آل نوبخت

آل نوبخت13%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92050 / تحميل: 9528
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وَيَعْقُوبَ ) واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الأخوة وإنزاله منزلة الأب في الميراث عند فقده يقتضى جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) في استحقاقه الثلثين دون الأخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقيا ودل ذلك على أن إطلاق اسم الأب يتناول الجد فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث إذا لم يكن أب وهو مذهب أبى بكر الصديق في آخرين من الصحابة قال عثمان قضى أبو بكر أن الجد أب وأطلق اسم الأبوة عليه وهو قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعى بقول زيد بن ثابت في الجد أنه بمنزلة الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيعطى الثلث ولم ينقص منه شيئا وقال ابن أبى ليلى بقول على بن أبى طالب عليه السلام في الجد أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فيعطى السدس ولم ينقص منه شيئا وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي والحجاج للفرق المختلفين فيه إلا أن الحجاج بالآية فيه من وجهين أحدهما ظاهر تسمية الله تعالى إياه أبا والثاني احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد أب وكذلك أبو بكر الصديق لأنهما من أهل اللسان لا يخفى عليهما حكم الأسماء من طريق اللغة وإن كانا أطلقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة إذ كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول إن الله تعالى قد سمى العم أبا في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمه ولا يقوم مقام الأب وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ردوا على أبى يعنى العباس وهو عمه * قال أبو بكر ويعترض عليه من جهة أن الجد إنما سمى أبا على وجه المجاز لجواز انتفاء اسم الأب عنه لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك نفيا صحيحا وأسماء الحقائق لا تنتفى عن مسمياتها بحال ومن جهة أخرى أن الجد إنما سمى أبا بتقييد والإطلاق لا يتناوله فلا يصح الاحتجاج فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية ومن جهة أخرى أن الأب الأدنى في قوله تعالى( وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) مراد بالآية فلا جائز أن يراد به الجد لأنه مجاز ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ واحد* قال أبو بكر فأما دفع الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجد أبا من حيث سمى العم أبا في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب بحال فإنه مما لا يعتمد لأن إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه فإن خص العم بحكم

١٠١

دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد ويختلفان أيضا في المعنى من قبل أن الأب إنما سمى بهذا الإسم لأن الإبن منسوب إليه بالولاد وهذا المعنى موجود في الجد وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن بينه وبين الجد واسطة وهو الأب ولا واسطة بينه وبين الأب والعم ليست له هذه المنزلة إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد ألا ترى أن الجد وإن بعد في المعنى بمعنى من قرب في إطلاق الإسم وفي الحكم جميعا إذا لم يكن من هو أقرب منه فكان للجد هذا الضرب من الإختصاص فجائز أن يتناوله إطلاق اسم الأب ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقا ولا يعقل منه أيضا إلا بتقيد والجد مساو للأب في معنى الولاد فجائز أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حكمه عند فقده حكمه وأما من دفع ذلك من جهة أن تسمية الجد باسم الأب مجاز وأن الأب الأدنى مراد بالآية فغير جائز إرادة الجد به لانتفاء أن يكون اسم واحد مجازا حقيقة فغير واجب من قبل أنه جائز أن يقال إن المعنى الذي من أجله سمى الأب بهذا الإسم وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجد ولم يختلف المعنى الذي من أجله قد سمى كل واحد منهما فجاز إطلاق الإسم عليهما وإن كان أحدهما أخص به من الآخر كالأخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأب وأم ويكون الذي للأب والأم أولى بالميراث وسائر أحكام الأخوة من الذين للأب والاسم فيهما جميعا حقيقة وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر ألا ترى أن اسم النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة والإطلاق عند العرب يتناول النجم الذي هو الثريا يقول القائل منهم فعلت كذا وكذا والنجم على قمة الرأس يعنى الثريا ولا تعقل العرب بقولها طلع النجم عند الإطلاق غير الثريا وقد سموا هذا الإسم لسائر نجوم السماء على الحقيقة فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتج بما وصفنا أن يتناول الأب والجد على الحقيقة وإن اختص الأب به في بعض الأحوال ولا يكون في استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجاب كون لفظة واحدة حقيقة مجازا فإن قيل لو كان اسم الأب مختصا بالنسبة من طريق الولاد للحق الأم هذا الإسم لوجود الولاد فيها فكان الواجب أن تسمى الأم أبا وكانت الأم أولى بذلك من الأب والجد لوجود الولادة حقيقة منها قيل له لا يجب ذلك لأنهم قد خصوا الأم باسم دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان

١٠٢

الولد منسوبا إلى كل واحد منهما بالولاد وقد سمى الله تعالى الأم أبا حين جمعها مع الأب فقال تعالى( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) ومما يحتج لأبى بكر الصديق وللقائلين بقوله إن الجد يجتمع له الاستحقاق بالنسبة والتعصيب معا ألا ترى أنه لو تركا بنتا وجدا كان للبنت النصف وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب كما لو ترك بنتا وأبا يستحق بالنسبة والتعصيب معا في حال واحدة فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق الميراث دون الأخوة والأخوات ووجه آخر وهو أن الجد يستحق بالتعصيب من طريق الولاد فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نفى مشاركة الأخوة إذ كانت الأخوة إنما تستحقه بالتعصيب منفردا عن الولاد ووجه آخر في نفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وهو أن الجد يستحق السدس مع الابن كما يستحقه الأب معه فلما لم يستحق الأخوة مع الأب بهذه العلة وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد* فإن قيل الأم تستحق السدس* مع الإبن ولم ينتف بذلك توريث الأخوة معها* قيل له إنما نصف بهذه العلة لنفى الشركة بينه وبين الأخوة على وجه المقاسمة وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه سقط الميراث لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس وأما الأم فلا تقع بينها وبين الأخوة مقاسمة بحال ونفى القسمة لا ينفى ميراثهم ونفى مقاسمة الأخوة للجد إذا انفردوا يوجب إسقاط ميراثهم معه إذ كان من يورثهم معه إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه فلما سقطت المقاسمة ما وصفنا سقط ميراثهم معه إذ ليس فيه إلا قولان قول من يسقط معه ميراثهم رأسا وقول من يوجب المقاسمة فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا ثبت سقوط ميراثهم معه فإن قال قائل إن الجد يدلى بابنه وهو أبو الميت والأخ يدلى بأبيه فوجبت الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه لو صح هذا الإعتبار لما وجبت المقاسمة بين الجد والأخ بل كان الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي كمن ترك أبا وابنا للأب السدس والباقي للابن والوجه الآخر أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جد أب وعما أن يقاسمه العم لأن جد لأب يدلى بالجد الأدنى والعم أيضا يدلى به لأنه ابنه فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب مع وجود العلة التي وصفت دل ذلك على انتفاضها وفسادها ويلزمه أيضا على هذا الاعتلال أن ابن

١٠٣

الأخ يشارك الجد في الميراث لأنه يقول أن ابن ابن الأب والجد أب الأب ولو ترك أبا وابن ابن كان للأب السدس وما بقي لابن الإبن* قوله تعالى( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يدل على ثلاثة معان أحدها أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب الآباء ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وقال( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) وقد بين ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبى رمثة ورآه مع ابنه أهو ابنك فقال نعم قال أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بنى هاشم لا تأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم فأقول لا أغنى عنكم من الله شيا وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) قوله تعالى( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إخبار بكفاية الله تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أعدائه فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم فوجد مخبره على ما أخبر به وهو نحو قوله تعالى( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فعصمه منهم وحرسه من غوائلهم وكيدهم وهو دلالة على صحة نبوته إذ غير جائز اتفاق وجود مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلا وهو من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على حسب ما يخبرون بل أكثر أخبارهم كذب وزور يظهر بطلانه لسامعيه وإنما يتفق لهم ذلك في الشاذ النادر إن اتفق قوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) قال أبو بكر لم يختلف المسلمون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان فقال ابن عباس والبراء بن عازب كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبعة عشر شهرا وقال قتادة لستة عشر وروى عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر وعشرة أشهر ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة وقد نص الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حولها إليها بقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) الآية وقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقوله تعالى*( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) فهذه الآيات كلها

١٠٤

دالة على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يصلى إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها وهذا يبطل قول من يقول ليس في شريعة النبي ناسخ ولا منسوخ ثم اختلف في توجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان مخيرا في توجهه إليها وإلى غيرها فقال الربيع ابن أنس كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير وأى الوجهين كان فقد كان التوجه فرضا لمن يفعله لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضا ككفارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره وحدثنا جعفر بن محمد اليمان قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء فأنزل الله( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) الآية وذكر القصة فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ولأنه جائز أن يكون كان الفرض على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير وقد روى أن النفر الذين قصدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقالوا له فقال قد كنت على قبلة يعنى بيت المقدس لو ثبت عليها أجزك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم كانوا مخيرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس فإن قيل له جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة وجائز أن يكون قوله( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه أخبار بأنهم على قبلة غيرها وجائز أن يريد أول ما نسخ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة قال الله تعالى( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

١٠٥

اللهِ ) ثم أنزل الله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ) إلى قوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث شاءوا والثاني أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) وقوله تعالى( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ) قيل فيه أنه أراد بذكر السفهاء هاهنا اليهود وأنهم الذين عابوا تحويل القبلة وروى ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب وأرادوا به إنكار النسخ لأن قوما منهم لا يرون النسخ وقيل أنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك وإنما أرادوا فتنته فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين وقال الحسن لما حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركوا العرب يا محمد رغبت من ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا والله لترجعن إلى دينهم وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) وقيل أنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القبلتين فاحتج الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجه الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول والله تعالى يخص بذلك أى الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم ومن جهة أخرى أن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها تعالى وعظمها فلا وجه للتولى عنها فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها قال أبو بكر هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى إلى بيت المقدس

١٠٦

وليس في القرآن ذكر ذلك ثم نسخ بهذه الآية ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة* قال أبو بكر وقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ليس بمنسوخ عندنا بل هو مستعمل الحكم في المجتهد إذا صلّى إلى غير جهة الكعبة وفي الخائف وفي الصلاة على الراحلة وقد روى ابن عمر وعامر بن ربيعة أنها نزلت في المجتهد إذا تبين أنه صلّى إلى غير جهة الكعبة وعن ابن عمر أيضا أنه فيمن صلّى على راحلته ومتى أمكننا استعمال الآية من غير إيجاب نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخها وقد تكلمنا في هذه المسألة في الأصول بما يغنى ويكفى* وفي هذه الآية حكم آخر وهو ما روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى نحو البيت المقدس فنزلت( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فنادى منادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمرتم أن توجهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام فحولت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع وقد روى عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم رجل فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة وكان وجه الناس إلى الشام وروى إسرائيل عن أبى إسحاق عن البراء قال لما صرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة بعد نزول قوله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) مر رجل صلّى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفر من الأنصار وهم يصلون نحو بيت المقدس فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى إلى الكعبة فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم* قال أبو بكر وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدى أهل العلم قد تلقوه بالقبول فصار في حيز التواتر الموجب للعلم وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبنى وهو أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى الكعبة بالنداء في تحويل القبلة ومن جهة أخرى أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المنادى بالنداء وجه ولا فائدة* فإن قال قائل من أصلكم أن ما يثبت من طريق يوجب العلم لا يجوز قبول خبر الواحد في رفعه وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد* قيل له لأنهم لم يكونوا على يقين

١٠٧

من بقاء الحكم الأول بعد غيبتهم عن حضرته لتجويزهم ورود النسخ فكانوا في بقاء الحكم الأول على غالب الظن دون اليقين فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفعه* فإن قال قائل هلا* أجزتم للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة* قيل له هو مفارق لما ذكرت من قبل أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم مع وجود الماء والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها فنظير القبلة أن يؤمر المتيمم بالوضوء والبناء ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يجز البناء عليه ومن جهة أخرى أن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة بالماء والتراب بدل منه فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه كالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبنى فكذلك المتيمم ولم يكن أصل فرض المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة وإنما ذلك فرض لزمهم في الحال وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل ذلك فرض الستر وإنما هو فرض لزمها في الحال فأشبهت الأنصار حين علمت بتحويل القبلة وكذلك المجتهد فرضه التوجه إلى الجهة التي أداه إليها اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل من بدل إلى أصل الفرض وفي الآية حكم آخر وهو أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصفنا أصل في أن الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام أنه لا قضاء عليه فيما ترك لأن ذلك يلزم من طريق السمع وما لم يعلمه لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم الخبر وهو أصل في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا ينسخ شيء منها إذا فسخها من له الفسخ إلا من بعد علم الآخر بها وكذلك لا يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه ولذلك قالوا لا يجوز تصرف الوكيل قبل العلم بالقبلة بالوكالة والله أعلم بالصواب.

باب القول في صحة الإجماع

قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) قال أهل اللغة الوسط العدل وهو الذي بين المقصر والغالي وقيل هو الخيار والمعنى واحد لأن العدل هو الخيار* قال زهير :

١٠٨

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا طرقت إحدى الليالى بمعظم

وقوله تعالى( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) معناه كي تكونوا ولأن تكونوا كذلك وقيل في الشهداء أنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة كقوله تعالى( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) وقيل فيه أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم* وقيل لتكونوا حجة فيما* تشهدون كما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها* قال أبو بكر وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين أحدهما وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار وذلك يقتضى تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال والوجه الآخر قوله( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) بمعنى الحجة عليهم كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم كما جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا على من كان في عصره هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهد وهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها أول الأمة وآخرها في كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة عليهم كذلك أهل كل عصر لما كانوا شهداء الله من

١٠٩

طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا عن مدلوله ويستحيل وجود النسخ بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ فدل ذلك على أن الإجماع في أى حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول* فإن قال قائل لما قال( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة* قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) هو خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله تعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وقوله( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ) ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى جميعها من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده قال الله تعالى( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) وقال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا وأنه لم يكن رحمة لكافتها فإن قال قائل لما قال الله تعالى( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قيل له لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر

١١٠

تعالى بأنهم شهداء على الناس فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم لعلمنا أن المراد أهل كل عصر لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الإسم وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل إن يوجد آخر القوم فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر وأيضا فإنما قال الله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة وهذا يقتضى أهل كل عصر إذ كان قوله جعلناكم خطابا للجميع والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين ألا ترى إلى قوله( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ ) وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الإنفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسمو أمة وإن كان الإسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه لا يعتد به في الإجماع وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع من نحو الخوارج والروافض وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الإعتقاد لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.

باب استقبال القبلة

قال الله تعالى( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قيل أن التقلب هو التحول وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان يقلب وجهه في السماء لأنه كان وعد بالتحويل إلى الكعبة فكان منتظرا لنزول الوحى به وكان يسأل الله ذلك فأذن الله تعالى له فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسئلون الله بعد الإذن لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء* وقد قيل فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أن يحوله الله تعالى إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم ويروى ذلك عن مجاهد وقال ابن عباس أحب ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام

١١١

وقيل أنه أحب ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان وهو معنى قوله( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) وقوله( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فإن أهل اللغة قد قالوا إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أى جعلته نصفين ويقولون في مثل لهم أحلب حلبا لك شطره أى نصفه والثاني نحوه وتلقاؤه ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام* واتفق المسلمون لو أنه صلى إلى جانب منه أجزأه وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه لأنه متوجه شطره ونحوه وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت* وقوله تعالى( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها وقال تعالى( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم يكلفها فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولى على ظنه ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها* قوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) الوجهة قيل فيها قبلة روى ذلك عن مجاهد وقال الحسن طريقة وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام وروى عن ابن عباس ومجاهد والسدى لأهل كل ملة من اليهود والنصارى وجهة وقال الحسن لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) قال قتادة هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة وقيل فيه لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن

١١٢

يمينها أو عن شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها وقد روى أن عبد الله بن عمر كان جالسا بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) قال هذه القبلة فمن الناس من يظن عنى الميزاب وليس كذلك لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) وقوله تعالى( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالى( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) يدل على أن الذي كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها* وقوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) يعنى والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضى الوجوب* قوله تعالى( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير جنسه وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال بعضهم هو استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة وهو كقوله تعالى( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ ) معناه لكن اتباع الظن* قال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

معناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب وقيل فيه أنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل وقال أبو عبيدة إلا هاهنا بمعنى الواو وكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة قال الفراء لا تجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر :

١١٣

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان

كأنه قال بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان وقال قطرب معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا وأنكر هذا بعض النجاة.

باب وجوب ذكر الله تعالى

قوله تعالى( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى وذكرنا إياه على وجوه وقد روى فيه أقاويل عن السلف قيل فيه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وقيل فيه اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة وقيل اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب وقيل فيه اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة واللفظ محتمل لهذه المعاني وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه* فإن قيل لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله* تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة* قيل له ليس كذلك لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر والأخوة تتناول الأخوة المتفرقين وكذلك الشركة ونحوها وإن وقع على معان مختلفة فإن الوجه الذي سمى به الجميع معنى واحد وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته والطاعة تارة بالذكر باللسان وتارة بالعمل بالجوارح وتارة باعتقاد القلب وتارة بالفكر في دلائله وحججه وتارة في عظمته وتارة بدعائه ومسألته جاز إرادة الجميع بلفظ واحد كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهى فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته وهذا أفضل الذكر وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين والطمأنينة به تكون قال الله تعالى( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) يعنى والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته وكلما ازددت فيها فكرا ازددت طمأنينة وسكونا وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته وقد

١١٤

روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى) حدثنا ابن قانع قال حدثنا عبد الملك بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد عن محمد عن عبد الرحمن عن سعد بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (خير الذكر الخفى وخير الرزق ما يكفى) قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) عقيب قوله( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) يدل على أن الصبر وفعل الصلاة لطف في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته وهو مثل قوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ثم عقبه بقوله( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) والله أعلم أن ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكر في دلائله أكبر من فعل الصلاة وإنما هو معونة ولطف في التمسك بهذا الذكر وإدامته* قوله تعالى( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) فيه اخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة لأنه لو كان هذا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله( وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) أخبار بفقد علمنا بحياتهم بعد الموت ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعمون فيها جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فليعذبوا وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر* فإن قيل لما كان المؤمنون كلهم منعمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في* سبيل الله* قيل له جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفا لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد مرور الأزمان عليهم قيل له الناس في هذا على قولين* منهم من يجعل الإنسان هو* الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة* ومنهم من يقول إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه ثم يفنيه الله تعالى كما يفنى سائر الخلق قبل يوم القيامة ثم يحيه يوم القيامة للحشر وقد حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد

١١٥

ابن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن يحيى بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده) قوله تعالى( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ـ إلى قوله تعالى ـوَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) روى عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة* قال أبو بكر جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أحدهما ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود والثاني ما يتعجلون به من ثواب توطن النفس قوله تعالى( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) يعنى والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد وقوله تعالى( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) يعنى إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح إذ كانت أفعاله كلها حكمة ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به إذ لا يقضى إلا بالحق كما قال تعالى( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) وقال عبد الله بن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن* وقوله تعالى( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازى الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين* ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) يعنى الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى كقوله في آية أخرى( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ومنها ما هو من فعل الله تعالى فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم* وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم* وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى

١١٦

بأن يفقرهم بتلف أموالهم* وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو* وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم* وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوانح التي تصيب الأموال والثمار* ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل* فأما الصبرا على ما كان من فعل الله فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم* وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين لأن الله تعالى لا يبتلى أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ولو كان الله تعالى يبتلى بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك* وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفى الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال أبو بكر وقد اشتملت هذه الآية على حكمين فرض ونفل فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها وأما النفل فإظهار القول بإنا الله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ومنها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن دواد الطائي قال الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب.

١١٧

باب السعى بين الصفا والمروة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) روى عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال قرأت عند عائشة رضى الله تعالى عنها( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) فقلت لا أبالى أن لا أفعل قالت بئسما قلت يا ابن أختى قد طاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية فطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت سنة قال فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا العلم ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون إنما سأل عن هذا الرجال الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة فأحسبها نزلت في الفريقين وروى عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) قال كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل فأنزل الله تعالى( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) قال أبو بكر كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبد الرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة وقد كان عليهما الأصنام فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين وقد اختلف في السعى بينهما فروى هشام بن عروة عن أبيه وأيوب عن ابن أبى مليكة جميعا عن عائشة قالت ما أتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرئ حجة ولا عمرة ما لم يطف بين الصفا والمروة وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس أن السعى بينهما سنة وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وروى عاصم الأحول عن أنس قال كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية والطواف بينهما تطوع وروى عن عطاء عن ابن الزبير قال من شاء لم يطف بين الصفا والمروة وروى عن عطاء ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أصحابنا والثوري ومالك أنه واجب في الحج والعمرة وتركه يجزى عنه الدم وقال الشافعى لا يجزى عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف قال أبو بكر هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزى عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمى الجمار وطواف الصدر والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام

١١٨

في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزدلفة فقلت يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلّى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه فهذا القول منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفى كون السعى بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما أخباره بتمام حجته وليس فيه السعى بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم* فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع* كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضى ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة* فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روى عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضى ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب الله لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعنى أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (خذوا عنى مناسككم) وذلك أمر يقتضى إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعى بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبى موسى قال قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينها وهذا أمر يقتضى الإيجاب وقد روى فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبى عيينة عن موسى ابن أبى عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة(يقول كتب عليكم السعى فاسعوا) فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبى رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبى تجزءة قالت دخلت دار أبى حسين ومعى نسوة من قريش والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه (اسعوا فإن الله تعالى قد كتب عليكم السعى)

١١٩

فذكر في هذا الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو في الطواف فظاهر ذلك يقتضى أن يكون مراده السعى في الطواف وهو الرمل والطواف نفسه لأن المشي يسمى سعيا قال الله تعالى( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) وليس المراد إسراع المشي وإنما هو المصير إليه والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعى بينهما إذ جائز أن يكون مراد الطواف بالبيت والرمل فيه وهو سعى لأنه إسراع المشي وأيضا فإن ظاهره يقتضى جواز أى سعى كان وهو إذا رمل فقد سعى ووجوب التكرار لا دلالة عليه فالأخبار الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعى لأنه سنة لا ينبغي تركها ولا دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعى بعد الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر فإن قيل طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له ليس كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء وإذا طاف فقد حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء وليس لبقاء السعى تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمى وطواف الصدر فإن قال قائل فإن الشافعى يقول إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له قد اتفق الصدر الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق فقال قائلون هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت وقال عمر بن الخطاب هو محرم من النساء والطيب وقال ابن عمر وغيره هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من النساء بالطواف بالبيت دون السعى بين الصفا والمروة وأيضا فإن السعى بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعى عليه وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي فدل على أنه من توابع الحج والعمرة فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف وهما من فروض الحج* قيل له لم نقل أن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع فيلزمنا ما ذكرت وإنما قلنا ما لا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٣١٢هـ. وعندما أقال المقتدر العبّاسيّ أبا القاسم عبد الله بن أبي عليّ محمّد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقانيّ من الوزارة سنة ٣١٣هـ، وعيّن مكانه أبا العبّاس أحمد بن عبيد الله الخصيبيّ يوم الخميس، الحادي عشر من شهر رمضان تلك السنة، صادر الوزيرُ الجديد ممتلكاتِ الوزير السابق وممتلكات عمّاله وكتّابه، ومنهم أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي سُجن وحُكم عليه بدفع غرامة(١) .

ثمّ عزل المقتدرُ الخصيبيَّ عن الوزارة في الحادي عشر من ذي القعدة سنة ٣١٤هـ، وعيّن مكانه أبا الحسن عليّ بن عيسى الجرّاح مرّة أُخرى، ونصب أبا القاسم عبد الله بن محمّد الكلواذانيّ نائباً له.

وفي حوار دار بين الخصيبيّ وعليّ بن عيسى حول الشؤون الماليّة في بداية الوزارة الثانية لعليّ بن عيسى طلب الوزير الجديد من الخصيبيّ الأموال التي كانت قد صودرت في أيّام وزارته، فقال الخصيبيّ إنّ نسخة ممّا كتبه الأشخاص المصادرة أموالهم، والذين تكفّلوا بدفع الغرامة اللاّزمة إنّما هي عند هشام بن عبد الله متصدّي ديوان المصادرين. فدفع هشام قائمة بأسماء العمّال والكتّاب الذين تكفّلوا غرامةٍ - وكانوا قد أودعوا تعهّداً خطّيّاً في هذا المجال - إلى عليّ بن عيسى. ومن هؤلاء العمّال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي كان مسؤولاً عن أموال النهروانات(٢) قبل الوزارة الثانية لعليّ بن عيسى، وكان في ذمّته مال كثير على ما أفاده تقرير هشام بن عبد الله، ولم يدفع إلاّ مبلغاً ضئيلاً منذ تعيين عليّ بن عيسى وزيراً إلى أن جاء الوزير الجديد من الشام إلى العراق(٣) .

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ١٤٤.

٢ - النهروانات هي النهروان الأعلى، والنهروان الأوسط، والنهروان الأسفل وكانت واقعة شرق السواد على ضفاف دجلة بين بغداد وواسط.

٣ - تاريخ الوزراء للصابي ٣١٢.

٢٢١

يستبين من هذا الكلام أنّ إسحاق بن إسماعيل، بعد أن كان سجيناً في عهد الخصيبيّ - أي: في رمضان سنة ٢١٣هـ - وصودرت أمواله، تولّى مسؤوليّة أموال النهروانات، وظلّ في منصبه حتّى أواخر وزارته التي لم تَدُم أكثر من أربعة عشر شهراً.

وحدثت جفوة بين المقتدر وخادمه وصاحب شرطته مؤنس المظفّر سنة ٣١٥هـ. وكان مؤنس قد نُصب والياً على الروم، وامتنع عن المثول أمام المقتدر لتوديعه بسبب الجفوة المذكورة. والتفّ حوله عسكر السلطان العبّاسيّ وجميع قادته وحواشيه وغلمانه فاضطرّ المقتدر إلى استعطافه، بَيْد أنّ جماعة من عسكره ظلّوا على تمرّدهم. ومن أسباب ذلك أنّ عليّ بن عيسى كان قد أحال دفع نفقاته ونفقات بطانته إلى أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، لكنّه لم يدفعها إليهم. ولا حَقَ عليُّ بن عيسى إسحاقَِ بن إسماعيل وقبض عليه فسجنه هو وكاتبه أحمد بن يحيى جلخت وجماعة من أصحابه. ثمّ عزله بعد أن أخذ منه تعهّداً بدفع ٥٠٠٠٠ دينار من المال الذي كان في ذمّته(١) ، وكان يومئذٍ على مال واسط. وفي يوم الثلاثاء الخامس عشر من ربيع الأوّل سنة ٣١٦هـ عزل المقتدرُ عليَّ بن عيسى، ونصب مكانه الكاتب الحَسَن الخطّ والأديب البليغ المعروف أبا علي محمّد بن عليّ بن مُقلة الذي لم يتجاوز الرابعة والأربعين منم عمره آنذاك. وأمره - كخطوة أُولى - أن يردع مسؤولي الدواوين عن المطالبة بالمصادرات والغرامات، وأن يُعيد عدداً من العاملين إلى مناصبهم التي كانوا قد فُصلوا منها. ومن هؤلاء أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ الذي كان عليّ بن عيسى قد عزله، فأقرّه على أموال واسط(٢) .

ومنذ هذا التاريخ حتّى ٣٢٠هـ التي نُصب فيها القاهر العبّاسيّ حاكماً،

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ١٦٠.

٢ - صلة تاريخ الطبريّ لعريب بن سعد القرطبيّ ١٣٦.

٢٢٢

لا نمتلك معلومات حول سيرة إسحاق بن إسماعيل غير أنّ الذي تفيده القرائن هن أنّ حكومته كانت تسير نحو التقدّم تدريجاً، إلى أن قُتِل المقتدر فأصبح مِن بَعده من ذوي النفوذ والاقتدار في البلاط.

وبعد قتل المقتدر في ٢٨ شوّال سنة ٣٢٠هـ أراد مؤنس المظفّر وسائر رجال البلاط أن ينصبوا أحداً مكانه. وكان رأي مؤنس أن يخلفه ولده أبو العبّاس أحمد، بَيد أنّ إسحاق بن إسماعيل لم يوافقه على ذلك ولم يستحسن الرجوع إلى ما كانوا عليه بعد أن تخلّصوا من شرّ المقتدر الذي كانت له أمّ وخالة وخدم كثيرون على حدّ تعبيره. وذكر أنّ عليهم أن يختاروا من يدبّر حاله وحالهم. وأصرّ على ذلك حتّى أقنع مؤنساً بالعدول عن أبي العبّاس أحمد، واختيار أبي منصور محمّد نجل المعتضد بعد إضفاء لقب (القاهر) عليه(١) .

استهلّ القاهر عمله بمصادرة ممتلكات المقتدر وأُمّه. وأجبر أُمّه على تسليم أموالها جميعاً للديوان، وأوكل أبا الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ في بيعها. فامتنعت من ذلك وقالت: إنّه كان قد وقف هذه الأموال على الكعبة والأمصار الإسلاميّة والضعفاء والمساكين، فلا يحقّ للقاهر أن يسلبها صفة الوقف. أمّا أملاكي فإنّي أضعها تحت تصرّف عليّ بن عبّاس النوبختيّ لبيعها. وشهد القاضي عمر بن محمّد وغيره برفع الوقفيّة عن تلك الأملاك بحضور القاهر. وأوكل القاضي عليّ بن عبّاس النوبختيّ ببيعها. كما خوّل أبا طالب النوبختيّ، وأبا الفرج أحمد بن يحيى جلخت، وأبا يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ ببيع العقارات التي كانت قد صودرت من أُمّ المقتدر ببغداد(٢) .

وعندما تقلّد القاهر الأمر، استوزر أبا عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة الذي كان في

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٢، وسائر كتب التاريخ في وقائع سنة ٣٢٠هـ.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٥.

٢٢٣

مهمّة ببلدة فارس. وأشار عليه مؤنس أن يُنيب عنه أبا القاسم الكلواذانيّ ريثما يصل إلى بغداد.

وصل أبو عليّ قادماً من شيراز في العاشر من ذي القعدة سنة ٣٢٠هـ، وتسلّم مقاليد الوزارة. وتغيّر على الكلواذانيّ لبعض الأسباب فأوقفه وصادر أمواله. وقبض على جماعة من الكتّاب والعمّال، أحدهم إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، وأوكل أمرهم جميعاً إلى أبي عبد الله محمّد بن خلف النيرمانيّ الذي كان من عمّاله الحاذقين ليطالبهم بالأموال التي كانت في ذمّتهم، فخاف إسحاق بن إسماعيل ومن معه على أنفسهم لاشتهار محمّد بن خلف بالغلظة والشدّة، ففكّروا في الخلاص منه.

لجأ إسحاق النوبختيّ إلى أبي جعفر محمّد بن شيرزاد الذي كان من العاملين في الديوان ومن أصدقائه القدماء فتحدّث أبو جعفر مع ابن مقلة بشأنه. فقال ابن مقلة إنّه مضطرّ إلى إبقائه في السجن؛ لأنّه كان قد قصّر في أداء مالٍ كان عليه أن يدفعه إلى هارون بن غريب(١) في عهد المقتدر، وذكر أنّه لا يطلقه لئلاّ يفعل ما فعله سابقاً. ثمّ سيّر مع أبي جعفر حاجباً من حجّاب الوزارة وبعث بهما إلى إسحاق. ومذ وقعت عين إسحاق على الحاجب، صاح وأخذ بتلابيب أبي جعفر، وطلب منه أن يذهب إلى مؤنس وأن لا يتركه حتّى يخلّصه من مخالب ذلك المجنون، أي: محمّد بن خلف النيرمانيّ. فذهب أبو جعفر إلى مؤنس وألحّ عليه إلحاحاً شديداً، فأرسل أحد رجال البلاط إلى أبي عليّ بن مقلة ليطلق إسحاق، أو ينقذه من محمّد بن خلف ثمّ يشخصه إليه. فلم يَرَ أبو عليّ بُدّاً من أن يستجيب لطلب مؤنس، ويهتمّ بموضوع إسحاق. واستطاع أبو عبد الله البريديّ خلال ذلك أن يخلّص نفسه وإخوته من قبضة محمّد بن خلف، وأن ينقذ إسحاق بن إسماعيل من محنته

____________________

١ - ابن خال المقتدر وأحد أمرائه.

٢٢٤

أيضاً، فخرج الجميع من سجنهم في يوم واحد(١) . وبعد مضيّ مدّة استدعى ابنُ مقلة إسحاق، وأخذ منه تعهّداً خطّيّاً أن يدفع ٢٠٠٠ دينار إلى الديوان في كلّ شهرٍ. وعليه أن يعمل بتعهّده كما كان يفعل في عهد المقتدر. كما أخذ تعهّداً خطيّاً من أولاد البريديّ بدفع ٤٥٠٠ دينار(٢) .

لم تَدُم وزارة ابن مقلة في عهد القاهر أكثر من تسعة أشهر وثلاثة أيّام، إذ وزر من بعده أبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله بن وهب في غرّة شعبان سنة ٣٢١هـ. فاعتقل أبا جعفر محمّد بن شيرزاد الذي كان قد سعى في خلاص إسحاق من السجن، وكانت له منّة عليه، وطالبه بمال كثير. فهبّ إسحاق لإغاثة صديقه القديم أبي جعفر بن شيرزاد شكراً له على صنيعه، وتوسّط له عند أبي جعفر الوزير. فأنقذه من سجنه وأرسله إلى بيته بعد أن أودع تعهّداً خطّيّاً بخطّ ابن شيرزاد على أن يدفع ٢٠٠٠٠ دينار(٣) .

وكان لإسحاق النوبختيّ نفوذ كبير في عهد وزارة أبي جعفر محمّد بن القاسم وتأثير عظيم في قلب الوزير. يضاف إلى ذلك أنّه لمـّا كان متولّيّاً أمر أملاك واسط وحوالَي الفرات، وكان من أعيان بغداد وأصحاب الأملاك والثروة الطائلة فيها، فقد نافس كبار عصره - بما فيهم السلطان العبّاسيّ - في الثراء. من هنا كان يعدّ ملاذاً للمعزولين والمغضوب عليهم كغيره من بعض أفراد الأُسرة النوبختيّة في عصره، فكان يصلح بينهم وبين الوزير.

ومن أشهر الأُسر التي كانت ضالعة في شؤون الحكومة يومئذٍ وكان لها شأنها الكبير لكفاءتها وكياستها هي أُسرة البريديّ التي كانت تتولّى أمر أموال البصرة والأهواز منذ مدّة، بخاصّة أنّ كعبهم علا كثيراً في وزارات ابن مقلة؛ لأنّ أحدهم

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٦-٢٤٩.

٢ - نفسه ٥: ٢٥٣.

٣ - نفسه ٥: ٢٧٠.

٢٢٥

وهو أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن يعقوب بن إسحاق البريديّ كان قد سعى كثيرا في نصب ابن مقلة وزيراً للمقتدر سنة ٣١٦هـ على رغم عليّ بن عيسى. واستحصل منه أمراً بخراج الأهواز، وأمراً ببعض أعمالها الأُخرى لأخويه أبي يوسف يعقوب، وأبي الحسين عليّ، وذلك بعد إعطائه رشوةً مقدارها ٢٠٠٠٠ دينار. وكان أبو عبد الله المذكور متهوّراً مكّاراً داهيةً. وصودرت أمواله وأموال إخوته مرّتين عندما عُزل ابن مثلة من الوزارة خلال فترتين متواليتين. الأُولى في سنة ٣١٨هـ حين فرض عليه المقتدر الإقامة الجبريّة ببغداد، وطالب الإخوة الثلاثة بدفع ٤٠٠٠٠٠ دينار، وهدفه من ذلك أن يدفعوا مقداراً منه في الأقلّ، لكنّهم دفعوه كلّه وعادوا إلى مناصبهم. أمّا الثانية فكانت في سنة ٣٢١هـ بعد فرار ابن مقلة واستتاره في عصر القاهر ولمّا اختفى ابن مقلة خوفاً من القاهر، أخفى البريديّون أنفسهم أيضاً. وولّى أبو جعفر محمّد بن القاسم أحد أصدقائهم على الأهواز والبصرة. وتوسّط إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ بينهم وبين الوزير وأخذ منه الأمان فخرجوا من مخبئهم. ثمّ حثّ الوزير على أن يتحدّث مع السلطان العبّاسيّ بشأنهم ويُعلمه أنّ المصلحة تقتضي إرجاعهم إلى البصرة والأهواز. فقبل الوزير ذلك وتحدّث مع السلطان، ورغّب القاهر في تحصيل مالٍ أكثر من قِبَله فاستجاب القاهر ووعده بالعمل في أوانه.

واستشار السلطان أحد أطبّاء البلاط، فعزم على عزل أبي العبّاس الخصيبيّ من الوزارة، والقبض على أبي جعفر الوزير، وأولاد البريديّ، وإسحاق النوبختيّ. بَيْد أنّه قرّر في البداية أن يجبر الوزير على أخذ مَن كانوا قد تعهّدوا بدفع الأموال، لئلاّ تضيع الأموال التي كان الوزير قد وعد بأخذها، وذلك بدعوتهم إلى داره، وإذا ما نُفِّذت الخطَّة فإنّه يحبس الوزير.

أرسل القاهر أحد خدمه إلى دار أبي جعفر الوزير ليقبض على أولاد البريديّ وإسحاق النوبختيّ الذين كان يظنّ أنّهم فيها. وكان أولاد البريديّ على علمٍ بهذا

٢٢٦

الأمر بواسطة جواسيسهم فاختبأوا قبل وصول مبعوث القاهر. وذهب الخادم إلى دار إسحاق فطفق يفتّشها بحجّة أنّ القاهر قد أُخبر بوجود عدد من الجواري المغنيّات والعازفات على العود فيها(١) . وأمره أن يركب معه ويتوجّه إلى السلطان. وبعد أن علم إسحاق بالأمر، وكان لا يظنّ أنّ الهدف من ذلك إيذاؤه شخصيّاً، أمر جواريه أن لا يَحُلْن دون الخادم في طلب العازفات، ويَدَعْنَه ينجز مهمّته. ثمّ توجّه إلى دار الوزير، فجاء الخادم إليها مباشرة، وقبض عليه وأودعه السجن.

وأرسل السلطان العبّاسيّ مأمورين آخرين لتفتيش دور أولاد البريديّ وإسحاق النوبختيّ. ففتّشوا دور إسحاق في االنوبختيّة وضفاف دجلة، فاستسلم حرمه وأولاده، وقُبض على كاتبه أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفيّ، وكلّف القاهر عليَّ بن عيسى بتولّي أعمال واسط والأراضي التي تُروى من الفرات، بدل إسحاق النوبختيّ(٢) .

إنّ أبا يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ بنصبه القاهر وإجباره مؤنساً على ذلك، إنّما كان يسعى في دمه. ذلك أنّه لقي حتفه على يد القاهر الناكر للجميل بعد سنتين؛ إذ قتله شرّ قتلة وجحد حقّ نعمة من له فضل عظيم عليه. وكان أبو منصور محمّد القاهر - قبل تقلّده الأمر - يريد أن يشتري جارية تسمّى (رتبة) كانت معروفة بجمالها وحسن غنائها. لكنّ إسحاق النوبختيّ غلاّ في ثمنها واشتراها، فاستاء أبو منصور محمّد من هذا العمل وأضمر له حقداً. وكان قد حدث مثل ذلك بين القاهر وأبي السرايا نصر بن حمدان.

قرّر القاهر أن يقتل أبا السرايا، وإسحاق النوبختيّ سنة ٣٢٢هـ وجاء نفسه

____________________

١ - مع أنّ القاهر كان يعاقر الخمرة ويسمع الأغاني ويعاشر الجواري العازفات لكنّه حرّم الخمر والنّبيذ سنة ٣٢١هـ. وقبض على المغنّين رجالاً ونساءً، ونفاهم.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٧٠-٢٧١.

٢٢٧

ووقف على البئر التي أراد أن يلقي فيها هذين المسكينين. فجيء بإسحاق مصفّداً وأُلقي فيه حيّاً. ثمّ أُحضر أبو السرايا، ولمّا أرادوا إلقاءه، تضرّع كثيراً فلم ينفعه. فتعلّق بسعفة نخلة كانت قريبة من البئر فراراً من الموت، فبادر الجلاوزة إلى قطع يده فوقع في البئر. ثمّ طُمّت البئر بالتراب إلى حافّتها، وخُتمت حياة إسحاق الذي كان من أعيان عصره ومن رجالات الأُسرة النوبختيّة بهذا النحو المروِّع. وأشعر هذا العمل عامّة الذين كانوا قد سَعَوا في نصب القاهر سلطاناً أنّهم ارتكبوا خطأً كبيراً. وفي آخر المطاف أُطيح بالقاهر نتيجةً لهذه الممارسات الشنيعة، ونُصب مكانه أبو العبّاس أحمد نجل المقتدر في جمادى الأُولى سنة ٣٢٢هـ بعد إضفاء لقب (الراضي بالله) عليه.

وليس بأيدينا معلومات عن نجل أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل - وهو أبو الفضل يعقوب - إلاّ عن طريق المدائح التي أنشدها البُحتريّ بحقّه. ولمّا كان تاريخها قبل سنة ٢٨٢هـ التي توفّي فيها البُحتريّ، ولم يَرد ذكره في التواريخ، فمن المحتمل أنّه توفّي يومئذٍ ولم يدرك عهد اقتدار أبيه. ونقرأ في ديوان البُحتريّ مديحتين لهذا الشاعر بحقّ أبي الفضل يعقوب. نقلنا قسماً من إحداهما في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، أمّا الثانية فقد أنشدها الشاعر أيّام بؤس يعقوب، منها هذان البيتان:

تَفديك أنفُسُنا اللاتي نضُنُّ بها

مِن مؤلماتِ الذي تشكو وأوصابِهْ

لستَ العليلَ الذي عُدناهُ تكرِمَةً

بل العليلُ الذي أصبحتَ تُكْنى بِه(١)

____________________

١ - ديوان البحتريّ ١٩٢. إشارة إلى أبي الفضل، وهي كنية يعقوب بن إسحاق.

٢٢٨

الفصل العاشر

أبو الحسين عليّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)

ونجله أبو عبد الله حسين (وفاته في سنة ٣٢٦هـ)

أبو الحسين عليّ بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت من فرع آخر من السلالة النوبختيّة. يتّصل نسبه ونسب أولاد المتكلّم المعروف أبي سهل إسماعيل بن عليّ وأعمامه بأبي سهل بن نوبخت؛ إذ تفيد المعلومات الواصلة إلينا أنّ اثنين من أولاد أبي سهل بن نوبخت الكثيرين - وهما إسماعيل وإسحاق - كانت لهما أُسرتان وجيهتان. فإسحاق والد عليّ بن إسحاق وجدّ أبي سهل إسماعيل، وأخيه أبي جعفر محمّد لأبيهما، وجدّ أبي محمّد الحسن بن موسى لأُمّه. وكان لأخيه إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت ولدان: أحدهما عبّاس، وهو والد أبي الحسين عليّ المترجَم له في هذا الفصل، والجدّ الأعلى لأبي الحسن موسى بن حسن بن محمّد بن عبّاس المعروف بابن كبرياء الذي سنشير على سيرته في الفصل الثالث عشر، والآخر إسحاق والد يعقوب، وعليّ والحسن الذين تقدّم ذكرهم في الفصل الماضي.

كان أبو الحسين عليّ بن عبّاس من كبار الكتّاب والأعيان والشعراء في بغداد،

٢٢٩

ومن الكرماء الذين يرعون الأدب، وقد عاصر أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ، وكانت تربطهما علاقة واحدة؛ إذ كان والد أبي الحسين عليّ، وهو عبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت، ووالد أبي سهل إسماعيل، وهو عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت يعدّان ابني عمّ. وكان أبو الحسين عليّ ينظر بعين الاحترام إلى أبي سهل إسماعيل الذي كان عميد الأُسرة النوبختيّة ورئيس الإماميّة في عهده، وقال في مدحه شعراً.

وكان أبو الحسين عليّ تلميذاً في الشعر والأدب لاثنين من كبار شعراء العرب، هما البُحتريّ، وابن الروميّ. وهذان كانا من خاصّة آل نوبخت، ومدّاحيهم، وأغذياء نعيمهم. وجمع أبو الحسين قسماً من أخبارهما وأشعارهما في حياتهما ونقلها إلى الآخرين بالرواية(١) .

ذكره ابن النديم في مصافِّ الشعراء الكتّاب وقال إنّ دفتر شعره كان يبلغ مائتي ورقة(٢) . وذهب الذهبيّ وأبو بكر محمّد بن يحيى الصوليّ (المتوفّى ٣٣٥ أو ٣٣٦هـ) صاحب كتاب الأوراق وتلميذ أبي سهل إسماعيل بن عليّ - الذي كان من معاصريه وكان يعيش معه في مدينة واحدة - إلى أنّ شعره كان سلساً فصيحاً(٣) .

نقل ياقوت الأبيات الآتية من شعره في حقّ أبي سهل إسماعيل بن عليّ عندما كان أبو سهل قد شرب دواءً.

يا محييَ العارفات والكَرَم

وقاتلَ الحادثاتِ والعدمِ

كيف رأيتَ الدواءَ أعقبكَ اللهُ

شفاءً به من السّقمِ

لئن تخطّت إليكَ نائبةٌ

حَطّت بقلبيَ ثقلاً من الألمِ

____________________

١ - معجم الأُدباء ٥: ٢٢٩؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ f. ٣٦ a (مخطوطة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢ - الفهرست ١٦٨.

٣ - تاريخ الإسلام f. ٣٦ a؛ كتاب الأوراق f. ١٠٣ a (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢٣٠

شَرِبتَ فيها الدواءَ مُرتجياً

دفعَ أذىً من عِظامكَ العِظَمِ

والدهرُ لا بدَّ مُحدِثٌ طَبِعاً

في صفحَتَي كلِّ صارمٍ خَذِمِ(١)

ونقل أبو إسحاق الحصريّ القيروانيّ في زهر الآداب الأبيات الآتية له:

إنْ يخدِم القَلَمَ السَّيفُ الذي خَضِعَت

له الرّقابُ ودانَت خوفَهُ الأُمَمُ

فالموتُ والموتُ لا شيءٌ يغالِبُهُ

مَا زالَ يَتبَعُ مَا يجري بِهِ القَلَمُ

بذا قضى اللهُ للأقلام مُذ بُرِيَت

إنّ السُّيوفَ لها مُذ أُرهِفَت خَدَمُ

وقال الشاعر المشهور أبو الطيّب أحمد بن الحسين المتنبّي (٣٠٣-٣٠٥هـ) معارضاً مضمون ما ورد في شعر أبي الحسين النوبختيّ. ومضمون شعره في الحقيقة هو مقلوب مضمون شعر أبي الحسين:

مازِلتُ أُضْحِكُ إبلي كلّما نَظَرتْ

إلى مَن اختضبت أخفافُها بِدَمِ

أسيرُها بين أصنامٍ أُشاهِدُها

ولا أُشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصَّنَمِ

حتّى رجعتُ وأقلامي قوائل لي:

المجدُ للسيفِ، ليس المجدُ للقلمِ

اكتُبْ بنا أبداً بعد الكتابِ بهِ

فإنّما نحن للأسيافِ كالخدم(٢)

وقد وَهِم بعض الرواة في نقل أبيات أبي الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ باسم أبي الحسن عليّ بن عبّاس بن الروميّ. وهذا الوهم ناتج عن تشابه اسميهما واسمَي أبويهما(٣) . كما أنّ كنيتيهما تتماثلان أيضاً. ولعلّ هذه النقطة من الأسباب التي أدّت إلى اختلاف المؤلّفين في كنية عليّ بن عبّاس، إذ ذكر بعضهم أنّه

____________________

١- معجم الأُدباء ٥: ٣٢٩.

٢- من قصيدة مطلعها:

حتّام نحن نُساري النجم في الظُّلَمِ

وما سراهُ على خُفٍّ ولا قدمِ

انظر ديوان المتنبي، طبعة الشيخ ناصيف اليازجي ٥٣٦-٥٤٠ في مرثية أبي شجاع فاتك (المتوفّى سنة ٣٥٠).

٣- زهر الآداب ٢: ١٢٧.

٢٣١

أبو الحسين، وذكر بعض آخر أنّه أبو الحسن. ونحن نرجّح كنية أبي الحسين للأسباب التي سنذكرها.

وما نعرفه عن الحياة الإدارية لأبي الحسين النوبختيّ هو أنّه لمّا عاد المقتدر العبّاسيّ إلى العرش مرّة أُخرى سنة ٣١٧هـ واستوزر أبا عليّ بن مقلة، وكانت الأموال لا تكفي لدفع رواتب العسكر، فقد وكلّ عليّ بن عبّاس النوبختيّ في بيع بُرودٍ كانت في الخزانة، وبيع بعض الأملاك العائدة له(١) . وعندما أراد القاهر العبّاسيّ - كما قلنا سابقاً - أن يعرض أملاك السيّدة أمّ المقتدر للبيع سنة ٣٢٠هـ أجبرها أن توكّل علي بن عبّاس النوبختيّ في بيعها(٢) .

ذكر الصوليّ أنّ عليّ بن عبّاس النوبختيّ توفّي في سنة ٣٢٤هـ وعمره يناهز الثمانين. بَيد أنّ الذهبيّ الذي نقل لفظ ياقوت نفسه في معجم الأُدباء ذكر أنّه مات سنة ٣٢٧هـ (ذكر السنة بالحروف) في حين جاء في النسخة المطبوعة من معجم الأدباء أنّه مات سنة ٣٢٩ (ذكر السنة بالأرقام). ويبدو أنّ الاختلاف بين رواية الذهبيّ، وما جاء في معجم الأدباء المطبوع نابع من أُسلوب الناشر غير المقبول في استبدال الحروف بالأرقام، لذلك نلحظ أخطاء كثيرة وردت في معجم الأدباء المطبوع لهذا السبب. على أيّ حال يترجّح قول الصوليّ الذي كان من معاصري عليّ بن عبّاس النوبختيّ ومعاشريه على أقوال غيره في تاريخ وفاة النوبختيّ؛ ولهذا اخترناه. وذكر ياقوت أيضاً أنّ كنية عليّ بن عبّاس أبو الحسن (لو ركنّا إلى صحّة النسخة المطبوعة) غير أنّ ابن النديم ذكر أنّ كنيته أبو الحسين. وقوله أقرب إلى الصواب؛ لأنّ عليّ بن عبّاس كان له ولد يُدعى أبا عبد الله حسين، وعصر ابن النديم كان قريباً من عصره.

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٠٠.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٢٤٥، وص٢٢٣ من هذا الكتاب.

٢٣٢

آل نوبخت والبُحتريّ

كان أبو عُبادة الوليد بن عبيد البُحتريّ الشاعر الكبير (٢٠٦-٢٨٣هـ) - كما أشرنا مراراً - كأبي نواس، وابن الروميّ - ممّن مدح آل نوبخت، وكان من خاصّتهم ومعاشريهم. ومن الذين مدحهم: أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل، وأبو الفضل يعقوب بن إسحاق بن إسماعيل. وكان بين آل نوبخت من اهتمّ بجمع أشعاره وأخباره. وأكثر من اعتنى منهم بذلك أبو الحسين عليّ وابنه أبو عبد الله حسين كما يبدو. وكان أبو الحسين عليّ يقرأ الأدب والشعر في شبابه على البُحتريّ وابن الروميّ. ولمّا كان نفسه ذا قريحة شعريّة متعلّقاً بالأدب والشعر فقد كان يجمع أخبارهما وأشعارهما. ونقل أبو الفرج الأصفهانيّ في الأغاني حكاية حول البُحتريّ كان عليّ بن عبّاس النوبختيّ قد نقلها إلى عمّه(١) . وأورد أبو إسحاق القيروانيّ حكاية أُخرى في هذا الباب، في كتاب زهر الآداب. وهي في الحقيقة درس صغير علّمه البُحتريّ أبا الحسين عليّ بن عبّاس في الأدب عندما دار الحديث حول مقطوعة مشهورة لأبي نواس.

روى الصوليّ أنّ أبا نواس مرّ ذات يومٍ بالمدائن ومعه عدد من أصحابه، فنزلوا بساباط (بلاش آباد)، ودخلوا مكاناً طيّباً من إيوان كسرى، فشاهدوا آثار جماعة كانوا قد اجتمعوا هناك. ومكثوا خمسة أيّام أمضَوها في شرب الخمر. ثمّ طلبوا من أبي نواس أن ينشدهم في وصف ما شاهدوا فقال:

ودارِ نَدامى عَظّلوها وأدلَجوا

بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارِسُ

مَساحِبُ مَنْ جَرِّ الزقاقِ على الثّرى

وأضغافُ رَيحانٍ جَنِيٌّ ويابُ

ولَمْ أرَ منهم غير ما شهدت به

بِشَرقيِّ ساباطَ الدّيارُ البَسابِسُ

حبستُ بها صحبي فجمّعتُ شملَهُم

وإنّي على أمثال تِلكَ لَحَابسُ

أقَمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً

ويوماً له يوم التّرحُّلِ خامِسُ

____________________

١ - الأغاني ١٨: ١٦٩.

٢٣٣

تُدارُ علينا الرّاحُ في عَسجديّةٍ

حَبَتْها بأنواعِ التصاويرِ فارسُ

قرارتُها كِسرى، وفي جَنباتِها

مَهاً تَدَّريها بالقِسيِّ الفَوارسُ

فلِلرّاحِ ما زُرَّتْ عليها خُيوبُها

وللماءِ ما دارت عليها القوانِسُ(١)

يقول عليّ بن عبّاس النوبختيّ: (قال لي البُحتريّ: أتعلم من أين أخذ أبو نواس مضمون البيت الثالث؟ قلت له: لا قال: من بيت أبي خراش:

ولم أدرِ مَنْ ألقى عليه رداءهُ

سِوى أنّه قد سُلَّ عن ماجدٍ محضِ(٢)

قلتُ: يختلف هذا عن ذلك. قال: (طريقة الكلام واحدة وإن اختلف المعنى)(٣) .

ونقل الخطيب البغداديّ أيضاً مقطوعة شعريّة تدور حول أخبار البُحتريّ عبر عدد من الوسائط، عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ(٤) .

آل نوبخت وابن الروميّ

كان الشاعر الشيعيّ المعروف أبو الحسن عليّ بن العبّاس بن الروميّ من المتربّين عند آل نوبخت ومن مادحيهم، وكان أكثر تعامله مع أبي سهل إسماعيل بن عليّ وأخيه أبي جعفر محمّد الكاتب، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل، ونجله أبي الفضل. وقد ذكرنا سابقاً مدحه لهم.

____________________

١ - عُدّ شعره هذا آية على ميل الشاعر إلى إيران والآداب الفارسيّة (أخبار أبي نواس ١: ٣٨-٣٩). وكان الجاحظ يقول ما مضمونه: لم يسبق أحد أبا نواس في إيراد هذا المضمون وتقدّمُه في هذا المعنى ثابت. (زهر الآداب ٣: ١٥٨).

٢ - أبو خِراش خويلد بن مرّة الهُذَليّ من شعراء صدر الإسلام توفّي في عهد الخليفة الثاني (الشعر والشعراء ٤١٨). وهذا البيت من قصيدةٍ له في رثاء أخيه عروة، وهي موجودة كاملةً في زهر الآداب للقيروانيّ ٣: ١٥٩؛ وشرح ديوان الحماسة لأبي تمّام ٢: ١٤٣-١٤٥. وبعض أبياتها موجود في كتاب الشعر والشعراء وديوان الحماسة للبُحتريّ ٢٥٦.

٣ - تاريخ بغداد ١٣: ٤٤٧.

٤ - زهر الآداب ٣: ١٥٨.

٢٣٤

وتلمذ أبو الحسين عليّ بن عبّاس النوبختيّ لابن الروميّ أيضاً؛ لذلك نقل قسماً من أخباره وأشعاره لمعاصريه.

وذكر ابن الروميّ في مدائحه لآل نوبخت عطاياهم وفواضلهم وهباتهم مراراً، منها أنّه خاطب أبا جعفر محمّد بن عليّ عند التماس الكسائيّ له:

عجائبُ هذا الدهرِ عندي كثيرةٌ

فيابنَ عليٍّ لا تَزِدْني عَجَائبا

عَلَينا بنُعماكُم مِن اللهِ أنعُمٌ

فلا تَجعلوها بالجفاءِ مَصائبا(١)

ووصف نفسه في قصيدة أُخرى أنّه خادم آل نوبخت، وسمّى أبا جعفر محمّد بن عليّ المُنعِمَ عليه في الغيبة والحضور(٢) . مع هذا من العجب أن يستنتج ماسينيون من كلام ورد في مروج الذهب - ونقلنا فقرة منه في ترجمة أبي سهل إسماعيل سابقاً - أنّ أبا سهل كان متّهماً بِسَمِّ ابن الروميّ(٣) . وننقل فيما يأتي كلام المسعوديّ نصّاً لدحض هذه التهمة الواهية:

قال، بعد أن ذكر وفاة أبي الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المكتفي العبّاسيّ الذي كان سفّاكاً عظيم الهيبة، وبعد أن نقل قتل عبد الواحد بن الموفّق على يده، ونسبة سمّ ابن الروميّ إلى الوزير المذكور:

(ولابن الروميّ أخبار حِسانٌ مع القاسم بن عبيد الله وأبي الحسن عليّ بن سليمان الأخفش النحويّ، وأبي إسحاق الزجّاج النحويّ. وكان ابن الروميّ الأغلب عليه من الأخلاط السوداء، وكان شَرِهاً نَهماً وله أخبارٌ تدلّ على ما ذكرناه من هذه الجمل مع أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ وغيره من آل نوبخت)(٤) .

إنّ هذا الكلام لا يُشعِر أبداً أنّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ كان ضالعاً

____________________

١ - ديوان ابن الروميّ ١٨٢ طبعة كامل الكيلانيّ.

٢ - نفسه ١٩٣.

٣ - passion s,al-Halladj, p. ١٤٧, note.

٤ - مروج الذهب ٧: ٢٣٣ (طبعة أجنبيّة).

٢٣٥

في سمّ ابن الروميّ أو أنّه كان متّهماً بذلك. يضاف إليه أنّ قصّة ابن الروميّ، والقاسم بن عبيد الله مِنَ القصص المشهورة في التاريخ. ولم يَرد في أيّ كتاب أنّ أبا سهل النوبختيّ كان له أدنى دورٍ في قتل ابن الروميّ، أو كان متّهماً بذلك في الأقلّ.

أبو عبد الله الحسين بن عليّ (نجل أبي الحسين عليّ بن عبّاس)

المتوفّى سنة ٣٢٦هـ

كان أبو عبد الله الحسين بن عليّ نجل أبي الحسين عليّ بن عبّاس المذكور من الكتّاب وعمّال الدواوين أيضاً. أصبح ذا شخصيّة مهمّة في السنين الخمس أو الستّ الأخيرة من عمره، وصار من رجالات الطراز الأوّل في بغداد ونائباً للوزراء فيها أيّام الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح الذي كان يومئذٍ ذا نفوذ واقتدار بالغ.

إنّ ما نعرفه عن أبي عبد الله الحسين النوبختيّ يعود إلى السنين الخمس أو الستّ الأخيرة من عمره، في حين يستبين من القرائن أنّه كان في عداد الكتّاب في بعض الولايات قبل هذا التاريخ أيضاً، بخاصّة أنّه كان ينوب عن الأُمراء والشخصيّات التي كانت تتولّى الأعمال الديوانيّة المهمّة في تلك الأرجاء بتكليفٍ من دار الحكومة، كما كان يعمل تحت إشراف أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ. وقبل مقتل هارون بن غريب ابن خال المقتدر العبّاسيّ كان يدير أعمال واسط و(صلح) و(مبارك) نيابة عنه، أي: قبل سنة ٣٢٢هـ. وهذه الأعمال هي التي كانت مِن قبلُ في عهدة أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ، وبعد القبض عليه قلّدها القاهر أبا الحسن عليّ بن عيسى سنة ٣٢١هـ.

عندما تقلّد الراضي بالله الأمرَ سنة ٣٢٢هـ تعهّد أبو يوسف يعقوب البريديّ بالأعمال المذكورة، وأبقى أبا عبد الله الحسين بن عليّ الذي كان يديرها سابقاً من

٢٣٦

قبل هارون بن غريب، نيابة عنه في واسط(١) .

ولا ندري كم ظلّ الحسين بن عليّ النوبختيّ في خدمة أبي يوسف البريديّ، بَيد أنّ ما نعرفه هو أنّه أصبح من خاصّة كتّاب أبي بكر محمّد بن رائق سنة ٣٢٣هـ. وانبرى لمخاصمة آل البريديّ، وحصل على منزلة رفيعة ونفوذ فائق لدى ابن رائق.

وكان أبو بكر محمّد وأخوه أبو إسحاق إبراهيم ولدا رائق غلامَي المعتضد العبّاسيّ. وعندما استعاد المقتدر قدرته سنة ٣١٧هـ ولاّهما على شرطة بغداد فأبليا بلاءً حسناً وبقياً في منصبهما حتّى سنة ٣١٨هـ.

ثمّ استعملهما سنة ٣١٩هـ على البصرة وإدارة أعمالها. ولكن لم تمض فترة قصيرة حتى أجبر مؤنسُ المظفّرُ المقتدرَ على إخراج ياقوت وابنه محمّد، فخرجا من بغداد يوم الأربعاء الثامن من رجب سنة ٣١٩هـ، واستحوذ مؤنس على المقتدر، واستدعى ولدَي رائق وجعلهما حاجبين للمقتدر فشكراه على ذلك. بَيد أنّ المقتدر عزلهما بعد مدّة، وأرجع ياقوتاً إلى منصبه.

توتّرت العلاقة بين مؤنس والمقتدر سنة ٣١٩هـ، وكانت بين محمّد بن ياقوت ومؤنس منافسة قديمة. وعندما عيّنه المقتدر على شرطة بغداد ومحتسبيها، وعيّن أباه ياقوتاً حاجباً، طلب مؤنس من المقتدر أن يعزلهما، فاستجاب المقتدر مضطرّاً وأعاد ابنَي رائق إلى الحجابة. وبعد فترة قصيرة تولّيا ضمان أعمال واسط من الديوان وآزرا المقتدر في الحرب التي انتهت بمقتله سنة ٣٢٠هـ.

وعندما قُتل المقتدر وفرّ أُمراء جيشه، هرب ولدا رائق مع هارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت نحو واسط. ثمّ استبدّ محمّد بن ياقوت وكاتبه أبو إسحاق محمّد بن أحمد القراريطيّ الإسكافيّ (٢٨١-٣٥٧هـ)، ولم يعاملا الرؤساء الآخرين

____________________

١ - تكملة تاريخ الطبريّ f. ٥٧ a (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٢٣٧

- بخاصّة ولدَي رائق - معاملة حسنة، ممّا أدّى إلى استياء سائر الأُمراء من محمّد بن ياقوت. واستغلّ أبو عبد الله البريديّ الخلاف القائم بين أُمراء جيش المقتدر سنة ٣٢١هـ وكانت له صداقة قديمة بأبي عليّ بن مقلة وزير السلطان العبّاسيّ الجديد القاهر بالله فاستمدّ الوزير على العُصاة فأمدّه، واستطاع أن يبدّد شملهم بالمكر والتدبير وذلك المَدَد. وخوّل ولدَي رائق حكومة البصرة ففصلهما عن محمّد بن ياقوت، واستسلم ابن ياقوت. وبعد فترة قصيرة أمر ابن مقلة بإطلاق أملاك ابن رائق التي كانت قد أُوقفت.

استولى ولدا رائق في الأيّام الأخيرة من حكومة القاهر على البصرة والأهواز تدريجاً، وعَظُمت شوكتهما فأخضعا جميع المناطق الواقعة في نطاق هاتين المدينتين لسلطتهما وبعثا بالرسل إلى شتّى المناطق.

ولمـّا تقلّد الراضي العبّاسيّ الأمر اختار أبا بكر محمّد بن رائق حاجباً له. فقدم هذا من الأهواز إلى واسط. وفوّض ابنُ مقلة حكومةَ الأهواز إلى أولاد البريديّ.

وتزامن دخول محمّد بن رائق إلى واسط مع هجوم أبي الحسن عليّ بن بويه الديلميّ عليها واحتلالها. فخرج ابن رائق منها ودخلها ابن بويه بعد هزيمة محمّد بن ياقوت (سنة ٣٢٢هـ).

وحينما صالح ابن بويه السلطان العبّاسيّ وعاد إلى فارس، تقلّد ابن رائق أعمال واسط والبصرة مرّة أُخرى كمعاون فيهما. وفي تلك البرهة ذاتها عيّن أبا عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ كاتباً له. وأوكل تدبير أُموره إلى ذلك الرجل الكفوء الذي جمع إلى فنّ الإنشاء وطهر الفطرة، كفاءة الإدارة والخبرة. ولكن لمّا ارتقى عمل ابن رائق تدريجاً بفضل تدبيره، فإنّ حسد الآخرين لكاتبه كان يتزايد على مرّ الأيّام. وأكثر مَن كان يسعى في هذا السبيل هو أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفيّ الكاتب السابق لأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ وربيب نعمته، الذي دخل - بعد قتل وليّ نعمته - في خدمة أبي إسحاق القراريطيّ كاتب محمّد بن

٢٣٨

ياقوت. ولمـّا حبس الوزير أبو عليّ بن مقلة أخا محمّد بن ياقوت بتدبيره سنة ٣٢٣هـ، صار أبو عبد الله الكوفيّ في خدمة أبي الحسين نجل الوزير، وأصبح من كتّابه.

وعندما توجّه أبو عليّ بن مقلة في هذه السنة إلى الموصل وخَلَف ولده أبا الحسين مكانه في بغداد، ظلّ أبو عبد الله الكوفيّ ملازماً له، بَيْد أنّه كان يفضّل الابتعاد عن البلاط والوزارة. وحين وصل كتاب أبي عبد الله البريديّ من الأهواز معرباً فيه عن تعذّر إرسال المال المقرّر إلى الديوان، ورأى أبو عبد الله الكوفيّ ملامح الغضب على وجه أبي الحسين الوزير، بالغ في تضخيم مضمون الكتاب في عينه وتطوّع للذهاب إلى الأهواز وجمع مال عظيم والإتيان به إلى بغداد. وكتب أبو الحسين كتاباً إلى أبي عبد الله البريديّ يذكر فيه رفض عذره ويُعلمه بمهمّة أبي عبد الله الكوفيّ. ثمّ ذهب الكوفيّ إلى الأهواز بعد إرسال الكتاب. ولمّا كان خائفاً من أبي عبد الله البريديّ، حاول أن يعبّر عن عدائه لخصومه كي يسلم منه. فطفق يعيب ابن مقلة وينتقص منه ويتحدّث عن اضطراب الوضع في بلاط السلطان العبّاسيّ. وممّا ذكره أنّ ابن مقلة بدّد موارد واسط والبصرة بعد تفويض أمرهما إلى محمّد بن رائق. وأعلمه أنّ المسؤول عن تخلخل الوضع، وتعاظم نفوذ ابن رائق هو كاتبه ومدبّر أُموره أبو عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ. فأحسن إليه أبو عبد الله البريديّ وحثّه على الإطاحة بأبي عبد الله النوبختيّ، بسبب العداء الدفين الذي كان بين أُسرته وبين النوبختيّ، وأبدى له استعداده لبذل المال مهما كان من أجل ذلك. ثمّ اتّخذه نديماً ومستشاراً له تنفيذاً لهذه الخطّة.

وأمضى سنةً كاملةً عنده معزّزاً محترماً، وكان همّه يومئذٍ التخلّص من ثلاث شخصيّات كان لها فضل كبير عليه. ولمـّا كان طموحاً محبّاً للجاه والسمعة فقد أعدّ العدة لإيذاء أبي عليّ بن مقلة، وابنه أبي الحسين، وأبي عبد الله النوبختيّ الذين كانوا من أكبر رجال الدولة آنذاك واستطاع أخيراً أن يقمعهم.

٢٣٩

أمّا محمّد بن رائق فقد كان نفوذه في واسط والبصرة يتعاظم على كرور الأيّام. ولمـّا توفّي أبو بكر محمّد بن ياقوت في حبسه، وكان منافساً قويّاً له، زاد طغيانه واستبداده حتّى جمع حوله جيشاً جرّاراً. ودعا سريّة من جنود مرداويج بن زيار - وكانت قد بقيت بلاد رئيس بعد قتله - ووعدها خيراً وأمّر عليها بَجْكم، وجعلها في خدمته. واستدعى بَجْكم عدداً آخر من أهل الديلم والترك إلى واسط بأمر ابن رائق، وأخضعهم لحكومته. فاستظهر ابن رائق بهم وأبى إرسال المال الذي كان في ذمّته إلى عاصمة الحكم العبّاسيّ سنة ٣٢٤هـ وأعلم السلطان العبّاسيّ بحاجته إلى المال ليصرفه على الجند.

اقترح أبو عليّ بن مقلة على السلطان العبّاسيّ أن يأذن له بالذهاب إلى واسط والبصرة على رأس جيش من أجل تطويع ابن رائق وأخذ المال منه، فوافق السلطان على ذلك. بَيد أنّه كان قد بعث إليه رسولين، وطلب منه أن يُرسل أبا عبد الله النوبختيّ إلى بغداد لمحاسبته. فأبى ابن رائق إرساله، لكنّه عطف إليه الرسولين بهبات أغدقها عليهما. وأعطاهما رسالة سرّيّة إلى السلطان مضمونها أنّ السلطان إذا استدعاه إلى بغداد فسيكفيه تدبير الأعمال عامّة، ويريح باله من نفقات الجيش وواجباته.

ولمـّا رأى ابن مقلة رفض ابن رائق مبعوثه، عزم على مواجهة السلطان؛ ليبعث رسولاً إلى ابن رائق، وللحؤول دون قلقه من تحرّك الوزير والجيش أخذ يطمئنه أنّ الوزير يريد التوجّه نحو الأهواز. وبينا هو عازم على الذهاب عند السلطان لأربع عشرة بقين لجمادى الأُولى سنة ٣٢٣هـ، قام مظفّر بن ياقوت أخو محمّد بن ياقوت - الذي كان يظنّ أنّ الوزير هو السبب في حبس أخيه وقتله - بالقبض عليه بمؤازرة قراولان حجريّة، وأرغم السلطان على عزله، فاستجاب الراضي العبّاسيّ الذي كان دُمية بيد أُمراء الجيش والعاملين في البلاط.

وفي تلك المعمعة قَتَل أبو عبد الله البريديّ - بحيلةٍ وتدبيرٍ ما - ياقوتاً أبا محمّد

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288