القصص التربوية

القصص التربوية18%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360526 / تحميل: 10455
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣
٤

سُورَة الحِجر

مكيّة

وعدد آياتها تسع وتسعون آية

٥
٦

«سورة الحجر »

محتوى السّورة :

المشهور عند جل المفسّرين أنّ سورة الحجر مكّية ، وهي السورة الثّانية والخمسون من السور التي نزلت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة المكرمة على ما ذكره ابن النديم في فهرسته تحت موضوع تاريخ القرآن ، وعدد آياتها تسع وتسعون آية باتفاق كل المفسّرين.

ولم تشذ السورة في سياقها ومضامينها عن السور المكّية السابقة لها ، وكما ذكرنا سابقا فإنّ السور المكّية تشتمل على جمل من الكلام حول أصول الدين كالتوحيد والمعاد ، وإنذار المشركين والعاصين والظالمين ، بالإضافة إلى ما يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة للاعتبار.

ويمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط :

1 ـ الآيات المتعلقة بمبدإ عالم الوجود ، والإيمان به بالتدبر في أسرار الإيجاد.

2 ـ الآيات المتعلقة بالمعاد وعقاب الفجرة الفسقة.

3 ـ أهمية القرآن باعتباره كتابا سماويا.

4 ـ محاولة إيقاظ وتنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم ، وتمرد إبليس ، وتبيان عاقبة التمرد.

٧

5 ـ زيادة في محاولة الإيقاظ والتنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط وصالح وشعيبعليهم‌السلام .

6 ـ إنذار وبشارة ، مواعظ لطيفة وتهديدات عنيفة ، إضافة إلى المرغبات المشوقة.

7 ـ مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتقوية صبره وثباته قبال ما يحاك من دسائس ، وبالذات ما كان يجري داخل إطار مكّة.

وقد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر ، علما بأنّ السورة تناولت ذلك في خمس آيات ، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية ، وسيأتي ذلك مفصلا في تفسير الآيات (80 ـ 84) إن شاء الله.

* * *

٨

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) )

التّفسير

الأماني الزّائفة!

سورة أخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف ، لام ، وراء) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إلى ظلام أهل الأرض ، ما هي إلّا عين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر ، صغيرهم وكبيرهم ، بين مختلف اللغات ، ومع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن ، وهو ذرورة التحدي الرباني المعجز ، وعليه فقد جاءت( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) مباشرة.

كما نعلم أنّ «تلك» اسم إشارة للبعيد ، والمفروض في هذا الموضع استعمال اسم الإشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب ، لأنّ القرآن كتاب بين أيدينا ، إلّا إنّ

٩

لغة العرب ـ كما بيّنا سابقا ـ تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إليه ، فالمراد أنّ لشأن القرآن عظمة ، وكأنّه في موضع بعيد جدّا بين طيات السماء ، لا يناله إلّا من ملك مستلزمات التحليق إليه. ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيّننا عند تعظيم شخص معين فنقول له مثلا : (إن سمح لنا ذلك السّيد أن ...) فنستعمل (ذلك) مع كون الشخص مخاطبا.

وأمّا بشأن مجيء صيغة «قرآن» نكرة فلبيان عظمته أيضا ، وذكر «القرآن» بعد «الكتاب» تأكيد ، ووصفه بال «مبين» لأنّه يظهر الحقائق ويبيّن الحق من الباطل.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد بكلمة «الكتاب» إشارة إلى التوراة والإنجيل ، فهو كما يبدو بعيد جدّا ويفتقد الى الدليل.

ثمّ يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات الله الجلية ، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

فالمراد بكلمة «يود» التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان ، وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون ، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الأعمال.

ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قوله : «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق إنّه لا يدخل الجنّة إلا مسلم ، فثمّ يود سائر الخلائق أنّهم كانوا مسلمين».(1)

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 3 ، ص 328 ، كذلك ورد الحديث الأوّل في تفسير الثقلين عن تفسير العياشي ، وأورد الفخر الرازي في تفسيره حديثا يشابه الحديث الثّاني مع تفاوت يسير ، وذكر في تفسير الطبري أيضا عدّة أحاديث في مضمون الحديث الثّاني ضمن تفسير الآية المذكورة.

١٠

وروي أيضا عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا اجتمع أهل النّار في النّار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ، قالوا:بلى، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النّار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب (بائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون سببا لأن) يسمع اللهعزوجل ما قالوا فأمر من كان في النّار من أهل الإسلام فأخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين».(1)

وربّما كان ظاهر الآية يوحي إلى أولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة تسري في أعماق وجدانهم ، وحينما لمسوا من نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الآيات الرّبانية التي تناغي أوتار القلوب ، لانت قلوبهم وتمنوا أن لو يكونوا مسلمين ، إلّا أنّ تعصبهم الأعمى وعنادهم القائم ، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول دعوة الحق ، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر والضلال.

ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إلى أوروبا قائلا : ذات مرّة التقيت بأحد المسيحيين ـ وكان رجلا منصفا ـ وبعد أن بيّنت له بعض خصال ديننا ، استهوته ومال إليها قائلا : أهنئكم من أعماقي على عظمة معتقدكم ، ولكن ـ ما ذا نصنع مع الظروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد عنها!

ومن تاريخ الإسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عند ما وصله رسول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذكر بأنّ القيصر قد أظهر الإيمان سرّا للرسول حتى أنّه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إلّا أنّه خاف قومه وفكر بامتحانهم ف (أمر مناديا ينادي : ألا إنّ هرقل قد ترك النصرانيّة واتبع دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى

__________________

(1) المصدر السّابق.

١١

طافوا بقصره ، فأمر مناديه فنادى : ألا إنّ قيصر إنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا فقد رضي عنكم. ثمّ قال للرسول : إنّي أخاف على ملكي. وإنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل ، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا ، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولو لا ذلك لاتبعته).(1)

وعلى أية حال ، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيّ منالتّفسيرين ، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة ـ فتأمل.

ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة ، يا محمّد( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف ، ولا تفهم سوى اللّذات المادية ، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم.

إنّهم لا يدركون فقه الحقائق ، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

ولكن ، عند ما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم ، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة ، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم ، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!

الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول :( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) ثمّ يقول تعالى :( ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ) .

فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إلى بارئهم ، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة ، وبفيوضات رحمة الرخاء

__________________

(1) مكاتيب الرّسول ، ج 1 ، ص 112.

١٢

تارة أخرى ، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإنذار وهكذا ، كل ذلك إتماما للحجة عليهم.

صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل ، وعاجلا أم آجلا سينال كلّ نصيبه بما كسبت يداه.

من الآيتين الأخيرتين ، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأمم السابقة.

أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إلى الله تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإعتبار ، وإلّا فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.

* * *

ملاحظة :

الغفلة وطول الأمل

ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان ، فلو ارتفع الأمل يوما من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إلّا القليل ممن يجد في نفسه دافعا لمواجهة صراع الحياة معه ، والحديث النبوي الشريف : «الأمل رحمة لأمتي ، ولو لا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرا»(1) يشير لهذه الحقيقة.

وإذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإنّه سيتحول إلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالانحراف والهلاك ، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان ، فلو زاد عن حدّ الحاجة إليه ، أصبح عاملا للغرق

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، 30 (أمل).

١٣

والهلاك.

وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل بالله وعدم معرفة الحق والابتعاد عن الحقيقة ، ويؤدي الى تقوقع الإنسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.

ويحدثنا أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن هذا المضمون بقوله : «يا أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(1) .

حقا ، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة ، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إلى موجودات ضعيفة ، بل وممسوخة! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شيء لمجتمعهم ، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأثقلوا عمّا يسمون به إلى التكامل.

وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل : «وحبسني عن نفعي بعد أملي».

بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول ، يجعل الإنسان عرضة للانهماك والعجز والاضطراب ، ويصوّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إلى السعادة والرفاه ، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.

وغالبا ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأذن سميعة.

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، من الخطبة 42.

١٤

الآيات

( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) )

التّفسير

طلب نزول الملائكة :

تبتدئ الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الكفار ، فتقول :( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتارة يقولون :( يا أَيُّهَا الَّذِي ) ، وأخرى :( نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) بصيغة الهزؤ والإنكار لآيات الله سبحانه ، وثالثة : يستعملون أدوات التوكيد «إن» ولام القسم ليتّهموا أشرف خلق اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون!

نعم ، الخصم ينطلق المريض الجاهل حينما يقابل حكيما لا نظير له ، فأوّل ما يرميه بالجنون ، لأنّه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول ، فيرى كل ما فوق تصوره القاصر غير معقول ، ويوصم خصمه بالمجنون!

١٥

هؤلاء الأشخاص لديهم تعصب خاص نحو كل ما ألفوه في محيطهم الاجتماعي حتى وإن كان ضلالا وانحرافا ، لذا تراهم يواجهون كل دعوة جديدة على أساس أنّها غير معقولة ، فهم يخشون من كل جديد ، ويتمسكون بشدّة بالعادات والتقاليد القديمة.

أضف إلى ذلك ، أن من استهوته الدنيا وعاش لها لا يفقه المعاني الروحية والقيم الإنسانية ويوزن كل شيء بالمعايير المادية ، فإذا شاهد شخصا يضحي بكل شيء وحتى بنفسه لأجل أن يصل إلى هدف معنوي ، فسوف لا يصدّق بأنّه عاقل ، لأن العقل في عرفهم هو ما يصيب : المال الوافر ، الزوجة الجميلة ، الحياة المرفهة ، والوجاهة الكاذبة!

وعليه ، فحينما يرون رجلا قد عرضت عليه الدنيا بكل ما يحملون به فأبى أن يقبلها بقوله : «والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته» فسيقولون عنه : إنّه لمجنون!

الملفت في التهم الموجهة إلى أنبياء الله تعالى أنّها تحمل بين طياتها تضادا واضحا يلمس بأدنى تدبر ، ففي الوقت الذي يرمون النّبي بالمجنون يعودون ويقولون عنه : إنّه لساحر، فمع أن الساحر لا بدّ له من الذكاء والنباهة ، فهل يعقل أن يكون الساحر ، مجنونا؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تحججوا قائلين :( لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

يجيبهم الباري جل شأنه :( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) . فلو ثمّ إنزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثمّ لم يؤمنوا بما فسوف يحيق بهم ، العذاب الالهي دون إمهال.

وللمفسّرين وجوها متباينة في تفسير( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ ) :

1 ـ يرى البعض ، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججا ،

١٦

بل هو إعجاز رباني لإظهار الحق وإحقاقه.

وبعبارة أخرى ، فالإعجاز ليس أمرا ترفيهيا يناغي تصورات الآخرين بقدر ما هو حجة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النّور نورا والظلام ظلاما من خلال ما أوصله نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق القرآن والمعاجز الأخرى.

2 ـ المقصود من كلمة «الحق» هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك ، وبعبارة أخرى (عذاب الاستئصال).

أي في حال عدم إيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء اقتراحهم فهم هالكون قطعا.

وبهذا تكون جملة( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) مؤكّدة لهذا المعنى ، وأمّا على التّفسير الأوّل فإنّها تتناول موضوعا جديدا.

3 ـ وقيل المراد بالحق في الآية الموت ، إي أنّ الملائكة لا تنزل إلّا لقبض الأرواح.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّا أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في قصتي إبراهيم ولوطعليهما‌السلام ومعركة بدر إلخ.

4 ـ وقيل المراد بالحق الشهادة (المشاهدة).

أي ما دام الإنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ما وراء هذا العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربّها ، لأنّ الحجب المادية قد أفسدت رؤيته ولا يتسنى له ذلك إلّا بعد الرحيل إلى العالم الآخر ، وحين ذلك ينتهي مفعول الماديات فتزال الحجب ويرى الملائكة.

يواجه هذا التّفسير نفس ما واجهه التّفسير الثّالث من إشكال ، فقوم لوط مثلا ،

١٧

على ما كانوا عليه من كفر وانحراف فقد رأوا ملائكة العذاب في دنياهم(1) .

من خلال ما تقدم يتبيّن لنا أن التّفسيرين الأوّل والثّاني ينسجمان مع ظاهر الآية دون الآخرين.

أمّا ما ورد في ذيل الآية من عدم الامهال بعد استجابة مطاليبهم في رؤية المعاجز الحسيّة وعدم إيمانهم بها ، فلأنه قد تمّت الحجة عليهم وانتفت جميع اعذارهم وتبريراتهم ، وبما أن استدامة الحياة إنّما هو لأجل إتمام الحجة واحتمال توبة ورجوع الافراد المنحرفين الى الصراط المستقيم ، وهذا الأمر لا موضوع له في مثل هؤلاء الأشخاص ، فلذلك يحين أجلهم وينالون جزاءهم الذي يستحقونه. (فتدبّر)

* * *

__________________

(1) راجع سورة هود ، 81.

١٨

الآية

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) )

التّفسير

حفظ القرآن من التحريف :

بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أخرى ، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة ، ألا وهي حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال ، ومصباح هديه أبدي الإنارة ، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة ، محفوفين بعلماء السوء ، ومزودين بأقوى الجيوش عدّة وعتادا ، على أن يخمدوا نور القرآن ، فلن يستطيعوا ، لأنّ الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته

وقد اختلف المفسّرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة :

1 ـ قال بعضهم : الحفظ من التحريف والتغيير ، والزيادة والنقصان.

2 ـ وقال البعض الآخر : حفظ القرآن من الضياع والفناء إلى يوم قيام الساعة.

١٩

3 ـ وقال غيرهم : حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له.

بما أنّه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام لعبارة( إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فلا داعي لحصر مصاديقها في بعد واحد ، خصوصا وإن «لحافظون» ذكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها.

والصحيح ، وفقا لظاهر الآية المذكورة ، أنّ الله تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي : من التحريف ، من التلف والضياع ، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

أمّا ما احتمله بعض قدماء المفسّرين بأنّه الحفظ على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أن ضمير «له» في الآية يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة إطلاق لفظة «الذكر» على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الآيات(1) ، فهو احتمال يتعارض مع سياق الآيات السابقة التي عنت بـ «الذكر» «القرآن» ، بالإضافة إلى إشارة الآية المقبلة لهذا المعنى.

* * *

بحث في عدم تحريف القرآن :

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين شيعة وسنة ، أنّ القرآن لم يتعرض لأي نوع من التحريف ، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محمّد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فلا زيادة أو نقصان ، حتى ولو بكلمة واحدة ، أو قل بحرف واحد.

ومن جملة من صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين والمتأخرين) تغمّدهم الله برحمته.

__________________

(1) راجع سورة الطلاق ، الآية العاشرة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

إذ حاصر إسماعيل جيش عمرو، وما لبثوا أنْ هُزِموا وقُتل الكثير منهم، وأُسر منهم كثير وفر آخرون، وكان عمرو بن الليث مِن الفارِّين، ولكنَّه أُسِر ووقع ما كان عنده غنيمة بيد إسماعيل ومنها الخُرج. فلمَّا رآه مختوماً وقرأ ما كُتب عليه، أدرك ما هنالك وأنَّ الخُرج يحتوي على رسائل قوَّاده إلى عمرو، وهمَّ أنْ يفتح الخُرج ليطَّلع على الذين كتبوا تلك الرسائل، ولكنَّه بحِكمته الصائبة وتدبُّره العواقب، امتنع عن ذلك قائلاً في نفسه: لو أنَّني اطَّلعت على أسمائهم لساء ظنِّي بهم، كما أنَّهم إذا عرفوا انكشاف سِرِّ خيانتهم ونقضهم لعهودهم سوف يستولي عليهم الخوف، وقد يدفعهم ذلك إلى العصيان والثورة ومُحاولة اغتيالي أو قد يُشكِّلون مُعارضة تسعى للإخلال بالانضباط في الجيش، ويقلبون النصر إلى هزيمة مِمَّا يؤدِّي إلى مفاسد لا يُمكن تلافيها.

بناءً على ذلك أبقى الخُرج مَختوماً ثمَّ استدعى قادته وخواصَّ أصحابه، وأراهم الخُرج وعليه ختم عمرو وقال لهم: هذه رسائل كتبها بعض قادتي وأصحابي إلى عمرو يتقرَّبون إليه ويطلبون منه الأمان. أحلف أنْ أحِجَّ عشر حَجَّات إذا كنت أعلم ما في هذه الرسائل والذين كتبوه. فإذا كان ظَنِّي في أنَّهم قد طلبوا منه الأمان صحيحاً، فإنِّي أعفو عنهم، وإذا كان غير صحيح فإنِّي أستغفر الله على ظَنِّي. ثمَّ أمر بإحراق الخُرج بما فيه فأُحرق ولم يبقَ للرسائل مِن أثر.

فاستولت على كاتبي الرسائل الدهشة والحيرة، لما رأوه مِن إسماعيل مِن كرامة النفس والعفو الأخلاقي، وأحسُّوا بالراحة والاطمئنان بعد أنْ شاهدوا رسائلهم قد استحالت إلى رماد، وإنْ سِرَّهم قد قُبر إلى الأبد ولكنَّهم ندموا على ما بدر منهم، ومالوا إلى قائدهم الكريم وأحبُّوه وعزموا عزماً صادقاً مُخلصاً أنْ يبقوا على وفائهم له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤١

أردت أنْ أعظك فوعظتني

محمد بن المنكدر قال:

خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو مُتَّكئ على غُلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ مِن شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه فسلَّمت عليه فسلَّم عليَّ وقد تصبَّب عرقاً.

قلت: أصلحك الله! شيخ مِن أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

خلَّى عن الغُلامين مِن يده ثمَّ تساند وقال: (لو جاءني - والله - الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله تعالى أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على مَعصية مِن معاصي الله).

فقلت: يرحمك الله! أردت أنْ أعظك فوعظتني (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٢

خير لباس في كلِّ زمان لباس أهله

عن حماد بن عثمان قال:

حضرت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال رجل: أصلحك الله! ذكرت أنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد.

فقال له:(إنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمانٍ لا يُنكر، ولو لبس مِثل ذلك اليوم شُّهِّر به؛ فخير لباس كلِّ زمان لباس أهله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٣

الإسراف مذموم مِن أيٍّ كان

كان مسلمة بن عبد الملك أحد أُمراء الجيش في حرب الروم، وعندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة سمح لمسلمة بزيارته كلَّ يوم.

في أحد الأيَّام وصل خبر إلى الخليفة بأنَّ مسلمة يُسرف كثيراً بتهيئة الطعام، فأدَّى هذا الخبر إلى عدم ارتياح الخليفة، وصمَّم على نصيحته وإرشاده، فأمر الخليفة في أحد الأيَّام بإعداد وجبة عشاء مُخصَّصة لمسلمة، وفي تلك الدعوة أمر الخليفة طبَّاخ القصر بتهيئة أنواع مُختلفة مِن الطعام، ومنها حَساء مِن العدس والبصل والزيتون، وأمره عندما يحين وقت العشاء أنْ يُقدِّم الحَساء وبعد فترة يقدم أنواع الأطعمة الأُخرى.

لمَّا حضر مسلمة بدأ الخليفة يسأل مسلمة عن أوضاع الروم، والحرب في تلك المنطقة فأجابه، وبعد ساعتين مِن وقت العشاء أمر الخليفة الطبَّاخ بجلب العشاء وأوَّل الأطعمة المطلوبة الحَساء، وكان مسلمة جائعاً فلم يستطيع انتظار بقيَّة الطعام، فقام بأكل الحَساء وشبع، وعندما قدَّموا بقيَّة الأطعمة المُختلفة لم يستطع مسلمة الأكل بعد ذلك.

سأله عمر بن عبد العزيز: لماذا لا تأكل؟

أجاب: لقد شبعت.

قال الخليفة: سبحان الله! أنت شبعت مِن هذا الحَساء الذي كلَّفنا درهماً واحد، أما لهذه المأكولات المُختلفة، فإنَّك تصرف آلاف الدراهم! خَف الله ولا تُسرف! يجب أنْ تُعطي هذه المبالغ إلى المُحتاجين لمرضاة الله.

وقد كانت نصيحة عبد العزيز لمسلمة مؤثِّرة طول حياته.

إنَّ تقديم النُّصح عَلناً والإشارة إلى الأخطاء أمام الناس، وتوبيخ الخاطئ على ما

٣٤٤

فعل وتخطئته على رؤوس الأشهاد، وانتظار زلاَّته في حضور الآخرين، إنَّما هو في الحقيقة تحطيم لشخصيَّته، ومثل هذا النُّصح - فضلاً عن كونه لا يأتي بأيِّ أثر مُفيد فإنَّه - يبعث على العداوة والبغضاء، ويُثير الرغبة في الانتقام وتكون له نتائج ضارَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٥

التعليم الذكي

الحسن والحسين (عليهما السلام) مرَّا على شيخ يتوضَّأ ولا يُحسن. فتظاهرا بالتنازع يقول كلُّ واحدٍ منهما للآخر: (أنت لا تُحسن الوضوء).

فقالا: (أيُّها الشيخ كُنْ حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحدٍ منَّا)، فتوضَّآ.

ثمَّ قالا: (أيُّنا يُحسن؟).

قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخ الجاهل - يعني نفسه - هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب على يديكما وببركتكما وشفقتكما على أُمَّة جَدِّكما.

لم ينتقد الحسنان (عليه السلام) الشيخ انتقاداً مُباشراً، ولم يُجابهاه بجهله بطريقة الوضوء الصحيحة، ولم يذكرا وضوءه بسوء أو يصفاه بالبطلان، بلْ أجريا الوضوء بنفسيهما مُحتكمين إليه ليجلب انتباهه إلى كيفيَّة وضوئهما، بحيث يُدرك بطريقة غير مُباشرة خطأ وضوئه؛ فكان مِن نتيجة ذلك الانتقاد المؤدَّب العقلاني أنْ اعترف الشيخ بخطئه صراحة، وتعلَّم طريقة الوضوء الصحيحة وشكر لهما راضياً شفقتهما ومحبتهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٦

تحتقر الكلام وتستصغره؟!

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال وقد كلَّمه رجل بكلام كثير:

(أيُّها الرجل، تحتقر الكلام وتستصغره!

اعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يبعث رُسله، حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضَّة، ولكنْ بعثها بالكلام، وإنَّما عُرِف الله جَلَّ وعَزَّ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام).

هنا أيضاً لم يقل الإمام شيئاً عن الرجل الثرثار، ولم يجعله هدف انتقاده مُباشرةً، كما لم يُشر بشيء إلى ثرثرته، ولا انتقد فيه هذه الصفة المذمومة انتقاداً مُباشراً، بلْ اكتفى بذكر قيمة الكلام وأهميَّته وأنَّه ينبغي ألا يستصغر شأن الكلام، وألا يهدر رأسماله الثمين هذا عبثاً بحَقٍّ وبغير حَقٍّ.

وحثَّه على استثمار موهبته في الحالات المُقتضية وبالقدر اللازم، وهكذا انتقد الإمام بشكل مؤدَّب وحكيم وغير مُباشر ثرثرة الرجل (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٧

مُعاوية يأمر بسبِّ عليٍّ (عليه السلام) على المَنابر

عندما بدأ مُعاوية حُكمه على أرض الإسلام الواسعة، أمر بسبِّ علي بن أبي طالب في أرجاء البلاد، فارتكب بعمله الظالم والقذر هذا إثماً كبيراً لا يُغتفر، وكان بذلك يرمي إلى الإساءة إلى سُمعة الإمام، وحمل الناس على إساءة الظَّنِّ بالإمام وانتزاع مَحبَّته مِن قلوب الناس، ومحو دلائل عدالته ووقوفه بوجه الظلم مِن ذاكرتهم، وبذلك يُغطِّي مِن جهة وصمات العار وسوء السُّمعة التي تلطِّخ اسم مُعاوية وآل أُميَّة، وتكون له مِن جِهة أُخرى حُرِّيَّة إطلاق يده في الظلم والجور، دون أنْ يُقارن أحد بين حكومته وحكومة الإمام عليِّ (عليه السلام) مِن حيث ظلمه وعدل عليٍّ..

ولكي يعمل على الإسراع في انتشار سبِّ الإمام في إرجاء البلاد؛ أمر جميع كبار الضبَّاط وكبار أعضاء الحكومة في أنحاء البلاد أنْ يُنفِّذوا ذلك عن طريق ذكر اسم الإمام عليٍّ بالسوء في جميع المحافل والمجالس، وأن يقوم أئمَّة الجمعة في خُطب صلاتهم بسبِّه على المنابر، وطلب إلى الشعراء أنْ ينظموا القصائد في هَجوه وينشروها بين الناس، وهكذا جَنَّد جميع موظَّفي الدولة لتنفيذ هذه الخُطَّة دون هواد، بحيث يتعوَّد الناس على سبِّ عليِّ بن أبي طالب، وكأنَّه جزءٌ مِن تكاليفهم الشرعيَّة وبموازاة سَبِّ الإمام عليٍّ وشتمه خطَّط لقمع حركة التشيع ونفذه.

بدأ - أوَّلاً - بإلقاء القبض على أخلص أصحاب الإمام المعروفين، والثابتين على الولاء له، والمشهورين بالتقوى ومِن خيرة تلامذة مدرسة الإسلام، أهانهم وحطَّ مِن كراماتهم، وقتل بعضهم شرَّ قتلة، وعذَّب بعضهم عذاباً مُبرحاً حتَّى الموت، وألقى ببعض في غياهب السجون.

وبهذه الجرائم المُنكَرة المُتَّسمة بالإرهاب خَلَق جَوَّاً مِن الرُّعب والخوف، بحيث لم يعد أحد يَجرؤ على أنْ يُجاهر بولائه للإمام علي، ويتحدَّث عن فضائله أو أنْ

٣٤٨

ينبري لتفنيد افتراءات مُعاوية ومأجوريه دفاعاً عن الإمام. وبقي الحال على هذا المنوال خلال حُكم مُعاوية.

وبعده واصل عدد مِن خُلفائه السيرة نفسها في الاستمرار على سبِّ الإمام علي. وظلَّ هذا الإثم الكبير شائعاً في طول البلاد وعرضها مُدَّة نِصف قَرن أو أكثر، دون أنْ يستطيع الناس الأخيار المؤمنون مُكافحته، وانتقاد تلك البِدعة الشائنة التي وضع مُعاوية لُبنته.

وفي سنة (٩٩) هِجريَّة تسلَّم الخلافة عمر بن عبد العزيز، وأصبح قائد البلاد الإسلاميَّة لقد كان في شبابه - عندما كان يدرس في المدينة - مثل سائر المخدوعين يذكر عليَّاً بالسوء، ولكنَّه عرف الحقيقة مِن أحد العلماء، وأدرك منه أنَّ سَبَّ تلك الشخصيَّة خلاف للشرع وموجب لغضب الله تعالى، غير أنَّه لم يكن قادراً على بيان ذلك للناس لمنعهم مِن الذنب الذي يرتكبونه، وعندما تربَّع على كرسيِّ الخلافة قرَّر أنْ يستفيد مِن منصبه لإزالة تلك الوصمة مِن جَبين البلاد، بمنع سَبِّ الإمام عليٍّ (عليه السلام).

ولكنَّه لكيلا يتعرَّض في مُهمَّته لمُعارضة المُتعصِّبين مِن بني أُميَّة وأصحابه الأنانيِّين، فلا يقيمون عَقبة في طريقه قرَّر أنْ يُفاتحهم في الأمر، لكي يُهيِّئهم له ويلفت أنظارهم إلى ضرورة التعاون معه في غسل ذلك العار، فوضع لذلك خُطَّة استخدم فيها طبيباً شابَّاً يهوديَّاً كان في الشام، فاستدعاه سِرَّاً وأطلعه على تفاصيل خُطَّته، وطلب إليه الحضور إلى قصر الخلافة في يوم وساعة مُعينين لينفذ الخُطَّة.

وقبل اليوم المُحدَّد أرسل إلى كبار شخصيَّات بني أُميَّة وذوي النفوذ في الشام، للحضور في ذلك اليوم عند الخليفة. وفي الساعة المُحدَّدة دخل الطبيب اليهوديِّ بعد الاستئذان، فأثار دخوله انتباه الحاضرين جميعاً.

سأله الخليفة عن سبب حضوره؟

فقال: إنَّه جاء يخطب ابنة الخليفة.

٣٤٩

سأله عمر: لمَن تخطبها؟

قال: لنفسي.

فبُهِت الحاضرون وراحوا ينظرون إليه باندهاش.

نظر إليه عمر وقال: ليس لي أنْ أوافقك على طلبك، فنحن مسلمون وأنت لستَ مسلماً، ومثل هذا الزواج غير جائز في الإسلام.

فقال الطبيب اليهودي: إذا كان هذا هو حُكم الإسلام، فكيف زوج نبيَّكم ابنته عليَّاً (عليه السلام)؟

فغضب الخليفة وقال له: عليٌّ (عليه السلام) كان مِن كبار المسلمين.

فقال اليهودي: إذا كنتم تعتبرونه مسلماً، فلماذا - إذن - تلعنونه وتسبُّونه في المجالس؟! فالتفت عمر إلى الحاضرين وقد بدا التأثُّر على ملامحه وقال لهم: أجيبوا على سؤاله.

سكت الجميع وأطرقوا برؤوسهم خَجلاً، وخرج الطبيب اليهودي دون أنْ يحظى بجواب (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٠

أيُّهما أفضل عليٌّ أم مُعاوية؟!

لمَّا وَلِي عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة. واستعمل ميمون بن مهران على (قرقيس)) رجلاً يُقال له: (علاثة). فتنازع رجلان فقال أحدهما: مُعاوية أفضل مِن عليٍّ وأحقُّ. وقال الآخر: عليٌّ أولى مِن مُعاوية.

فكتب عامل (قرقيس) إلى ميمون بن مهران بذلك، فكتب ميمون بن مهران إلى عمر. فكتب عمر إلى ميمون بن مهران أنْ اكتب إلى عامل (قرقيس) أنْ أقم الرجل الذي قدَّم مُعاوية على عليٍّ بباب المسجد الجامع فاضربه مئة سوط، وانفه مِن البلد الذي هو به. فأخبر مَن رآه وقد ضرب مئة سوط وأخرج مُلبَّباً (أي: مأخوذاً بتلابيبه) حتَّى أُخرج مِن باب يُقال لها: باب الدين.

يبدو أنَّ عمر قد أدرك أنَّ الجدل في أفضليَّة مُعاوية كان خُطَّة جديدة للمُعاندين، وأنَّهم مِن هذا الطريق يُريدون أنْ ينالوا مِن مقام الإمام علي الشامخ، وأنْ يُسيئوا إليه ليُعيدوا السبَّ والشتم إلى الوجود بصورة أُخرى ويواصلوا أُسلوبهم الخبيث الظالم. إلاَّ أنَّ خليفة المسلمين أدرك سوء نيَّتهم هذه، فأحبط خُطَّتهم بأمره الصريح القاطع (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥١

التغاضي عن سفاسف الأُمور

حُكي أنَّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتَّى بَعُد عن عسكره، فنظر إلى راعٍ تحت شجرة فنزل عن فرسه لحاجة، وقال للراعي: احفَظ عليَّ فرسي حتَّى أعود، فعَمد الراعي إلى العنان - وكان مُلبَّساً ذهباً كثيراً - وأخرج سكِّيناً فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه.

نظر بهرام نظرة إليه فرآه، فغضَّ بصره وأطرق برأسه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتَّى أخذ الرجل حاجته.

ثمَّ قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي: قَدِّم إليَّ فرسي، فإنَّه قد دخل في عيني مِن سافي الريح فلا أقدر على فتحهما، فقدَّمه إليه فركب وسار إلى أنْ وصل عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنَّ أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتَّهمَنَّ بها أحداً.

هذا الراعي لم يكن سارقاً مُحترفاً، كما أنَّ ذلك المقدار مِن الذهب لم يكن ذا قيمة عند بهرام، فلو أنَّه كان قد أظهر علمه بما فعل الرجل وأمر عند عودته بالقبض عليه، واسترجاع الذهب منه ومُعاقبته على السرقة؛ لكان في ذلك تصغير لشخصه بالإضافة إلى تحطيم كرامة الراعي. ولكنَّه بهذا التغافل والتغاضي أخفى سِرَّ الراعي كما رفع مِن قيمة نفسه الإنسانيَّة وكرم أخلاقه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٢

مُديرٌ حكيم

قبل سنوات كان هناك شخص قدير، يُدير إحدى شركات التصدير الكُبرى ذات الفروع في عدد مِن المُدن، وكان كلُّ سنة في موسم الشراء يُحوِّل إلى كلِّ فرع ما يحتاجه مِن الأموال، أُخبر هذا المدير يوماً بأنَّ مُحاسب الفرع الفلاني قد استغلَّ مركزه واختلس بعض الأموال المُرسلة إليه لشراء البضاعة.

لم يكن ذلك الفرع يبعُد كثيراً عن المركز، فقرَّر المدير أنْ يزوره في اليوم التالي، وطلب مِن مدير مكتبه أنْ يصحبه، وفي اليوم التالي سافرا إلى تلك المدينة ووصلاها عند الضحى، ودخلا على مُحاسب فرع الشركة مُباشرة دون إخبار أحدٍ.

وعندما سأل المُدير المُحاسب عن الوضع المالي في فرعه، فتح هذا دفتره أمام المُدير فوجد المُدير أنَّ الموجود في المصرف يقرب مِن ٩٥% مِن المبلغ المُحوَّل إليه، بالإضافة إلى عدد مِن قوائم الشراء ومبلغٍ نقديٍّ في الصندوق.

عندما أخذ المُحاسب يحسب النقود في الصندوق قال له المُدير: هذا يكفي.

ثمَّ أثنى على نشاطه وصافحه وخرج مِن الشركة.

يقول مُدير المكتب الفرعي: في الطريق قلت للمُدير: إنَّ المبلغ الذي كان في الصندوق لم يكن يكفي لتسديد الحساب؛ فلو أنَّك تمهَّلت حتَّى يُنهي الحساب لعلمت أنَّ رصيد الصندوق ناقص.

قال المدير: لقد عرفت أنَّ ما في الصندوق لا يكفي لتسديد الرصيد، ولكنَّ سُمعة موظفٍ مُحترمٍ في الشركة أغلى بكثير مِن هذا المبلغ الزهيد. إنَّني أوقفت عَدَّ النقود؛ لئلا ينكشف أمر المُحاسب وتُهان كرامته. إنَّني ما سافرت إلاّ لأنَّي كنت قلقاً على مصير عِدَّة ملايين مِن أموال الشركة، فكنت أُريد أنْ أتحقَّق مِن الأمر بنفسي، وأتعرَّف على وضع الفرع المالي بأسرع ما يُمكن. وقد ظهر لي بمراجعة

٣٥٣

الحسابات أنَّ أموال الشركة لم يُصبها ضرر يُذكر. وهذا العجز البسيط في الصندوق ليس دليلاً على خيانة المُحاسب فلرُبَّما اضطرَّ إلى استقراضه ليُسدِّد مصاريف وضع حمل زوجه، أو لمرض ابنه، أو لدفع إيجار بيته. فكان لا بُدَّ مِن التغافل عن ذلك للمُحافظة على ماء وجهه، ولستُ أشكُّ في أنَّه سوف يُسدِّد ما عليه في أوَّل فُرصةٍ تُتاح له، ولن يعود لمِثلها بعد ذلك ولن يُخاطر بتشويه سُمعته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٤

إذا أكرمت اللئيم تمرَّد

استعمال مكارم الأخلاق يكون مع الأشخاص الذين يستحقُّون ذلك، فالوضيعون الذين تزيدهم العِفَّة جُرأة على ارتكاب السيِّئات، ليسوا جديرين بالعفو مِن جانب الكُرماء ذوي النفوس الرفيعة.

كذلك التغافل والتغاضي مِثل مكارم الأخلاق، يجب أنْ يوضعا في محلِّهما عند مَن يستحقَّهما، فإذا أراد أحد إساءة استغلال ذلك وأوغل في ارتكاب أعماله السيِّئة؛ فلا يجوز التغافل عنه، بلْ يجب أنْ يُصارح بسوء عمله ويؤاخذ ويُعاقَب عليه. وهذا ما فعله الرسول الكريم بحقِّ الحَكم بن أبي العاص الذي كان مِن كبار المُنافقين:

في سنة فتح مَكَّة استسلم الحَكم بن أبي العاص بسبب قُدرة المسلمين في ذلك الوقت، ولكنَّه كان يؤذي الرسول بأساليب مُختلفة، فبعض الأحيان كان يتجسَّس على النبي ويُخبر بذلك أعداءه، حيث كان يتجسَّس على الأماكن التي كان يقطنها الرسول مع عائلته ويسمع ما يتكلَّمون به، ويُخبر به المُنافقين بصورة سُخريَّة واستهزاء. بعض الأحيان كان يمشي وراء الرسول الأكرم مع جماعة مِن المُنافقين، ويسخر مِن مشية الرسول بتحريك رأسه ويده. وكان الرسول عارفاً بأقوال وتصرُّفات الحَكم بن أبي العاص، وكان يغضُّ النظر عنه؛ وذلك أنَّ الرسول يأمل أنْ يأتي يوم يُغيِّر هذا الرجل فيه تصرُّفاته القبيحة، ولكنَّ الرسول رأى منه عكس ذلك؛ حيث ازدادت جسارته على الرسول فصمَّم الرسول على تغيير أُسلوبه معه.

في أحد الأيَّام كان الرسول عابراً، فلاحظ الحَكم بن أبي العاص خلفه يسخر منه بَحكَّة رأسه ويده، وفجأة التفت الرسول الأكرم إليه وقال:

(كذلك فلتكُن، يا حَكم)، فلم ينتبه الحَكم بن أبي العاص لكلام الرسول فأُصيب

٣٥٥

بضبَّة في روحه وأعصابه، اعترته الرعشة والحركات المُضحكة، وقد حَكم عليه بالإقامة الجبريَّة بالطائف وأُبعد عن المدينة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٦

فِطنة أديب

كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة. وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به.

استحضره وقال له مُحتدَّاً: لأحملنك على الأدهم، أي: سأسجنك وأضع القيد في رجليك، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة، منها: تقييد الرجلين، ومنها الفرس الأسود).

أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود، ولذلك قال له باسماً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب.

فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله: أردت الحديد. وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة، منها: القيد، ومنها الذكاء والفطنة. فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال: الحديد خير مِن البليد. قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد.

لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره - والذي مزجه بالتكريم والاحترام - الموقف رأساً على عقب؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٧

تغافل في مَحلِّه

كان هارون الرشيد يخرج إلى الصيد، وفي أحد المَرَّات وصل إلى بُستان معمور فسأل: لمَن هذا البُستان؟

قالوا: هو لرجل مجوسيٍّ.

فقال: أُريد هذا البستان، ولا بُدَّ مِن شرائه.

فقال الوزير: قد كلَّمناه في هذا الأمر عِدَّة مَرَّات فلم يوافق.

فقال هارون الرشيد: ما العمل حتَّى يصبح هذا البُستان مِن أملاكي؟

قال الوزير: نقول له: إنَّ الخليفة نزل في بُستانك، ونسأله لمَن هذا البستان؟

سوف يقول: إنَّه لحضرة الخليفة هارون الرشيد، وسوف نعتبر هذه الجُملة مُستمسكاً ونُعطيه المبلغ مع بعض جوائز.

وافق هارون على ذلك، ثمَّ نزل هارون في ذلك البُستان وبعد فترة جاء المجوسيُّ وأدَّى التحيَّة باحترام. وعندما سأله هارون: لمَن هذا البستان؟

قال: كان ملك أبي واليوم أصبح ملكي، ولا أعرف غداً لمَن يكون؛ فأثَّر كلام المجوسيِّ في نفس هارون الرشيد.

قال: إنَّك حفظت بُستانك بهذا الكلام وقد غلبتنا بالحيلة.

كان المجوسيُّ عارفاً بالآداب والأعراف، ويعلم أنَّه عندما يسأل هارون لمَن هذا البستان؟ يجب أنْ يُقال له: إنَّه لخليفة المسلمين. ولكنَّه تغافل عمَّا يعلم وأظهر أنَّه لا علم له بما جرت عليه العادة. وعلى أثر هذا التغافل المؤدَّب، الذي جاء في محلِّه أمكن حَلُّ المُشكلة، واستفاد المُتغافل مِن نتيجة تغافله الإيجابيِّ المُفيد (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٨

إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية

جهَّز رسول الله جيشاً لإحدى حُروبه وعيَّن قائداً للجيش، وأمر الجنود بإطاعته وتنفيذ أوامره.

قام هذا القائد في بداية مسيره بتجربة غريبة، ربَّما لكي يعرف مدى طاعة جنوده له، أو ليعلم درجات إدراكهم، أو لأيِّ هدفٍ آخر حيث أمر بنار فأُضرمت، ثمَّ أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها.

راح بعض الجنود يتهيَّأون لتنفيذ الأمر، ورأى آخرون أنَّ هذا الأمر غير صحيح ورفضوا إطاعته فيه.

فقال لهم شابٌّ: لا تعجلوا حتَّى تأتوا رسول الله، فهو إنْ أمركم أنْ تدخلوها فادخلوها، فأتوا رسول الله فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً. إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيته للخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٥٩

لا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله

يقول ابن شهر آشوب: بعد أنْ صمَّم مُعاوية على القيام ضِدَّ الإمام عليٍّ خطر له أنْ يختبر أهل الشام؛ ليعرف مدى طاعتهم لأوامره، فاقترح عليه عمرو بن العاص طريقة لإجراء هذا الاختبار قائلاً له: اصدر أمرك إلى الناس بأنَّ عليهم أنْ يذبحوا القَرع كما يذبحون الشاة، فيذكُّوه قبل أنْ يأكلوه، فإذا أطاعوك فثق بتأييدهم وإسنادهم لك، وإلاّ فلا.

أصدر مُعاوية أمره بذلك فأطاعه الناس دون أيِّ اعتراض، وانتشرت هذه البِدعة الأموي في أرجاء الشام.

وسُرعان ما وصل خبر تلك البِدعة إلى أسماع أهل العراق، وراح الناس يتساءلون عن ذلك. فسُئل أمير المؤمنين عن القرع يذبح؟

فقال: (القَرع ليس يُذكَّى؛ فكلوه ولا تذبحوه ولا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله).

إنَّ المسلمين الذين أطاعوا أمر مُعاوية غير المشروع يومئذٍ، ونفَّذوه على مُخالفته أمر الله، هُمْ أشبه بذلك الفئة مِن أهل الكتاب الذين حَرَّم عليهم أحبارهم ورُهبانهم ما أحلَّ الله، وحلَّلوا لهم ما حرَّم الله، فكانوا يُطيعونهم إطاعة عمياء فيُشركون وهُمْ جاهلون (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421