلام ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد، وهم مقرَّنون في الحبال! فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال، قال له عليّ بن الحسين:

(أُنشدك الله يا يزيد! ما ظنّك برسول الله لو رآنا على هذه الحال؟! ...) (٢) .

____________________

= وقال المرحوم النمازي: (سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، من أصحاب رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما، وكان عمره عند وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خمس عشرة سنة، وعاش إلى ٨٨ - ٩١، رواياته في الفضائل (راجع: البحار: ٣٩: ١٢) وفي أسماء الأئمة الاثني عشر وفضائلهم والتصريح بإمامتهم (راجع: البحار: ٣٦: ٣٥١).

وروى عنه ابنه عباس، عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، عدد الأئمة صلوات الله عليهم (راجع: البحار: ٣٦: ٣٥٢) وهو ممّن شهد لعليعليه‌السلام بحديث الغدير (راجع: الغدير: ١: ٤٥)، ولقي أهل بيت الحسينعليه‌السلام في الشام، وبكى لهم وقضى حاجة سكينة بنت الحسينعليهما‌السلام (راجع: البحار: ٤٥: ١٢٧) - (مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ١٧٨ رقم ٦٧٢٣).

(١) البحار: ٤٥: ١٢٨ باب ٣٩.

(٢) اللهوف: ٢١٣ / وقال ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح: ٥: ١٤٧: (فسار القوم بحُرَم رسول الله من الكوفة إلى بلاد الشام، على محامل بغير وطاء، من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل، كما تُساق أُسارى التُّرك والديلم ...).

وقال ابن سعد في طبقاته: (وقدم رسول من قِبَل يزيد بن معاوية، يأمر عبيد الله أن يُرسل إليه بثقل الحسين ومَن بقي من ولْده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم تجهّزوا بها! (راجع: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير =

١٨١

وفي خُطبة مولاتنا زينب العقيلةعليها‌السلام في مجلس يزيد، صورة وافية لطريقة حمل بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام من الكوفة إلى الشام، حيث قالتعليها‌السلام وهي تُقرِّع الطاغية:

(أمِنَ العدل - يا بن الطلقاء - تخديرك حرائرك وإماءك، وسَوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكتَ ستورهنّ! وأبديت وجوههنّ! تحْدوا بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد! ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل! ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف! ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ، ولا من حُماتهنّ حميّ؟! ...)(١) .

هل كانت الرؤوس المقدّسة مع الركْب الحسينيّ؟

يُستفاد من النصوص التي مضت عن السيّد ابن طاووس (ره)، أنّ الرؤوس المقدّسة كانت مع الركب الحسينيّ في حركته من الكوفة إلى الشام.

____________________

= لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي: ٨١)، ولا يخفى ما في آخر هذا الخبر من الغرابة والإبهام! فمَن هو أبو خالد ذكوان؟ إنّنا لم نعثر له على ترجمة في الرجال!

ثمّ هل أسلف الركب الحسينيّ ذلك المبلغ؟ وما حاجتهم إلى المال وهم في قيد الأسر والحبس؟! أم هو أسلف عبيد الله بن زياد وجماعته؟ وهل يُتصوّر إمكان حاجة هذا الطاغية المتسلّط على العراق إلى مثل هذا المبلغ؟!

والغريب من ابن سعد في طبقاته أيضاً، أنّه يروي لذكوان أبي خالد هذا دوراً آخر، حيث يقول في نفس الصفحة: (وأمر عبيد الله بن زياد بحبس مَن قدم به عليه من بقيّة أهل حسين معه في القصر، فقال ذكوان أبو خالد: خلّ بيني وبين هذه الرؤوس فأدفنها. ففعل، فكفّنها ودفنها بالجبّانة، وركب إلى أجسادهم فكفّنهم ودفنهم!!!).

(١) اللهوف: ٢١٦.

١٨٢

لكنّ نصوصاً أُخرى، تُشعر أنّ الرؤوس المقدّسة سبقت الركب الحسينيّ إلى الشام، كما في نصّ الشيخ المفيد (ره)؛ حيث يقول: (ولما فرغ القوم من التطوّف به - أي الرأس المقدّس - بالكوفة، ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس(١) ، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي،(٢)

____________________

(١) ويرد اسمه في بعض المصادر: زجر بن قيس، وفي بعض المصادر زفر بن قيس، وهو غير صحيح، بل الصحيح - كما هو المنقول عن المتقدّمين -: زحر بن قيس. (راجع مثلاً: كتاب النسب: ٣٢١ / لأبي عبيد، القاسم بن سلام، المتوفَّى سنة ١٥٤ هـ، وكتاب جمهرة أنساب العرب: ٤٠٩ / للأندلسي المتوفّى سنة ٣٨٤ هـ).

وهذا الرجل كان من أصحاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ورسوله إلى جرير بن عبد الله إلى الريّ، ثمّ رسوله إلى الخوارج، وكان معه في حرب الجَمل، وله أشعار في مدحه، وله قضايا ومواقف في صِفّين، ولكن استحوذ عليه الشيطان، فكانت عاقبته أن التحق بجنود الكفر والشيطان، وصار من أقرب الناس إلى عبيد الله بن زياد ومن خواصّه، ولقد فوّض إليه مُهمّة حمل الرأس الشريف وسائر الرؤوس الطاهرة ليحملها إلى الشام، وحينما حمل بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام إلى الكوفة كان زحر هذا يضربهم بالسوط!

وقد روى محمد بن جرير بن رستم الطبري، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قال لزهير بن القينرضي‌الله‌عنه :(اعلم أنّ هاهنا مشهدي - أي كربلاء -ويُحمل هذا من جسدي - يعني رأسه -زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يُعطيه شيئاً) . (راجع: دلائل الإمامة: ١٨٢ رقم ٩٧ / ٢).

ومن غرائب وعجائب بعض علماء الرجال من أهل السنّة، أنّهم يعدّون زحر بن قيس من الثقات (راجع: كتاب الثقات لابن حبّان: ٤: ٢٧٠)، ويُعبّر عنه ابن حبّان أنّه من كبّار التابعين، ولا يُشير بشيء إلى سوء عاقبته! وانظر أيضاً مقالة البخاري في تاريخه: ٣: ٤٤٥.

(٢) وكان عثمانيّاً تخلّف عن أمير المؤمنين يوم الجَمل، وحضر معه يوم صِفّين لنصرته، وكان مُنافقاً يُكاتب معاوية سرّاً وكان عنده كريماً. (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث: ٨: ٣٣٩).

١٨٣

وطارق بن أبي ظبيان(١) ، في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق)(٢) .

وأوضح من ذلك في هذا الصدد، ما قاله الشيخ المفيد (ره) أيضاً: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسينعليه‌السلام أمر بنسائه وصبيانه فجُهِّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن عليّ بن الحسينعليه‌السلام يُكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا ...)(٣) .

____________________

(١) وقال النمازي أيضاً: (طارق بن أبي ظبيان (أبي شهاب)، من الذين ذهبوا برأس الحسينعليه‌السلام إلى دمشق بأمر عبيد الله بن زياد) (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث: ٤: ٢٨٤).

(٢) الإرشاد: ٢: ١١٨.

(٣) الإرشاد: ٢: ١١٩، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٨، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: ١٩٣، ومُختصر تاريخ دمشق: ٢٤: ١١١، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٥٨.

وينقل المحقِّق القرشي، عن عبد الباسط الفاخوري قوله: (ثمّ إنّ عبيد الله جهّز الرأس الشريف، وعليّ بن الحسين ومَن معه من حرمه، بحالة تقشعرُّ منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد منها مفاصل الإنسان، بل فرائص الحيوان) (حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام : ٣: ٣٦٧ عن تحفة الأنام في مُختصر تاريخ الإسلام: ٨٤).

وقال أبو طالب المكّي: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد جهّز عليّ بن الحسين، ومَن كان مع الحسين من حرمه، بعد أن اعتمدوا ما اعتمدوه من سبي الحريم وقتل الذراري، ممّا تقشعرُّ من ذكره الأبدان وترتعد منه الفرائص إلى البغيض يزيد بن معاوية ...). (قوت القلوب: ١: ٧٥).

وإن تعجب فعجب قول ابن تيميّة، في مخالفته الحقيقة التأريخية المسلّمة، حيث يقول: سيّر ابن زياد حرم الحسين بعد قتله إلى المدينة)!! (راجع: المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي: ٢٨٨).

١٨٤

منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق:

هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق، عرضت لذكرهما بعض الكُتب التي تناولت الحديث في قصّة سفر الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام، وهذان الطريقان هما:

١ - الطريق السلطاني:

وهو الطريق الذي ذكره الميرزا النوري(١) ، وذهب إلى أنّ بقيّة الركب الحسيني كانوا قد سلكوا هذا الطريق من الكوفة إلى الشام، وعلى هذا كان الميرزا النوري قد استبعد أن تكون زيارة الأربعين التي زار بها بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام قبر الحسينعليه‌السلام في الأربعين يوماً الأُولى بعد مقتله في سنة ٦١ للهجرة.

وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله، لا يمكن لسالك يجدّ السير فيه ولا يلوي على أحد ولا يتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله، لاستغرق ذلك سنة من الزمان على قول بعض المحقّقين!(٢) .

ومنازل هذا الطريق - على ما ذهب إليه فرهاد ميرزا صاحب كتاب (قمقام زخّار) - هي: حرّان، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفرطاب، الشيرز، الحمى (حماة)، حمْص، بعلبك(٣) .

____________________

(١) اللؤلؤ والمرجان: ١٥٠.

(٢) راجع: كتاب تحقيق حول زيارة الأربعين / للمرحوم الشهيد المحقّق قاضي الطباطبائي: ١٩٣.

(٣) قمقام زخّار: ٢: ٥٤٨ / للمرحوم فرهاد ميرزا المتوفَّى سنة ١٣٠٥ هـ ق.

١٨٥

وقد وردت أسماء منازل هذا الطريق في المقتل المنسوب لأبي مخنف مُتفاوتة في الترتيب، مع إضافة ونقص(١) .

والمتأمّل في الخرائط الجغرافية، يجدها لا تقبل بترتيب بعض تلك المنازل!! ويقول المرحوم المحدّث الشيخ عبّاس القميّ: (اعلم أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة، باتوا بها أم عبروها، منها غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكُتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفيّة مسافرة أهل البيت إلى الشام ...)(٢) .

٢ - الطريق المستقيم (طريق عرب عقيل):

وهو طريق يُمكن قطعه في مدّة أسبوع؛ لكونه مستقيماً، وممّن ذهب إلى أنّ أهل البيتعليهم‌السلام سلكوا هذا الطريق هو المرحوم السيد محسن الأمين في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة)؛ حيث يقول: (... والمشهور أنّهم وصلوا إلى كربلاء في العشرين من صفر، ومنه زيارة الأربعين الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام للحسينعليه‌السلام .

وقد يُستبعد ذلك: بأنّ المسافة بين العراق والشام تُقطع في نحو من شهر، ولابدّ يكونوا بقوا في الشام مدّة، فكيف يمكن استيعاب الذهاب والإياب والبقاء في الشام، والذهاب للكوفة والبقاء فيها، أربعين يوماً؟!

ويمكن دفع الاستبعاد: بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق، يمكن قطعه في أسبوع؛ لكونه مُستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا.

وتدلّ بعض الأخبار، على أنّ البريد كان يذهب من الشام للعراق في أسبوع،

____________________

(١) راجع: المقتل المنسوب لأبي مخنف / ص ١٨٠.

(٢) نفس المهموم: ٤٢٥.

١٨٦

وعرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيّام.

فلعلّهم سلكوا هذا الطريق، وتزوّدوا ما يكفيهم من الماء، وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، والله أعلم.)(١) .

ونحن أيضاً نُرجّح أنّ أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا قد سلكوا ببقيّة الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أم غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما يُسمّى بالطريق السلطاني الطويل.

ذلك؛ لأنّ من الطبيعي يومذاك أن يحرص كلٌّ من يزيد وابن زياد وجلاوزتهم، الموكّلين ببقيّة الركب الحسيني على وصول هذا الركب إلى دمشق في أسرع وقت ممكن! ويتوسّلوا بكلّ الوسائل المساعدة لتحقيق هذه الرغبة!

أمّا يزيد لعنه الله؛ فلكي يروي ظمأه إلى التشفّي بمشهد انكسار أهل البيتعليهم‌السلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين، مُتوهماً أنّ بني أُميّة عدلوا يوم عاشوراء ببدْر فاعتدل! حتّى استشهد بشعر ابن الزبعرى في هذا المعنى! جذلان بمظاهر الظفر المكذوب!

وأمّا ابن زياد لعنه الله؛ فلكي يُري أميره يزيد كيف نفّذ أوامره كما يُحبّ ويرضى! حتّى يحظى عنده بمزيد من الوجاهة والمنزلة والاعتماد، فهو على عجلة من أمر وصول بقيّة الركب الحسيني إلى الشام بأسرع وقت، من أجل دفقة سرور موهومة، تدخل على قلب يزيد، تنعكس آثارها الإيجابية على حياة ابن زياد ومصيره!

وأمّا الجلاوزة لعنهم الله الذين رافقوا الركب الحسيني، فهم أشدّ لهفة إلى

____________________

(١) أعيان الشيعة: القسم الأول من الجزء الرابع، وعنه كتاب تحقيق حول زيارة الأربعين: ١٩٣.

١٨٧

الوصول بالركب إلى الشام بأسرع ما يُمكن من الوقت؛ طمعاً في نوال جوائز يزيد، والحصول على مزيد من الحظوة عنده!

فكانت جميع مصالح الطغاة وجلاوزتهم تدعو إلى اعتساف أقصر الطرق من الكوفة إلى الشام!! ويُذكَر أيضاً أنّ جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسينعليه‌السلام من الكوفة، كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يخشون أن يأخذوا منهم الرأس المقدّس؛ ولذا كانوا يتجنّبون السير على الجادّة المعروفة، وكلّما وصلوا إلى قبيلة طلبوا العلوفة وقالوا معنا رأس خارجيّ!(١) .

جُملة من وقائع الطريق إلى الشام:

أشارت مصادر تاريخية، إلى جملة من وقائع حدثت على طريق الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام، نورد هنا ذكر هذه الوقائع - ممّا اشتُهر منها، وممّا لم يتفرّد به المقتل المنسوب إلى أبي مخنف - في ضوء تتابعها حسب منازل الطريق ما أمكننا ذلك، وهي:

١ - خروج يدٍ من الحائط تكتب بمدادٍ من الدم!

روى الخوارزمي بسند عن ابن لهيعة(٢) ، عن أبي قبيل(٣) ، قال: (لما قُتِل

____________________

(١) راجع: قمقام زخّار: ٢: ٥٤٨ نقلاً عن كامل البهائي: ٢: ٢٩٢.

(٢) هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي الأعدولي وروى عن جماعة منهم أبو قبيل.

قال روح بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعياً.

وعن أحمد بن حنبل: مَن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ ومات سنة أربع أو ثلاث وسبعين. (راجع تهذيب الكمال: ١٥: ٤٨٧ رقم ٣٥١٣).

=

١٨٨

الحسينعليه‌السلام بعث برأسه إلى يزيد، فنزلوا أوّل مرحلة، فجعلوا يشربون ويبتهجون بالرأس! فخرجت عليهم كفّ من الحائط، معها قلم من حديد، فكتبت سطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب؟!)(١)

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: أنّ ابن زياد دعا الشمر اللعين،

____________________

= (٣) واسمه حيّ بن هاني بن ناضر، أبو قبيل المعافري، روى عنه جماعة منهم ابن لهيعة. وعن أبي حاتم: صالح الحديث. وقال أبو سعيد بن يونس: توفِّي بالبُرُلس سنة ثمان وعشرين ومئة. (راجع: سير أعلام النبلاء: ٥: ٢١٤ رقم ٨٦، وتهذيب الكمال: ٧: ٤٩٠ رقم ١٥٨٦).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ١٠٥ - ١٠٦ رقم ٢٨، ورواه أيضاً مُحبّ الدين الطبري في كتابه ذخائر العُقبى: ١٤٥ بتفاوت يسير، وفي آخره: (فهربوا وتركوا الرأس)، وقال الطبري: خرّجه ابن منصور بن عمّار. ورواه ابن المغازلي في المناقب: ٣٨٨ رقم ٤٤٢ وفيه: (فلما صار الليل قعدوا يشربون ويتحيّون بالرأس ...)، وليس فيه ذكر أنّ هذه الواقعة حصلت في الطريق إلى الشام، وقال مُحقّق كتاب ابن المغازلي (البهبودي) في حاشية نفس الصفحة: أخرجه العلاّمة الطبراني في المعجم الكبير: ١٤٧ نسخة جامعة طهران وخرّجه عنه الحافظ الكنجي في الكفاية: ٢٩١ ط و ٤٣٩ ط، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ٩ / ١٩٩، والحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام: ٣ / ١٣، والحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى: ٢ / ١٢٧، وأخرجه المحبّ الطبري في الذخائر: ١٤٥ ...)، وانظر: الإتحاف بحُبِّ الأشراف: ٢٣، ونظم درر السمطين: ٢١٩ و ٢٣٨، والخُطط المقريزية: ٢: ٢٨٦، وتاريخ مدينة دمشق: ١٤: ٢٤٤، وينبغي التنويه أنّ بعض هذه المصادر لم تُشخِّص أنّ هذه الواقعة حصلت في الطريق إلى الشام.

وقال الشيخ عبّاس القمّي (ره): (وروي عن كتب الفريقين، أنّ حاملي الرأس الشريف لما نزلوا في أوّل مرحلة جعلوا يشربون ويتبجّحون بالرأس فيما بينهم، فخرجت عليهم كفّ من الحائط، معها قلم من حديد فكتبت أسطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

ففزعوا من ذلك وارتاعوا، ورحلوا من ذلك المنزل) (نفس المهموم: ٤٢٢).

١٨٩

وخولّي، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد(١) ، وضمّ إليهم ألف فارس! وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وأمرهم أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها! فساروا على ساحل الفرات، فنزلوا على أول منزل كان خراباً، فوضعوا الرأس الشريف المبارك المكرّم، والسبايا مع الرأس الشريف، وإذا رأوا يداً خرج من الحائط معه (كذا) قلم، يكتب بدم عبيط شعراً:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فـلا والله لـيس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

لقد قتلوا الحسين بحكم جَور

وخالف أمرُهم حُكمَ الكتاب

فهربوا، ثمّ رجعوا، ثمّ رحلوا من ذلك المنزل، وإذا هاتف يقول:

ماذا تـقولون إذ قـال الـنبيّ لـكم

ماذا فـعـلتم وأنـتم آخـر الأُمَـم

بـعِـترتي وبـأهـلي بـعد مُـفتقدي

مـنهم أُسـارى ومـنهم ضُـرِّجوا بدم

مـا كـان هـذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي)(٢)

وروى الخوارزمي، عن إمامٍ لبني سليم، قال: حدّثنا أشياخنا، قالوا: دخلنا في الروم كنسية لهم، فوجدنا في الحائط صخرة، فيها مكتوب:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدِّه يوم الحساب

فلا والله ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

فقلنا لشيخ في الكنيسة: منذ كم هذا الكتاب؟

فقال: من قبل أن يُبعَث صاحبكم بثلاثمئة عام!!)(٣) .

____________________

(١) في رفْقة خولّي وشبث وعمر بن سعد تأمُّل، خصوصاً عمر بن سعد. (راجع: نفس المهموم: ٣٨٦).

(٢) راجع إحقاق الحقّ: ١١: ٥٦٤، ومُنتخب الطريحي: ٤٨٠.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ١٠٦ رقم ٢٩.

١٩٠

وفي (تاريخ الخميس) يقول الديار بكري: (فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليَقيلوا به، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدِّه يوم الحساب

فسألوا الراهب عن السطر، ومَن كتبه.

فقال: إنّه مكتوب هاهنا من قبل أن يُبعث نبيّكم بخمسمئة عام!)(١) .

٢ - قصّة الراهب مع الرأس المقدّس!

قال سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): (وذكر عبد الملك بن هاشم في كتاب (السيرة) الذي أخبرنا القاضي الأسعد أبو البركات، عبد القويّ بن أبي المعالي بن الحبّار السعدي، في جمادى الأوّل سنة تسع وستّمئة بالديار المصرية قراءةً عليه ونحن نسمع قال: أنبأنا أبو محمّد عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي، في جمادى الأُولى سنة خمس وخمسين وخمسمئة، قال: أنبأنا أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعي، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمان بن عمر بن سعيد النحّاس النحيي: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن رنجويه البغدادي: أنبأنا أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله البرقي: أنبأنا أبو محمد عبد الملك بن هشام النحوي البصري(٢) ، قال:

____________________

(١) تاريخ الخميس: ٢: ٧٥ و٢٩٩، وانظر: تاريخ مدينة دمشق: ٢٤: ٢٤٣، ومُحاضرة الأبرار ومُسامرة الأخيار: ٢: ٢٢٥، وأخبار الدول للقرماني: ١٠٨ وفيه: (وقيل: إنّ الجدار انشقّ وظهر فيه كفّ مكتوب عليه هذا السطر! ...).

(٢) قال الذهبي: (عبد الملك بن هشام بن أيّوب، العلاّمة النحوي الأخباري، أبو محمد الذهلي السدوسي، وقيل: الحميري، المعافري، البصري، نزيل مصر، وتوفِّي سنة ثمان ومئتين) (سير أعلام النبلاء: ١٠: ٤٢٨ رقم ١٣١).

١٩١

لما أنفذ ابن زياد رأس الحسينعليه‌السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأُسارى، موثّقين في الحبال، منهم نساء وصبيان وصبيّات من بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أقتاب الجِمال، موثّقين مُكشّفات الوجوه والرؤوس! وكلّما نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له، فوضعوه على رمح وحرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل، ثمّ يُعيدوه إلى الصندوق ويرحلوا، فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل دَيْرٌ فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم، ووضعوه على الرمح، وحرسه الحرس على عادته، وأسندوا الرمح إلى الدَيْر.

فلما كان في نصف الليل، رأى الراهب نوراً من مكان الرأس إلى عنان السماء! فأشرف على القوم وقال: مَن أنتم؟

قالوا: نحن أصحاب ابن زياد.

قال: وهذا رأس مَن؟!

قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !

قال: نبيّكم؟!

قالوا: نعم!

قال: بِئْسَ القومُ أنتم! لو كان للمسيح ولَد لأسكنّاه أحداقنا!

ثمّ قال: هل لكم في شيء؟

قالوا: وما هو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار، تأخذونها وتُعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، وإذا رحلتم تأخذونه!

قالوا: وما يضرُّنا؟!

فناولوه الرأس، وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسَّله وطيّبه، وتركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كلّه! فلما أسفر الصبح قال: يا رأس، لا أملك إلاّ نفسي،

١٩٢

وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ جدّك محمّداً رسول الله، وأُشهِد الله أنَّني مولاك وعبدك!

ثمّ خرج عن الدَّيْر وما فيه، وصار يخدم أهل البيت!

قال ابن هشام في السيرة: ثمّ إنّهم أخذوا الرأس وساروا، فلما قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض: تعالوا حتّى نُقسّم الدنانير لا يراها يزيد فيأخذها منّا!

فأخذوا الأكياس وفتحوها، وإذا الدنانير قد تحوّلت خزَفاً! وعلى أحد جانبي الدينار مكتوب:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) الآية، وعلى الجانب الآخر:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) فرمَوها في برَدى(١) )(٢) .

أمّا الخوارزمي، فقد روى نظير هذه القصّة، حيث قال: (وروي: أنّ رأس الحسينعليه‌السلام لما حُمل إلى الشام، جنّ عليهم الليل فنزلوا عند رجُلٍ من اليهود، فلما شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين!

فقال لهم: أروني إيّاه!

فأروه إيّاه بصندوق يسطع منه النور إلى السماء! فعجب اليهودي! واستودعه منهم فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس - وقد رآه بذلك الحال -: اشفع لي عند جدّك! فأنطق الله الرأس وقال:(إنّما شفاعتي للمحمّديين، ولستَ بمحمّدي!) .

____________________

(١) نهر بدمشق، مخرجه من الزبداني.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٣٦ - ٢٣٧ / وقد روى قطب الدين الرواندي (ره) بسند إلى سليمان بن مهران الأعمش هذه القصّة بتفاوت، ولم يذكر مكان وقوعها، وذكر فيها أنّ أمير الركب كان عمر بن سعد! (راجع: الخرائج والجرائح: ٢: ٥٧٧ - ٥٨٠ رقم ٢)، وقد قال الشيخ عباس القمّي (ره): (أقول: الذي يظهر من التواريخ والسيَر، أنّ عمر بن سعد لم يكن مع القوم في سيرهم إلى الشام، فكونه معهم بعيد ...). (نفس المهموم: ٤٢٤).

١٩٣

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد!

ثمّ قال: وا لهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأُسلم على يديه! ثمّ وا لهفاه! لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأُقاتل دونك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق الله الرأس، فقال بلسان فصيح:(إن أسلمت فأنا لك شفيع!) .

قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه!

وقال الخوارزمي: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب (قنسرين)؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسينعليه‌السلام ، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين، كما سيرد عليك في موضعه إن شاء الله)(١) .

ونقول: لا مانع من أن تتكرّر قصّة اهتداء راهب يهودي أو نصراني، وتتشابه الواقعة في أكثر من منزل، كما أنّه لا دليل على انحصارها في منزل واحد ومع راهب واحد! مع العلم أنّ الطرق الخارجية التي تمتدّ بين المدن الرئيسة يومذاك كانت تكثر فيها الصوامع والأديرة!

وينقل السيد هاشم البحراني (ره) عن الطريحي (ره) فيقول: (روى الثقاة، عن أبي سعيد الشامي، قال: كنت ذات يوم مع القوم اللئام، الذين حملوا الرؤوس والسبي إلى دمشق، لما وصلوا إلى دير النصارى، فوقع بينهم أنّ نصر الخزاعي قد جمع عسكراً، ويُريد أن يهجم عليهم نصف الليل، ويقتل الأبطال، ويُجدِّل الشجعان، ويأخذ الرؤوس والسبي، فقال رؤساء العسكر من عُظم اضطرابهم: نلجأ الليلة إلى الدَّيْر ونجعله كهفاً لنا؛ لأنّ الدير كان لا يقدر أن يتسلّط عليه العدوّ.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ١١٥ - ١١٦ رقم ٤٩.

١٩٤

فوقف الشمر وأصحابه على باب الدَّيْر، وصاح بأعلى صوته: يا أهل الدَّيْر!

فجاءهم القسِّيس الكبير، فلما رأى العسكر قال لهم: مَن أنتم؟! وما تُريدون؟!

فقال الشمر: نحن من عسكر عبيد الله بن زياد، ونحن سائرون من العراق إلى الشام.

فقال القسِّيس: لأيّ غرض؟

قال: كان شخص بالعراق قد تباغى، وخرج على يزيد، وجمع العساكر! فعقد يزيد عسكراً عظيماً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم، وهؤلاء النساء سباياهم!

قال الراوي: قال: فنظر القسِّيس إلى رأس الحسينعليه‌السلام ، وإذا بالنور ساطع منه! والضياء لامع قد لحق بالسماء! فوقع في قلبه هيبة منه.

فقال القسِّيس: دَيرنا ما يسعكم، بل أدخلوا الرؤوس والسبي إلى الدَير، وحيطوا أنتم من خارج، إن دهمكم عدوّ فقاتلوه، ولا تكونوا مُضطربين على السبي والرؤوس.

قال: فاستحسنوا كلام القسِّيس صاحب الدَّيْر، وقالوا: هذا هو الرأي!

فحطّوا رأس الحسين في صندوق، وقُفل عليه، وأدخلوه إلى داخل الدير والنساء وزين العابدينعليه‌السلام ، وصاحب الدَّيْر حطّهم في مكان يليق بهم.

قال الراوي: ثمّ إنّ صاحب الدَّيْر أراد أن يرى الرأس الشريف، فجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق، وكان له رازونة، فحطّ في تلك الرازونة فرأى البيت يُشرق نوراً! ورأى أنّ سقف البيت قد انشقّ! ونزل السماء تخت عظيم والنور يسطع من جوانبه، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت، وإذا بشخصٍ يصيح: أطرقوا ولا تنظروا. وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء، فإذا حوّاء، وصفيّة، وزوجة إبراهيم أمّ إسماعيل، وراحيل أمّ يوسف، وأمّ موسى، وآسية، ومريم، ونساء النبيّ.

١٩٥

قال الراوي: فأخرجوا الرأس من الصندوق، وكلّ من تلك النساء واحدة بعد واحدة يُقبِّلن الرأس الشريف، فلما وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراءعليها‌السلام غُشي على بصر صاحب الدَّيْر، وعاد لا ينظر بالعين، بل يسمع الكلام، وإذا قائلة تقول:

السلام عليك يا قتيل الأمّ، السلام عليك يا مظلوم الأمّ، السلام عليك يا شهيد الأمّ، السلام عليك يا روح الأمّ، لا يُداخلك همّ وغمّ، فإنّ الله سيُفرِّج عنِّي وعنك ويأخذ لي بثأرك.

قال: فلما سمع الدَّيْرانيّ البكاء من النساء اللاتي نزلن من السماء، اندهش ووقع مغشيّاً عليه، فلما أفاق من ذلك البكاء، وإذا بالشخص نزل إلى البيت وكسر القفل والصندوق، واستخرج الرأس وغسله بالكافور والمسك والزعفران، ووضعه في قبلته، وجعل ينظر إليه ويبكي ويقول: يا رأس رؤوس بني آدم، ويا عظيم، ويا كريم جميع العوالم! أظنّك أنت من الذين مدحهم الله في التوراة والإنجيل، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل؛ لأنّ خواتين سادات الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك!

أمّا أنا أُريد أن أعرفك باسمك ونعتك!

فنطق الرأس بإذن الله وقال:(أنا المظلوم! أنا المقتول! أنا المهموم! وأنا المغموم! وأنا الذي بسيف العدوان والظلم قُتلت! أنا الذي بحرب أهل الغيِّ ظُلِمت!) .

فقال صاحب الدَّيْر: بالله أيُّها الرأس زدني!

فقال الرأس:(إن كنت تسأل عن حالتي ونسَبي؟ أنا ابن محمّد المصطفى! أنا ابن عليّ المرتضى! أنا ابن فاطمة الزهراء! أنا ابن خديجة الكبرى! وأنا ابن العروة الوثقى!

أنا شهيد كربلاء! أنا مظلوم كربلاء! أنا قتيل كربلاء! أنا عطشان كربلاء! أنا ظمآن كربلاء! أنا مهتوك كربلاء!) .

١٩٦

قال الراوي: فلما سمع صاحب الدَّيْر من رأس الحسينعليه‌السلام هذا الكلام جمع تلامذته ومُريديه، وحكى لهم هذه الحكاية، وكانوا سبعين رجلاً، فضجّوا بالبكاء والنحيب، ونادوا بالويل والثبور، ورموا العمائم من رؤوسهم، وشقّوا أزياقهم، وجاءوا إلى سيّدنا ومولانا علي بن الحسين، زين العابدينعليه‌السلام ، ثمّ قطعوا الزنّار وكسروا الناقوس! واجتنبوا أفعال اليهود والنصارى، وأسلموا على يديه، وقالوا: يا بن رسول الله! مُرْنا أن نخرج إلى هؤلاء القوم الكفرة ونُقاتلهم، ونجلي صدأ قلوبنا ونأخذ بثأر سيّدنا!

فقال لهم الإمام:(لا تفعلوا ذلك؛ فإنّهم عن قريب ينتقم الله منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر) .

فردّوا أصحاب الدَّيْر عن القتال)(١) .

٣ - الأنبياء والملائكة يزورون الرأس المقدّس

قال السيّد ابن طاووس (ره): (روى ابن لهيعة وغيره حديثاً، أخذنا منه موضع الحاجة، قال: كنت أطوف بالبيت فإذا أنا برجل يقول: اللهمّ، اغفر لي وما أراك فاعلاً!

فقلت له: يا عبد الله، اتَّقِ الله ولا تقل مثل هذا! فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت الله غفرها لك، فإنّه غفور رحيم!

قال: فقال لي: تعال حتّى أُخبرك بقصّتي!

فأتيته، فقال: اعلم أنّا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسينعليه‌السلام إلى الشام، فكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت! فشرب أصحابي ليلة حتّى سكروا ولم أشرب معهم، فلما جنّ الليل سمعت رعداً

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢٦.

١٩٧

ورأيت برْقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحت! ونزل آدمعليه‌السلام ، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ونبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين، ومعهم جبرئيل وخَلْقٌ من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت، وأخرج الرأس، وضمّه إلى نفسه وقبَّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلّهم، وبكى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على رأس الحسينعليه‌السلام وعزّاه الأنبياء، وقال له جبرئيلعليه‌السلام :(يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أُطيعك في أُمّتك، فإن أمرتني زلزلت بهم الأرض، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط!) .

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :(لا يا جبرئيل، فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة!) .

ثمّ جاء الملائكة نحونا ليقتلونا، فقلت: الأمان الأمان يا رسول الله!

فقال: اذهب، فلا غفر الله لك!)(١) .

٤ - تكريت(٢) تستقبل الركب بالفرح!!

ينقل الطريحي، عن مسلم الجصّاص قوله: (فلما وصلوا إلى تكريت أنفذوا إلى صاحب البلد أن تلقّانا (كذا) فإنّ معنا رأس الحسين وسباياه! فلما أخبرهم الرسول بذلك نُشرت الأعلام، وخرجت الغَلمة يتلقّونهم!

فقالت النصارى: ما هذا؟

فقالوا: رأس الحسين!

فقالوا: هذا رأس ابن بنت نبيّكم!؟

قالوا: نعم.

قال: فعظم ذلك عليهم، وصعدوا إلى بِيَعهم وضربوا النواقيس تعظيماً لله ربّ

____________________

(١) اللهوف: ٢٠٨.

(٢) تكريت: وهي بلدة بين بغداد والموصل، وأقرب إلى بغداد، وتبعد عنها ثلاثين فرسخاً وتقع غربي دجلة. (راجع: مراصد الاطّلاع: ١: ٢٦٨).

١٩٨

العالمين! وقالوا: اللّهم، إنّا إليك بُراء ممّا صنع هؤلاء الظالمون!)(١) .

وقال القندوزي: (فلما وصلوا إلى بلد تكريت نُشرت الأعلام، وخرج الناس بالفرح والسرور! فقالت النصارى للجيش: إنّا بُراء ممّا تصنعون أيّها الظالمون! فإنّكم قتلتم ابن بنت نبيّكم، وجعلتم أهل بيته أُسارى!)(٢) .

المشاهد المقدّسة في منازل الطريق:

١ - مشهد النقطة في الموصل!

لم يُذكر في واحد من الكُتب التاريخية المعتبرة - على مستوى التحقيق - أنّ أهل البيتعليهم‌السلام في الطريق من الكوفة إلى الشام قد مرّوا بمدينة الموصل، وقد تجنّب بعض المحققّين والمؤرّخين الخوض في صدد صحّة أو عدم صحّة هذا المدّعى، ومَن ذكرها منهم ذكرها على نحو النقل عمّن ذكرها، فالمرحوم الشيخ عبّاس القمّي - مثلاً - يقول ما هذا نصّه: (وأمّا مشهده بالموصل، فهو كما في روضة الشهداء(٣) ما ملخّصه: أنّ القوم لما أرادوا أن يدخلوا الموصل، أرسلوا إلى عامله أن يُهيِّئ لهم الزاد والعلوفة، وأن يُزيِّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يُهيِّئوا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا، بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير أن

____________________

(١) مُنتخب الطريحي: ٤٨١، وانظر: ناسخ التواريخ: ٣: ١٠٣.

(٢) ينابيع المودّة: ٣٥١.

(٣) راجع: روضة الشهداء: ٣٦٨ / ويُلاحظ المتتبّع أنّ هذا الكتاب، وكتاب قمقام رخّار، وكتاب ينابيع المودّة، وكتاب معالي السبطين، وأمثالها، تأخذ جميعها ما تأخذه من منازل الطريق السلطاني عن كتاب المقتل المنسوب إلى أبي مخنف، وأصل قضيّة المرور بمدينة الموصل هو كتاب المقتل المنسوب إلى أبي مخنف، فراجع ذلك في ص ١٨٣ منه.

١٩٩

يدخلوا فيها(١) ، فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دم من الرأس المكرّم، فصارت تشعُّ(٢) ويغلي منها الدم كلّ سنة في يوم عاشوراء! وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف، ويُقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحجَر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قبّة سمّوها مشهد النقطة)(٣) .

٢ - مشهد النقطة في نصيبين(٤) :

ويقول الشيخ عبّاس القمّي: (وأمّا السانحة التي وقعت بنصيبين: ففي الكامل للبهائي ما حاصله: أنّهم لما وصلوا إلى نصيبين، أمر منصور بن الياس بتزيين البلدة، فزيّنوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسينعليه‌السلام أن يدخل البلد فلم يُطعه فرَسه! فبدّله بفرَس آخر فلم يُطعه! وهكذا فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض، فأخذه إبراهيم الموصلي(٥) ، فتأمّل فيه، فوجده رأس الحسينعليه‌السلام ، فلامهم ووبّخهم فقتله أهل الشام، ثمّ جعلوا الرأس في خارج البلد ولم يُدخلوه به.

____________________

(١) وعلّة ذلك أنّ أهلها كانوا من مُحبّي أهل البيتعليهم‌السلام ، كما في كتابي معالي السبطين: ٢: ٧٧ وناسخ التواريخ: ٣: ١٠٢.

(٢) في معالي السبطين: ٣: ١٠٢ (تنبع) بدلاً من (تشعّ).

(٣) نفس المهموم: ٤٢٦.

(٤) نصيبين: وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قُراها - على ما يُذكر - أربعون ألف بستان، وبينها وبين سنجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستّة أيّام. (راجع: مُعجم البلدان: ٥: ٢٨٨، ومُعجم ما استُعجِم: ٤: ٥٦٨ و١٣١٠).

(٥) لم نعثر على ترجمة لهذا الرجل القتيل المذكور في هذا الخبر.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

إذ حاصر إسماعيل جيش عمرو، وما لبثوا أنْ هُزِموا وقُتل الكثير منهم، وأُسر منهم كثير وفر آخرون، وكان عمرو بن الليث مِن الفارِّين، ولكنَّه أُسِر ووقع ما كان عنده غنيمة بيد إسماعيل ومنها الخُرج. فلمَّا رآه مختوماً وقرأ ما كُتب عليه، أدرك ما هنالك وأنَّ الخُرج يحتوي على رسائل قوَّاده إلى عمرو، وهمَّ أنْ يفتح الخُرج ليطَّلع على الذين كتبوا تلك الرسائل، ولكنَّه بحِكمته الصائبة وتدبُّره العواقب، امتنع عن ذلك قائلاً في نفسه: لو أنَّني اطَّلعت على أسمائهم لساء ظنِّي بهم، كما أنَّهم إذا عرفوا انكشاف سِرِّ خيانتهم ونقضهم لعهودهم سوف يستولي عليهم الخوف، وقد يدفعهم ذلك إلى العصيان والثورة ومُحاولة اغتيالي أو قد يُشكِّلون مُعارضة تسعى للإخلال بالانضباط في الجيش، ويقلبون النصر إلى هزيمة مِمَّا يؤدِّي إلى مفاسد لا يُمكن تلافيها.

بناءً على ذلك أبقى الخُرج مَختوماً ثمَّ استدعى قادته وخواصَّ أصحابه، وأراهم الخُرج وعليه ختم عمرو وقال لهم: هذه رسائل كتبها بعض قادتي وأصحابي إلى عمرو يتقرَّبون إليه ويطلبون منه الأمان. أحلف أنْ أحِجَّ عشر حَجَّات إذا كنت أعلم ما في هذه الرسائل والذين كتبوه. فإذا كان ظَنِّي في أنَّهم قد طلبوا منه الأمان صحيحاً، فإنِّي أعفو عنهم، وإذا كان غير صحيح فإنِّي أستغفر الله على ظَنِّي. ثمَّ أمر بإحراق الخُرج بما فيه فأُحرق ولم يبقَ للرسائل مِن أثر.

فاستولت على كاتبي الرسائل الدهشة والحيرة، لما رأوه مِن إسماعيل مِن كرامة النفس والعفو الأخلاقي، وأحسُّوا بالراحة والاطمئنان بعد أنْ شاهدوا رسائلهم قد استحالت إلى رماد، وإنْ سِرَّهم قد قُبر إلى الأبد ولكنَّهم ندموا على ما بدر منهم، ومالوا إلى قائدهم الكريم وأحبُّوه وعزموا عزماً صادقاً مُخلصاً أنْ يبقوا على وفائهم له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤١

أردت أنْ أعظك فوعظتني

محمد بن المنكدر قال:

خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو مُتَّكئ على غُلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ مِن شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه فسلَّمت عليه فسلَّم عليَّ وقد تصبَّب عرقاً.

قلت: أصلحك الله! شيخ مِن أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

خلَّى عن الغُلامين مِن يده ثمَّ تساند وقال: (لو جاءني - والله - الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله تعالى أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على مَعصية مِن معاصي الله).

فقلت: يرحمك الله! أردت أنْ أعظك فوعظتني (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٢

خير لباس في كلِّ زمان لباس أهله

عن حماد بن عثمان قال:

حضرت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال رجل: أصلحك الله! ذكرت أنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد.

فقال له:(إنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمانٍ لا يُنكر، ولو لبس مِثل ذلك اليوم شُّهِّر به؛ فخير لباس كلِّ زمان لباس أهله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٣

الإسراف مذموم مِن أيٍّ كان

كان مسلمة بن عبد الملك أحد أُمراء الجيش في حرب الروم، وعندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة سمح لمسلمة بزيارته كلَّ يوم.

في أحد الأيَّام وصل خبر إلى الخليفة بأنَّ مسلمة يُسرف كثيراً بتهيئة الطعام، فأدَّى هذا الخبر إلى عدم ارتياح الخليفة، وصمَّم على نصيحته وإرشاده، فأمر الخليفة في أحد الأيَّام بإعداد وجبة عشاء مُخصَّصة لمسلمة، وفي تلك الدعوة أمر الخليفة طبَّاخ القصر بتهيئة أنواع مُختلفة مِن الطعام، ومنها حَساء مِن العدس والبصل والزيتون، وأمره عندما يحين وقت العشاء أنْ يُقدِّم الحَساء وبعد فترة يقدم أنواع الأطعمة الأُخرى.

لمَّا حضر مسلمة بدأ الخليفة يسأل مسلمة عن أوضاع الروم، والحرب في تلك المنطقة فأجابه، وبعد ساعتين مِن وقت العشاء أمر الخليفة الطبَّاخ بجلب العشاء وأوَّل الأطعمة المطلوبة الحَساء، وكان مسلمة جائعاً فلم يستطيع انتظار بقيَّة الطعام، فقام بأكل الحَساء وشبع، وعندما قدَّموا بقيَّة الأطعمة المُختلفة لم يستطع مسلمة الأكل بعد ذلك.

سأله عمر بن عبد العزيز: لماذا لا تأكل؟

أجاب: لقد شبعت.

قال الخليفة: سبحان الله! أنت شبعت مِن هذا الحَساء الذي كلَّفنا درهماً واحد، أما لهذه المأكولات المُختلفة، فإنَّك تصرف آلاف الدراهم! خَف الله ولا تُسرف! يجب أنْ تُعطي هذه المبالغ إلى المُحتاجين لمرضاة الله.

وقد كانت نصيحة عبد العزيز لمسلمة مؤثِّرة طول حياته.

إنَّ تقديم النُّصح عَلناً والإشارة إلى الأخطاء أمام الناس، وتوبيخ الخاطئ على ما

٣٤٤

فعل وتخطئته على رؤوس الأشهاد، وانتظار زلاَّته في حضور الآخرين، إنَّما هو في الحقيقة تحطيم لشخصيَّته، ومثل هذا النُّصح - فضلاً عن كونه لا يأتي بأيِّ أثر مُفيد فإنَّه - يبعث على العداوة والبغضاء، ويُثير الرغبة في الانتقام وتكون له نتائج ضارَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٥

التعليم الذكي

الحسن والحسين (عليهما السلام) مرَّا على شيخ يتوضَّأ ولا يُحسن. فتظاهرا بالتنازع يقول كلُّ واحدٍ منهما للآخر: (أنت لا تُحسن الوضوء).

فقالا: (أيُّها الشيخ كُنْ حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحدٍ منَّا)، فتوضَّآ.

ثمَّ قالا: (أيُّنا يُحسن؟).

قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخ الجاهل - يعني نفسه - هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب على يديكما وببركتكما وشفقتكما على أُمَّة جَدِّكما.

لم ينتقد الحسنان (عليه السلام) الشيخ انتقاداً مُباشراً، ولم يُجابهاه بجهله بطريقة الوضوء الصحيحة، ولم يذكرا وضوءه بسوء أو يصفاه بالبطلان، بلْ أجريا الوضوء بنفسيهما مُحتكمين إليه ليجلب انتباهه إلى كيفيَّة وضوئهما، بحيث يُدرك بطريقة غير مُباشرة خطأ وضوئه؛ فكان مِن نتيجة ذلك الانتقاد المؤدَّب العقلاني أنْ اعترف الشيخ بخطئه صراحة، وتعلَّم طريقة الوضوء الصحيحة وشكر لهما راضياً شفقتهما ومحبتهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٦

تحتقر الكلام وتستصغره؟!

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال وقد كلَّمه رجل بكلام كثير:

(أيُّها الرجل، تحتقر الكلام وتستصغره!

اعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يبعث رُسله، حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضَّة، ولكنْ بعثها بالكلام، وإنَّما عُرِف الله جَلَّ وعَزَّ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام).

هنا أيضاً لم يقل الإمام شيئاً عن الرجل الثرثار، ولم يجعله هدف انتقاده مُباشرةً، كما لم يُشر بشيء إلى ثرثرته، ولا انتقد فيه هذه الصفة المذمومة انتقاداً مُباشراً، بلْ اكتفى بذكر قيمة الكلام وأهميَّته وأنَّه ينبغي ألا يستصغر شأن الكلام، وألا يهدر رأسماله الثمين هذا عبثاً بحَقٍّ وبغير حَقٍّ.

وحثَّه على استثمار موهبته في الحالات المُقتضية وبالقدر اللازم، وهكذا انتقد الإمام بشكل مؤدَّب وحكيم وغير مُباشر ثرثرة الرجل (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٧

مُعاوية يأمر بسبِّ عليٍّ (عليه السلام) على المَنابر

عندما بدأ مُعاوية حُكمه على أرض الإسلام الواسعة، أمر بسبِّ علي بن أبي طالب في أرجاء البلاد، فارتكب بعمله الظالم والقذر هذا إثماً كبيراً لا يُغتفر، وكان بذلك يرمي إلى الإساءة إلى سُمعة الإمام، وحمل الناس على إساءة الظَّنِّ بالإمام وانتزاع مَحبَّته مِن قلوب الناس، ومحو دلائل عدالته ووقوفه بوجه الظلم مِن ذاكرتهم، وبذلك يُغطِّي مِن جهة وصمات العار وسوء السُّمعة التي تلطِّخ اسم مُعاوية وآل أُميَّة، وتكون له مِن جِهة أُخرى حُرِّيَّة إطلاق يده في الظلم والجور، دون أنْ يُقارن أحد بين حكومته وحكومة الإمام عليِّ (عليه السلام) مِن حيث ظلمه وعدل عليٍّ..

ولكي يعمل على الإسراع في انتشار سبِّ الإمام في إرجاء البلاد؛ أمر جميع كبار الضبَّاط وكبار أعضاء الحكومة في أنحاء البلاد أنْ يُنفِّذوا ذلك عن طريق ذكر اسم الإمام عليٍّ بالسوء في جميع المحافل والمجالس، وأن يقوم أئمَّة الجمعة في خُطب صلاتهم بسبِّه على المنابر، وطلب إلى الشعراء أنْ ينظموا القصائد في هَجوه وينشروها بين الناس، وهكذا جَنَّد جميع موظَّفي الدولة لتنفيذ هذه الخُطَّة دون هواد، بحيث يتعوَّد الناس على سبِّ عليِّ بن أبي طالب، وكأنَّه جزءٌ مِن تكاليفهم الشرعيَّة وبموازاة سَبِّ الإمام عليٍّ وشتمه خطَّط لقمع حركة التشيع ونفذه.

بدأ - أوَّلاً - بإلقاء القبض على أخلص أصحاب الإمام المعروفين، والثابتين على الولاء له، والمشهورين بالتقوى ومِن خيرة تلامذة مدرسة الإسلام، أهانهم وحطَّ مِن كراماتهم، وقتل بعضهم شرَّ قتلة، وعذَّب بعضهم عذاباً مُبرحاً حتَّى الموت، وألقى ببعض في غياهب السجون.

وبهذه الجرائم المُنكَرة المُتَّسمة بالإرهاب خَلَق جَوَّاً مِن الرُّعب والخوف، بحيث لم يعد أحد يَجرؤ على أنْ يُجاهر بولائه للإمام علي، ويتحدَّث عن فضائله أو أنْ

٣٤٨

ينبري لتفنيد افتراءات مُعاوية ومأجوريه دفاعاً عن الإمام. وبقي الحال على هذا المنوال خلال حُكم مُعاوية.

وبعده واصل عدد مِن خُلفائه السيرة نفسها في الاستمرار على سبِّ الإمام علي. وظلَّ هذا الإثم الكبير شائعاً في طول البلاد وعرضها مُدَّة نِصف قَرن أو أكثر، دون أنْ يستطيع الناس الأخيار المؤمنون مُكافحته، وانتقاد تلك البِدعة الشائنة التي وضع مُعاوية لُبنته.

وفي سنة (٩٩) هِجريَّة تسلَّم الخلافة عمر بن عبد العزيز، وأصبح قائد البلاد الإسلاميَّة لقد كان في شبابه - عندما كان يدرس في المدينة - مثل سائر المخدوعين يذكر عليَّاً بالسوء، ولكنَّه عرف الحقيقة مِن أحد العلماء، وأدرك منه أنَّ سَبَّ تلك الشخصيَّة خلاف للشرع وموجب لغضب الله تعالى، غير أنَّه لم يكن قادراً على بيان ذلك للناس لمنعهم مِن الذنب الذي يرتكبونه، وعندما تربَّع على كرسيِّ الخلافة قرَّر أنْ يستفيد مِن منصبه لإزالة تلك الوصمة مِن جَبين البلاد، بمنع سَبِّ الإمام عليٍّ (عليه السلام).

ولكنَّه لكيلا يتعرَّض في مُهمَّته لمُعارضة المُتعصِّبين مِن بني أُميَّة وأصحابه الأنانيِّين، فلا يقيمون عَقبة في طريقه قرَّر أنْ يُفاتحهم في الأمر، لكي يُهيِّئهم له ويلفت أنظارهم إلى ضرورة التعاون معه في غسل ذلك العار، فوضع لذلك خُطَّة استخدم فيها طبيباً شابَّاً يهوديَّاً كان في الشام، فاستدعاه سِرَّاً وأطلعه على تفاصيل خُطَّته، وطلب إليه الحضور إلى قصر الخلافة في يوم وساعة مُعينين لينفذ الخُطَّة.

وقبل اليوم المُحدَّد أرسل إلى كبار شخصيَّات بني أُميَّة وذوي النفوذ في الشام، للحضور في ذلك اليوم عند الخليفة. وفي الساعة المُحدَّدة دخل الطبيب اليهوديِّ بعد الاستئذان، فأثار دخوله انتباه الحاضرين جميعاً.

سأله الخليفة عن سبب حضوره؟

فقال: إنَّه جاء يخطب ابنة الخليفة.

٣٤٩

سأله عمر: لمَن تخطبها؟

قال: لنفسي.

فبُهِت الحاضرون وراحوا ينظرون إليه باندهاش.

نظر إليه عمر وقال: ليس لي أنْ أوافقك على طلبك، فنحن مسلمون وأنت لستَ مسلماً، ومثل هذا الزواج غير جائز في الإسلام.

فقال الطبيب اليهودي: إذا كان هذا هو حُكم الإسلام، فكيف زوج نبيَّكم ابنته عليَّاً (عليه السلام)؟

فغضب الخليفة وقال له: عليٌّ (عليه السلام) كان مِن كبار المسلمين.

فقال اليهودي: إذا كنتم تعتبرونه مسلماً، فلماذا - إذن - تلعنونه وتسبُّونه في المجالس؟! فالتفت عمر إلى الحاضرين وقد بدا التأثُّر على ملامحه وقال لهم: أجيبوا على سؤاله.

سكت الجميع وأطرقوا برؤوسهم خَجلاً، وخرج الطبيب اليهودي دون أنْ يحظى بجواب (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٠

أيُّهما أفضل عليٌّ أم مُعاوية؟!

لمَّا وَلِي عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة. واستعمل ميمون بن مهران على (قرقيس)) رجلاً يُقال له: (علاثة). فتنازع رجلان فقال أحدهما: مُعاوية أفضل مِن عليٍّ وأحقُّ. وقال الآخر: عليٌّ أولى مِن مُعاوية.

فكتب عامل (قرقيس) إلى ميمون بن مهران بذلك، فكتب ميمون بن مهران إلى عمر. فكتب عمر إلى ميمون بن مهران أنْ اكتب إلى عامل (قرقيس) أنْ أقم الرجل الذي قدَّم مُعاوية على عليٍّ بباب المسجد الجامع فاضربه مئة سوط، وانفه مِن البلد الذي هو به. فأخبر مَن رآه وقد ضرب مئة سوط وأخرج مُلبَّباً (أي: مأخوذاً بتلابيبه) حتَّى أُخرج مِن باب يُقال لها: باب الدين.

يبدو أنَّ عمر قد أدرك أنَّ الجدل في أفضليَّة مُعاوية كان خُطَّة جديدة للمُعاندين، وأنَّهم مِن هذا الطريق يُريدون أنْ ينالوا مِن مقام الإمام علي الشامخ، وأنْ يُسيئوا إليه ليُعيدوا السبَّ والشتم إلى الوجود بصورة أُخرى ويواصلوا أُسلوبهم الخبيث الظالم. إلاَّ أنَّ خليفة المسلمين أدرك سوء نيَّتهم هذه، فأحبط خُطَّتهم بأمره الصريح القاطع (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥١

التغاضي عن سفاسف الأُمور

حُكي أنَّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتَّى بَعُد عن عسكره، فنظر إلى راعٍ تحت شجرة فنزل عن فرسه لحاجة، وقال للراعي: احفَظ عليَّ فرسي حتَّى أعود، فعَمد الراعي إلى العنان - وكان مُلبَّساً ذهباً كثيراً - وأخرج سكِّيناً فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه.

نظر بهرام نظرة إليه فرآه، فغضَّ بصره وأطرق برأسه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتَّى أخذ الرجل حاجته.

ثمَّ قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي: قَدِّم إليَّ فرسي، فإنَّه قد دخل في عيني مِن سافي الريح فلا أقدر على فتحهما، فقدَّمه إليه فركب وسار إلى أنْ وصل عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنَّ أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتَّهمَنَّ بها أحداً.

هذا الراعي لم يكن سارقاً مُحترفاً، كما أنَّ ذلك المقدار مِن الذهب لم يكن ذا قيمة عند بهرام، فلو أنَّه كان قد أظهر علمه بما فعل الرجل وأمر عند عودته بالقبض عليه، واسترجاع الذهب منه ومُعاقبته على السرقة؛ لكان في ذلك تصغير لشخصه بالإضافة إلى تحطيم كرامة الراعي. ولكنَّه بهذا التغافل والتغاضي أخفى سِرَّ الراعي كما رفع مِن قيمة نفسه الإنسانيَّة وكرم أخلاقه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٢

مُديرٌ حكيم

قبل سنوات كان هناك شخص قدير، يُدير إحدى شركات التصدير الكُبرى ذات الفروع في عدد مِن المُدن، وكان كلُّ سنة في موسم الشراء يُحوِّل إلى كلِّ فرع ما يحتاجه مِن الأموال، أُخبر هذا المدير يوماً بأنَّ مُحاسب الفرع الفلاني قد استغلَّ مركزه واختلس بعض الأموال المُرسلة إليه لشراء البضاعة.

لم يكن ذلك الفرع يبعُد كثيراً عن المركز، فقرَّر المدير أنْ يزوره في اليوم التالي، وطلب مِن مدير مكتبه أنْ يصحبه، وفي اليوم التالي سافرا إلى تلك المدينة ووصلاها عند الضحى، ودخلا على مُحاسب فرع الشركة مُباشرة دون إخبار أحدٍ.

وعندما سأل المُدير المُحاسب عن الوضع المالي في فرعه، فتح هذا دفتره أمام المُدير فوجد المُدير أنَّ الموجود في المصرف يقرب مِن ٩٥% مِن المبلغ المُحوَّل إليه، بالإضافة إلى عدد مِن قوائم الشراء ومبلغٍ نقديٍّ في الصندوق.

عندما أخذ المُحاسب يحسب النقود في الصندوق قال له المُدير: هذا يكفي.

ثمَّ أثنى على نشاطه وصافحه وخرج مِن الشركة.

يقول مُدير المكتب الفرعي: في الطريق قلت للمُدير: إنَّ المبلغ الذي كان في الصندوق لم يكن يكفي لتسديد الحساب؛ فلو أنَّك تمهَّلت حتَّى يُنهي الحساب لعلمت أنَّ رصيد الصندوق ناقص.

قال المدير: لقد عرفت أنَّ ما في الصندوق لا يكفي لتسديد الرصيد، ولكنَّ سُمعة موظفٍ مُحترمٍ في الشركة أغلى بكثير مِن هذا المبلغ الزهيد. إنَّني أوقفت عَدَّ النقود؛ لئلا ينكشف أمر المُحاسب وتُهان كرامته. إنَّني ما سافرت إلاّ لأنَّي كنت قلقاً على مصير عِدَّة ملايين مِن أموال الشركة، فكنت أُريد أنْ أتحقَّق مِن الأمر بنفسي، وأتعرَّف على وضع الفرع المالي بأسرع ما يُمكن. وقد ظهر لي بمراجعة

٣٥٣

الحسابات أنَّ أموال الشركة لم يُصبها ضرر يُذكر. وهذا العجز البسيط في الصندوق ليس دليلاً على خيانة المُحاسب فلرُبَّما اضطرَّ إلى استقراضه ليُسدِّد مصاريف وضع حمل زوجه، أو لمرض ابنه، أو لدفع إيجار بيته. فكان لا بُدَّ مِن التغافل عن ذلك للمُحافظة على ماء وجهه، ولستُ أشكُّ في أنَّه سوف يُسدِّد ما عليه في أوَّل فُرصةٍ تُتاح له، ولن يعود لمِثلها بعد ذلك ولن يُخاطر بتشويه سُمعته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٤

إذا أكرمت اللئيم تمرَّد

استعمال مكارم الأخلاق يكون مع الأشخاص الذين يستحقُّون ذلك، فالوضيعون الذين تزيدهم العِفَّة جُرأة على ارتكاب السيِّئات، ليسوا جديرين بالعفو مِن جانب الكُرماء ذوي النفوس الرفيعة.

كذلك التغافل والتغاضي مِثل مكارم الأخلاق، يجب أنْ يوضعا في محلِّهما عند مَن يستحقَّهما، فإذا أراد أحد إساءة استغلال ذلك وأوغل في ارتكاب أعماله السيِّئة؛ فلا يجوز التغافل عنه، بلْ يجب أنْ يُصارح بسوء عمله ويؤاخذ ويُعاقَب عليه. وهذا ما فعله الرسول الكريم بحقِّ الحَكم بن أبي العاص الذي كان مِن كبار المُنافقين:

في سنة فتح مَكَّة استسلم الحَكم بن أبي العاص بسبب قُدرة المسلمين في ذلك الوقت، ولكنَّه كان يؤذي الرسول بأساليب مُختلفة، فبعض الأحيان كان يتجسَّس على النبي ويُخبر بذلك أعداءه، حيث كان يتجسَّس على الأماكن التي كان يقطنها الرسول مع عائلته ويسمع ما يتكلَّمون به، ويُخبر به المُنافقين بصورة سُخريَّة واستهزاء. بعض الأحيان كان يمشي وراء الرسول الأكرم مع جماعة مِن المُنافقين، ويسخر مِن مشية الرسول بتحريك رأسه ويده. وكان الرسول عارفاً بأقوال وتصرُّفات الحَكم بن أبي العاص، وكان يغضُّ النظر عنه؛ وذلك أنَّ الرسول يأمل أنْ يأتي يوم يُغيِّر هذا الرجل فيه تصرُّفاته القبيحة، ولكنَّ الرسول رأى منه عكس ذلك؛ حيث ازدادت جسارته على الرسول فصمَّم الرسول على تغيير أُسلوبه معه.

في أحد الأيَّام كان الرسول عابراً، فلاحظ الحَكم بن أبي العاص خلفه يسخر منه بَحكَّة رأسه ويده، وفجأة التفت الرسول الأكرم إليه وقال:

(كذلك فلتكُن، يا حَكم)، فلم ينتبه الحَكم بن أبي العاص لكلام الرسول فأُصيب

٣٥٥

بضبَّة في روحه وأعصابه، اعترته الرعشة والحركات المُضحكة، وقد حَكم عليه بالإقامة الجبريَّة بالطائف وأُبعد عن المدينة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٦

فِطنة أديب

كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة. وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به.

استحضره وقال له مُحتدَّاً: لأحملنك على الأدهم، أي: سأسجنك وأضع القيد في رجليك، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة، منها: تقييد الرجلين، ومنها الفرس الأسود).

أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود، ولذلك قال له باسماً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب.

فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله: أردت الحديد. وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة، منها: القيد، ومنها الذكاء والفطنة. فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال: الحديد خير مِن البليد. قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد.

لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره - والذي مزجه بالتكريم والاحترام - الموقف رأساً على عقب؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٧

تغافل في مَحلِّه

كان هارون الرشيد يخرج إلى الصيد، وفي أحد المَرَّات وصل إلى بُستان معمور فسأل: لمَن هذا البُستان؟

قالوا: هو لرجل مجوسيٍّ.

فقال: أُريد هذا البستان، ولا بُدَّ مِن شرائه.

فقال الوزير: قد كلَّمناه في هذا الأمر عِدَّة مَرَّات فلم يوافق.

فقال هارون الرشيد: ما العمل حتَّى يصبح هذا البُستان مِن أملاكي؟

قال الوزير: نقول له: إنَّ الخليفة نزل في بُستانك، ونسأله لمَن هذا البستان؟

سوف يقول: إنَّه لحضرة الخليفة هارون الرشيد، وسوف نعتبر هذه الجُملة مُستمسكاً ونُعطيه المبلغ مع بعض جوائز.

وافق هارون على ذلك، ثمَّ نزل هارون في ذلك البُستان وبعد فترة جاء المجوسيُّ وأدَّى التحيَّة باحترام. وعندما سأله هارون: لمَن هذا البستان؟

قال: كان ملك أبي واليوم أصبح ملكي، ولا أعرف غداً لمَن يكون؛ فأثَّر كلام المجوسيِّ في نفس هارون الرشيد.

قال: إنَّك حفظت بُستانك بهذا الكلام وقد غلبتنا بالحيلة.

كان المجوسيُّ عارفاً بالآداب والأعراف، ويعلم أنَّه عندما يسأل هارون لمَن هذا البستان؟ يجب أنْ يُقال له: إنَّه لخليفة المسلمين. ولكنَّه تغافل عمَّا يعلم وأظهر أنَّه لا علم له بما جرت عليه العادة. وعلى أثر هذا التغافل المؤدَّب، الذي جاء في محلِّه أمكن حَلُّ المُشكلة، واستفاد المُتغافل مِن نتيجة تغافله الإيجابيِّ المُفيد (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٨

إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية

جهَّز رسول الله جيشاً لإحدى حُروبه وعيَّن قائداً للجيش، وأمر الجنود بإطاعته وتنفيذ أوامره.

قام هذا القائد في بداية مسيره بتجربة غريبة، ربَّما لكي يعرف مدى طاعة جنوده له، أو ليعلم درجات إدراكهم، أو لأيِّ هدفٍ آخر حيث أمر بنار فأُضرمت، ثمَّ أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها.

راح بعض الجنود يتهيَّأون لتنفيذ الأمر، ورأى آخرون أنَّ هذا الأمر غير صحيح ورفضوا إطاعته فيه.

فقال لهم شابٌّ: لا تعجلوا حتَّى تأتوا رسول الله، فهو إنْ أمركم أنْ تدخلوها فادخلوها، فأتوا رسول الله فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً. إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيته للخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٥٩

لا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله

يقول ابن شهر آشوب: بعد أنْ صمَّم مُعاوية على القيام ضِدَّ الإمام عليٍّ خطر له أنْ يختبر أهل الشام؛ ليعرف مدى طاعتهم لأوامره، فاقترح عليه عمرو بن العاص طريقة لإجراء هذا الاختبار قائلاً له: اصدر أمرك إلى الناس بأنَّ عليهم أنْ يذبحوا القَرع كما يذبحون الشاة، فيذكُّوه قبل أنْ يأكلوه، فإذا أطاعوك فثق بتأييدهم وإسنادهم لك، وإلاّ فلا.

أصدر مُعاوية أمره بذلك فأطاعه الناس دون أيِّ اعتراض، وانتشرت هذه البِدعة الأموي في أرجاء الشام.

وسُرعان ما وصل خبر تلك البِدعة إلى أسماع أهل العراق، وراح الناس يتساءلون عن ذلك. فسُئل أمير المؤمنين عن القرع يذبح؟

فقال: (القَرع ليس يُذكَّى؛ فكلوه ولا تذبحوه ولا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله).

إنَّ المسلمين الذين أطاعوا أمر مُعاوية غير المشروع يومئذٍ، ونفَّذوه على مُخالفته أمر الله، هُمْ أشبه بذلك الفئة مِن أهل الكتاب الذين حَرَّم عليهم أحبارهم ورُهبانهم ما أحلَّ الله، وحلَّلوا لهم ما حرَّم الله، فكانوا يُطيعونهم إطاعة عمياء فيُشركون وهُمْ جاهلون (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421