آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92063 / تحميل: 9530
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.

ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ بالله منها ومن أمثالها.

ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على الله تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٧.

٢١

بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس(١) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياءعليهم‌السلام ؛ لأنّ دليل

__________________

(١) جبل أبي قبيس : هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكرّمة ، قيل : سمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس ، وقيل : كنّاه النبيّ آدمعليه‌السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس ، وكان في الجاهلية يسمّى « الأمين » لأنّ الحجر الأسود كان مستودعا فيه أيّام الطوفان.

انظر : معجم البلدان ١ / ١٠٣ رقم ١٥٩ ، مراصد الاطّلاع ٣ / ١٠٦٦ ، وانظر مادّة « قبس » في : لسان العرب ١١ / ١١ ، تاج العروس ٨ / ٤٠٥.

٢٢

النبوّة هو : أنّ الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.

ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه الله تعالى ، وكان الواجب ـ على قولهم ـ أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.

* * *

٢٣

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(٢) .

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد ـ على رأي الأشاعرة ـ فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ الله يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٢٤

وأقول :

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها!(١) .

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم » إلى آخره

ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد الله سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا(٢) .

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم »

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع الصفحة ٩ من هذا الجزء.

٢٥

فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فالله أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك الله أحسن الخالقين.

* * *

٢٦

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب الرابع

في أنّ الله تعالى يفعل لغرض وحكمة

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم(٢) .

وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات(٣) .

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، والله تعالى يقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالى ـ : ١١٥ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٩٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٢٧

وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (٢) .

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ١٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩١.

٢٨

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة(٢) .

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها(٣) .

ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.

فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه(٤) ، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٢٤.

(٢) راجع ج ٢ / ٣٤٦ من هذا الكتاب.

(٣) المحيط بالتكليف : ٢٦٣ ، وانظر : ج ٢ / ٣٤٥ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٩

والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٥.

٣٠

وأقول :

لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم(١) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدينرحمه‌الله في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه »(٢) .

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى الله تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّفرحمه‌الله بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».

فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣ ، وقد مرّ ذلك في ج ٢ / ٣٤٧ ه‍ ١.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

٣١

أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم(١) .

وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها(٢) فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٩ من هذا الجزء.

(٢) تمهيد الأوائل : ٢٢٧ ، الملل والنحل ١ / ٨١ ـ ٨٢ ، المواقف : ٢٧٩ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٢

تعالى :( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (١) .

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب الله وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى :( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (٢) .

هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد ـ مع ردّه ـ عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي(٣) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام

قال : « إعلم أنّه ـ رضي الله عنه ـ قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ١ و ٢.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ٣٤.

(٣) هو : محمّد بن صفي الدين عبدالرحمن بن محمّد بن عبدالسلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي ، ولد سنة ٨٣٢ ه‍ وتوفّي سنة ٩٠٦ ه‍ ، له تصانيف عديدة منها : جوامع التبيان في تفسير القرآن ، كتاب تهافت الفلسفة ، حاشية على التلويح للتفتازاني.

انظر : هديّة العارفين ٦ / ٢٢٣ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٤٠١ رقم ١٤٠٠٤.

٣٣

وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة(١) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات »(٢) .

والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس(٣) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل الله وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا

__________________

(١) في المصدر : « مرّة » ، والمرّة ، القوّة وشدّة العقل ؛ انظر : لسلن العرب ١٣ / ٧٤ مادّة « مرر ».

(٢) إحقاق الحقّ ١ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) التبصرة في أصول الفقه : ٤١٩ مسألة ٣ ، المستصفى من علم الأصول ٢ / ٢٣٤ ، المحصول في علم أصول الفقه ٢ / ٢٤٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٣ / ١٦٤ وما بعدها ، المواقف : ٣٦.

٣٤

من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف »(١) .

وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.

على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح » إلى آخره

إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!

وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه الله سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥

قال المصنّف ـ رحمه الله تعالى ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون الله سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ بالله من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

٣٦

وقال الفضل (١) :

جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.

وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.

وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه »

فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.

وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٤.

٣٧

وأقول :

منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر :

لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت

كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما(١)

فإنّها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما(٢)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.

* * *

__________________

(١) السّحّ : الصّبّ المتتابع الكثير ، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١٨٨ مادّة « سحح ».

والدّيم ، جمع ديمة : المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق ، وهي هنا على المجاز : العطاء الدائم المستمرّ ؛ انظر : لسان العرب ٤ / ٤٤٦ و ٤٥٨ مادّتي « دوم » و« ديم ».

(٢) البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّاد ؛ انظر ديوانه : ٤٠٩ ـ ٤١٠ رقم ٢١٤ ، وانظر : مرآة الجنان ٢ / ٣١٤ ، شذرات الذهب ٣ / ١٠٥.

٣٨

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.

فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٠ ـ ٩١.

٣٩

وقال الفضل (١) :

إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ]

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل(٢) .

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء

مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فالله تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تَخْلُ صفحة فيه من ذكر ابن الراونديّ، ومقدّمته النفيسة بقلم نيبرج(١) ، والفهرست ٤-٥ من ملحق طبعة مصر، ومروج الذهب ٧: ٢٣٧ من الطبعة الأجنبيّة، ووفيات الأعيان ١: ٢٨ طبعة طهران، والبداية والنّهاية، والمنتظم، وتلبيس إبليس ٧٢ و١١٨، وتبصرة العوامّ ٣٩٨ و٤٤٠، ومواضع متعدّدة من مقالات الإسلاميّين، وشرح نهج البلاغة، والفَرق بين الفِرق، والملل والنحل، والفِصَل في الملل والنحل، وكتاب الشافي في الإمامة، والفصول، وروضات الجنّات ٥٤، ورسالة ابن القارح في مجموعة رسائل البلغاء ٢١٠ طبعة مصر، وكنز الفوائد ٥١ وغيرها.

١٣ - أبو جعفر بن قبّة الرازي

(أوائل القرن الرابع)

أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيّ من كتبار متكلّمي الشيعة، كان في بادئ أمره من المعتزلة، ثمّ صَدَف عن الاعتزال وركن إلى المذهب الشيعيّ الإماميّ، وكان أحد تلامذة أبي القاسم الكعبيّ البلخيّ، ثمّ أصبح من مخالفيه، وصنّف عدداً من الكتب في الردّ على الزيديّة وإثبات الإمامة، أشهرها كتاب في الإمامة بعنوان الإنصاف، وهو الكتاب الذي نقل منه بعض العلماء كالشيخ الصدوق في كمال الدين، والشريف المرتضى في الشافي والفصول،وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وغيرهم.

وينقل أبو الحسين محمّد بن بشر السوسنجرديّ تلميذ أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ أنّه زار مرقد الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس، ثمّ ذهب إلى أبي القاسم الكعبيّ في بلخ، وكان معه كتاب الإنصاف، فقرأه الكعبيّ وصنّف كتاباً في نقضه بعنوان المُستَرشَد، ثمّ عاد إلى الريّ ومعه الكتاب المذكور، فعرضه على أبي جعفر،

____________________

١ - H. S. Nyberg.

١٢١

فصنّف كتاباً في تفنيده عنوانه المُستَثبَت، ولمّا أرجع هذا الكتاب إلى الكعبيّ ردّ عليه بكتاب آخر تحت نقض المُستَثَبت، وعندما عاد إلى الريّ مرّة أُخرى وجد أبا جعفر قد مات(١) ، فوفاته كانت قبل وفاة الكعبيّ، أي: قبل سنة ٣١٩هـ.

للاطّلاع على ترجمته، يُنظَر: رجال الطوسيّ ٢٩٧، رجال النجاشيّ ٢٦٥-٢٦٦، الفهرست ١٧٦، كمال الدين ٣١، ٣٦، الشافي ١٠٠، الفصول (مخطوط)، شرح نهج البلاغة ١: ٦٩، وغيرها.

____________________

١ - رجال النجاشيّ: ٢٦٦.

١٢٢

الفصل السادس

أبو سهل إسماعيل بن عليّ

(٢٣٧-٣١١هـ)

أبو سهل إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، أحد كبار البيت النوبختيّ بل من أشهرهم، كان من رؤساء الشيعة العظام ومن مشاهير متكلّميهم في عصره المتزامن مع الغيبة الصغرى، ويعدّ أحد الشعراء والمصنّفين والمشجّعين على الأدب والشعر، وكان صدراً في الأعمال الإداريّة إذ تَسلّم منصباً قريباً من منصب الوزارة في ديوان الحكومة، وألّف كتباً كثيرة في دعم المذهب الشيعيّ الإماميّ ودحض كتب المناوئين للشيعة.

وهو أحد النوبختيّين الذين نجد معلومات مفصّلة نسبيّاً عن سيرتهم، فقد اهتمّ المؤرّخون القدماء وعلماء الأخبار والرجال بترجمته، ونقل أقواله، وتدوين عناوين كتبه بسبب منصبه المهمّ وكثرة مؤلّفاته.

وعلى الرغم من أنّ أبا سهل كان شاعراً وكاتباً بليغاً(١) ، وكانت له مناصب إداريّة مهمّة في ديوان الحكومة، بَيْد أنّ شهرته تعود إلى اشتغاله في علم الكلام،

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ fol. ٦٠ b. نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٢٣

واحتجاجه على مناوئي الإماميّة، ومحاولته إدخال الإمامة في أُصول الدين. وأكثر كتبه ترتبط بهذه الموضوعات، وإذا كان كلام البُحتريّ الشاعر عنه خالياً من الأغراض، فإنّ شعره ليس فيه رقّة، بل هو يشبه مضغ الماء، ليس له طعم ولا معنى، على ما ذكره هذا الشاعر(١) ، ولم يَبقَ أثر من أعماله الإدارية له أهمية تفضي إلى ذيوع صيته.

١ - الحياة الإداريّة لأبي سهل النوبختيّ

إنّ ما في أيدينا من المعلومات عن الحياة الإداريّة لأبي سهل يعود إلى الأشهر الستّة الأخيرة من عمره البالغ أربعاً وسبعين سنة، ومن الثابت أنّه كان يتصدّر بعض الأعمال في الجهاز الحاكم قبل هذا التاريخ، أو كان يُكلّف بإنجاز بعضها في الأمصار مبعوثاً من قبل رؤساء الدواوين، بخاصّة في عهد المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ) وما رافقه من تبدّلات(٢) ، ذلك أنّ المقتدر وآل الفرات الذين كانت في أيديهم الوزارة والمناصب الإداريّة الأُخرى، كانوا حماة الشيعة المائلين إليهم، وأبو سهل يومئذ رئيس الشيعة في بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى ذكر بعض المؤلّفين أنّ له منصباً في الشؤون الدنيويّة وأنّه كان بين الكتّاب تالياً منصب الوزراء(٣) . وهذا يدلّ على أنّ أبا سهل كان يتمتّع بنفوذ كبير في البلاط العبّاسيّ خلال الشطر الأوّل من حكومة المقتدر ووزارات ابن الفرات، وكان الإماميّة يعيشون بعزّ يومذاك بتأثير أبي سهل إسماعيل، وكان رجال من آل نوبخت ذوي رئاسة وقدرة في بغداد، كأبي

____________________

١ - الأغاني ١٨: ١٧٠.

٢ - ممّا يدعم ذلك وجوده في الأهواز ومناظراته فيها مع أبي علي الجبّائيّ (٢٣٥-٣٠٣هـ) قبل سنة ٣٠٣هـ التي توفّي فيها أبو عليّ (الفهرست للطوسيّ ٥٨ ورجال النجاشيّ ٢٣)، وكذلك مناظرته مع الحلاّج في الأهواز قبل سنة ٣٠١هـ وبُعده عن بغداد.

٣ - رجال النجاشيّ ٢٣.

١٢٤

الحسين علىّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)، وأبي القاسم الحسين بن روح المتوفّى سنة ٣٢٦هـ.

يعدّ عهد المقتدر من عهود النكسة في الحكم العبّاسيّ؛ لأنّ الأُمور في عصر هذا الحاكم الضعيف، الشهوانيّ، الخائر الإرادة كانت تُدار من قبل نساء القصر وعمّال الديوان والكتّاب والغلمان وأُمراء الجيش، ولمّا كان هؤلاء من المغرضين الطمّاعين اللاهثين وراء المناصب، فإنّهم كانوا يَسْعَون في تحطيم بعضهم بعضاً.

وممّا كان يزيد التنافس بينهم موضوع الخلاف بين الشيعة والسنّة، ذلك أنّ المقتدر كان كالمأمون يُبدي ميلاً إلى بني هاشم وآل عليّ، وأنّ آل الفرات الذين تسلّموا الوزارة والأعمال الديوانيّة المهمّة الأُخرى في عهده مراراً كانوا يدعمون الشيعة بكلّ جدّ، ويسندون الوظائف إلى بني العبّاس وآل أبي طالب. وسنرى لا حقاً أنّ عدد المخالفين لأهل السنّة بعامّة، والإماميّة بخاصّة كان أخذاً بالازدياد في ظلّ دعم آل الفرات، وعلى هذا المنوال نجد أنّ خصماء مذهب آل الفرات من السنّة كانوا يتعاملون مع الشيعة بعنف مستغلّين ضعف السلطان العبّاسيّ عندما كانوا يتقلّدون بعض المناصب، وأهمّ هذه الصراعات السياسيّة والمذهبيّة الصراع الذي كان قائماً بين آل الجرّاح وآل الفرات، حيث كان عملاء السلطان، وهو نفسه، وأنصار الأُسرتين المذكورتين الطامحون إلى الوزارة يوقدون ناره تشفّياً وطمعاً في المال، وكانوا يجرحون كرامة من قلّدهم المناصب ويسلبون أموالهم، ثمّ يستميلونهم، وهكذا تتجدّد اللعبة نفسها.

واستوزر المقتدر أبا الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات في ٢١ ربيع الأوّل سنة ٢٩٦هـ، بَيْد أنّه حبسه بعد ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، أي: في الرابع من ذي الحجّة سنة ٢٩٩هـ، وصادر أمواله وأموال أعوانه وهتك حرمته، واختار أبا عليّ محمّد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان للوزارة، ولما لم يكن هذا الوزير بصيراً، وكانت الأمور قد اضطربت في عهده، قرّر المقتدر استيزار

١٢٥

أبي الحسن بن الفرات ثانية في العاشر من المحرّم سنة ٣٠١هـ، لكنّ بعض الأُمراء حالوا دون هذا الأمر، فاستوزر أبا الحسن عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح وقبض على الخاقانيّ، وآخَذَه، وصادر أمواله.

واستمرّت وزارة عليّ بن عيسى حتّى سنة ٣٠٤هـ، ولكن لمّا كانت الأوضاع غير قابلة للإصلاح بسهولة بسبب الفساد الإداريّ، ونفوذ الأمراء، وعمّال الدواوين، وطمع قادة الجيش، وعدم لياقة السلطان العبّاسيّ، فإنّ المقتدر كان يستشير أبا الحسن بن الفرات دائماً مع أنّه كان قد حبسه، ولمّا أحسّ عليّ بن عيسى بغلبة أنصار ابن الفرات اعتزل الوزارة، فاستوزر المقتدر أبا الحسن بن الفرات مرّة أُخرى في الثامن من ذي الحجّة سنة ٣٠٤هـ، فسلك نفس المسلك الذي كان عليه أسلافه من حبس، وتكبيل، ومصادرة للأموال، وهكذا تعامل مع أبي الحسن عليّ بن عيسى بن الجرّاح بأمر المقتدر.

ولم تَدُم وزارة ابن الفرات الثانية طويلاً إذ خوّل المقتدر حامدَ بن العبّاس هذا المنصب في جمادى الآخرة سنة ٣٠٦هـ، بعد مضيّ سنة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً، ولم يكن الوزير الجديد مطّلعاً على شؤون الوزارة فاختار أبا الحسن عليّ بن عيسى نائباً له، فأضحت شؤون الوزارة في الواقع كلّها بيده، واكتفى حامد باسم الوزارة وتولّي خراج واسط وضرائبها، إذ كان قد ضمنها.

وكان أبو محمّد حامد بن العبّاس لئيماً سفيهاً متعصّباً حاقداً، وارتكب أنواع الرذائل عند مؤاخذة أبي الحسن بن الفرات وبطانته بمؤازرة عليّ بن عيسى. كما أنّ بطانته نالت من أبي الحسن بن الفرات وآذته وأرغمته على دفع مال كثير، وعذّبت ولده مُحسّناً وأعوانه بضربهم بالعصا، وحامد بن العبّاس هو الذي صلب الحسين بن منصور الحلاّج في بغداد سنة ٣٠٩هـ، وهو الذي سجن النائب الثالث للإمام المهديّعليه‌السلام أبا القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في دار الخلافة في أواخر وزارته.

١٢٦

وقرّر المقتدر في ربيع الآخر سنة ٣١١هـ عزل حامد بن العبّاس وعليّ بن عيسى من الوزارة ورئاسة الدواوين، وكانا من حماة السنّة ومن خصوم مخالفيهم، وخلع على أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، وعيّنه وزيراً للمرّة الثالثة.

وأقرّ ابن الفرات حامد بن العبّاس على ما كان عليه في وزارة الخاقانيّ من تولّي خراج واسط وضرائبها، حيث كان ذلك على عاتقه وبضمانه، ولكنّ الوزير سرعان ما أجبره أعداء حامد على مطالبته بالمال الذي كان في ذمّته، فاستجب ابن الفرات الذي كان قد استُوزِر للمرّة الثالثة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة ٣١١هـ، وكلّف الإماميّة في بغداد الذي كان له منصب في الديوان أيضاً بالتوجّه إلى واسط ومطالبة حامد بالحسابات الماليّة التي كانت في ذمّته للديوان، وكان ذلك بعد مضيّ فترة قصيرة على تسلّمه مقاليد الوزارة.

وتصرّف أبو سهل مع حامد بن العبّاس في هذا المجال على طريقة كتّاب الدواوين، ولم يخرج عن أُسلوب الرفق والمصانعة، أمّا البزوفريّ فقد تعامل معه بعنف، وطالبه مُغلِظا مقرّعاً، لكنّه لم يستطع أن يأخذ منه شيئاً نتيجة للنفوذ الذي كان يتمتّع به في واسط، فاضطرّ المقتدر إلى إيفاد عدد من غلمانه وجنوده من أجل دعم البزوفريّ وأبي سهل النوبختيّ، لكنّ حامد بن العبّاس فرّ من واسط وقد غيّر هيئته إثر تحذير المقتدر إيّاه فيمّم بغداد، بَيْد أنّ المقتدر قبض عليه وسلّمه أبا الحسن بن الفرات، فتولّى تعذيبه ابن أبي الحسن - وهو محسّن المعروف بقساوته وظلمه وسوء سيرته، والمشهور بالخبيث بن الطيّب - وأرسله إلى واسط مع بعض أعوانه من أجل محاسبته، ثمّ أمر بسمّه في رمضان سنة ٣١١هـ(١) .

ولما لم تتمّ مهمّة محمّد بن عليّ البزوفريّ في واسط حتّى تاريخ وفاة حامد بن

____________________

١ - تاريخ الوزراء ٣٤-٣٥. وتتمّة تاريخ الطبريّ f.٢٤ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٧

العبّاس، وكان أبو سهل النوبختيّ معه كما في السابق على الأعمّ الأغلب فإنّنا نحتمل أنّ أبا سهل كان مشغولاً في أداء مهمّته بواسط حتّى تاريخ وفاة حامد (رمضان سنة ٣١١هـ)، ثمّ وافاه الأجل بعده بقليل، في شوّال من نفس السنة، وهو ابن أربع وسبعين عاماً(١) .

ولعلّ رفق أبي سهل النوبختيّ ومصانعته حامدَ بن العبّاس المتعصّب المعترف بعدائه للرافضة وابن الفرات (صديق أبي سهل والإماميّة وحاميهما) يعودان إلى أسباب سياسيّة؛ لأنّ أبا سهل - كما سنرى - ناهَضَ دعوة الحسين بن منصور الحلاّج بشدّة سواء في وزارة ابن الفرات أم في وزارة حامد بن العبّاس، وعارض هذا الداعية الجديد الذي كان يهدّد الأساس الذي يقوم عليه الكيان الشيعيّ، وكاد أن يجتثّ جذور نفوذه في البلاط. ولم يَدَعْ دعوته تنتظم في بغداد والبلاط ممّا أفضى إلى القبض على الحلاّج، وقتله على يد حامد بن العبّاس سنة ٣٠٩، ويُحتَمل بعامّة أنّ أبا سهل النوبختيّ كان متّفقاً مع حامد بن العبّاس في قتل الحلاّج، ولعلّه كان من محرّضيه على ذلك، وهذه السابقة في وحدة الاتّجاه السياسيّ هي التي دفعت أبا سهل إلى رعاية الحقوق القديمة عند قيامه بمهمّته في واسط.

٢ - حياته العلميّة والأدبيّة

تزامنت حياة أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ مع برهة من أيّام الغيبة الصغرى من جهة، ومع وقت بلغ الشيعة فيه مستوى من النُّضج بفعل جهاد الطبقة الأُولى من متكلّميهم، ومساعي أنصارهم العاملين في البلاط الحاكم من جهة أُخرى، وعلى الرغم من جميع ضروب المعارضة السياسيّة والدينيّة التي أبدتها الفرق الأُخرى واحتجاجات المعتزلة وردودهم، فقد قام المذهب الشيعيّ على

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ f.٦٠ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٨

سُوقه، ودوّن رجاله أُسسه المذهبيّة والكلاميّة، واستقرّ على قواعد متّفق عليها عند الشيعة الإماميّة كلّهم.

أمّا مخالفو الإماميّة فإنّهم كانوا ما يزالون يتمتّعون بقدرة تامّة آنذاك، ولم يَرعَووا عن انتقاد عقائد ومقالات الإماميّة ونقضها، يضاف إلى ذلك أنّ الإماميّة أنفسهم تعرّضوا إلى محنة كبيرة في عصر الغيبة الصُّغرى بسبب بروز الخلافات الكثيرة وظهور عدد من الفرق بين الشيعة القطعيّة، فتدخّل أبو سهل الذي انتهت إليه رئاسة الفرقة المذكورة في بغداد يومئذٍ، وكانت له شوكته ومنزلته العلميّة، يعاضده سائر أعضاء الأُسرة النوبختيّة وأفراد من الأُسر الأُخرى، وقام بإزالة التفرقة التي طرأت على الإماميّة، وصدّ مخالفيهم من جهة، ومن جهة أُخرى استعمل علم الكلام، وبذل جهوداً علميّة، فأفلح في الحصول على نتائج كبيرة، وبذل خدمات جُلّى في تثبيت الأُصول الدينيّة للمذهب الشيعيّ الاثني عَشَريّ والمحافظة عليها، فخلد ذكره في تاريخ هذا المذهب، وأصبح جديراً بلقب (شيخ المتكلّمين).

ومع أنّ أبا سهل النوبختيّ كان تلميذ المتكلّمين الأُوّل من الشيعة في علم الكلام، وأنّه دافع عن مسائل كانت مطروحة قبله، ثمّ دوّنها في كتبه بعد تدقيق كثير، لكنّه قام بعملين من أجل اكتمال علم الكلام على مذهب الإماميّة، كما يُستشفّ ذلك من قائمة كتبه وإشارات أُخرى غيرها، وهذان العملان أهمّ الأعمال، وهما لافتان للنظر قابلان للتدوين من كلّ جهة:

١ - دافع أبو سهل عن العقائد التي كان قد دوّنها عدد من متكلّميّ الإماميّة قبله، بعد أن حَظِيت بتأييد أئمّة الهدىعليهم‌السلام وقبول جمهور الإماميّة، يضاف إلى ذلك أنهّ احتذى - أكثر من ذي قبل - أصول الاعتزال في تقرير القضايا الكلاميّة وفقاً لعقيدة الإماميّة، بخاصّة أنّه خلّص الفرقة القطعيّة من بعض التُّهم الّتي رُمي بها عدد من متكلّمي الإماميّة الأُوَل في باب الرّؤية والتّشبيه والتجسيم وغيرها، وأعلن عن نفسه - كالمعتزلة - مناصراً لاستحالة رؤية الله تعالى، و(حدوث العالم)، ومخالفاً

١٢٩

للمجبّرة في باب (المخلوق)، و(الاستطاعة)، كما أنّه سلك سبيل المعتزلة في باب (الإنسان)، والردّ على (أصحاب الصّفات)، ومنذ ذلك الوقت تقارب المذهبان المعتزليّ والإماميّ أكثر من السابق، وبثّ تلاميذ أبي سهل تلك العقائد من بعده من الإماميّة دون تغيير كبير.

٢ - نلحظ في مسألة الإمامة التي كانت من أهمّ المسائل الخلافيّة بين الفرق الإسلاميّة أنّ متكلّمي الشيعة قبل أبي سهل - كما رأينا - قد تحدّثوا عن موضوع النصّ الجليّ والخفيّ، وأثبتوا خلافة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بلا فصل كما أثبتوا أحقّيّة أولاده في الإمامة بالأدلّة السمعيّة والنقليّة، من خلال المقالات أو الكتب التي صنّفوها، بَيْد أنّ أبا سهل النوبختيّ واثنين من معاصريه هما ابن أُخته أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختيّ، وأبو الأحوَص داود بن أسد البصريّ(١) كانوا أوّل من استخدم الأدلّة العقليّة في إثبات وجوب الإمامة وبيان أوصاف الإمام تبعاً لأبي عيسى الورّاق وابن الراونديّ، وإذا كان قد استظهر بالأدلّة السمعيّة فمن أجل تأييد الأدلّة العقليّة والتصرّف في الاستدلال، وكان الشريف المرتضى يقتني كتب أبي سهل وأبي محمّد النوبختيّ، فكتب في ردّه على القاضي عبد الجبّار المعتزليّ قائلاً: (... وهذه كتب أبي محمّد وأبي سهل رحمهما الله في الإمامة تشهد بما ذكرناه، وتتضمّن نصرة جميع ما ذكره أبو عيسى الورّاق، وابن الراونديّ في كتبهما في الإمامة، بل قد اعتمدا على أكثر ما ذكراه من الأدلّة، وسلكا في نصرة أُصول الإمامة تلك الطرق بعينها، ومَن خَفِي عليه ما ذكرناه من قولهم ظالم لنفسه بالتعرّض للكلام في الإمامة(٢» .

وكان لاحتجاج الورّاق وابن الراونديّ وأبي الأحوص وأبي محمّد وأبي سهل

____________________

١ - انظر ما ذكرناه عن أبي الأحوص في هذا الكتاب.

٢ - الشافي في الإمامة ١٤-١٥.

١٣٠

في إثبات وجوب الإمامة وتقرير صفات الإمام بالأدلّة العقليّة دور في جعل الإمامة من أُصول الدين عند الإماميّة مَثَلها مَثَل التَوحيد، والعدل، والنبوّة، وإدخالها في المباحث الكلاميّة، وأبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ هو الذي ثبّت ذلك وجعله قطعيّاً، وجمع الأدلّة والاحتجاجات التي عرضها السبّاقون في هذا المجال، وصيّر مسألة الإمامة تابعة للنبوّة من المسائل الكلاميّة لمذهب الإماميّة(١) . وصنّف أبو سهل - كما سيأتي لاحقاً - في موضوع الإمامة كتباً عديدة، ووقف عمره على الدفاع عن عقائد الإماميّة و ردّ الغلاة والواقفة وأهل السنَّة، ويمكن القول: إنّ كتبه وآراءه في موضوع الإمامة قد بزّت جميع مؤلّفات المتكلّمين الذين سبقوه، وأصبحت مرجعاً للمتكلّمين الذي جاؤوا بعده، وهذا من بركات الطلاّب الكثيرين الذين تربّوا على يده ونشروا كتبه وعقائده، إضافة إلى ما كان له من منزلة علميّة ونفوذ واعتبار وشوكة.

وكان أبو سهل من الأُدباء والشعراء أيضاً، مضافاً إلى مكانته السياسيّة والعلميّة، وكان معاشراً لاثنين من فحول شعراء العرب هما البحتريّ (٢٠٦-٢٨٣هـ)، وابن الروميّ (٢٢١-٢٨٣هـ)، علماً أنّنا نقلنا سابقاً رأي البحتريّ في شاعريّة أبي سهل، وكان البحتريّ مادحاً لأبي سهل وابنه أبي يعقوب إسحاق (المقتول سنة ٣٢٢هـ )، وآخرين من آل نوبخت، وله قصائد في الثناء عليهم، كنّا قد نقلنا طرفاً منها في فصول متقدّمة.

وكان الشاعر الشيعيّ المشهور عليّ بن العبّاس بن جريج الروميّ ربيب نعمة آل نوبخت، بخاصّة أبي سهل وأخيه أبي جعفر محمّد، وله معهم أخبار أشار إليها المسعوديّ باختصار(٢) . منها أنّ ابن الروميّ نظم مرّةً مقطوعة في مدح آل نوبخت ذكر فيها أنّهم اعلم الناس بالنجوم، فشكره أبو سهل بن عليّ في مقطوعة أُخرى وقال:

____________________

١ - نخبة المقال ١٣٢.

٢ - مروج الذهب ٨: ٢٣٣ (الطبعة الأجنبيّة).

١٣١

إنّ آل نوبخت عاجزون عن نظم جواب لشعر ابن الروميّ بما فيه من ماء ورواء(١) .

يضاف إلى ذلك أنّ أبا سهل كان معاشراً لكثير من العلماء والمتكلّمين والشعراء والأُدباء المعاصرين له، وكانت له مراسلات شعريّة، وقرأ عليه الأدبَ جماعة من الأُدباء ورواة الشعر، ونلحظ في كتب الرجال والتاريخ ذكراً لمجالسه مع أبي علي الجُبّائيّ في الأهواز، ومع الحكيم الرياضيّ المعروف ثابت بن قرّة، كما نقرأ فيها قصيدة أبي الحسين عليّ بن العبّاس النوبختيّ (المتوفّى سنة ٣٢٤هـ) في مدحه، وسنأتي على ذلك كلّه في موضعه.

ونزيد على ما مرّ أنّ أبا سهل نفسه كان من رواة الأشعار، وقد رويَ عنه قسم من أخبار أبي نواس(٢) ، وكان له تلاميذ كثر أيضاً كلّهم من الكتّاب والشعراء والمتكلّمين المعروفين، أخذوا منه الأدب والشعر والكلام، وتلمذوا له في هذه العلوم.

٣ - تلاميذه

كان لأبي سهل عدد من التلاميذ في الكلام والأدب، قد بثّوا آراء أُستاذهم بين الإماميّة وطلاّب العلم والأدب، وذكرت كتب الأدب والتاريخ أسماء ستّة منهم على النحو الآتي:

١ -عليّ بن إسماعيل ولده: أخذ العلم والأدب عن أبيه(٣) ، ودرس أيضاً عند العالم النحويّ اللغويّ الشهير أبي العبّاس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (٢٠٠-٢٩١هـ)، وكنّاه الخطيب البغداديّ أبا الحسين تارةً، وأبا الحسن تارة أُخرى.

____________________

١ - المقطوعتان كلتاهما في ديوان ابن الروميّ ١: ١٢٢-١٢٣ (طبعة مصر، سنة ١٩٢٧م).

٢ - الجزء الثاني من كتاب أخبار أبي نواس (مخطوط).

٣ - تاريخ الإسلام الذهبيّ، fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٣٢

وكان يروي الشعر عن أبيه أبي سهل، وعن ثعلب، وسمع أبو محمّد الحسن بن الحسين بن عليّ بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت (٣٢٠-٤٠٢هـ) منه بعض أشعار ثعلب ودوّنها وروى الخطيب البغداديّ بواسطةٍ واحدة مقطوعةً شعريّة لثعلب عن أبي محمّد النوبختيّ الذي ستأتي ترجمته، وكان أبو محمّد قد أخذها من عليّ بن إسماعيل النوبختيّ(١) .

٢ -أبو الحسين عليّ بن عبد الله بن وصيف: الناشئ الأصغر (٢٧١-٣٦٥هـ)(٢) الشاعر والمتكلّم المعروف الذي كان من مشاهر المدّاحين لأهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، ومن مصنّفي الشيعة المعروفين. وكان تلميذ أبي سهل النوبختيّ في الكلام(٣) ، وألّف كتاباً في الإمامة(٤) .

وكان المترجَم له أُستاذ الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان وشيخه في الرواية(٥) ، ويُعدّ الشيخ المفيد تلميذاً لأبي سهل النوبختيّ عن طريقين: الأوّل: تلمذته للناشئ الأصغر، والثاني: تعلّمه على أبي الجيش مظفّر بن محمّد البلخيّ (م٣٦٧هـ)(٦) .

٣ -أبو الحسن محمّد بن بشر السوسنجرد يّ: صاحب كتاب الإنفاذ في الإمامة(٧) .

____________________

١ - تاريخ بغداد ١١: ٣٤٧.

٢ - أو ٣٦٦.

٣ - وفيات الأعيان ١: ٣٨٩.

٤ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣؛ رجال النجاشيّ ١٩٣.

٥ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣.

٦ - الناشئ الأصغر في مقابل الناشئ الأكبر، وهو أبو العبّاس عبد الله بن محمّد الملقّب بابن شرشير، شاعر ومتكلّم مشهور من أهل الأنبار، توفّي سنة ٢٩٣هـ، وتعود شهرته غالباً إلى مخالفته أهلَ المنطق والشعراء وعلماء العَروض، وإنكاره عموم المعاني المسلّمة عندهم، وله كتاب في نقض المنطق، ونظم قصيدة نونيّة في أربعة آلاف بيت تقريباً ذكر فيها أهل الآراء والنحل والمذاهب والملل، (للاطّلاع على ترجمته، انظر: مروج الذهب ٢: ٢٦٦ طبعة مصر، الفِصَل ٤: ١٩٤؛ تاريخ بغداد ١٠: ٩٢-٩٣).

٧ - انظر: ص١١٥ من هذا الكتاب، والفهرست ١٧٧، ورجال النجاشيّ ٢٦٦.

١٣٣

٤ -أبو عليّ الحسين بن القاسم الكوكبيّ: الكاتب (المتوفّى في ربيع الأوّل سنة ٣٢٧هـ)(١) .

٥ -أبو الجيش مظفّر بن محمّد بن أحمد البلخيّ: (المتوفّى سنة ٣٦٧هـ) أُستاذ الشيخ المفيد، له كتاب في الإمامة(٢) .

٦ -أبو بكر محمّد بن يحيى الصُّوليّ: (المتوفّى سنة ٣٣٥هـ) الكاتب والأديب المشهور(٣) .

وكان جميع المتكلّمين الكبار من الإماميّة في القرن الرابع والخامس كالشيخ المفيد، والنجاشيّ، والشريف المرتضى، والشيخ الطوسيّ، وغيرهم تلاميذ أبي سهل النوبختيّ بواسطةٍ واحدة أو بواسطتين؛ لذلك نجد أنّ آراءهم في موضوع الإمامة وغيره من المسائل الكلاميّة تُشبه إلى حدٍّ ما آراء أبي سهل التي شرحها ودوّنها في كتبه العديدة.

٤ - أبو سهل النوبختيّ وموضوع الغَيبة

ولد أبو سهل النوبختيّ سنة ٢٣٧هـ في عصر الإمام العاشر أبي الحسن عليّ بن محمّد الهادي (٢٢٠-٢٥٤هـ)، وعندما توفّي الإمام الحادي عشر أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ سنة ٢٦٠هـ، كان له من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت وفاة أبي سهل سنة ٣١١هـ، وهو ابن أربع وسبعين، أمضى منها إحدى وخمسين سنة من عمره في أيّام الغيبة الصُّغرى، وصادفت وفاته في أيّام سفارة النائب الثالث الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ، وهما من بيت واحد.

____________________

١ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس، وتاريخ بغداد ٨: ٨٧.

٢ - الفهرست ١٧٨، رجال النجاشيّ ٢٩٩؛ روضات الجنّات ٣١.

٣ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b.

١٣٤

وتعدّ الفترة التي أمضاها أبو سهل في عصر الغيبة الصغرى - وهي إحدى وخمسون سنة كانت له في الأيام الأخيرةِ منها الرئاسة على الإماميّة الاثني عشريّة، ويكاد يكون هو الموجّه لهذه الطائفة هو وسائر أفراد البيت النوبختيّ - من أشدّ الفترات توتّراً بالنسبة إلى الطائفة المذكورة، ذلك أنّ أعداءها من جانب، والسلطان العبّاسيّ من جانب آخر قد بذلوا قصارى جهودهم من أجل تقويض الكيان الشيعيّ، ولم يدّخروا وسعاً في إذاقة الشيعة شتّى صنوف الأذى والعذاب، والذي أثارهم أكثر في هذه المرحلة هو حادث وفاة الإمام الحادي عشرعليه‌السلام واختفاء ولده، وهذا الأمر لم يُجرّئ مناوئي الشيعة على معارضتهم فحسب، بل ترك المؤمنين بهذا المذهب يموجون في قلق وحيرة عجيبة، فبرز الخلاف بين صفوفهم وبلغ بهم مبلغاً أنّهم صاروا أربع عشرة فرقة يكفّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكاد الكيان الشيعيّ الذي كانت أركانه قد توطّدت بجهود بذلها رجاله على امتداد السنين يتقوّض بفعل تلك الخلافات، ومضافاً إلى مكائد الأعداء، وإقبال الدنيا على مناوئي هذه الفرقة وعلى السلطان العبّاسيّ الذي سئم من تحكّم الكتّاب والعاملين الفرس الشيعة في الجهاز الحكوميّ، ونفد صبره من طعن رؤساء الإماميّة ولومهم المتواتر، وكان يفكّر بعموم الوسائل والخطط لإنقاذ نفسه من هذه الورطة.

روى الشيعة أنّ الإمام الحادي عشر أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ توفّي في سُرّ من رأى يوم الجمعة لثمانٍ خلون من ربيع الأوّل سنة ٢٦٠هـ بعد خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيّام مضت على إمامته، وأعقب ولداً مكتوماً أمره لم يَرَه عامّة الناس، من هنا أمر المعتمد العبّاسيّ (٢٥٦-٢٧٩هـ) بتفتيش دار الإمام وحجراتها، وكبس جميع ما فيها، وجَدَّ رجاله في البحث عنه، وكلّفوا القوابل بالتحقيق من جواري الإمام، وعندما ذكرت إحداهنّ أنّ جارية من جواري الإمام حامل، جعلوها في غرفة خاصّة من غرف الدار، ووكّلوا بها أحد الخدم مع أصحابه وعدداً من النسوة، وصلّى أبو عيسى بن المتوكّل أخو المعتمد على جنازة الإمام.

١٣٥

وأشهدَ كبار العلويّين والعبّاسيّين, وأُمراء الجيش، والكتّاب، والقضاة، والفقهاء، والمعدّلين على أنّ الإمام مات حتف أنفه، ثمّ دفنوا جثمانه الطاهر في البيت الذي دُفن فيه أبوه، وبذل الحاكم العبّاسيّ وأعوانه قصارى جهودهم في البحث عن ابن الإمام، ولمّا لم تُثمر جهودهم شيئاً، ولم تلد تلك الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين أو أكثر، عزم السلطان العبّاسيّ على تقسيم ميراث الإمام العسكريّعليه‌السلام ، فنشب نزاع بين حديث والدة الإمام وبين أخيه جعفر لأجل ذلك، ومع أنّ والدة الإمام أثبتت عند القاضي أنّها الوارثة الوحيدة للإمام لكنّ جعفر عارضها وسعى بها عند السلطان، واستعان به في الحصول على ميراث أخيه، ومكث السلطان سبع سنين، ثمّ قسّم تركة الإمام بين حديث وجعفر(١) .

وكان جعفر مقبلاً على الدنيا لاهياً، طالباً لمنصب أخيه، فتشبّث بشتّى الحيل كي يُعرَفَ بهذا المنصب، وكان يشي عند المعتمد بأصحاب الإمام العسكريّ الذين كانوا يَرَون أنّ ولده الصغير الغائب هو الإمام الثاني عشر وهو حجّة الحقّ على الخلق، وممّا قام به أنّه حرّض السلطان على تكبيل صَيقل(٢) جارية الإمام العسكريّ ووالدة الإمام المهديّ، ومطالبتها بولدها القائم، فأنكرت ذلك وادّعت الحَبل لتردع جلاوزة السلطان عن التجسّس في أمر الإمام، فأوقفها المعتمد في حرمه، وتولّى نساؤه وجواريه وأخوه الموفّق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب(٣) رعايتها والقيام بأمرها. واستمرّت هذه الحالة إلى أن تضعضعت أركان الحكومة سنة ٢٦٣هـ، بفعل الهزّات التي تعرّضت لها، كاستيلاء يعقوب بن ليث الصفّار على

____________________

١ - كمال الدين ٢٥-٢٦ و٣٤ و٤٧ و٢٦١ و٢٦٢، فرق الشيعة ٧٩، الغيبة للشيخ الطوسيّ ١٤١-١٤٢؛ الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل ٤: ٩٣.

٢ - اختلف الرواة والمؤلّفون في اسم أُمّ الإمام، فمنهم من قال: صيقل، ومنهم من قال: ريحانة، ومنهم من قال: سوسن، ومنهم من قال: نرجس.

٣ - المقصود عليّ بن أبي الشوارب محمّد الذي نُصب قاضياً للقضاة في سنة ٢٦٢هـ.

١٣٦

الأهواز ومحاولته الهجوم على بغداد، وفتنة صاحب الزنج، وموت الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأةً؛ ولذلك أُنسِيَت صيقل فنجت من مخالب جلاوزة السلطان(١) .

وبرز خلاف وعداء شديد بين أصحاب جعفر، وأصحاب صيقل، وانحاز جماعة من أفراد الحكومة وجلاوزة السلطان إلى جانب جعفر، وجماعة إلى جانب صيقل، واصّاعد لهب الفتنة، فقام أحد النوبختيّين - وهو الحسن بن جعفر الكاتب - بإخفاء صيقل في داره، وآلَ الأمرُ إلى أن قام المعتضد (٢٧٩-٢٨٩هـ) - الذي كان مناوئاً شديداً للإماميّة كالمتوكّل - بإخراجها من بيت الحسن بن جعفر النوبختيّ بعد مضيّ بضع وعشرين سنة على وفاة الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام ، فأقامت في قصره حتّى وافاها الأجل أيّام حكم المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ)(٢) .

إنّ وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، وغيبة ولده القائم، وادّعاء أخيه جعفر الذي لقّبه الإماميّة: الكذّاب، كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، كلّ أولئك مهّد الأرضيّة لمناوئي الإماميّة - بخاصّة المعتزلة، والزيديّة، وأصحاب الحديث والسُّنّة، والحاكم العبّاسيّ - لأن ينالوا من الإماميّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، أدّى إلى انقسامها أربع عشرة فرقة، منها من أنكر وجود ولد للإمام العسكريّ، ومنها من تردّد في ذلك، ومنها من اعتقد بانتهاء الإمامة، لكن أفراد هذه الفرقة الأخيرة لم يتّفقوا على ذلك، فمنهم من اعتقد بأنّه خليفة أبيه العسكريّ، ومنهم من رأى أنّه منصوب للإمامة من قِبل أخيه الآخر محمّد الذي كان قد مات في حياة أبيه الإمام الهادي، ومنهم من ذهب إلى أنّ أباه هو الذي اختاره إماماً، وهبّ جماعة من الفَطحيّة والمحمّدية (أصحاب محمّد بن الإمام الهادي توفّي قبل أبيه) إلى تأييد جعفر

____________________

١ - كمال الدين ٢٦٢ و٢٦٣.

٢ - الفصل ٤: ٩٣-٩٤.

١٣٧

على رغم الإماميّة الاثني عشريّة، والتفّ حوله جمع من متكلّمي الفطحيّة الحاذقين، وأُخت فارس بن حاتم بن ماهَوَيه القزوينيّ، وهي من أصحاب الإمام الهادي، وكان الإمامعليهم‌السلام قد لعنها وطردها؛ لإظهارها الغلوّ والفساد، لكنّ جعفر برّأها وزكّاها(١) . وأفضى التفافهم حوله إلى تقويته، وإلى خلق المتاعب للشيعة الاثني عشريّة.

ومن الملاحَظ في ذلك العصر الذي نشبت فيه الفتنة الممتدّة من عهد المعتمد إلى عهد المقتدر، وعانى فيه الإماميّة ما عانَوا من الجور والاضطهاد، أنّ للأُسرة النوبختيّة الشيعيّة دورها بما كانت تتمتّع به من نفوذ مطلق في بغداد يعود إلى منزلتها العلميّة والرسميّة، وهيبتها الشخصيّة وما كانت تمتلكه من عقارات وثروات. فتطلّع إليها الشيعة وعقدوا عليها الأمل في الذبّ عنهم و ردّ مخالفيهم، وكان رئيس الأُسرة والموجّه للشيعة الإماميّة في فترة من فترات ذلك العصر المتكلّم الشاعر الأديب المعروف أبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ.

وقد أمضى أبو سهل القِسم الأعظم من حياته في تحصيل علم الكلام والاحتجاج على المخالفين ومناظرتهم، وكان فَطِناً واعياً، ومن الطبيعيّ أنّه لم يكن بوسعه في تلك الظروف المحفوفة بالأخطار أن يسكت، ولا يدافع عن مسألة الإمامة التي كان قد دوّن لها صورة تامّة وفقاً للأُصول المذهبيّة عند الإماميّة، ولا يُبرز العقيدة الصحيحة في الغيبة - وكان يراها حقّاً - في حين كان كلّ شخص يُبدي رأياً في الغَيبة ممّا يبعث على تشتّت الشيعة.

وبلغ الخلاف بين الشيعة في موضوع الإمامة والغَيبة يومئذٍ درجة أنّهم اختلفوا حتّى في عدد الأئمّة أيضاً. فذهبت طائفة منهم إلى أنّهم ثلاثة عشر استناداً إلى

____________________

١ - فرق الشيعة ٨٢، كمال الدين ٣٤.

١٣٨

حديث رواه سُلَيم بن قيس الهلاليّ(١) ، وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ومن وحي هذا الحديث عدّ أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب - وهو من المعاصرين لأبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في أيّام الغيبة الصغرى وسيأتي ذكره - زيدَ بنَ عليّ بن الحسين في الأئمّة(٢) ، وكان الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيّ المعروف يعتقد باثني عشر إماماً ويقول: إنّ الإمام الثاني عشر قد مات، ولن يظهر إمام، وانّ أمر الساعة قريب(٣) .

ونسب ابن النديم في الفهرست رأياً خاصّاً لأبي سهل في الغيبة لم يُسبَق إليه، وهو أنّه كان يقول: (أنا أقول: إنّ الإمام محمّد بن الحسن ولكنّه مات في الغيبة، وقام بالأمر في الغيبة ابنه، وكذلك فيما بعد من ولده إلى أن يُنفِذ اللهُ حكمَه في إظهاره)(١) .

ولعلّ نسبة هذا الرأي إلى أبي سهل بالشكل المذكور مثار شكّ وترديد؛ لأنّه لم يَرد في أي من كتب الشيعة. ويضاف إليه أنّ الشيخ الصدوق نقل في كتاب كمال الدّين مقطوعة في باب الإمامة عن كتاب التنبيه لأبي سهل، وهي تتّفق مع عقيدة علماء الإماميّة الاثني عشريّة في الغيبة(٢) ، بل يمكن القول: إنّ أبا سهل الذي كان ممّن شهد على ولادة الإمام الثاني عشر(٣) ورؤيته وغيبته، وممّن أيّد نيابةَ السفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ(٤) ، كان من أعظم العلماء الذين دافعوا عن مسألة الغيبة حسب عقيدة الإماميّة، ثمّ دوّنوها في كتبهم، وسار على خطاه مَن جاء بعده من علماء الطائفة، ولو صحّ ما نسبه إليه ابن النديم، وكان له مثل ذلك

____________________

١ - وهو راوٍ لأوّل كتاب شيعيّ، للاطّلاع على ترجمته، انظر: الفهرست ٢١٩، وكتب الرجال المعتبرة.

٢ - رجال النجاشيّ ٣٠٨.

٣ - Louiz Massignon, passion d`al-Hallady p. ١٥١.

٤ - الفهرست ١٧٦.

٥ - كمال الدين ٥٣-٥٥.

٦ - الغيبة للطوسيّ ١٧٥-١٧٦.

٧ - نفسه ٣٢٥.

١٣٩

الرأي في بادئ أمره، فإنّه تراجع عنه فيما بعد، وأقرّ بما يقرّ به جمهور الإماميّة ودافع عنه.

٥ - أبو سهل النوبختيّ والحسين بن منصور الحلاّج

نلحظ في أيّام الغيبة الصغرى - حيث كان الإماميّة ينتظرون نهاية الغيبة وظهور الإمام الغائب، وحيث كان زمام شؤونهم الدينيّة والدنيويّة بيد النوّاب الأربعة - أنّ الحسين بن منصور الحلاّج البيضاويّ الصوفيّ المعروف كان يبثّ آراءه وعقائده في المراكز المهمّة للشيعة، بخاصّة قمّ وبغداد، فأفلح في استقطاب عدد من الشيعة، ورجال البلاط الحاكم بعد سنين أمضاها في السفر والتبليغ والوعظ.

وكان في بداية أمره يزعم أنّه رسول الإمام الغائب ووكيله وبابه، كما ذكر ذلك مصنّفو الإماميّة؛ من هنا أوردوا اسمه في عداد مدّعي البابيّة(١) ، وعندما التقى برؤساء الإماميّة في قمّ، ودعاهم إلى قبول العنوان المذكور، أبدى رأيه في الأئمّة - كما تطرّقنا إلى ذلك سلفاً - فتبرّأ الشيعة في قمّ منه وطردوه من مدينتهم.

وكان ادّعاء الحلاّج البابيّة، وإبداء رأيه الخاصّ حول عدد الأئمّة، بمنزلة إعلان العداء السافر لآل نوبخت، ذلك أنّ أحدهم - وهو أبو القاسم الحسين بن روح - كان نائباً للإمام الغائب منذ سنة ٣٠٥هـ، وكان قبل ذلك من خاصّة النائب الثاني أبي جعفر محمّد بن عثمان، والشخص الآخر من هذه الأُسرة هو أبو سهل إسماعيل بن عليّ، وكان يعدّ رئيساً للإماميّة في بغداد عند تحرّك الحلاّج، كما كان له نفوذ بين الوزراء وكتّاب البلاط والعاملين في الأجهزة الحكوميّة، وكان راعياً للأُصول المذهبيّة الشيعيّة ومدافعاً عنها، ويضاف إلى ما كان عليه سياسيّاً

____________________

١ - الغيبة للطوسيّ ٢٦٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288