القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 360250 / تحميل: 10452
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

علي بن حماد العبدي

لله ما صنعت فينا يد البينِ

كم من حشاً أقرحت منا ومن عينِ

مالي وللبين؟ لا أهلاً بطلعته

كم فرّق البين قدماً بين إلفينِ؟!

كانا كغصنين في أصلٍ غذاؤهما

ماء النعيم وفي التشبيه شكلين

كأنّ روحيهما من حسن إلفهما

روح وقد قسّمت ما بين جسمين

لا عذل بينهما في حفظ عهدهما

ولا يزيلهما لوم العذولين

لا يطمع الدهر في تغيير ودّهما

ولا يميلان من عهدٍ إلى مَينِ

حتى إذا أبصرت عين النوى بهما

خِلّين في العيش من هم خليّين

رماهما حسدا منه بداهيةٍ

فأصبحا بعد جمع الشمل ضدّين

في الشرق هذا وذا في الغرب منتئياً

مشرّدين على بُعد شجّيين

والدهر أحسد شيء للقريبين

يرمي وصالهما بالبعد والبين

لا تأمن الدهر إن الدهر ذو غيرٍ

وذو لسانين في الدنيا ووجهين

أخنى على عترة الهادي فشتّتهم

فما ترى جامعا منهم بشخصين

كأنّما الدهر آلا أن يبدّدهم

كعاتب ذي عناد أو كذي دين

بعض بطيبة مدفون وبعضهم

بكربلاء وبعض بالغريّين

وأرض طوس وسامرّا وقد ضمنت

بغداد بدرين حلا وسط قبرين

يا سادتي ألمن أبكي أسىً؟! ولمن

أبكي بحفنين من عيني قريحين؟!

١٦١

أبكي على الحسن المسموم مضطهدا؟!

أم الحسين لقى بين الخميسين؟

أبكي عليه خضيب الشيب من دمه

معفّر الخد محزوز الوريدين

وزينب في بنات الطهر لاطمة

والدمع في خدّها قد خدّ خدّين

تدعوه: يا واحدا قد كنت أمله

حتى استبدّت به دوني يد البين

لاعشت بعدك ما إن عشت لانعمت

روحي ولا طعمت طعم الكرا، عيني

أنظر إليّ أخي قبل الفراق لقد

أذكا فراقك في قلبي حريقين

أنظر الى فاطم الصغرى أخي تَرها

لليُتم والسبي قد خصّت بذلّين

اذا دنت منك ظل الرجس يضربها

فتلتقي الضرب منها بالذراعين

وتستغيث وتدعو: عمّتا تلفت

روحي لرزئين في قلبي عظيمين

ضرب على الجسد البالي وفي كبدي

للثكل ضرب فما اقوى لضربين

أنظر علياً أسيرا لا نصير له

قد قيّدوه على رغم بقيدين

وارحمتا يا أخي من بعد فقدك بل

وارحمتا للأسيرين اليتيمين

والسبط في غمرات الموت مُشتغل

ببسط كفّين أو تقبيض رجلين

لا زلت أبكي دماً ينهلّ منسجماً

للسيّدين القتيلين الشهيدين

ألسيّدين الشريفين اللذين هما

خير الورى من أب مجد وجدّين

ألضارعين الى الله المنيبين

ألمسرعين الى الحق الشفيعين

ألعالمين بذي العرش الحكيمين

ألعادلين ألحليمين الرشيدين

ألصابرين على البلوى الشكورين

ألمعرضين عن الدنيا المنيبين

ألشاهدين على الخلق الإمامين

ألصادقين عن الله الوفيّين

ألعابدين التقيّين الزكيّين

ألمؤمنين الشجاعين الجريّين

ألحجّتين على الخلق الأميرين

ألطيّبين الطهورين الزكيّين

نورين كانا قديما في الظلال كما

قال النبي لعرش الله قرطين

تفّاحتي احمد الهادي وقد جعل

لفاطم وعليّ الطهر نسلين

صلى الإله على روحيهما وسقا

قبريهما ابداً نوء السماكين

١٦٢

الى ان يقول فيها:

ما لابن حمّادٍ العبديّ من عمل‌‏

إلا تمسّكه بالميم والعين

فالميم غاية آمالي محمّدها

والعين أعني عليّا قرة العين

صلى الإله عليهم كلما طلعت

شمس وما غربت عند العشائين (1)

  ولأبن حماد:

حيّ قبرا بكربلا مُستنيرا

ضمّ كنز التقى وعلما خطيرا

وأقم مأتم الشهيد وأذرف

منك دمعا في الوجنتين غزيرا

والتثم تربة الحسين بشجوٍ

وأطل بعد لثمك التعفيرا

ثم قل: يا ضريح مولاي سُقيّـ

ـت من الغيث هاميا جمهريرا

ته على ساير القبور فقد أصـ

ـبحت بالتيه والفخار جديرا

فيك ريحانة النبي ومن حل

من المصطفى محلا أثيرا

فيك يا قبر كل حلم وعلم

وحقيق بأن تكون فخورا

فيك مَن هدّ قتله عمد الدين

وقد كان بالهدى معمورا

فيك من كان جبرئيل يُناغيه

وميكال بالحباء صغيرا

فيك مَن لاذ فطرس فترقّى

بجناحي رضى وكان حسيرا

يوم سارت له جيوش ابن هند

لذحول أمست تحل الصدورا

آه واحسرتي له وهو بالسيف

نحير أفديت ذاك النحيرا

آه إذ ظل طرفه يرمق الفسطاط

خوفا على النساء غيورا

آه إذ أقبل الجواد على النسوان

ينعاه بالصهيل عفيرا

فتبادرون بالعويل وهتّكن

الأقراط بارزات الشعورا

وتبادرن مسرعات من الحذر

ومن قبلُ مُسبلات الستورا

ولطمن الخدود من ألم الثكل

وغادرن بالنياح الخدورا

__________________

1 - عن شعراء الغدير ج 4 ص 162.

١٦٣

وبدا صوتهنّ بين عداهنّ

وعفن الحجاب والتخفيرا

بارزات الوجوه من بعدما غودرن

صون الوجوه والتخفيرا

ثم لمّا رأين رأس حسين

فوق رمح حكى الهلال المنيرا

صحن بالذل أيها الناس لم نُسبى

ولم نأت في الأنام نكيرا؟!

ما لنا لا نرى لآل رسول الله

فيكم يا هؤلاء نصيرا؟!

فعلى ظالميهم سخط الله

ولعن يبقى ويفنى الدهورا

قل لمن لام في ودادي بني

أحمد: لا زلت في لظى مدحورا

أعلى حب معشر أنت قد كنتَ

عذولاً ولا تكون عذيرا

وأبوهم أقامه الله في « خُم »

إماماً وهادياً وأميرا

حين قد بايعوه أمراً عن

الله فسائل دوحاته والغديرا

وأبوهم أفضى النبي إليه

علم ما كان أولاً وأخيرا

وأبوهم علا على العرش لمّا

قد رقى كاهل النبي ظهيرا

وأماط الأصنام كلاً عن الكعبة

لمّا هوى بها تكسيرا

قال: لو شئت ألمس النجم بالكف

إذن كنت عند ذاك قديرا

وأبوهم ردّت له الشمس بيضاً

وهي كادت لوقتها أن تغورا

وقضى فرضه أداءً وعادت

لغروب وكوّرت تكويرا

وأبوهم يروي على الحوض مَن وا

لاهم ويردّ عنه الكفورا

وأبوهم يقاسم النار والجنة

في الحشر عادلا لن يجورا

فإذا اشتاقت الملائك زارته

فناهيك زايرا ومزورا

وأبوهم قال النبي له قولاً

بليغاً مكرّرا تكريرا

أنت خدني وصاحبي ووزيري

بعد موتي أكرم بذاك وزيرا

أنت مني كمثل هرون من موسى

لم اكن ابتغي سواه ظهيرا

وأبوهم أودى بعمرو بن ودّ

حين لاقاه في العجاج أسيرا

وأبوهم لبابِ خيبر أضحى

قالعا ليس عاجزا بل جسورا

حامل الراية التي ردّها بالأمس

مَن لم يزل جبانا فرورا

١٦٤

خصّه ذو العلا بفاطمة عرساً

وأعطاه شبرا وشبيرا

وهم باب ذي الجلال على آدم

فارتد ذنبه مغفورا

وبهم قامت السماء ولولاهم

لكادت بأهلها أن تمورا

وبهم باهل النبي فقل لي

ألهم في الورى عرفت نظيرا؟!

فيهم أنزل المهيمن قرآنا

عظيما وذاك جمّا خطيرا

في الطواسين والحواميم والرحمن

آيا ما كان في الذكر زورا

وخلقناه نطفة نبتليه

فجعلناه سامعا وبصيرا

لبيان إذا تأمله العارف

يبدي له المقام الكبيرا

ثم تفسير هل أتى فيه يا صاح

قل له إن كنت تفهم التفسيرا

إن الأبرار يشربون بكأس

كان عندي مزاجها كافورا

فلهم أنشأ المهيمن عيناً

فجّروها لديهم تفجيرا

وهداهم وقال: يوفون بالنذر

فمن مثلهم يوفي النذورا؟!

ويخافون بعد ذلك يوماً

شرّه كان في الورى مستطيرا

فوقاهم إلههم ذلك اليوم

ويلقون نضرة وسرورا

وجزاهم بأنهم صبروا في السر

والجهر جنةً وحريرا

فاتكوا من على الأرائك لا

يلقون فيها شمسا ولا زمهريرا

وأوانٍ وقد أطيفت عليهم

سلسبيل مقدّر تقديرا

وبأكواب فضّة وقوارير

قدّروها عليهم تقديرا

وبكأس قد مازجت زنجبيلا

لذّة الشاربين تشفي الصدورا

وإذا ما رأيت ثم نعيماً

دائماً عندهم وملكاً كبيرا

وعليهم فيها ثياب من السندس

خضر في الحشر تلمع نورا

ويحلّون بالأساور فيها

وسقاهم ربي شراباً طهورا

وروى لي عبد العزيز الجلودي

وقد كان صادقاً مبرورا

عن ثقاة الحديث أعنى العلائي

هو أكرم بذا وذا مذكورا

يسندوه عن ابن عباس يوماً

قال: كنا عند النبيّ حضورا

١٦٥

إذ أتته البتول فاطم تبكي

وتوالي شهيقها والزفيرا

قال: ما لي أراك تبكين يا فاطم؟!

قالت وأخفت التعبيرا

إجتمعن النساء نحوي واقبلن

يطلن التقريع والتعييرا

قلن: إن النبي زوّجك اليوم

عليّا بعلاً عديماً فقيرا

قال: يا فاطم اسمعي واشكري الله

فقد نلتِ منه فضلاً كبيرا

لم ازوّجك دون إذنٍ من الله

وما زال يحسن التدبيرا

أمر الله جبرئيل فنادى

رافعاً في السماء صوتاً جهيرا

وأتاه الأملاك حتى إذا ما

وردوا بيت ربّنا المعمورا

قام جبريل قائما يكثر التحميد

لله جلّ والتكبيرا

ثم نادى: زوّجت فاطم يا رب

عليّ الطهر الفتى المذكورا

قال رب العلا: جعلت لها المهر

لها خالصاً يفوق المهورا

خمس أرضي لها ونهري وأو

جبت على الخلق ودّها المحصورا

وروينا عن النبي حديثاً

في البرايا مُصحّحاُ مأثورا

انه قال: بينما الناس في الجنّة

إذ عاينوا ضياءً ونورا

كاد أن يخطف العيون فنادوا:

أي شيء هذا؟ وأبدوا نكورا

أوَ ليس الإله قال لنا: لا

شمس فيها ترى ولا زمهريرا

وإذا بالنداء: يا ساكن الجنة

مهلاً أمنتم التغييرا

ذا عليّ الوليّ قد داعب الزّ

هراء مولاتكم فأبدت سرورا

فبدا إذ تبسّمت ذلك النور

فزيدوا إكرامه والحبورا

يا بني أحمد عليكم عمادي

واتكالي إذا أردت النشورا

وبكم يسعد الموالي ويشقى

من يعاديكم ويصلي سعيرا

أنتم لي غداً وللشيعة الأبرار

ذخر أكرم به مذخورا

صاغ أبياتها عليّ بن حمّاد

فزانت وحُبّرت تحبيرا

١٦٦

ابن حماد العبدي

ابو الحسن علي بن حماد بن عبيد الله بن حماد العدوي العبدي البصري يستظهر الشيخ الأميني انه ولد في أوائل القرن الرابع وتوفي في أواخره.

كان حماد والد المترجم له أحد شعراء أهل البيت عليهم‌السلام كما ذكره ولده بقوله:

وإن العبد عبدكم عليا

كذا حمّاد عبدكم الأديب

رثاكم والدي بالشعر قبلي

وأوصاني به أن لا أغيب

  والمترجم له علم من أعلام الشيعة وفذّ من علمائها وشعرائها ومن حفظة الحديث المعاصرين للشيخ الصدوق ونظرائه، وقد أدركه النجاشي وقال في رجاله: قد رأيته.

قال الشيخ الأميني: جمع العلامة السماوي شعره في أهل البيت فكان يربو على 2200 بيتاً. ولم نقف على تاريخ ولادة ابن حماد ووفاته غير أن النجاشي الذي أدركه ورآه ولم يروِ عنه ولد في صفر سنة 372 وشيخه الذي يروي عنه وهو الجلودي البصري توفي 17 ذي الحجة سنة 332 فيستدعي التاريخان أن المترجم ولد في أوائل القرن الرابع وتوفي في أواخره ثم قال:

وقفنا لابن حماد على قصيدة في مجموعة عتيقة مخطوطة في العصور المتقادمة

١٦٧

وقد ذكر ابن شهر اشوب بعض ابياتها نسبة الى العبدي ( سفيان بن مصعب ) وتبعه البياضي في ( الصراط المستقيم ) وغيره. والقصيدة للمترجم له، وقال القمي في الكنى: ابو الحسن علي بن عبيد الله بن حماد العدوي الشاعر البصري من اكابر علماء الشيعة وشعرائهم ومحدثيهم ومن المعاصرين للصدوق ونظرائه ومن شعره في مدح امير المؤمنين عليه‌السلام قوله:

ورُدّت لك الشمس في بابل‌‏

فساميت يوشع لما سَما

ويعقوب ما كان اسباطه

كنجليك سبطي نبي الهدى

  وقال ابن حماد العبدي:

أسايلتي عما ألاقي من الأسى

سلي الليل عني هل أجن إذا جنّا

ليخبرك إني في فنونٍ من الجوى

إذا ما انقضا فنّ يوكل لي فنّا

وإن قلت: إن الليل ليس بناطق

قفي وانظري واستخبري الجسد المضنى

وإن كنت في شكٍ فديتك فاسئلي

دموعي التي سالت وأقرحت الجفنا

أحبّتنا لو تعلمون بحالنا

لما كانت اللذات تشغلكم عنّا

تشاغلتموا عنّا بصحبة غيرنا

وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا

وآليتموا أن لا تخونوا عهودنا

فقد وحياة الحب خنتم وما خنا

غدرتم ولم نغدر وخُنتم ولم نخن

وحُلتم عن العهد القديم وما حُلنا

وقلتم ولو توفوا بصدق حديثكم

ونحن على صدق الحديث الذي قلنا

أيهنا لكم طيب الكرى وجفوننا

على الجمر؟! لا تهنا ولا بعدكم نمنا

أنخنا بمغناكم لتحي نفوسنا

فما زادنا إلا جوىً ذلك المغنا

سنرحل عنكم إن كرهتم مقامنا

ونصبر عنكم مثل ما صبركم عنا

ونأخذ مَن نهوى بديلاً سواكم

ونجعل قطع الوصل منكم ولا منّا

تعالوا الى الانصاف فيما ادّعيتموا

ولا تفر طوابل صححوا اللفظ والمعنى

أليتكم ناصفتمونا فريضة

بأنّ لكم نصفاً وأنّ لنا ثُمنا

١٦٨

إذا طلعت شمس النهار ذكرتكم

وإن غربت جدّدت ذكركم حُزنا

وإني لأرثي للغريب وإنني

غريب الهوى والقلب والدار والمغنى

لقد كان عيشي بالأحبّة صافياً

وما كنت أدري أنّ صحبتنا تفنا

زمان نعُمنا فيه حتى إذا مضى

بكينا على أيامه بدم أقنا

فوالله ما زال اشتياقي اليكم

ولا برح التسهيد لي بعدكم حفنا

ولا ذقت طعم الماء عذبا ولا صفت

موارده حتى نعود كما كنا

ولا بارحتني لوعة الفكر والجوى

ولا زلت طول الدهر مقترعا سنّا

وما رحلوا حتى استحلّوا نفوسنا

كأنهم كانوا أحق بها منّا

ترى منجدي في أرض بغداد واهناً

لزهدكم فينا وبُعدكم عنّا

أيزعم أن أسلوا؟! ويشغل خاطري

بغيركم مستبدلا؟! بئس ما ظنّا

أيا ساكني نجدٍ سلامي عليكم

ظننا بكم ظناً فاخلفتموا الظنا

أمثّل مولاي الحسين وصحبه

كأنجم ليل بينها البدر أو أسنا

فلما راته أخته وبناته

وشمر عليه بالمهنّد قد أحنى

تعلّقن بالشمر اللعين وقلن: دَع

حسينا فلا تقتله يا شمر واذبحنا

فحزّ وريديه وركّب رأسه

على الرمح مثل الشمس فارقت الدجنا

فنادت بطول الويل زينب أخته

وقد صبغت من نحره الجيب والردنا

: ألا يا رسول الله يا جدّنا اقتضت

أميّة منا بعدك الحقد والضغنا

سُبينا كما تسبى الإماء بذلةٍ

وطيف بنا عرض البلاد وشُتتنا

ستفنى حياتي بالبكاء عليهم

وحزني لهم باقٍ مدى الدهر لا يفنى

ألا لعن الله الذي سنّ ظلمهم

وأخزى الذي أملا له وبه استنّا

سأمدحكم يا آل أحمد جاهداً

وأمنح مَن عاداكم السب واللعنا

ومن منكم بالمدح أولى لأنّكم

لأكرم من لبّى ومن نحر البُدنا

بجدّكم أسرى البراق فكان من

إله البرايا قاب قوسين أو أدنا

وشخص أبيكم في السماء تزوره

ملائك لا تنفكّ صبحا ولا وهنا

أبوكم هو الصدّيق آمن واتّقى

وأعطى وما أكدى وصدّق بالحسنى

١٦٩

وسمّاه في القرآن ذو العرش جنبه

وعروته والعين والوجه والأذنا

وشدّ به أزر النبي محمد

وكان له في كل نائبةٍ ركنا

وأفرده بالعلم والبأس والندى

فمن قدره يسمو ومن فعله يُكنى

هو البحر يعلو العنبر المحض فوقه

كما الدر والمرجان من قعره يُجنى

إذا عُدّ أقران الكريهة لم نجد

لحيدرة في القوم كفواً ولا قَرنا

يخوض المنايا في الحروب شجاعة

وقد ملأت منه ليوث الشرى جُبنا

يرى الموت من يلقاه في حومه الوغا

يُناديه من هنّا ويدعوه من هنّا

إذا استعرت نار الوغى وتغشمرت

فوارسها واستتخلفوا الضرب والطعنا

وأهدت إلى الأحداق كحلاً معصفراً

وألقت على الأشداق أردية دُكنا

وخلتَ بها زرقَ الأسنّة أنجماً

ومن فوقها ليلاً من النقع قد جنّا

فحين رأت وجه الوصي تمزقت

كثلّة ضانٍ أبصرت أسداً شنّا

فتى كفّه اليسرى حمام بحربه

كذاك حياة السلم في كفّه اليُمنى

فكم بطل أردى وكم مرهب أودى

وكم مُعدم أغنى وكم سائل أقنى

يجود على العافين عفواً بماله

ولا يتبع المعروف من منّه مَنّا

ولو فض بين الناس معشار جوده

لما عرفوا في الناس بخلاَ ولا ضنّا

وكل جواد جاد بالمال إنما

قصاراه أن يستنّ في الجود ما سنّا

وكل مديح قلت أو قال قائل

فإن امير المؤمنين به يعنى

سيخسر من لم يعتصم بولائه

ويَقرع يوم البعث من ندمٍ سنّا

لذلك قد واليته مخلص الولا

وكنت على الأحوال عبدا له قنا

عليكم سلام الله يا آل احمد

متى سجعت قمرية وعلت غصنا

مودّتكم أجر النبي محمد

علينا فآمنّا بذاك وصدّقنا

وعهدكم المأخوذ في الذر لم نقل

: لآخذه كلا ولا كيف أو أنّا

قبلنا وأوفينا به ثمّ خانكم

أناس وما خُنّا وحالوا وما حُلنا

طهرتم فطُهّرنا بفاضل طهركم

وطبتم فمن آثار طيبكم طِبنا

فما شئتم ومههما كرهتموا

كرهنا، وما قلتم رضينا وصدّقنا

١٧٠

فنحن مواليكم تحنّ قلوبنا

إليكم إذا إلف إلى إلفه حنّا

نزوركم سعيا وقلّ لحقكم

لو أنّا على أحداقنا لكم زُرنا

ولو بُضعت أجسادنا في هواكم

إذن لم نحل عنه بحاٍل ولا زلنا

وآبائنا منهم ورثنا ولاءكم

ونحن إذا مِتنا نورّثه الأبنا

وأنتم لنا نعم التجارة لم نكن

لنحذر خسراناً بها لا ولا غبنا

وما لي لا اثني عليكم وربّكم

عليكم بحسن الذكر في كتُبه أثنى

وإن أباكم يقسم الخلق في غدٍ

فيسكن ذا ناراً ويُسكن ذا عدنا

وأنتم لنا غوثٌ وأمنٌ ورحمة

فما منكم بدّ ولا عنكم مغنى

ونعلم أن لو لم ندن بولائكم

لما قُبلت أعمالنا أبداُ منّا

وأن، إليكم في المعاد إيابنا

إذا نحن من أجداثنا سُرعاً قمنا

وأن عليكم بعد ذاك حسابنا

إذا ما وفدنا يوم ذاك وحوسبنا

وأن موازين الخلايق حبّكم

فأسعدهم مَن كان أثقلهم وزنا

وموردنا يوم القيامة حوضكم

فيظما الذي يُقصى ويُروى الذي يُدنى

وأمر صراط الله ثم إليكم

فطوبا لنا إذ نحن عن أمركم جُزنا

وما ذنبنا عند النواصب ويلهم

سوى أنّنا قوم بما دنتم دُنا

فإن كان هذا ذنبنا فتيقّنوا

بأنّا عليه لا انثينا ولا نُثنى

ولمّا رفضنا رافضيكم ورهطهم

رُفضنا وعودينا وبالرفض نُبّزنا

وإنا اعتقدنا العدل في الله مذهباً

ولله نزّهنا وإيّاه وحّدنا

وهم شبّهوا الله العليّ بخلقه

فقالوا: خُلقنا للمعاصي وأُجبرنا

فلو شاء لم نكفر ولو شاء أكفرنا

ولو شاء لم نؤمن ولو شاء آمنّا

وقالوا: رسول الله ما اختار بعده

إماماً لنا لكن لأنفسنا اخترنا

فقلنا: إذن أنتم إمام إمامكم

بفضل من الرحمن تهتم وما تهنا

ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا

لنا يوم « خمّ » لا ابتدعنا ولا جُرنا

سيجمعنا يوم القيامة ربّنا

فتجزون ما قلتم ونُجزى بما قلنا

هدمتم بأيديكم قواعد دينكم

ودينٌ على غير القواعد لا يُبنى

١٧١

ونحن على نور من الله واضح

فيا رب زدنا منك نوراً وثبتنا

وظن ابن حمّاد جميل برَبه

وأحرى به أن لا يخيب له ظنّا

بنى المجد لي شنّ بن أقصى فحزته

تُراثاً جزى الرحمن خيراً أبي شنّا

وحسبي بعد القيس في المجد والدي

ولي حسب عبد القيس مرتبةً تبنى

وخالي تميم تمّ مجدي بفخره

فنلت بذا مجداً ونلت بذا أمنا

ودونك لاما للقلائد هذّبت

مديحا فلم تترك لذي مطمعن طعنا

ولا ظل أو أضحى ولا راح واغتدى

تأمل لا عينٌ تراه ولا لحنا

فصاحة شعري مذ بدت لذوي الحجى

تمثّلت الأشعار عنده لكنا

وخير فنون الشعر ما رقّ لفظه

وجلّت معانيه فزادت بتها حسنا

وللشعر علم إن خلا منه حرفه

فذاك هذاء في الرؤوس بلا معنى

إذا ما أديب أنشد الغثّ خلته

من الكرب والتنغيص قد ادخل السجنا

إذا ما رأوها أحسن الناس منطقاً

وأثبتهم قولاً وأطيبهم لحنا

تلذّ بها الأسماع حتى كأنها

ألذّ من أيام الشبيبة أو أهنى

وفي كل بيت لذة مستجدّة

إذا ما انتشاه قيل يا ليته ثنّى

تقبّلها ربّي ووفّى ثوابها

وثقّل ميزاني بخيراتها وزنا

وصلّى على الأطهار من آل احمد

إله السما ما عسعس الليل أو جنّا

  وقال أبو الحسن علي بن حماد العبدي البصري يمدح امير المؤمنين عليا صلوات الله عليه:

هل في سؤالك رسم المنزل الخربِ

برء لقلبك من داء الهوى الوصب

أم حره يوم وشك البين يبرده

ما استحدرته النوى من دمعك السرب

هيهات أن ينفذ الوجد المثير له

نأي الخليط الذي ولي ولم يؤب

يا رائد الحي حسب الحي ما ضمنت

له المدامع من ماء ومن عشب

ما خلت من قبل ان حالت نوى قذف

ان العيون لهم أهمى من السحب

بانوا فكم أطلقوا دمعاً وكم أسروا

لُبّاً وكم قطعوا للوصل من سبب

١٧٢

من غادرٍ لم أكن يوماً أُسرّ به

غدرا وما الغدر من شأن الفتى العربي

وحافظ العهد يبدي صفحتي فرح

للكاشحين ويخفى وجد مكتئب

بانوا قباباً وأحباباً تصونهم

عن النواظر أطراف القنا السلب

وخلّفوا عاشقاً ملقى رمى خلساً

بطرفه خدر مَن يهوى فلم يصب

ألقى النحول عليه برده فغدا

كأنه ما نسوا في الدار من طنب

لهفي لما استودعت تلك القباب وما

حجبن من قضبٍ عنا ومن كثب

من كل هيفاء أعطاف هضيم حشى

لعساء مرتشف غراء منتقب

كأنما ثغرها وهنا وريقتها

ما ضمت الكاس من راح ومن حبب

وفي الخدور بدور لو برزن لنا

برّدن كل حشى بالوجد ملتهب

وفي حشاي غليل بات يضرمه

شوق الى برد ذاك الظلم والشنب

يا راقد اللوعة أهبب من كراك فقد

بان الخليط ويا مضني الغرام ثِب

أما وعصر هوى دبّ العزاء له

ريب المنون وغالته يد النوب

لاشرقن بدمعي إن نأت بهم

دار ولم أقض ما في النفس من أرب

ليس العجيب بأن لم يبق لي جلد

لكن بقائي وقد بانوا من العجب

شيتُ ابن عشرين عاماً والفراق له

سهم متى ما يصب شمل الفتى يشب

ما هزّ عطفي من شوق الى وطني

ولا اعتراني من وجد ومن طرب

مثل اشتياقي من بُعد ومنتزح

الى الغري وما فهي من الحسب

أزكى ثرى ضمّ أزكى العالمين فذا

خير الرجال وهذا أشرف الترب

إن كان عن ناظري بالغيب محتجبا

فإنه عن ضميري غير محتجب

مرّت عليه ضروع المزن رائحة

من الجنوب فروّته من الحلب

من كل مقربة إقراب مرزمةٍ

ارزام صادية الازواد والقرب

يذيبها حرّ نيران البروق وما

لهن تحت سجاليها من اللهب

بل جاد ما ضم ذاك الترب من شرف

مزنَ المدامع من جار ومنسكب

تهفو اشتياقا إليه كل جارحة

مني ولا مثلما تجتاح في رحب

ولو تكون لي الايام مسعدة

لطاب لي عنده بعدي ومقتربي

١٧٣

يا راكبا جسره تطوي مناسمها

ملآءة البيد بالتقريب والخب

هو جآء لا يطعم الانضآء غاربها

مسرى ولا تتشكى مؤلم التعب

تقيّد المغزل الادماء في صعَدٍ

وتطلح الكاسر الفنخاء في جنب

تثني الرياح اذا مرّت بغايتها

حسر الطلآئح بالغيطان والخرب

بلّغ سلامي قبرا بالغري حوى

أوفى البرية من عجم ومن عرب

واجعل شعاري لله الخشوع به

وناد خير وصي صنو خير نبي

اسمع أبا حسن ان الأولى عدلوا

عن حكمك انقلبوا عن خير منقلب

ما بالهم نكبوا نهج النجاة وقد

وضحته واقتفوا نهجاً من العطب

ودافعوك عن الأمر الذي اعتلقت

زمامه من قريش كف مغتصب

ظلت تجاذبها حتى لقد خرمت

خشاشها تربت من كف مجتذب

وكان بالأمس منها المستقيل فلِم

أرادها اليوم لو لم يأتِ بالكذب

وانت توسعه صبراً على مضض

والحلم أحسن ما يأتي مع الغضب

حتى إذا الموت ناداه فاسمعه

والموت داع متى يدع امرءاً يجب

حبابها زفرا فاعتاض محتقباً

منه بافضع محمول ومحتقب

وكان أول من أوصى ببيعته

لك النبي ولكن حال من كثب

حتى إذا ثالث منهم تقمصّها

وقد تبدّل منها الجد باللعب

عادت كما بدأت شوهاء جاهلة

تجرّ فيها ذئاب آكلة الغلب

وكان عنها لهم في خم مزدجر

لمّا رقى احمد الهادي على قتب

وقال والناس من دان اليه ومن

ثاوٍ لديه ومن مصغ مرتقب

قم يا علي فاني قد أمرت بأن

ابلّغ الناس والتبليغ أجدر بي

إني نصبت علياً هادياً علماً

بعدي وأن علياً خير منتصب

فبايعوك وكل باسط يده

اليك من فوق قلب عنك منقلب

عافوك لا مانع طولا ولا حصر

قولا ولا لهج بالغش والريب

وكنت قطب رحى الاسلام دونهم

ولا تدور رحى إلا على قطب

ولا تماثلهم في الفضل مرتبة

ولا تشابههم في البيت والنسب

١٧٤

وان هززت قناة ظلت توردها

وريد ممتنع في الروح مجتنب

ان تلحظ القرن والعسّال في يده

يظل مضطربا في كف مضطرب

ولا تسلّ حساماً يوم ملحمة

إلا وتحجبه في رأس محتجب

كيوم خيبر إذ لم يمتنع زفر

عن اليهود بغير الفر والهرب

فاغضب المصطفى اذ جرّ رايته

على الثرى ناكصا يهوى على العقب

فقال اني ساعطيها غداً لفتى

يحبه الله والمبعوث منتجب

حتى غدوت بها جذلان مخترقا

مظنة الموت لا كالخائف النحب

جم الصلادم والبيض الصوارم و

الزرقُ اللهادم والماذيّ واليلب

فالأرض من لاحقيات مطهمة

والمستظل مثار القسطل الهدب

وعارض الجيش من تقع بوارقه

لمع الأسنة والهندية القضب

اقدمت تضرب صبراً تحته فغدا

يصوب مزنا ولو أحجمت لم يصب

غادرت فرسانه من هارب فرق

أو مقعص بدم الأوداج مختضب

لك المناقب يعيى الحاسبون لها

عدّاً ويعجز عنها كل مكتتب

كرجعة الشمس إذ رمت الصلوة وقد

راحت توارى عن الابصار بالحجب

ردّت عليك كأن الشهب ما اتضحت

لناظرٍ وكأن الشمس لم تغب

وفي براءة انباء عجائبها

لم تطوعن نازح يوماً ومقترب

وليلة الغار لما بتّ ممتلئا

أمنا وغيرك ملآن من الرعب

ما أنت إلا أخو الهادي وناصره

ومظهر الحق والمنعوت في الكتب

وزوج بضعته الزهراء يكنفها

دون الورى وابو ابنائه النجب

من كل مجتهد في الله معتضد

بالله معتقد لله محتسب

وارين هادين إن ليل الظلام دجا

كانوا لطارقهم أهدى من الشهب

لقبتُ بالرفض لما أن منحتهم

ودّي وأحسن ما ادعى به لقبي

صلوة ذي العرش تترى كل آونة

على ابن فاطمة الكشاف للكرب

وابنيه من هالك بالسم مخترم

ومن معفّر خدٍ بالثرى ترب

لولا السقيفة ما قاد الذين هم

أبناء حرب اليهم جحفل الحرب

١٧٥

والعابد الزاهد السجاد يتبعه

وباقر العلم داني غاية الطلب

وجعفر وابنه موسى ويتبعه

البر الرضا والجواد العابد الدئب

والعسكريين والمهدي قائمهم

ذي الأمر لابس أثواب الهدى القشب

مَن يملأ الارض عدلاً بعدما ملئت

جوراً ويقمع أهل الزيغ والشغب

القائد البُهم الشوس الكماء الى

حرب الطغاة على قبّ الكلا شزب

أهل الهدى لا أناس باع بائعهم

دين المهيمن بالدنيا وبالرتب

لو أن أضغانهم في النار كامنة

لأغنت النار عن مذكٍ ومحتطب

يا صاحب الكوثر الرقراق زاخره

ذُد النواصب عن سلساله العذب

قارعت منهم كماة في هواك بما

جرّدت من خاطر أو مقول ذرب

حتى لقد وسمت كلماً جباههم

خواطري بمضاء الشعر والخطب

إن ترضَ عني فلا أسديت عارفة

إن سائني سخط أُمّ برّة وأبِ

صحبت حبك والتقوى وقد كثرت

لي الصحاب فكانا خير مصطحب

فاستجل من خاطر العبدي آنسة

طابت ولو جاوزت مغناك لم تطب

جاءت تمايل في ثوبي حباً وهدى

اليك حالية بالفضل والأدب

أتعبت نفسي ونفسي بعد عارفة

بأن راحتها في ذلك التعب

  وقال يمدحه صلوات الله عليه ويرثي ولده الحسين عليه‌السلام :

شجاك نوى الاحبة كيف شاءا

بداء لا تصيب له دواءا

ابانوا الصبر عنك غداة بانوا

ورحّل عنك من رحلوا العزاءا

واعشوا بالبكا عينيك لما

حدا الحادي بفرقتهم عشاءا

لعمر أبيك ليس الموت عندي

وبينهم كما زعموا سواءا

فإن الموت للمضنى مريح

ومضنى البين مزداد بلاءا

سل العلماء هل علموا فسموا

سوى داء الهوى داءا عياءا

وهل ساد البرية غير قوم

عليهم احمد مدّ العباءا

رقى جبريل إذ جعلوه منهم

ففاخر كل من سكن السماءا

١٧٦

رآهم آدم أشباح نور

بساق العرش مشرقة ضياءا

هناك بهم توسل حين أخطأ

فكفّر ربه عنه الخطاءا

فمنهم ذلك الطهر المرجى

عليّ اذ نُنيط به الرجاءا

امير المؤمنين أبو تراب

ومن بترابه نلفي الشفاءا

خليفة ربنا في الأرض حقا

له فرض الخلافة والولاءا

وعلّمه القضايا والبلايا

وفهّمه الحكومة والقضاءا

وسمّاه عليا في المثاني

حكيما كي يتم له العلاءا

وأعطاه أزمة كل شيء

فليس يخاف من شيء اباءا

فأبدع معجزات ليس تخفى

وهل للشمس قط ترى خفاءا

وشبهه ابن مريم في مثال

أراد به امتحانا وابتلاءا

فواضل فضله لو عددوها

اذن ملأت بكثرتها الفضاءا

إمام ما انحنى للآت يوما

ولم يعكف على العزى انحناءا

وواخاه النبي فلم يخنه

كمن قد خان بل حفظ الاخاءا

وعاهده فلم يغدر ولكن

وفاه ومثله حفظ الوفاءا

وكم عرضت له الدنيا حضورا

فجاد بها لعافيها سخاءا

شفى بالعلم سائله وأغنى

ببذل المال سائله عطاءا

هو الصدّيق اول مَن تزكى

وصدّق احمد الهادي ابتداءا

هو الفاروق إن هم أنصفوه

به عرفوا السعادة والشقاءا

صلوة الله دائمة عليه

ورحمته صباحا أو مساءا

فقد ابقت مودته بقلبي

نوازع تستطير بي ارتقاءا

ولي في كربلاء غليل كرب

يواصل ذلك الكرب البلاءا

غداة غدا ابن سعد مستعداً

لقتل السبط ظلما واعتداءا

فاصبح ظاميا مع ناصريه

فكل منهم يشكو الظماءا

ولم يالوا مواساة وبذلا

بانفسهم لسيدهم فداءا

الى أن جُدّلوا عطشا فنالوا

من الله المثوبة والجزاءا

١٧٧

وامسى السبط منفردا وحيدا

ولم يبلغ من الماء ارتواءا

فاوغل فيهم كالليث لما

رأى في غيله نعماً وشاءا

ولما أثخنوه هوى صريعا

فبزوه العمامة والرداءا

وعلّوا رأسه في رأس رمح

كبدر التم قد نشر الضياءا

وأبرزن النساء مهتكات

سبايا لسن يعرفن السباءا

فلما أن بصرن به صريعاً

وقد جعل التراب له وطاءا

تغطيه نصولهم ولكن

حوامي الخيل كشّفت الغطاءا

سقطن على الوجوه مولولات

وأُعدِ من التصبر والعزاءا

تناديه سكينة وهي حسرى

وليس بسامع منها النداءا

أبي ليت المنية عاجلتني

وكنت من المنون لك الفداءا

أبي لا عشت بعدك لا هنت لي

حياتي لا تمتعتُ البقاءا

رجوتك ان تعيش ليوم موتي

ولكن خيّب الدهر الرجاءا

ابي لو تنفع العدوى لمثلي

على خصمي لخاصمت القضاءا

لو أن الموت قدّمني وأبقى

حسيناً كان أحسن ما أساءا

ابي شمتَ العدو بنا وأعطى

مناه من الشماتة حيث شاءا

هتكنا بعد صون في خبانا

وهتّكت العدى منا الخباءا

ابي لو تنظر الصغرى بذل

تساق كما يسوقون الاماءا

اذا سلب القناع الرجس عنها

تخمّر وجهها بيدٍ حياءا

أبي حان الوداع فدتك نفسي

فعدني بعد توديعي لقاءا

فيا قمراً تغشّاه خسوفٌ

كما في التم مطلعه أضاءا

ويا غصناً حنت ريح المنايا

غضاضته كما اعتدل استواءا

ويا ريحانة لشميم طاها

أعادتها ذوابلهم ذواءا

بكته الأرض والثاوي عليها

أسى وبكاء مَن سكن السماءا

وقد بكت السماء عليه شجواً

وأذرت من مدامعها دماءا

سيفنى بالاسى عمري عليه

ولست أرى لمرزاتي فناءا

١٧٨

سأبكيه وأُسعد من بكاه

واجعل ندبه ابدا عزاءا

وامدح آل احمد طول عمري

وأوسع مَن يعاديهم هجاءا

واحفظ عهدهم سراً وجهراً

ولا أبغي لغيرهم الوفاءا

واعتقد الولاء لهم حياتي

وممن خان عهدهم البراءا

وأعلم أنهم خير البرايا

وأفضلهم رجالا أو نساءا

فمن ناواهم بالفضل يوما

فليس برابحٍ إلا العناءا

ولم يك بالولاء لهم مقرّاً

لاصبح برّه ابدا هباءا

فيا مولاي وهو لك انتساب

أنال به لعمرك كبرياءا

اليك من ابن حماد قريضا

هو الياقوت أو أبهى صفاءا

وقال يمدحه ويذكر بعض مناقبه ويرثي ولده الحسين صلوات الله عليهما:

دعوت الدمع فانسكب انسكابا

وناديت السلو فما اجابا

وهل لك أن يجيب فتى حزينا

رأت عيناه بالطف اكتئابا

وكيف يملّ شيعيّ منيب

الى الطف المجيئ أو الذهابا

يحار اذا رأيت الحَيَر فكري

لهيبته فلم أملك خطابا

وحق لمن حوى ما قد حواه

من النور المقدس أن يهابا

سلالة أحمد وفتى علي

فيالك منسبا عجبا عجابا

فكان محمد هنيّ وعزّي

به عن ربه دأبا فدابا

ربا في حجر جبريل وناعى

له ميكال وانتحبا انتحابا

وساد وصنوه الحسن المزكى

من اهل الجنة الغُرّ الشبابا

هما ريحانتا المختار طيبا

اذا والاهما الشم استطابا

وقرطا عرش رب العرش تبّت

يدا من سنّ ظلمهما تُبابا

سقي هذا المنون بكاس سمٍّ

وذاك بكربلا منع الشرابا

سأخضب وجنتي بدماء عيني

لشيبته وقد نصلت خضابا

وألبس ثوب أحزاني لذكري

له عريان قد سلب الثيابا

١٧٩

فوا حزنا عليه وآل حرب

ترويّ البيض منه والحرابا

وواحزنا ورأس السبط يسري

كبدر التم قد عُلي شَهابا

وواحزنا ونسوته سبايا

وقد هتك العرى منها الحجابا

وقد سفرت لدهشتها وجوها

تعوّدت التخمر والنقابا

وقد جزّت نواصيها وشدّت

بها الأوساط لم تأل انتدابا

وزينب في النساء لها رنين

يكاد يفطرّ الصمّ الصلابا

تنادي يا أخي ما لليالي

تجدد كل يوم لي مصابا

فقدتُ أحبتي ففقدت صبري

وقد لاقيت أهوالاً صعابا

وكنتَ بقية الماضين عندي

به أسلو اذا ما الخطب نابا

فبعدك من ترى أرجوه ذخراً

اذا ما الدهر ينقلب انقلابا

وأعظم حسرتي أني اذا ما

دعوتك لم تردّ لي الجوابا

فلِم أبعدتني يا سؤل قلبي

وما عوّدتني إلا اقترابا

لو أنّ عُشير ما ألقاه يُلقى

على زبر الحديد إذن لذابا

أخي لو أن عينك عاينتني

لما قرّت بكاء وانتحابا

فكنت ترى الأرامل واليتامى

يحثّ السائقون بها الركابا

وكنت ترى سكينة وهي تبكي

وتخفي الصوت خوفاً وارتقابا

وفاطمة الصغيرة قد كساها

شمول الضيم ذلا واكتئابا

تنادي وهي باكية أباها

وقد هتك العدى منها الحجابا

حلفتُ برب مكة حلف برّ

ومن أجرى بقدرته السحابا

فما قتل الحسين سوى أناس

لقتل محمد دفعوا الدبابا

وراموا قتل والده عليّ

وحازوا إرث فاطمة اغتصابا

سيعلم ظالم الاطهار ماذا

يُعدُّ له وينقلب انقلابا

وكيف يجيب سائله وماذا

يعد له اذا ورد الحسابا

كلاب النار كانوا دون شك

كما يروون ان لها كلابا

فليس يشم ريح الخلد كلب

ورب العرش يصليه عذابا

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

إنَّ ناساً كهؤلاء لا يُستعان بهم في سبيل الله

كان أبو جعفر (محمد بن القاسم العلوي) مِن أبناء رسول الله، ويصل نسبه مِن جانب أبويه في ثلاثة أظهر إلى الإمام السجاد (عليه السلام).

كان عالماً فقيهاً مؤمناً حُرَّاً شجاعاً، وكان يسكن الكوفة ويواصل نشاطه ضِدَّ حكومة المُعتصم العباسي الظالمة، وعندما عزمت سُلطات الحُكم على القضاء عليه، اضطرَّ إلى ترك الكوفة إلى أرض خراسان الواسعة.

هناك ظلَّ زماناً ينتقل مِن مدينة إلى أُخرى، حتَّى انتهى به الأمر إلى المقام في مدينة (مرو) حيث راح يُحرِّض الناس على حُكم المُعتصم، فتجمَّع حوله الناس المظلومون والمحرومون، وبايعه في فترة قصيرة أربعون ألف شخصٍ.

وفي إحدى الليالي جمع الجُند ليتحدَّث إليهم عن الانتفاضة، وليعدهم لمواجهة جنود المُعتصم، وقبل أنْ يُباشر الكلام ويشرح برنامجه للجند طرق سمعه صوت رجل يبكي، فعجب لذلك وسأل عن الباكي والسبب.

فظهر بعد التحقيق أنَّ أحد الجنود قد انتزع مِن أحدهم بساطه بالقوَّة، فأخذ هذا يبكي بصوت مُرتفع، فاستدعى محمد بن القاسم الجندي، وسأله عمَّا دفعه إلى القيام بذلك الأمر القبيح؟

فقال الجندي: لقد بايعناك لكي نتمكَّن مِن أخذ ما نشاء مِن أموال الناس، وأنْ نفعل ما نُريد!

فأمر محمد بإرجاع البساط إلى صاحبه، وحلَّ الجُند قائلاً: إنَّ ناساً كهؤلاء لا يُمكن أنْ يُستعان بهم في سبيل دين الله (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨١

صلَّى فأعجبني وصام فرامني

قد يسعى أشخاص خبُثت قلوبهم لنيل السُّمعة الحسنة، مِن أجل الوصول إلى أهدافهم غير المشروعة عن طريق إلقاء شباك الغِشِّ والرياء، ولبس لبوس المُتديِّنين الصادقين، والتظاهر بالتعبُّد الكاذب الخادع؛ ليتمكَّنوا مِن اجتلاب ثقة الناس واطمئنانهم؛ فيكون ذلك وسيلة لهم للاعتداء على أموال الناس وحقوقهم.

يُقال: إنَّ إعرابيَّاً دخل المسجد، فرأى رجلاً يُصلِّي بخشوع وخضوع فأعجبه ذلك فقال له: نِعْمَ ما تُصلِّي!

قال: وأنا صائم، فإنَّ صلاة الصائم بضعف صلاة المُفطر!

فقال له الأعرابي: احفَظ عليَّ ناقتي هذه، فإنَّ لي حاجة حتى أقضيها.

فخرج الأعرابي لحاجته فركب المُصلِّي الناقة وخرج، فلمَّا قضى الأعرابي حاجته رجع فلم يجد الرجل ولا الناقة، وطلبه فلم يقدر عليه فخرج وهو يقول:

صلَّى فأعجبني وصام فرامني * نَحِّ القلوص عن المُصلِّي الصائم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨٢

جزاء مَن استودِع ثمَّ جَحد

حُكي أنَّه قَدِم رجل إلى بغداد ومعه عِقد يُساوي ألف دينار فأراد بيعه فلم يتَّفق، فجاء إلى عطَّار موصوف بالخير والديانة فأودع العِقد عنده، وحَجَّ وأتى بهديَّة للعطَّار وسلَّم عليه، فقال العطَّار له: مَن أنت؟ ومَن يعرفك؟

فقال: أنا صاحب العقد!

فلمَّا كلَّمه رفسه وألقاه عن دُكَّانه فاجتمع الناس وقالوا:

ويلك! هذا الرجل صالح، فما وجدت مَن تُكذِّب عليه إلاَّ هذا!

تحيَّر الحاجُّ وتردَّد إليه فما زاده إلاَّ شتماً وضرباً، فقيل له: لو ذهبت إلى عضد الدولة لحصل لك مِن فراسته خير.

فكتب قصَّته وجعلها على قَصبة وعرضها عليه، فقال عضد الدولة له: ما شأنك؟

فقصَّ عليه فقال عضد الدولة: اذهب غداً واجلس في دُكَّان العطَّار ثلاثة أيَّام، حتَّى أمرَّ عليك في اليوم الرابع، فأُسلِّم عليك فلا ترُدَّ عليَّ إلاَّ السلام، فإذا انصرفت أعد عليه ذِكر العِقد، ثمَّ أعلمني بما يقول لك.

ففعل الحاجُّ ذلك، فلمَّا كان في اليوم الرابع جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلمَّا رأى الحاجُّ وقف وقال: السلام عليكم.

فقال الحاجُّ: وعليكم السلام، ولم يتحرَّك.

فقال: يا أخي، تَقدِم مِن العراق ولا تأتينا ولا تعرض علينا حوائجك؟

فقال له: ما اتَّفق هذا. ولم يزده على ذلك شيئاً.

هذا والعسكر واقف بكماله؛ فانذهل العطَّار وأيقن بالموت، فلمَّا انصرف عضد

٣٨٣

الدولة التفت العطَّار إلى الحاجِّ، وقال له: يا أخي، متى أودعتني هذا العِقد؟ وفي أيِّ شيء هو ملفوف؟ ذكِّرني لعلِّي أتذكَّر؟

فقال: مِن صفته كذا وكذا.

قام العطَّار وفتَّش ثمَّ فتح جُراباً وأخرج منه العِقد وقال:

الله أعلم أنَّني كنت ناسياً، ولو لم تُذكِّرني ما تذكَّرت.

فأخذ الحاجُّ العِقد ومضى إلى عضد الدولة فأعلمه، فعلَّقه في عُنق العطَّار وصلبه على باب دُكَّانه ونودي عليه هذا جزاء مَن استودِع ثمَّ جَحَد.

ثمَّ أخذ الحاجُّ العِقد ومضى إلى بلاده (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨٤

الله أحقُّ أنْ يُجار عائذه مِن محمَّد

استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل مِن بني فهد، وهو يضرب عبداً له والعبد يقول: أعوذ بالله فلم يُقلِع الرجل عنه، فلمَّا أبصر العبد برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: أعوذ بمحمد فأقلع عن ضربه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يتعوَّذ بالله فلا تُعيذه! ويتعوَّذ بمحمَّدٍ فتُعيذه! والله أحقُّ أنْ يُجار عائذه مِن محمد).

فقال الرجل: هو حُرٌّ لوجه الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي بعثني بالحقِّ نبيَّاً، لو لم تفعل لواقع وجهك حَرُّ النار).

٣٨٥

يُنقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قصَّ على أصحابه الحكاية التالية:

(كان لمسلم صديق غير مسلم يسكن في جواره، وكان المسلم لا يفتأ يُحدِّثه عن دين الإسلام الإلهي، ويُرغِّبه في اعتناق الإسلام حتَّى استجاب جاره له واعتنق الإسلام، فما كان مِن المسلم في اليوم التالي إلاَّ أنْ نهض عند طلوع الفجر إلى المسجد لأداء صلاة الصبح جماعة.

انتهت الصلاة وتفرَّق الناس تدريجيَّاً، فاقترح المسلم على صاحبه أنْ يَبقيا في المسجد، يذكران الله حتَّى طلوع الشمس.

وطلعت الشمس فاقترح عليه أنْ ينويا الصوم لذلك اليوم، ويبقيا في المسجد حتَّى الظهر ليُعلِّمه القرآن، وحان الظهر فصلَّيا الظهر، ومِن ثمَّ صلَّيا العصر جماعة.

وإذ همَّ الجار بالخروج مِن المسجد، اقترح عليه صاحبه أنَّ مِن الأفضل له أنْ يبقى في المسجد حتَّى أداء صلاتي المغرب والعشاء، وقام الجار الحديث الإسلام مُتعباً وقد فقد صبره، فيمَّم شطر بيته مع جاره المسلم، وفي فجر اليوم التالي نهض الجار المسلم عازماً تَكرار برنامج اليوم السابق، فجاء يطرق باب جاره ليَصحبه إلى المسجد، فخرج إليه الرجل وقال له:

اتركني وشأني؛ إنَّ دينك هذا صعب لا طاقة لي به) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨٦

رحم الله امرءاً عَرف قدره فوقف عنده

بن الهيثم مِن أشهر عُلماء القَرن الرابع الهجري، اختصَّ بالهندسة والرياضيَّات، وكان له إلمام بالعلوم العقليَّة والفلسفيَّة، وقد خلَّف مؤلَّفات ورسائل عديدة. كان يعيش في البصرة، ولكنَّ صدى شُهرته كان قد عمَّ الأرجاء، وكان حديث المحافل العلميَّة في كلِّ مكان.

كان حاكم مصر يومئذ رجلاً مُتعلِّماً ومُحبَّاً للعلوم، وكان يودُّ لو يجتمع بابن الهيثم عن قُرب ليستفيد مِن علمه. ولكنَّه لم يُوفَّق لذلك، وسمع يوماً أنَّ ابن الهيثم قال: لو كنت في مصر لبنيت سدَّاً على النيل لمنع إضراره بالناس عند طُغيانه ونقصانه، ففرح حاكم مصر بذلك وازداد تلهفُّاً لرؤية ابن الهيثم، فأرسل له سِرَّاً مصاريف سفره ورغَّب إليه أنْ يُسافر إلى مصر.

رحل ابن الهيثم مِن البصرة إلى مصر، وعند وصوله استقبله الحاكم خارج المدينة وأنزله بكلِّ احترام في الدار التي خصَّصها لسُكناه، وبعد بِضعة أيَّام مِن الاستراحة مِن وَعْثاء السفر جاء الحاكم لزيارته وذكَّره بوعده ببناء سَدٍّ على نهر النيل، فأعرب ابن الهيثم عن استعداده للوفاء بوعده، فتُقرِّر يوم مُعيَّن للسفر إلى حيث توجَد منطقة شلاَّل مُرتفع تصلح لإقامة السَّدِّ فيه.

وحلَّ اليوم الموعود وتوجَّه ابن الهيثم مع الحاكم، وعدد مِن المعمارين والعمَّال المَهرة، وجعلوا طريقهم على الأهرامات العجيبة والآثار العظيمة، التي شيَّدها المصريُّون القُدامى وفق حسابات هندسيَّة دقيقة، لكي يشهدها ابن الهيثم الذي بُهت لما رآه مِن الأعمال المُدهشة الرائعة، فاستقلَّ علمه وضعف أمله في استطاعته بناء سَدٍّ على النيل؛ إذ لو كان هذا مُمكناً عمليَّاً لما توانى عنه العلماء والمُهندسون المصريُّون في قديم الزمان. وعند وصولهم إلى حيث شلاَّل الماء في النيل راح

٣٨٧

ابن الهيثم يتفقَّد جوانب النيل وسواحله، ثمَّ اعترف بعجزه عن بناء السَّدِّ، واعتذر عن بنائه واعتذر عن الوعد الذي قطعه وعاد مع الآخرين إلى القاهرة.

رأى حاكم مصر أنْ لا يُفلت فرصة وجود هذا العالم الكبير في بلده، فطلب إليه أنْ يبقى في مصر؛ ليعمل عنده في ديوان المكاتيب. ولكنَّ ابن الهيثم - الذي كان قد عرف طراز تفكير حاكم مصر ونفسيَّته - أصابه القلق لهذا الطلب؛ لأنَّه عرف في هذا الحاكم إنساناً حادَّ الطبع، سيِّء الأخلاق، مُتلوِّناً فظَّاً، يحب إراقة الدماء يغضب لأدنى حدث، ويُصدر أمره لأتفه سبب بقتل الناس الأبرياء، فمِن البديهي أنْ تكون الحياة مع مثل هذا الشخص محفوفة بالخطر المُحتَّم، ولكنَّه لخوفه اضطرَّ إلى إجابة الحاكم إلى ما يُريد، فاستوطن مصر وعمل في ديوان مكاتيب الحاكم.

مضت فترة على هذا المنوال، حيث كان ابن الهيثم يحضر في مَقرِّ عمله كلَّ يوم، ولكنْ لم يُفارقه القلق والخوف، ولم يغفل عن التفكير في طريقة ينجو بها بنفسه ويتحرَّر مِن هذا الهمِّ الدائم.

وأخيراً واتته الحيلة فتظاهر بالجنون، وإذ وصل خبر جنونه إلى الحاكم أمر بحَجره في بيته ووضع عليه مَن يُعنى به، وعهد بأمواله وأثاثه إلى مَن يوثَق بهم، وظلَّ ابن الهيثم في التظاهر بالجنون إلى أنْ مات الحاكم، وبعد أيَّام مِن موته استعاد ابن الهيثم عقله، وترك داره واختار سكناً بالقرب مِن الجامع الأزهر، واستعاد أمواله وانصرف مُطمئنَّ البال إلى التأليف والتصنيف، ولمَّا كان ذا خطٍّ جميل فقد انهمك في استنساخ بعض الكُتب العلميَّة يبيعها لإمرار معاشه.

حاكم مصر هذا لم يكن إنساناً مِن عامَّة الناس جاهلاً، بلْ كان مِن أهل العلم والمعرفة، مُؤهَّلاً للرئاسة وإدارة البلاد، ولكنَّه كان يفتقر إلى سلامة التفكير وصلاح الأخلاق، وكان يستعمل سلطته في أُمور غير مشروعة، ولهذا عاش الناس تحت حكمه عُرضة للخطر والإحساس بفُقدان الأمن؛ بحيث إنَّ عالماً مِثل ابن الهيثم اضطرَّ إلى التظاهر بالجنون للمُحافظة على حياته والخلاص مِن شَرِّه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨٨

قد أخطأتَ بهذا خمس عشرة خطيئة

صار المأمون إلى دمشق سنة... وكان بشر بن الوليد الكندي قاضي المأمون ببغداد فضرب رجلاً قرف (١) بأنَّه شتم أبا بكر وعمر وأطافه على جَمل.

فلمَّا قَدِم المأمون مِن رحلة الشام، وسمع بما فعل بشر أحضر الفقهاء فقال: إنِّي نظرت في قضيَّتك يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثمَّ أقبل على الفقهاء فقال: أفيكم مَن وقف على هذا؟

قالوا: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟

فقال: يا بشر، بم أقمت الحَدَّ على هذا الرجل؟

قال: بشتم أبي بكر وعمر.

قال: حضرك خصومه؟

قال: لا.

قال: فوكَّلوك؟

قال: لا.

قال: فللحاكم أنْ يُقيم حَدَّ القرفة بغير حضور خصم؟

قال: لا.

قال: وكنت تأمن أنْ يهب بعض القوم حصَّته فيبطل الحَدُّ؟

قال: لا.

قال: فأُمُّهما كافرتان أو مُسلمتان؟

قال: بلْ كافرتان.

قال: فيُقام في الكافرة حَدُّ المسلمة؟

قال: لا.

____________________

(١) قرفه بكذا نسبه إليه وعابه به.

٣٨٩

قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر مِن الحقِّ، أفشهد عندك شاهدا عدلٍ؟

قال: قد زكي أحدهما.

قال: فيقام الحَدُّ بغير شاهدين عدلين؟

قال: لا.

قال: ثمَّ أقمت الحَدَّ في رمضان، فالحدود تُقام في شهر رمضان؟

قال: لا.

قال: ثمَّ جلدته وهو قائم، فالمحدود يُقام؟

قال: لا.

قال: ثمَّ شبحته بين العقابين فالمحدود يُشبح؟

قال: ثمَّ جلدته عُرياناً فالمحدود يُعرى؟

قال: لا.

قال: ثمَّ حملته على جمل فأطفته فالمحدود يُطاف به؟

قال: لا.

قال: ثمَّ حبسته بعد أنْ أقمت عليه الحَدَّ، فالمحدود يُحبس بعد الحَدِّ؟

قال: لا.

قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأُشاركك في جُرمك، خذوا عنه ثيابه وأحضروا المحدود ليأخذ حَقَّه منه.

فقال له مَن حضر مَن الفُقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه، عارفاً بأحكامه تقول الحَقَّ وتعمل به، وتأمر بالعدل وتؤدَّب مَن رغب عنه، إنَّ هذا - يا أمير المؤمنين - حاكم اجتهد فأخطأ، فلا تفضح به الحُكَّام وتهتك به القضاء، فأمر به فحُبس في داره حتَّى مات (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٠

الدنيا يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك

وصل البرامكة على عهد هارون الرشيد إلى أوَجِّ العظمة والسُّلطة، كان جعفر البرمكي رئيس الحكومة، وللبرامكة الآخرين مقامات عالية فيها، وظلُّوا يحكمون البلاد الإسلاميَّة الواسعة سنين طوالاً، كان خلالها جميع أفراد هذه العائلة مِن الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، والكبار والصغار مُتنعِّمين بكلِّ النعم ووسائل الراحة والسلطة.

ولكنَّهم في النهاية واجهوا تغيُّراً، فقُتل فريق منهم، وفَقَد الذين بقوا أحياءً كلَّ شيء وزالت دولتهم.

يقول محمد بن عبد الرحمان الهاشمي: زرت أُمِّي في عيد الأضحى، فرأيت امرأة رثَّة الثياب تجلس إليها تُحادثها، فسألتني أُمِّي أتعرف هذه المرأة؟

فقلت: لا.

قالت: هذه عبادة أُمُّ جعفر البرمكي!

اقتربت منها وحادثتها وأنا في عَجب مِن أمرها، وسألتها عمَّا مَرَّ بها مِن عجائب حوادث الزمان، فقالت:

يا ولدي، مَرَّ عليَّ عيد مثل هذا وأربع جوارٍ يخدمنني، وكنت أقول: إنَّ ولدي جعفراً لم يؤدِّ حَقِّي في الجواري اللواتي أوقفهنَّ على خدمتي، واليوم أيضاً يوم عيد يَمرُّ عليَّ، وأنا أتمنَّى جِلدَي شاةٍ أفترش واحداً وأتغطَّى بآخر.

يقول محمد الهاشمي: فدفعت لها خمسمئة درهم، ففرحت فرحاً شديداً كاد أنْ يُهلكها (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩١

ألا كلُّ شيء ما خلا الله هالك

أرسل مُعاوية عبد الرحمان بن زياد عاملاً له على خراسان، فجمع خلال حُكمه أموالاً طائلة، فقال يوماً لكاتبه: ويلك! لست أدري كيف يغشاني النوم وعندي كلُّ هذه الأموال؟! فسأله الكاتب: كمْ هي؟

فقال: عددت ما عندي فعلمت أنِّي إذا صرفت كلَّ يوم ألف درهم كفاني مِئة سنة، فقال الكاتب: أيُّها الأمير أنام الله عينيك، لا أعجب مِن أنَّك تنام ولك هذه الأموال، بلْ أعجب إذا غمضت عيناك بعد أنْ تذهب منك.

ثمَّ لم يلبث طويلاً حتَّى ذهب كلُّ ذلك المال؛ فقد استدان بعضهم بعضه ولم يُعيدوه، وأنكر بعضٌ آخر أنَّه استأمنهم على البعض الآخر، وسرق خَدَمه وحَشمه ما لم يسرقه الآخرون، حتَّى بلغ به الأمر إلى أنَّه باع ما عنده مِن أدوات فضِّيَّة، وكان يركب حماراً صغيراً فتخطُّ رُجلاه الأرض، رآه يوماً مالك بن دينار وسأله: أين الأموال التي كنت تذكرها كثيراً؟

فأجابه: يا أبا يحيى، كلُّ شيء سوى ذات الله تعالى إلى فناء (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٢

لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ

عندما أُحضر الإمام زين العابدين مع سبابا أهل البيت (عليهم السلام) إلى مجلس يزيد جرى كلام بينه وبين يزيد، كان منه أنَّ يزيد قال:

يا علي بن الحسين: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ... ) (الشورى: ٣٠).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): كلاَّ! ما هذه فينا نزلت، إنَّما نزلت فينا: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لكَيلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (الحديد: ٢٢ - ٢٣) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا مِن الدنيا ولا نفرح بما أتانا منها.

كان يزيد يُريد أنْ يعزو حادثة كربلاء الدمويَّة، وما أصاب أهل البيت فيها إلى أعمالهم، وأنَّه بريءٌ مِن دمهم بحسب مفهوم الآية التي قرأها، ولكنَّ الإمام ردَّ فِريته ودحضها (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٣

أحبُّكما إليَّ أحسنكما خُلقاً

روي أنَّ يحيى بن زكريَّا (عليه السلام) لقي عيسى ابن مريم، فتبسَّم عيسى في وجهه.

فقال يحيى: (ما لي أراك لاهياً كأنَّك آمن؟!).

فقال عيسى: (ما لي أراك عبساً كأنَّك آيس).

فقالا: (لا نبرح حتَّى ينزل علينا وحي!).

فأوحى الله تعالى إليهما: (أحبُّكما إليَّ أحسنكما خُلقاً).

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (بُشر المؤمن في وجهه وحزنه في قلبه) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٤

الله أكرم مِن أنْ يسلب امرءاً كريمتيه ثمَّ يعذبه

جاء رجل كفيف البصر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال: يا رسول الله، أدعُ الله أنْ يكشف بصري.

قال: (إنْ أحببت أنْ أدعو فعسى أنْ يكشف بصرك، وإنْ شئت تلقاه ولا حساب عليك).

فقال: ألقاه ولا حساب عليَّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الله أكرم مِن أنْ يسلب امرءاً كريمتيه ثمَّ يُعذِّبه) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٥

الله يَهب ويأخذ

كانت أُمُّ سليم مِن المؤمنات على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك كان زوجها أبو طلحة مِن المسلمين الصادقين ومِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، شارك في غزوات بدر وأُحد والخندق وغيرها.

وكان يسكن المدينة أيَّام السِّلم يقضي جانباً مِن وقته في العبادة، وفي تعلُّم المعارف الإسلاميَّة، ويقضي الجانب الآخر لكسب المعاش على قطعة أرض صغيرة.

أنجب هذان الزوجان ولداً، ولكنَّه أُصيب وهو صبيٌّ بمرض ألزمه الفراش، وانهمكت الأُمُّ في العناية به وتمريضه. وكان الأب عند عودته مِن العمل يعود ابنه المريض، ثم َّينصرف إلى حجرته لتناول طعامه والإخلاد إلى الراحة.

في عصر يوم مِن الأيَّام توفِّي الفتى أثناء غياب الأبِّ، فغطَّت الأُمُّ المؤمنة جسد ابنها دون أنْ تظهر الجزع عليه؛ ولكيلا تُزعج زوجها عند رجوعه ليلاً قرَّرت أنْ تُخفي عنه خبر موته في تلك الليلة، لذلك فإنَّه عندما دخل الدار وأراد عيادة ابنه حسب مألوفه منعته أُمُّ سليم مِن ذلك، قائلة اتركه نائماً براحة وسكون، وكان في لهجتها ما يشعر بأنَّ المرض قد خفَّ عنه، فاطمأنَّ قلبُه بعض الشيء خاصَّة وأنَّها هي أيضاً كانت هادئة مُطمئنَّة بحيث إنَّهما ناما سويَّة في تلك الليلة.

عند الصباح خاطبت أبا طلحة قائلة:

إذا أعار أحد شيئاً لجاره فاستعمله هذا بعض الوقت، فماذا عساك تقول إذا جاء صاحب الشيء يطلب حاجته فيأخذ المُستعير بالبُكاء والعويل لذهاب الشيء مِن يديه؟

قال أبو طلحة: هذا إنسان به جُنَّة؟

٣٩٦

فقالت أُمُّ سليم: إذنْ، علينا أنْ لا نكون مِمَّن بهم جُنَّة، فقد أخذ الله أمانته وتوفِّي ابننا، فاصبر على المُصيبة وأسلم لقضاء الله وهيَّئ الجنازة للدفن.

فأتى أبو طلحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر، فتعجَّب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أمرها ودعا لها، وقال: اللَّهمَّ بارك لهما في ليلتهما.

وحملت أُمُّ سليم مِن ليلتها ووُلِدَ لها ولد أسمته عبد الله، وربَّياه تربية دينيَّة سليمة، فعاش طاهراً ومات طاهراً، وكان عبيد الله بن أبي طلحة مِن أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٧

وكان الإنسان عَجولاً

كان (الحارث بن كلدة) مِن مشاهير الأطبَّاء في القَرن الأوَّل الهجري، وكانت له زوجة تُدعى (فارعة)، دخل فجر أحد الأيَّام عليها غرفتها فوجدها تسوُّك أسنانها، فاشمأزَّت منها نفسه، فطلَّقها هادماً بذلك حياته العائليَّة الحميمة.

وعندما سألته فارعة عن السبب الذي دعاه لتطليقها؟

قال لها: دخلت عليك فجراً فوجدتك تستاكين وكان هذا يعني أنَّك: إمَّا أنْ تكوني قد أكلت شيئاً لتوُّك، وامرأة بهذا النعم لا تليق بي، وإمَّا أنَّك بعد تناول طعامك في الليلة السابقة لم تستاكي فبقي شيء مِن الطعام بين أسنانك فأردت تنظيفها حينذاك، وامرأة على هذا القدر مِن الإهمال للأمور الصحيَّة لا تليق بي أيضاً كزوجة.

فردَّت عليه فارعة بهدوء وبرود قائلة: إنَّ سواكي أسناني فجر ذلك اليوم لم يكن لأيٍّ مِن السببين اللذين ذكرتهما، بلْ كنت أستخرج مِن بين أسناني ذرَّة مِن خيط السواك أحسست بها حينذاك.

لا شكَّ في أنَّ مقالة فارعة قد أخجلت زوجها أشدَّ الخَجل، بعد أنْ أدرك الخطأ الذي ارتكبه، فطلَّقها قبل أنْ يتثبَّت مِن حقيقة الأمر بتسرُّع وعَجلة، حارماً نفسه مِن دِفء الحياة العائليَّة.

وقد ندم على ما فعل، ولكنَّ القضاء كان قد حَلَّ أمام فارعة، فقد تركت زوجها العجول قصير النظر دون أنْ تأسَّف له وتزوَّجت غيره (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٨

التدبُّر قبل العمل يؤمنك مِن الندم

انتصر (معن بن زائدة) في الحرب الضروب التي وقعت على حدود مدينة كابل، فغنم الكثير وأسرَ العديد، وعسكر في (رخج) على مشارف كابل، حيث أنزل الجنود الأحمال وأراحوا الجياد مِن سروجها، وفجأة شاهدوا غباراً كثيفاً يرتفع إلى عنان السماء، فظنَّ معن أنَّ جيشاً مِن الأعداء يتقدَّم، فأمر بقتل جميع الأسرى فقتل بهذا الأمر نحو أربعة آلاف أسيراً.

يقول فرج بن زياد: إنَّني وأبي كنَّا مِن بين الأسرى، فأخفاني أبي تحت بعض أحداج الإبل. وقف أمامي قائلاً: إذا قتلت فقد أنجو أنا، ثمَّ لم يمض وقت طويل حتَّى تبيَّن أنَّ الغبار كان بسبب قطيع كبير مِن الحمر الوحشية، وهكذا قُتِل آلاف مِن الناس بسبب قرار مُتسرَّع غير مدروس، فذهب هؤلاء ضحايا العجلة الخرقاء.

قد تؤدِّي العَجلة - أحياناً - إلى إحاطة العقل بظلام كثيف، وتحويل الإنسان إلى كائن أعمى وأصمّ، بحيث لا يعود يُميِّز ما هو خير له مِمَّا هو شَرٌّ له.

عن الإمام علي (عليه السلام) أنَّه قال: (التدبير قبل العمل يؤمنك مِن الندم) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٩٩

بشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حينٍ

كان (عبد الله الأفطس) مِن أحفاد الإمام السجَّاد (عليه السلام) رجلاً مؤمناً مُجاهداً ثوريَّاً، بذل جهوداً عظيمة لإنقاذ المُجتمع الإسلامي مِن نِير حُكم طُغاة بني العباس، فأمر هارون الرشيد بالقبض عليه وإرساله مخفوراً إلى بغداد، حيث ألقاه في السجن، وإذ طال أمدُ سجنه أخذ يزداد سَخطاً وغضباً، لما لحقه مِن الظلم والجور، فكتب رسالة إلى هارون الرشيد أسمعه فيها صرخات تظلمه في ألفاظ مِن الشتيمة والسُّباب.

فقرأ هارون الرسالة وقال: عبد الله الأفطس قد ضاق ذرعاً بالسجن، وبما يُعاني منه فيه مِن عذاب وتألُّم، فكتب إليَّ هذه الرسالة ليُثير غضبي فآمر بقتله وأُريحه مِن عذاب السجن، ولكنِّي لن أفعل ذلك أبداً، ثمَّ أحضر وزيره جعفراً البرمكي وأمره أنْ يقوم بنفسه بمُراقبة عبد الله وينقله إلى سجن آخر أوسع وأفضل.

صادف اليوم التالي عيد النوروز، وعندما جيء بعبد الله أمام جعفر البرمكي أخذ يُكرِّر ما كان قد كتبه في رسالته، مِن السُّباب والشتائم لهارون الرشيد ولحُكمه وحُكومته الجبَّارة، فغضب جعفر عند سماع تلك الشتائم فأمر فوراً بضرب عُنقه، فاحتزَّ رأسه وغسله ووضعه في طبق وأرسله إلى قصر الخليفة هارون مع سائر الهدايا، التي كان قد أعدَّها لتقديمها إليه بمُناسبة عيد النوروز، وإذ رفع هارون الغِطاء عن الطَّبق أثناء استعراضه الهدايا رأى رأس عبد الله الأفطس، فصرخ طالباً جعفراً البرمكي، وعند حضوره صاح في وجهه غاضباً: ويلك! لماذا قتلت عبد الله؟! كيف ترتكب هذا الخطأ الكبير؟!

فأجابه: لأنَّه شتم أمير المؤمنين.

فقال هارون: إنَّ قتل عبد الله مِن دون إذني أقبح بكثير مِن شتائم عبد الله!

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421