آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92127 / تحميل: 9540
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تَخْلُ صفحة فيه من ذكر ابن الراونديّ، ومقدّمته النفيسة بقلم نيبرج(١) ، والفهرست ٤-٥ من ملحق طبعة مصر، ومروج الذهب ٧: ٢٣٧ من الطبعة الأجنبيّة، ووفيات الأعيان ١: ٢٨ طبعة طهران، والبداية والنّهاية، والمنتظم، وتلبيس إبليس ٧٢ و١١٨، وتبصرة العوامّ ٣٩٨ و٤٤٠، ومواضع متعدّدة من مقالات الإسلاميّين، وشرح نهج البلاغة، والفَرق بين الفِرق، والملل والنحل، والفِصَل في الملل والنحل، وكتاب الشافي في الإمامة، والفصول، وروضات الجنّات ٥٤، ورسالة ابن القارح في مجموعة رسائل البلغاء ٢١٠ طبعة مصر، وكنز الفوائد ٥١ وغيرها.

١٣ - أبو جعفر بن قبّة الرازي

(أوائل القرن الرابع)

أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيّ من كتبار متكلّمي الشيعة، كان في بادئ أمره من المعتزلة، ثمّ صَدَف عن الاعتزال وركن إلى المذهب الشيعيّ الإماميّ، وكان أحد تلامذة أبي القاسم الكعبيّ البلخيّ، ثمّ أصبح من مخالفيه، وصنّف عدداً من الكتب في الردّ على الزيديّة وإثبات الإمامة، أشهرها كتاب في الإمامة بعنوان الإنصاف، وهو الكتاب الذي نقل منه بعض العلماء كالشيخ الصدوق في كمال الدين، والشريف المرتضى في الشافي والفصول،وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وغيرهم.

وينقل أبو الحسين محمّد بن بشر السوسنجرديّ تلميذ أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ أنّه زار مرقد الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس، ثمّ ذهب إلى أبي القاسم الكعبيّ في بلخ، وكان معه كتاب الإنصاف، فقرأه الكعبيّ وصنّف كتاباً في نقضه بعنوان المُستَرشَد، ثمّ عاد إلى الريّ ومعه الكتاب المذكور، فعرضه على أبي جعفر،

____________________

١ - H. S. Nyberg.

١٢١

فصنّف كتاباً في تفنيده عنوانه المُستَثبَت، ولمّا أرجع هذا الكتاب إلى الكعبيّ ردّ عليه بكتاب آخر تحت نقض المُستَثَبت، وعندما عاد إلى الريّ مرّة أُخرى وجد أبا جعفر قد مات(١) ، فوفاته كانت قبل وفاة الكعبيّ، أي: قبل سنة ٣١٩هـ.

للاطّلاع على ترجمته، يُنظَر: رجال الطوسيّ ٢٩٧، رجال النجاشيّ ٢٦٥-٢٦٦، الفهرست ١٧٦، كمال الدين ٣١، ٣٦، الشافي ١٠٠، الفصول (مخطوط)، شرح نهج البلاغة ١: ٦٩، وغيرها.

____________________

١ - رجال النجاشيّ: ٢٦٦.

١٢٢

الفصل السادس

أبو سهل إسماعيل بن عليّ

(٢٣٧-٣١١هـ)

أبو سهل إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، أحد كبار البيت النوبختيّ بل من أشهرهم، كان من رؤساء الشيعة العظام ومن مشاهير متكلّميهم في عصره المتزامن مع الغيبة الصغرى، ويعدّ أحد الشعراء والمصنّفين والمشجّعين على الأدب والشعر، وكان صدراً في الأعمال الإداريّة إذ تَسلّم منصباً قريباً من منصب الوزارة في ديوان الحكومة، وألّف كتباً كثيرة في دعم المذهب الشيعيّ الإماميّ ودحض كتب المناوئين للشيعة.

وهو أحد النوبختيّين الذين نجد معلومات مفصّلة نسبيّاً عن سيرتهم، فقد اهتمّ المؤرّخون القدماء وعلماء الأخبار والرجال بترجمته، ونقل أقواله، وتدوين عناوين كتبه بسبب منصبه المهمّ وكثرة مؤلّفاته.

وعلى الرغم من أنّ أبا سهل كان شاعراً وكاتباً بليغاً(١) ، وكانت له مناصب إداريّة مهمّة في ديوان الحكومة، بَيْد أنّ شهرته تعود إلى اشتغاله في علم الكلام،

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ fol. ٦٠ b. نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٢٣

واحتجاجه على مناوئي الإماميّة، ومحاولته إدخال الإمامة في أُصول الدين. وأكثر كتبه ترتبط بهذه الموضوعات، وإذا كان كلام البُحتريّ الشاعر عنه خالياً من الأغراض، فإنّ شعره ليس فيه رقّة، بل هو يشبه مضغ الماء، ليس له طعم ولا معنى، على ما ذكره هذا الشاعر(١) ، ولم يَبقَ أثر من أعماله الإدارية له أهمية تفضي إلى ذيوع صيته.

١ - الحياة الإداريّة لأبي سهل النوبختيّ

إنّ ما في أيدينا من المعلومات عن الحياة الإداريّة لأبي سهل يعود إلى الأشهر الستّة الأخيرة من عمره البالغ أربعاً وسبعين سنة، ومن الثابت أنّه كان يتصدّر بعض الأعمال في الجهاز الحاكم قبل هذا التاريخ، أو كان يُكلّف بإنجاز بعضها في الأمصار مبعوثاً من قبل رؤساء الدواوين، بخاصّة في عهد المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ) وما رافقه من تبدّلات(٢) ، ذلك أنّ المقتدر وآل الفرات الذين كانت في أيديهم الوزارة والمناصب الإداريّة الأُخرى، كانوا حماة الشيعة المائلين إليهم، وأبو سهل يومئذ رئيس الشيعة في بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى ذكر بعض المؤلّفين أنّ له منصباً في الشؤون الدنيويّة وأنّه كان بين الكتّاب تالياً منصب الوزراء(٣) . وهذا يدلّ على أنّ أبا سهل كان يتمتّع بنفوذ كبير في البلاط العبّاسيّ خلال الشطر الأوّل من حكومة المقتدر ووزارات ابن الفرات، وكان الإماميّة يعيشون بعزّ يومذاك بتأثير أبي سهل إسماعيل، وكان رجال من آل نوبخت ذوي رئاسة وقدرة في بغداد، كأبي

____________________

١ - الأغاني ١٨: ١٧٠.

٢ - ممّا يدعم ذلك وجوده في الأهواز ومناظراته فيها مع أبي علي الجبّائيّ (٢٣٥-٣٠٣هـ) قبل سنة ٣٠٣هـ التي توفّي فيها أبو عليّ (الفهرست للطوسيّ ٥٨ ورجال النجاشيّ ٢٣)، وكذلك مناظرته مع الحلاّج في الأهواز قبل سنة ٣٠١هـ وبُعده عن بغداد.

٣ - رجال النجاشيّ ٢٣.

١٢٤

الحسين علىّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)، وأبي القاسم الحسين بن روح المتوفّى سنة ٣٢٦هـ.

يعدّ عهد المقتدر من عهود النكسة في الحكم العبّاسيّ؛ لأنّ الأُمور في عصر هذا الحاكم الضعيف، الشهوانيّ، الخائر الإرادة كانت تُدار من قبل نساء القصر وعمّال الديوان والكتّاب والغلمان وأُمراء الجيش، ولمّا كان هؤلاء من المغرضين الطمّاعين اللاهثين وراء المناصب، فإنّهم كانوا يَسْعَون في تحطيم بعضهم بعضاً.

وممّا كان يزيد التنافس بينهم موضوع الخلاف بين الشيعة والسنّة، ذلك أنّ المقتدر كان كالمأمون يُبدي ميلاً إلى بني هاشم وآل عليّ، وأنّ آل الفرات الذين تسلّموا الوزارة والأعمال الديوانيّة المهمّة الأُخرى في عهده مراراً كانوا يدعمون الشيعة بكلّ جدّ، ويسندون الوظائف إلى بني العبّاس وآل أبي طالب. وسنرى لا حقاً أنّ عدد المخالفين لأهل السنّة بعامّة، والإماميّة بخاصّة كان أخذاً بالازدياد في ظلّ دعم آل الفرات، وعلى هذا المنوال نجد أنّ خصماء مذهب آل الفرات من السنّة كانوا يتعاملون مع الشيعة بعنف مستغلّين ضعف السلطان العبّاسيّ عندما كانوا يتقلّدون بعض المناصب، وأهمّ هذه الصراعات السياسيّة والمذهبيّة الصراع الذي كان قائماً بين آل الجرّاح وآل الفرات، حيث كان عملاء السلطان، وهو نفسه، وأنصار الأُسرتين المذكورتين الطامحون إلى الوزارة يوقدون ناره تشفّياً وطمعاً في المال، وكانوا يجرحون كرامة من قلّدهم المناصب ويسلبون أموالهم، ثمّ يستميلونهم، وهكذا تتجدّد اللعبة نفسها.

واستوزر المقتدر أبا الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات في ٢١ ربيع الأوّل سنة ٢٩٦هـ، بَيْد أنّه حبسه بعد ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، أي: في الرابع من ذي الحجّة سنة ٢٩٩هـ، وصادر أمواله وأموال أعوانه وهتك حرمته، واختار أبا عليّ محمّد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان للوزارة، ولما لم يكن هذا الوزير بصيراً، وكانت الأمور قد اضطربت في عهده، قرّر المقتدر استيزار

١٢٥

أبي الحسن بن الفرات ثانية في العاشر من المحرّم سنة ٣٠١هـ، لكنّ بعض الأُمراء حالوا دون هذا الأمر، فاستوزر أبا الحسن عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح وقبض على الخاقانيّ، وآخَذَه، وصادر أمواله.

واستمرّت وزارة عليّ بن عيسى حتّى سنة ٣٠٤هـ، ولكن لمّا كانت الأوضاع غير قابلة للإصلاح بسهولة بسبب الفساد الإداريّ، ونفوذ الأمراء، وعمّال الدواوين، وطمع قادة الجيش، وعدم لياقة السلطان العبّاسيّ، فإنّ المقتدر كان يستشير أبا الحسن بن الفرات دائماً مع أنّه كان قد حبسه، ولمّا أحسّ عليّ بن عيسى بغلبة أنصار ابن الفرات اعتزل الوزارة، فاستوزر المقتدر أبا الحسن بن الفرات مرّة أُخرى في الثامن من ذي الحجّة سنة ٣٠٤هـ، فسلك نفس المسلك الذي كان عليه أسلافه من حبس، وتكبيل، ومصادرة للأموال، وهكذا تعامل مع أبي الحسن عليّ بن عيسى بن الجرّاح بأمر المقتدر.

ولم تَدُم وزارة ابن الفرات الثانية طويلاً إذ خوّل المقتدر حامدَ بن العبّاس هذا المنصب في جمادى الآخرة سنة ٣٠٦هـ، بعد مضيّ سنة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً، ولم يكن الوزير الجديد مطّلعاً على شؤون الوزارة فاختار أبا الحسن عليّ بن عيسى نائباً له، فأضحت شؤون الوزارة في الواقع كلّها بيده، واكتفى حامد باسم الوزارة وتولّي خراج واسط وضرائبها، إذ كان قد ضمنها.

وكان أبو محمّد حامد بن العبّاس لئيماً سفيهاً متعصّباً حاقداً، وارتكب أنواع الرذائل عند مؤاخذة أبي الحسن بن الفرات وبطانته بمؤازرة عليّ بن عيسى. كما أنّ بطانته نالت من أبي الحسن بن الفرات وآذته وأرغمته على دفع مال كثير، وعذّبت ولده مُحسّناً وأعوانه بضربهم بالعصا، وحامد بن العبّاس هو الذي صلب الحسين بن منصور الحلاّج في بغداد سنة ٣٠٩هـ، وهو الذي سجن النائب الثالث للإمام المهديّعليه‌السلام أبا القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في دار الخلافة في أواخر وزارته.

١٢٦

وقرّر المقتدر في ربيع الآخر سنة ٣١١هـ عزل حامد بن العبّاس وعليّ بن عيسى من الوزارة ورئاسة الدواوين، وكانا من حماة السنّة ومن خصوم مخالفيهم، وخلع على أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، وعيّنه وزيراً للمرّة الثالثة.

وأقرّ ابن الفرات حامد بن العبّاس على ما كان عليه في وزارة الخاقانيّ من تولّي خراج واسط وضرائبها، حيث كان ذلك على عاتقه وبضمانه، ولكنّ الوزير سرعان ما أجبره أعداء حامد على مطالبته بالمال الذي كان في ذمّته، فاستجب ابن الفرات الذي كان قد استُوزِر للمرّة الثالثة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة ٣١١هـ، وكلّف الإماميّة في بغداد الذي كان له منصب في الديوان أيضاً بالتوجّه إلى واسط ومطالبة حامد بالحسابات الماليّة التي كانت في ذمّته للديوان، وكان ذلك بعد مضيّ فترة قصيرة على تسلّمه مقاليد الوزارة.

وتصرّف أبو سهل مع حامد بن العبّاس في هذا المجال على طريقة كتّاب الدواوين، ولم يخرج عن أُسلوب الرفق والمصانعة، أمّا البزوفريّ فقد تعامل معه بعنف، وطالبه مُغلِظا مقرّعاً، لكنّه لم يستطع أن يأخذ منه شيئاً نتيجة للنفوذ الذي كان يتمتّع به في واسط، فاضطرّ المقتدر إلى إيفاد عدد من غلمانه وجنوده من أجل دعم البزوفريّ وأبي سهل النوبختيّ، لكنّ حامد بن العبّاس فرّ من واسط وقد غيّر هيئته إثر تحذير المقتدر إيّاه فيمّم بغداد، بَيْد أنّ المقتدر قبض عليه وسلّمه أبا الحسن بن الفرات، فتولّى تعذيبه ابن أبي الحسن - وهو محسّن المعروف بقساوته وظلمه وسوء سيرته، والمشهور بالخبيث بن الطيّب - وأرسله إلى واسط مع بعض أعوانه من أجل محاسبته، ثمّ أمر بسمّه في رمضان سنة ٣١١هـ(١) .

ولما لم تتمّ مهمّة محمّد بن عليّ البزوفريّ في واسط حتّى تاريخ وفاة حامد بن

____________________

١ - تاريخ الوزراء ٣٤-٣٥. وتتمّة تاريخ الطبريّ f.٢٤ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٧

العبّاس، وكان أبو سهل النوبختيّ معه كما في السابق على الأعمّ الأغلب فإنّنا نحتمل أنّ أبا سهل كان مشغولاً في أداء مهمّته بواسط حتّى تاريخ وفاة حامد (رمضان سنة ٣١١هـ)، ثمّ وافاه الأجل بعده بقليل، في شوّال من نفس السنة، وهو ابن أربع وسبعين عاماً(١) .

ولعلّ رفق أبي سهل النوبختيّ ومصانعته حامدَ بن العبّاس المتعصّب المعترف بعدائه للرافضة وابن الفرات (صديق أبي سهل والإماميّة وحاميهما) يعودان إلى أسباب سياسيّة؛ لأنّ أبا سهل - كما سنرى - ناهَضَ دعوة الحسين بن منصور الحلاّج بشدّة سواء في وزارة ابن الفرات أم في وزارة حامد بن العبّاس، وعارض هذا الداعية الجديد الذي كان يهدّد الأساس الذي يقوم عليه الكيان الشيعيّ، وكاد أن يجتثّ جذور نفوذه في البلاط. ولم يَدَعْ دعوته تنتظم في بغداد والبلاط ممّا أفضى إلى القبض على الحلاّج، وقتله على يد حامد بن العبّاس سنة ٣٠٩، ويُحتَمل بعامّة أنّ أبا سهل النوبختيّ كان متّفقاً مع حامد بن العبّاس في قتل الحلاّج، ولعلّه كان من محرّضيه على ذلك، وهذه السابقة في وحدة الاتّجاه السياسيّ هي التي دفعت أبا سهل إلى رعاية الحقوق القديمة عند قيامه بمهمّته في واسط.

٢ - حياته العلميّة والأدبيّة

تزامنت حياة أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ مع برهة من أيّام الغيبة الصغرى من جهة، ومع وقت بلغ الشيعة فيه مستوى من النُّضج بفعل جهاد الطبقة الأُولى من متكلّميهم، ومساعي أنصارهم العاملين في البلاط الحاكم من جهة أُخرى، وعلى الرغم من جميع ضروب المعارضة السياسيّة والدينيّة التي أبدتها الفرق الأُخرى واحتجاجات المعتزلة وردودهم، فقد قام المذهب الشيعيّ على

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ f.٦٠ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٨

سُوقه، ودوّن رجاله أُسسه المذهبيّة والكلاميّة، واستقرّ على قواعد متّفق عليها عند الشيعة الإماميّة كلّهم.

أمّا مخالفو الإماميّة فإنّهم كانوا ما يزالون يتمتّعون بقدرة تامّة آنذاك، ولم يَرعَووا عن انتقاد عقائد ومقالات الإماميّة ونقضها، يضاف إلى ذلك أنّ الإماميّة أنفسهم تعرّضوا إلى محنة كبيرة في عصر الغيبة الصُّغرى بسبب بروز الخلافات الكثيرة وظهور عدد من الفرق بين الشيعة القطعيّة، فتدخّل أبو سهل الذي انتهت إليه رئاسة الفرقة المذكورة في بغداد يومئذٍ، وكانت له شوكته ومنزلته العلميّة، يعاضده سائر أعضاء الأُسرة النوبختيّة وأفراد من الأُسر الأُخرى، وقام بإزالة التفرقة التي طرأت على الإماميّة، وصدّ مخالفيهم من جهة، ومن جهة أُخرى استعمل علم الكلام، وبذل جهوداً علميّة، فأفلح في الحصول على نتائج كبيرة، وبذل خدمات جُلّى في تثبيت الأُصول الدينيّة للمذهب الشيعيّ الاثني عَشَريّ والمحافظة عليها، فخلد ذكره في تاريخ هذا المذهب، وأصبح جديراً بلقب (شيخ المتكلّمين).

ومع أنّ أبا سهل النوبختيّ كان تلميذ المتكلّمين الأُوّل من الشيعة في علم الكلام، وأنّه دافع عن مسائل كانت مطروحة قبله، ثمّ دوّنها في كتبه بعد تدقيق كثير، لكنّه قام بعملين من أجل اكتمال علم الكلام على مذهب الإماميّة، كما يُستشفّ ذلك من قائمة كتبه وإشارات أُخرى غيرها، وهذان العملان أهمّ الأعمال، وهما لافتان للنظر قابلان للتدوين من كلّ جهة:

١ - دافع أبو سهل عن العقائد التي كان قد دوّنها عدد من متكلّميّ الإماميّة قبله، بعد أن حَظِيت بتأييد أئمّة الهدىعليهم‌السلام وقبول جمهور الإماميّة، يضاف إلى ذلك أنهّ احتذى - أكثر من ذي قبل - أصول الاعتزال في تقرير القضايا الكلاميّة وفقاً لعقيدة الإماميّة، بخاصّة أنّه خلّص الفرقة القطعيّة من بعض التُّهم الّتي رُمي بها عدد من متكلّمي الإماميّة الأُوَل في باب الرّؤية والتّشبيه والتجسيم وغيرها، وأعلن عن نفسه - كالمعتزلة - مناصراً لاستحالة رؤية الله تعالى، و(حدوث العالم)، ومخالفاً

١٢٩

للمجبّرة في باب (المخلوق)، و(الاستطاعة)، كما أنّه سلك سبيل المعتزلة في باب (الإنسان)، والردّ على (أصحاب الصّفات)، ومنذ ذلك الوقت تقارب المذهبان المعتزليّ والإماميّ أكثر من السابق، وبثّ تلاميذ أبي سهل تلك العقائد من بعده من الإماميّة دون تغيير كبير.

٢ - نلحظ في مسألة الإمامة التي كانت من أهمّ المسائل الخلافيّة بين الفرق الإسلاميّة أنّ متكلّمي الشيعة قبل أبي سهل - كما رأينا - قد تحدّثوا عن موضوع النصّ الجليّ والخفيّ، وأثبتوا خلافة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بلا فصل كما أثبتوا أحقّيّة أولاده في الإمامة بالأدلّة السمعيّة والنقليّة، من خلال المقالات أو الكتب التي صنّفوها، بَيْد أنّ أبا سهل النوبختيّ واثنين من معاصريه هما ابن أُخته أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختيّ، وأبو الأحوَص داود بن أسد البصريّ(١) كانوا أوّل من استخدم الأدلّة العقليّة في إثبات وجوب الإمامة وبيان أوصاف الإمام تبعاً لأبي عيسى الورّاق وابن الراونديّ، وإذا كان قد استظهر بالأدلّة السمعيّة فمن أجل تأييد الأدلّة العقليّة والتصرّف في الاستدلال، وكان الشريف المرتضى يقتني كتب أبي سهل وأبي محمّد النوبختيّ، فكتب في ردّه على القاضي عبد الجبّار المعتزليّ قائلاً: (... وهذه كتب أبي محمّد وأبي سهل رحمهما الله في الإمامة تشهد بما ذكرناه، وتتضمّن نصرة جميع ما ذكره أبو عيسى الورّاق، وابن الراونديّ في كتبهما في الإمامة، بل قد اعتمدا على أكثر ما ذكراه من الأدلّة، وسلكا في نصرة أُصول الإمامة تلك الطرق بعينها، ومَن خَفِي عليه ما ذكرناه من قولهم ظالم لنفسه بالتعرّض للكلام في الإمامة(٢» .

وكان لاحتجاج الورّاق وابن الراونديّ وأبي الأحوص وأبي محمّد وأبي سهل

____________________

١ - انظر ما ذكرناه عن أبي الأحوص في هذا الكتاب.

٢ - الشافي في الإمامة ١٤-١٥.

١٣٠

في إثبات وجوب الإمامة وتقرير صفات الإمام بالأدلّة العقليّة دور في جعل الإمامة من أُصول الدين عند الإماميّة مَثَلها مَثَل التَوحيد، والعدل، والنبوّة، وإدخالها في المباحث الكلاميّة، وأبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ هو الذي ثبّت ذلك وجعله قطعيّاً، وجمع الأدلّة والاحتجاجات التي عرضها السبّاقون في هذا المجال، وصيّر مسألة الإمامة تابعة للنبوّة من المسائل الكلاميّة لمذهب الإماميّة(١) . وصنّف أبو سهل - كما سيأتي لاحقاً - في موضوع الإمامة كتباً عديدة، ووقف عمره على الدفاع عن عقائد الإماميّة و ردّ الغلاة والواقفة وأهل السنَّة، ويمكن القول: إنّ كتبه وآراءه في موضوع الإمامة قد بزّت جميع مؤلّفات المتكلّمين الذين سبقوه، وأصبحت مرجعاً للمتكلّمين الذي جاؤوا بعده، وهذا من بركات الطلاّب الكثيرين الذين تربّوا على يده ونشروا كتبه وعقائده، إضافة إلى ما كان له من منزلة علميّة ونفوذ واعتبار وشوكة.

وكان أبو سهل من الأُدباء والشعراء أيضاً، مضافاً إلى مكانته السياسيّة والعلميّة، وكان معاشراً لاثنين من فحول شعراء العرب هما البحتريّ (٢٠٦-٢٨٣هـ)، وابن الروميّ (٢٢١-٢٨٣هـ)، علماً أنّنا نقلنا سابقاً رأي البحتريّ في شاعريّة أبي سهل، وكان البحتريّ مادحاً لأبي سهل وابنه أبي يعقوب إسحاق (المقتول سنة ٣٢٢هـ )، وآخرين من آل نوبخت، وله قصائد في الثناء عليهم، كنّا قد نقلنا طرفاً منها في فصول متقدّمة.

وكان الشاعر الشيعيّ المشهور عليّ بن العبّاس بن جريج الروميّ ربيب نعمة آل نوبخت، بخاصّة أبي سهل وأخيه أبي جعفر محمّد، وله معهم أخبار أشار إليها المسعوديّ باختصار(٢) . منها أنّ ابن الروميّ نظم مرّةً مقطوعة في مدح آل نوبخت ذكر فيها أنّهم اعلم الناس بالنجوم، فشكره أبو سهل بن عليّ في مقطوعة أُخرى وقال:

____________________

١ - نخبة المقال ١٣٢.

٢ - مروج الذهب ٨: ٢٣٣ (الطبعة الأجنبيّة).

١٣١

إنّ آل نوبخت عاجزون عن نظم جواب لشعر ابن الروميّ بما فيه من ماء ورواء(١) .

يضاف إلى ذلك أنّ أبا سهل كان معاشراً لكثير من العلماء والمتكلّمين والشعراء والأُدباء المعاصرين له، وكانت له مراسلات شعريّة، وقرأ عليه الأدبَ جماعة من الأُدباء ورواة الشعر، ونلحظ في كتب الرجال والتاريخ ذكراً لمجالسه مع أبي علي الجُبّائيّ في الأهواز، ومع الحكيم الرياضيّ المعروف ثابت بن قرّة، كما نقرأ فيها قصيدة أبي الحسين عليّ بن العبّاس النوبختيّ (المتوفّى سنة ٣٢٤هـ) في مدحه، وسنأتي على ذلك كلّه في موضعه.

ونزيد على ما مرّ أنّ أبا سهل نفسه كان من رواة الأشعار، وقد رويَ عنه قسم من أخبار أبي نواس(٢) ، وكان له تلاميذ كثر أيضاً كلّهم من الكتّاب والشعراء والمتكلّمين المعروفين، أخذوا منه الأدب والشعر والكلام، وتلمذوا له في هذه العلوم.

٣ - تلاميذه

كان لأبي سهل عدد من التلاميذ في الكلام والأدب، قد بثّوا آراء أُستاذهم بين الإماميّة وطلاّب العلم والأدب، وذكرت كتب الأدب والتاريخ أسماء ستّة منهم على النحو الآتي:

١ -عليّ بن إسماعيل ولده: أخذ العلم والأدب عن أبيه(٣) ، ودرس أيضاً عند العالم النحويّ اللغويّ الشهير أبي العبّاس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (٢٠٠-٢٩١هـ)، وكنّاه الخطيب البغداديّ أبا الحسين تارةً، وأبا الحسن تارة أُخرى.

____________________

١ - المقطوعتان كلتاهما في ديوان ابن الروميّ ١: ١٢٢-١٢٣ (طبعة مصر، سنة ١٩٢٧م).

٢ - الجزء الثاني من كتاب أخبار أبي نواس (مخطوط).

٣ - تاريخ الإسلام الذهبيّ، fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٣٢

وكان يروي الشعر عن أبيه أبي سهل، وعن ثعلب، وسمع أبو محمّد الحسن بن الحسين بن عليّ بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت (٣٢٠-٤٠٢هـ) منه بعض أشعار ثعلب ودوّنها وروى الخطيب البغداديّ بواسطةٍ واحدة مقطوعةً شعريّة لثعلب عن أبي محمّد النوبختيّ الذي ستأتي ترجمته، وكان أبو محمّد قد أخذها من عليّ بن إسماعيل النوبختيّ(١) .

٢ -أبو الحسين عليّ بن عبد الله بن وصيف: الناشئ الأصغر (٢٧١-٣٦٥هـ)(٢) الشاعر والمتكلّم المعروف الذي كان من مشاهر المدّاحين لأهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، ومن مصنّفي الشيعة المعروفين. وكان تلميذ أبي سهل النوبختيّ في الكلام(٣) ، وألّف كتاباً في الإمامة(٤) .

وكان المترجَم له أُستاذ الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان وشيخه في الرواية(٥) ، ويُعدّ الشيخ المفيد تلميذاً لأبي سهل النوبختيّ عن طريقين: الأوّل: تلمذته للناشئ الأصغر، والثاني: تعلّمه على أبي الجيش مظفّر بن محمّد البلخيّ (م٣٦٧هـ)(٦) .

٣ -أبو الحسن محمّد بن بشر السوسنجرد يّ: صاحب كتاب الإنفاذ في الإمامة(٧) .

____________________

١ - تاريخ بغداد ١١: ٣٤٧.

٢ - أو ٣٦٦.

٣ - وفيات الأعيان ١: ٣٨٩.

٤ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣؛ رجال النجاشيّ ١٩٣.

٥ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣.

٦ - الناشئ الأصغر في مقابل الناشئ الأكبر، وهو أبو العبّاس عبد الله بن محمّد الملقّب بابن شرشير، شاعر ومتكلّم مشهور من أهل الأنبار، توفّي سنة ٢٩٣هـ، وتعود شهرته غالباً إلى مخالفته أهلَ المنطق والشعراء وعلماء العَروض، وإنكاره عموم المعاني المسلّمة عندهم، وله كتاب في نقض المنطق، ونظم قصيدة نونيّة في أربعة آلاف بيت تقريباً ذكر فيها أهل الآراء والنحل والمذاهب والملل، (للاطّلاع على ترجمته، انظر: مروج الذهب ٢: ٢٦٦ طبعة مصر، الفِصَل ٤: ١٩٤؛ تاريخ بغداد ١٠: ٩٢-٩٣).

٧ - انظر: ص١١٥ من هذا الكتاب، والفهرست ١٧٧، ورجال النجاشيّ ٢٦٦.

١٣٣

٤ -أبو عليّ الحسين بن القاسم الكوكبيّ: الكاتب (المتوفّى في ربيع الأوّل سنة ٣٢٧هـ)(١) .

٥ -أبو الجيش مظفّر بن محمّد بن أحمد البلخيّ: (المتوفّى سنة ٣٦٧هـ) أُستاذ الشيخ المفيد، له كتاب في الإمامة(٢) .

٦ -أبو بكر محمّد بن يحيى الصُّوليّ: (المتوفّى سنة ٣٣٥هـ) الكاتب والأديب المشهور(٣) .

وكان جميع المتكلّمين الكبار من الإماميّة في القرن الرابع والخامس كالشيخ المفيد، والنجاشيّ، والشريف المرتضى، والشيخ الطوسيّ، وغيرهم تلاميذ أبي سهل النوبختيّ بواسطةٍ واحدة أو بواسطتين؛ لذلك نجد أنّ آراءهم في موضوع الإمامة وغيره من المسائل الكلاميّة تُشبه إلى حدٍّ ما آراء أبي سهل التي شرحها ودوّنها في كتبه العديدة.

٤ - أبو سهل النوبختيّ وموضوع الغَيبة

ولد أبو سهل النوبختيّ سنة ٢٣٧هـ في عصر الإمام العاشر أبي الحسن عليّ بن محمّد الهادي (٢٢٠-٢٥٤هـ)، وعندما توفّي الإمام الحادي عشر أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ سنة ٢٦٠هـ، كان له من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت وفاة أبي سهل سنة ٣١١هـ، وهو ابن أربع وسبعين، أمضى منها إحدى وخمسين سنة من عمره في أيّام الغيبة الصُّغرى، وصادفت وفاته في أيّام سفارة النائب الثالث الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ، وهما من بيت واحد.

____________________

١ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس، وتاريخ بغداد ٨: ٨٧.

٢ - الفهرست ١٧٨، رجال النجاشيّ ٢٩٩؛ روضات الجنّات ٣١.

٣ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b.

١٣٤

وتعدّ الفترة التي أمضاها أبو سهل في عصر الغيبة الصغرى - وهي إحدى وخمسون سنة كانت له في الأيام الأخيرةِ منها الرئاسة على الإماميّة الاثني عشريّة، ويكاد يكون هو الموجّه لهذه الطائفة هو وسائر أفراد البيت النوبختيّ - من أشدّ الفترات توتّراً بالنسبة إلى الطائفة المذكورة، ذلك أنّ أعداءها من جانب، والسلطان العبّاسيّ من جانب آخر قد بذلوا قصارى جهودهم من أجل تقويض الكيان الشيعيّ، ولم يدّخروا وسعاً في إذاقة الشيعة شتّى صنوف الأذى والعذاب، والذي أثارهم أكثر في هذه المرحلة هو حادث وفاة الإمام الحادي عشرعليه‌السلام واختفاء ولده، وهذا الأمر لم يُجرّئ مناوئي الشيعة على معارضتهم فحسب، بل ترك المؤمنين بهذا المذهب يموجون في قلق وحيرة عجيبة، فبرز الخلاف بين صفوفهم وبلغ بهم مبلغاً أنّهم صاروا أربع عشرة فرقة يكفّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكاد الكيان الشيعيّ الذي كانت أركانه قد توطّدت بجهود بذلها رجاله على امتداد السنين يتقوّض بفعل تلك الخلافات، ومضافاً إلى مكائد الأعداء، وإقبال الدنيا على مناوئي هذه الفرقة وعلى السلطان العبّاسيّ الذي سئم من تحكّم الكتّاب والعاملين الفرس الشيعة في الجهاز الحكوميّ، ونفد صبره من طعن رؤساء الإماميّة ولومهم المتواتر، وكان يفكّر بعموم الوسائل والخطط لإنقاذ نفسه من هذه الورطة.

روى الشيعة أنّ الإمام الحادي عشر أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ توفّي في سُرّ من رأى يوم الجمعة لثمانٍ خلون من ربيع الأوّل سنة ٢٦٠هـ بعد خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيّام مضت على إمامته، وأعقب ولداً مكتوماً أمره لم يَرَه عامّة الناس، من هنا أمر المعتمد العبّاسيّ (٢٥٦-٢٧٩هـ) بتفتيش دار الإمام وحجراتها، وكبس جميع ما فيها، وجَدَّ رجاله في البحث عنه، وكلّفوا القوابل بالتحقيق من جواري الإمام، وعندما ذكرت إحداهنّ أنّ جارية من جواري الإمام حامل، جعلوها في غرفة خاصّة من غرف الدار، ووكّلوا بها أحد الخدم مع أصحابه وعدداً من النسوة، وصلّى أبو عيسى بن المتوكّل أخو المعتمد على جنازة الإمام.

١٣٥

وأشهدَ كبار العلويّين والعبّاسيّين, وأُمراء الجيش، والكتّاب، والقضاة، والفقهاء، والمعدّلين على أنّ الإمام مات حتف أنفه، ثمّ دفنوا جثمانه الطاهر في البيت الذي دُفن فيه أبوه، وبذل الحاكم العبّاسيّ وأعوانه قصارى جهودهم في البحث عن ابن الإمام، ولمّا لم تُثمر جهودهم شيئاً، ولم تلد تلك الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين أو أكثر، عزم السلطان العبّاسيّ على تقسيم ميراث الإمام العسكريّعليه‌السلام ، فنشب نزاع بين حديث والدة الإمام وبين أخيه جعفر لأجل ذلك، ومع أنّ والدة الإمام أثبتت عند القاضي أنّها الوارثة الوحيدة للإمام لكنّ جعفر عارضها وسعى بها عند السلطان، واستعان به في الحصول على ميراث أخيه، ومكث السلطان سبع سنين، ثمّ قسّم تركة الإمام بين حديث وجعفر(١) .

وكان جعفر مقبلاً على الدنيا لاهياً، طالباً لمنصب أخيه، فتشبّث بشتّى الحيل كي يُعرَفَ بهذا المنصب، وكان يشي عند المعتمد بأصحاب الإمام العسكريّ الذين كانوا يَرَون أنّ ولده الصغير الغائب هو الإمام الثاني عشر وهو حجّة الحقّ على الخلق، وممّا قام به أنّه حرّض السلطان على تكبيل صَيقل(٢) جارية الإمام العسكريّ ووالدة الإمام المهديّ، ومطالبتها بولدها القائم، فأنكرت ذلك وادّعت الحَبل لتردع جلاوزة السلطان عن التجسّس في أمر الإمام، فأوقفها المعتمد في حرمه، وتولّى نساؤه وجواريه وأخوه الموفّق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب(٣) رعايتها والقيام بأمرها. واستمرّت هذه الحالة إلى أن تضعضعت أركان الحكومة سنة ٢٦٣هـ، بفعل الهزّات التي تعرّضت لها، كاستيلاء يعقوب بن ليث الصفّار على

____________________

١ - كمال الدين ٢٥-٢٦ و٣٤ و٤٧ و٢٦١ و٢٦٢، فرق الشيعة ٧٩، الغيبة للشيخ الطوسيّ ١٤١-١٤٢؛ الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل ٤: ٩٣.

٢ - اختلف الرواة والمؤلّفون في اسم أُمّ الإمام، فمنهم من قال: صيقل، ومنهم من قال: ريحانة، ومنهم من قال: سوسن، ومنهم من قال: نرجس.

٣ - المقصود عليّ بن أبي الشوارب محمّد الذي نُصب قاضياً للقضاة في سنة ٢٦٢هـ.

١٣٦

الأهواز ومحاولته الهجوم على بغداد، وفتنة صاحب الزنج، وموت الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأةً؛ ولذلك أُنسِيَت صيقل فنجت من مخالب جلاوزة السلطان(١) .

وبرز خلاف وعداء شديد بين أصحاب جعفر، وأصحاب صيقل، وانحاز جماعة من أفراد الحكومة وجلاوزة السلطان إلى جانب جعفر، وجماعة إلى جانب صيقل، واصّاعد لهب الفتنة، فقام أحد النوبختيّين - وهو الحسن بن جعفر الكاتب - بإخفاء صيقل في داره، وآلَ الأمرُ إلى أن قام المعتضد (٢٧٩-٢٨٩هـ) - الذي كان مناوئاً شديداً للإماميّة كالمتوكّل - بإخراجها من بيت الحسن بن جعفر النوبختيّ بعد مضيّ بضع وعشرين سنة على وفاة الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام ، فأقامت في قصره حتّى وافاها الأجل أيّام حكم المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ)(٢) .

إنّ وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، وغيبة ولده القائم، وادّعاء أخيه جعفر الذي لقّبه الإماميّة: الكذّاب، كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، كلّ أولئك مهّد الأرضيّة لمناوئي الإماميّة - بخاصّة المعتزلة، والزيديّة، وأصحاب الحديث والسُّنّة، والحاكم العبّاسيّ - لأن ينالوا من الإماميّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، أدّى إلى انقسامها أربع عشرة فرقة، منها من أنكر وجود ولد للإمام العسكريّ، ومنها من تردّد في ذلك، ومنها من اعتقد بانتهاء الإمامة، لكن أفراد هذه الفرقة الأخيرة لم يتّفقوا على ذلك، فمنهم من اعتقد بأنّه خليفة أبيه العسكريّ، ومنهم من رأى أنّه منصوب للإمامة من قِبل أخيه الآخر محمّد الذي كان قد مات في حياة أبيه الإمام الهادي، ومنهم من ذهب إلى أنّ أباه هو الذي اختاره إماماً، وهبّ جماعة من الفَطحيّة والمحمّدية (أصحاب محمّد بن الإمام الهادي توفّي قبل أبيه) إلى تأييد جعفر

____________________

١ - كمال الدين ٢٦٢ و٢٦٣.

٢ - الفصل ٤: ٩٣-٩٤.

١٣٧

على رغم الإماميّة الاثني عشريّة، والتفّ حوله جمع من متكلّمي الفطحيّة الحاذقين، وأُخت فارس بن حاتم بن ماهَوَيه القزوينيّ، وهي من أصحاب الإمام الهادي، وكان الإمامعليهم‌السلام قد لعنها وطردها؛ لإظهارها الغلوّ والفساد، لكنّ جعفر برّأها وزكّاها(١) . وأفضى التفافهم حوله إلى تقويته، وإلى خلق المتاعب للشيعة الاثني عشريّة.

ومن الملاحَظ في ذلك العصر الذي نشبت فيه الفتنة الممتدّة من عهد المعتمد إلى عهد المقتدر، وعانى فيه الإماميّة ما عانَوا من الجور والاضطهاد، أنّ للأُسرة النوبختيّة الشيعيّة دورها بما كانت تتمتّع به من نفوذ مطلق في بغداد يعود إلى منزلتها العلميّة والرسميّة، وهيبتها الشخصيّة وما كانت تمتلكه من عقارات وثروات. فتطلّع إليها الشيعة وعقدوا عليها الأمل في الذبّ عنهم و ردّ مخالفيهم، وكان رئيس الأُسرة والموجّه للشيعة الإماميّة في فترة من فترات ذلك العصر المتكلّم الشاعر الأديب المعروف أبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ.

وقد أمضى أبو سهل القِسم الأعظم من حياته في تحصيل علم الكلام والاحتجاج على المخالفين ومناظرتهم، وكان فَطِناً واعياً، ومن الطبيعيّ أنّه لم يكن بوسعه في تلك الظروف المحفوفة بالأخطار أن يسكت، ولا يدافع عن مسألة الإمامة التي كان قد دوّن لها صورة تامّة وفقاً للأُصول المذهبيّة عند الإماميّة، ولا يُبرز العقيدة الصحيحة في الغيبة - وكان يراها حقّاً - في حين كان كلّ شخص يُبدي رأياً في الغَيبة ممّا يبعث على تشتّت الشيعة.

وبلغ الخلاف بين الشيعة في موضوع الإمامة والغَيبة يومئذٍ درجة أنّهم اختلفوا حتّى في عدد الأئمّة أيضاً. فذهبت طائفة منهم إلى أنّهم ثلاثة عشر استناداً إلى

____________________

١ - فرق الشيعة ٨٢، كمال الدين ٣٤.

١٣٨

حديث رواه سُلَيم بن قيس الهلاليّ(١) ، وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ومن وحي هذا الحديث عدّ أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب - وهو من المعاصرين لأبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في أيّام الغيبة الصغرى وسيأتي ذكره - زيدَ بنَ عليّ بن الحسين في الأئمّة(٢) ، وكان الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيّ المعروف يعتقد باثني عشر إماماً ويقول: إنّ الإمام الثاني عشر قد مات، ولن يظهر إمام، وانّ أمر الساعة قريب(٣) .

ونسب ابن النديم في الفهرست رأياً خاصّاً لأبي سهل في الغيبة لم يُسبَق إليه، وهو أنّه كان يقول: (أنا أقول: إنّ الإمام محمّد بن الحسن ولكنّه مات في الغيبة، وقام بالأمر في الغيبة ابنه، وكذلك فيما بعد من ولده إلى أن يُنفِذ اللهُ حكمَه في إظهاره)(١) .

ولعلّ نسبة هذا الرأي إلى أبي سهل بالشكل المذكور مثار شكّ وترديد؛ لأنّه لم يَرد في أي من كتب الشيعة. ويضاف إليه أنّ الشيخ الصدوق نقل في كتاب كمال الدّين مقطوعة في باب الإمامة عن كتاب التنبيه لأبي سهل، وهي تتّفق مع عقيدة علماء الإماميّة الاثني عشريّة في الغيبة(٢) ، بل يمكن القول: إنّ أبا سهل الذي كان ممّن شهد على ولادة الإمام الثاني عشر(٣) ورؤيته وغيبته، وممّن أيّد نيابةَ السفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ(٤) ، كان من أعظم العلماء الذين دافعوا عن مسألة الغيبة حسب عقيدة الإماميّة، ثمّ دوّنوها في كتبهم، وسار على خطاه مَن جاء بعده من علماء الطائفة، ولو صحّ ما نسبه إليه ابن النديم، وكان له مثل ذلك

____________________

١ - وهو راوٍ لأوّل كتاب شيعيّ، للاطّلاع على ترجمته، انظر: الفهرست ٢١٩، وكتب الرجال المعتبرة.

٢ - رجال النجاشيّ ٣٠٨.

٣ - Louiz Massignon, passion d`al-Hallady p. ١٥١.

٤ - الفهرست ١٧٦.

٥ - كمال الدين ٥٣-٥٥.

٦ - الغيبة للطوسيّ ١٧٥-١٧٦.

٧ - نفسه ٣٢٥.

١٣٩

الرأي في بادئ أمره، فإنّه تراجع عنه فيما بعد، وأقرّ بما يقرّ به جمهور الإماميّة ودافع عنه.

٥ - أبو سهل النوبختيّ والحسين بن منصور الحلاّج

نلحظ في أيّام الغيبة الصغرى - حيث كان الإماميّة ينتظرون نهاية الغيبة وظهور الإمام الغائب، وحيث كان زمام شؤونهم الدينيّة والدنيويّة بيد النوّاب الأربعة - أنّ الحسين بن منصور الحلاّج البيضاويّ الصوفيّ المعروف كان يبثّ آراءه وعقائده في المراكز المهمّة للشيعة، بخاصّة قمّ وبغداد، فأفلح في استقطاب عدد من الشيعة، ورجال البلاط الحاكم بعد سنين أمضاها في السفر والتبليغ والوعظ.

وكان في بداية أمره يزعم أنّه رسول الإمام الغائب ووكيله وبابه، كما ذكر ذلك مصنّفو الإماميّة؛ من هنا أوردوا اسمه في عداد مدّعي البابيّة(١) ، وعندما التقى برؤساء الإماميّة في قمّ، ودعاهم إلى قبول العنوان المذكور، أبدى رأيه في الأئمّة - كما تطرّقنا إلى ذلك سلفاً - فتبرّأ الشيعة في قمّ منه وطردوه من مدينتهم.

وكان ادّعاء الحلاّج البابيّة، وإبداء رأيه الخاصّ حول عدد الأئمّة، بمنزلة إعلان العداء السافر لآل نوبخت، ذلك أنّ أحدهم - وهو أبو القاسم الحسين بن روح - كان نائباً للإمام الغائب منذ سنة ٣٠٥هـ، وكان قبل ذلك من خاصّة النائب الثاني أبي جعفر محمّد بن عثمان، والشخص الآخر من هذه الأُسرة هو أبو سهل إسماعيل بن عليّ، وكان يعدّ رئيساً للإماميّة في بغداد عند تحرّك الحلاّج، كما كان له نفوذ بين الوزراء وكتّاب البلاط والعاملين في الأجهزة الحكوميّة، وكان راعياً للأُصول المذهبيّة الشيعيّة ومدافعاً عنها، ويضاف إلى ما كان عليه سياسيّاً

____________________

١ - الغيبة للطوسيّ ٢٦٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288