آل نوبخت

آل نوبخت13%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91930 / تحميل: 9518
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ومظفّر بعد هزيمته على يد عليّ بن بويه في خوزستان، وذلك في أوائل سنة ٣٢٤هـ، ونهب أمواله فحصل على ثروة طائلة، وطغا ثمّ امتنع هو وإخوته من إرسال مال الأهواز إلى الديوان كما امتنع ابن رائق من قبله.

وكانت أوضاع السلطة وأحوال الديوان يومئذٍ متدهورة تدهوراً شديداً؛ لعدم كفاءة الراضي العبّاسيّ من جهة - إذ كان أُلعوبة بيد الوزراء ورجال البلاط - ومن جهة أُخرى كانت مجموعتان من الحرس الخاصّ - هما الحجريّة، والساجيّة - تتدخّلان في الأُمور. وكان رؤساؤهما يتّخذون أتباعهما وسيلة لتنفيذ مآرب أحد الوجهاء المتنفّذين. ولم تكن للسلطان العبّاسيّ أيّ سلطة على أولئك الجنود المسلّحين، بخاصّة أنّ رواتبهم لم تصل إليهم بسبب سوء الإدارة وطمع عمّال الديوان، فكانوا يتمرّدون غالباً، ويسبّبون المتاعب للسلطان والوزراء.

عندما عزل السلطان ابن مقلة استوزر عبد الرحمن بن عيسى أخا عليّ بن عيسى. ولمّا وجد عبد الرحمن نفسه عاجزاً عن القيام بالأمر، ولم يكن في يده مالٌ، استقال. فخلفه أبو جعفر محمّد بن قاسم الكرخيّ. وفي عهده اشتدّت أزمة الإفلاس لامتناع ابن رائق من إرسال مال واسط والبصرة، واستنكاف أبي عبد الله البريديّ عن إرسال مال الأهواز، واستيلاء عليّ بن بويه على فارس. ثمّ اختفى الكرخيّ بعد مُضيّ ثلاثة أشهر ونصف على تخلخل الوضع، فاستوزر السلطان العبّاسيّ أبا القاسم سليمان بن حسن، الذي لم يستطع أيضاً أن يعمل عملاً مجدياً، فأرسل الراضي إلى محمّد بن رائق أن يأتيه من واسط حسب كتاب سرّيّ كان قد بعثه ابن رائق إليه في عهد ابن مقلة وادّعى فيه أنّه أهل للقيام بأعباء دار الخلافة وإيصال الرواتب، فاستجاب ابن رائق مسروراً، وأزمع الترحال صوب بغداد.

وكان السلطان العبّاسيّ قد أشخص أحد رؤساء الساجيّة إلى محمّد بن رائق لإطلاعه على أمر السلطان بتخويله قيادة الجيش والإمارة - وإدارة أعمال الخراج والضياع، وليكون المعاون في تلك المناطق مع منحه لقب أمير الأُمراء. ثمّ أرسل

٢٤١

إليه خلعةً ولباساً، وأسرع عامّة عمّال الديوان ورؤساء الساجيّة إلى واسط لتهنئته.

قبض ابن رائق في البداية على رؤساء الساجيّة جميعاً بإيعازٍ من كاتبه أبي عبد الله النوبختيّ، وصفّدهم. وقال للجنود الحجريّة: إنّما قمتُ بهذا العمل لتزاد نفقاتكم. ولمّا وصل هذا الخبر إلى بغداد، فرّ سائر ساجيّتها إلى الشام والموصل. وأباد ابن رائق من بقي منهم فتخلّص الناس من شرّهم.

فزع الحجريّة من هذا العمل، وجاؤوا إلى منزل السلطان وخيّموا قُربه. وبعث ابن رائق عدداً من أمراء جيشه إلى بغداد بادئ الأمر. ثمّ دخل دار الخلافة مع بَجْكم بإجلالٍ تامّ وذلك لعشر بقين من ذي الحجّة سنة ٣٢٤هـ.

وعندما دخل بغداد كان باستقباله وزير السلطان ورؤساء الحجريّة. وأوّل عملٍ قام به هو أنّه أجبر الحجريّة على رفع خيامهم من قرب قصر السّلطان، ثمّ أمسك بزمام الأُمور. ومنذ هذا التاريخ أُلغي عنوان الوزارة والدواوين، وأصبح الحلّ والعقد بيده. واستقرّ أبو عبد الله النوبختيّ في بغداد بعد ما قدم إليها في أوائل المحرّم سنة ٣٢٥هـ، وأُنيطت به مسؤوليّة الضرائب. أي: كان ابن رائق هو الخليفة في الحقيقة، وأبو عبد الله النوبختيّ هو الوزير، وكانا يعطيان السلطان ما يشاءان من المال، وليس لأحد عليهما من سلطان.

وحينما استولى ابن رائق على الحكومة، أخذ أمير الأُمراء وبَجْكم الأهواز من أبي عبد الله البريديّ. وترك هذا الرجل الماكر الطالب الجاه أخويه أبا يوسف وأبا الحسين في البصرة، وتوجّه تلقاء فارس عن طريق البحر لائذاً بالأمير أبي الحسن عليّ بن بويه مستمدّاً إيّاه لاسترجاع الأهواز وصدّ ابن رائق وبجكم. وأرغم ابن رائق السلطان العبّاسيّ في أوّل سنة ٣٢٥هـ أنّ يتحرّك معه إلى واسط، ويراسل البريديّ منها. فإذا أطاع أمر السلطان، وأذعن لما تطلبه منه العاصمة العبّاسيّة أرسل ما عنده، وإلاّ تحرّك السلطان نحوه. فتحرّك الراضي وعد من الحرس الحجريّة إلى واسط، بَيْد أنّ معظمهم كان يخاف على نفسه لما حلّ بالساجيّة من دَواءهٍ. ولم

٢٤٢

يحفل بهم ابن رائق في البداية ولم يصرّ على تحرّكهم، ممّا حداهم على التوجه إلى واسط تدريجاً. وعزم ابن رائق على قطع دابر فتنتهم باقتراح أبي عبد الله النوبختيّ، فقطع رواتب جماعة منهم، وطرد عدداً. لكنّهم لم يستسلموا بل تمرّدوا عليه، فشنّ عليهم حرباً في الخامس والعشرين من المحرّم وقتل جماعة كثيرة منهم، وهزم الباقين ففرّوا إلى بغداد. ثمّ قبض عليهم صاحب الشرطة فقتلهم، وهكذا تخلّصت الحكومة والناس من بلاء استيلائهم بيُسر.

إنّ الذي رفع ابن رائق إلى هذا المنصب الكبير، وجمع له تلك الثروة الطائلة، وأخمد فتنة الساجيّة والحجريّة هو كاتبه أبو عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ؛ إذ فوّض إليه ابن رائق عامّة الأعمال، ولم يَعصِ له أمراً. وأصبح أبو عبد الله مدبّراً لجميع مصالح ابن رائق منذ المحرّم سنة ٣٢٥هـ، حيث كانت بداية استقلال ابن رائق واستيلائه على بغداد وشؤون الحكومة وقد تسنّم أبو عبد الله النوبختيّ في الحقيقة منصب الوزارة منذ ذلك الحين(١) .

وافق أبو عبد الله البريديّ على اقتراحات السلطان العبّاسيّ وابن رائق في إرسال ما عنده من الضرائب، والتخلّي عن الجيش لمن يُعيّنه أمير الأُمراء. وأطلَع ابنُ رائق السلطانَ على مراسلات أبي عبد الله البريديّ واستشار أعوانه في هذا المجال. فقال أبو عبد الله النوبختيّ لابن رائق: إنّ أبا عبد الله البريديّ رجل مكّار ومحتال، ولا يوثق بكلامه. بَيْد أنّ أبا بكر بن مقاتل الذي كان من كتّاب النوبختيّ البارعين وكان ينحاز إلى أبي عبد الله البريديّ، حتّى أنّ ابن رائق والسلطان فوّضاها إليه ورجعا إلى بغداد. واستبان بعد مدّة قليلة أنّ الحقّ كان مع أبي عبد الله النوبختيّ؛ إذ أنّ أبا عبد الله البريديّ لم يرسل ديناراً واحداً إلى دار الحكومة، ولم يخوّل أمر

____________________

١ - كتاب الأورق للصوليّ f. ١٢١a, f. ١٥٠ a (نسخة المكتبة الوطنيّة ببارس)، تجارب الأُمم ٥: ٢٦٠.

٢٤٣

الجيش إلى مبعوث أمير الأُمراء، بل على العكس جمع حوله بقايا الحجريّة، وطفق يقدح في ابن رائق بالبصرة. وظلّ على ما كان عليه سابقاً من عصيان لأوامر العاصمة ماكراً متباطئاً. وأفضى الخلاف بينه وبين ابن رائق آخر المطاف إلى نشوب حرب بينهما سنة ٣٢٥هـ واستيلاء بَجْكم على الأهواز. وفي السنة التي تلتها أوفد عليّ بن بويه أخاه عماد الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه لمساعدة أبي عبد الله البريديّ، فاستعاد الأهواز من بَجْكم.

وهبّ أبو بكر بن مقاتل - الذي كان أبو عبد الله النوبختيّ قد أدخله في خدمة ابن رائق - لمخاصمة النوبختيّ بتحريض عَدَوَّيه أبي عبد الله البريديّ، وأبي عبد الله الكوفيّ. ودعا ابن رائق إلى اختيار أبي عبد الله البريديّ مكانه في الكتابة والوزارة، وذكر له فوائد هذا العمل وأخبره أنّ البريديّ أرسل إلى داره (٣٠٠٠٠) دينار هديةً إلى أمير الأُمراء. فلم يستجب ابن رائق الذي كان وفيّاً عارفاً للجميل وقال: لو فتح لي البريديّ ما فعلتُ؛ لأنّه رجل ناصح لي، وبفضله تيسّرت لي هذه الحكومة. فقال أبو بكر بن مقاتل: إذا لم يرضَ الأمير بهذا الاقتراح، فليجعل واسطاً والبصرة تحت تصرّف البريديّ. فأخبره ابن رائق أنّ هذا الأمر يعود إلى رأي أبي عبد الله النوبختيّ أيضاً. ولم يحقّق ابن مقاتل هدفه في هذه المرحلة أيضاً؛ ذلك أنّ أبا عبد الله الذي كان يومئذٍ مريضاً محموماً ومصاباً بالسعال لم يوافق على اقتراحه. وذكر لابن مقاتل شيئاً عن قبح أعمال البريديّ وكفران نعمته وغدره بياقوت، ولامه على اقتراحه وقال لابن رائق: إنْ بقيتُ حيّاً فلا سلطان للبريديّ عليك. وإن متُّ فسأطلب من الله تعالى أن يؤلّف بينكما أو يُريحك من حِيَله بسبب من الأسباب. فبكى ابن رائق ودعا الله تعالى أن يحفظ الوزير ويهلك البريديّ. ولمّا خرج النوبختيّ من المجلس، أخبر أبو بكر بن مقاتل ابن رائق أنّ البريديّ أرسل (٣٠٠٠٠) دينار هديّة، فلابدّ من الاهتمام بشأنه. ومن الأفضل أن نستدعي أبا عبد الله الكوفيّ

٢٤٤

ونتحدّث معه. فوافق ابن رائق على ذلك، وكتب أبو بكر إلى أبي عبد الله البريديّ يُعلمه بالموضوع، وقدم الكوفيّ إلى بغداد نيابةً عنه.

إنّ وصول أبي عبد الله الكوفيّ إلى بغداد، واعتلال أبي عبد الله النوبختيّ، وغفلة صهره وابن أخيه عليّ بن أحمد بن عليّ النوبختيّ(١) ، كلّ أولئك قد أنهى الأمر.

وأخيراً تحقّق هدف أبي عبد الله البريديّ، وأبي عبد الله الكوفيّ، وأبي بكر بن مقاتل؛ إذ لم يستطع أبو عبد الله النوبختيّ أن يباشر عمله مدّةً بسبب مرضه، فجعل صهره وابن أخيه عليّ بن أحمد النوبختيّ مكانه، فخدعه أبو عبد الله الكوفيّ وابن مقاتل، واستقطباه على جانبهما وِفْقَ خطّة كانا قد وضعاها من قبل. وقال ابن مقاتل لابن رائق يوماً: إذا أصرّ الأمير على حفظ العهد، فينبغي الالتفات إلى مصالح الأُمور أيضاً، وأبو عبد الله النوبختيّ يحتضر، والأُمور مضطربة. ولم يقبل ابن رائق كلامه استناداً إلى قول الطبيب. وقال ابن مقاتل: لمّا كان الطبيب يعلم بحبّ الأمير الشديد للنوبختيّ، لم يُرِد أن يكون مبشِّراً بخبر سيّئ. ومن المستحسن للأمير أن يتعرّف على حقيقة الموضوع من ابن أخِ أبي عبد الله النوبختيّ وصهره. علماً أنّه جعل عليّ بن أحمد معه نصيراً. وقد أقنعتُ الأمير أن يهبك وزارته بعد عزل أبي عبد الله النوبختيّ، فإذا سألك عن حاله، فأيِّسه، وتظاهر له بأنّ موته أمر محتوم. وضرب عليّ بن أحمد على رأسه ووجهه عند ابن رائق. وبكى عليه بشدّة، وقال: على الأمير أن يعدّه من الأموات. فتألّم ابن رائق لذلك كثيراً وقال: لو كان لأحد أن يُفدى من الموت بمالٍ لفديتُ مِلْكِي كلّه من أجل أبي عبد الله النوبختيّ. ثمّ خاطب ابن مقاتل، وطلب منه أن يجد له من يخلفه. فقال له ابن مقاتل: لا أجد أليق من أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفيّ لهذا المنصب؛ لأنّه رجل

____________________

١ - كان عليّ بن أحمد النوبختيّ من كتّاب بغداد سنة ٣٢٣هـ. وعندما حبس الوزير أبو عليّ بن مقلة أبا الحسن عليّ بن عيسى، كان عليّ بن أحمد النوبختيّ يراسل عليّ بن عيسى ويُطلعه على الوقائع (تجارب الأُمم ٥: ٣٢٤). وسنتحدّث عن هذا الرجل في الفصل الحادي عشر.

٢٤٥

نزيه وأمين، وهو كالحسين بن عليّ النوبختيّ من جميع الجهات، وهو ربيب أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختيّ كالحسين المذكور. فاستوزره ابن رائق وفوّض إليه تدبير جميع الأُمور التي كان يقوم بها النوبختيّ. وهكذا عُزل النوبختيّ من عمله بعد ثلاثة أشهر وثمانية أيّام مضت على وزارته، وأصبح زمام الأُمور بيد أعوان البريديّ، وأرسل عشرة آلاف دينار إلى أبي عبد الله الكوفيّ ابتهاجاً بهذا الفتح. ولمّا تماثل أبو عبد الله النوبختيّ للشفاء، حال المتصدّون للأعمال دون إخبار ابن رائق بذلك(١) .

إنّ ألم هذه الحوادث والخراب الذي حلّ ببغداد بعد استيلاء أبي عبد الله الكوفيّ وابن مقاتل، وحلّ بخوزستان والبصرة بعد استيلاء آل البريديّ قد أمضّ أبا عبد الله النوبختيّ. ولمّا رأى أنّ نظم الأُمور الذي تمّ بتدبيره قد أخذ بالتخلخل، ازداد شعوره بالخيبة والضعف حتّى مُني بالتدرّن(٢) ، ثمّ مات بسببه بعد سنةٍ، أي: سنة ٣٢٦هـ(٣) . وهكذا انطفأ سراج امرئ كان من أكثر الناس تدبيراً، وبفضله انتظمت أوضاع الحكومة وخمدت فتن كبرى.

ومن سوء الحظّ أنّنا لا نملك معلومات كافية عن الحياة العلميّة والأدبيّة لأبي عبد الله الحسين بن عليّ، بَيد أنّ الثابت هو أنّه كان من أُولي الأدب كسائر أفراد الأُسرة النوبختيّة الفاضلة، بخاصّة أنّه تربّى في بلاط أبيه الأديب أبي الحسين عليّ بن عبّاس، وقريبه المحبّ للشعر والشعراء أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل. وكان ولده أبو محمّد الحسن بن الحسين من أجلاّء علماء الإماميّة، وسنشير إلى ترجمته في الفصل الثالث عشر. والدليل على هذا الموضوع هو أنّ الخطيب البغداديّ روى عنه شيئاً من أخبار الشاعر البحتريّ بثلاث وسائط(٤) .

____________________

١ - تجارب الأُمم ٥: ٢٦٠-٢٦٣.

٢ - نفسه ٥: ٢٦٧.

٣ - تكملة تاريخ الطبريّ f. ٧٣ a (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

٤ - تاريخ بغداد ١٣: ٤٤٧.

٢٤٦

الفصل الحادي عشر

الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح

(وفاته في ١٨ شعبان سنة ٣٢٦هـ

يعدّ أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر أشهر أفراد الأُسرة النوبختيّة بعد أبي سهل إسماعيل بن عليّ. ويعود ذلك إلى منزلته الدينيّة الرفيعة عند الشيعة الإماميّة، ونيابته الخاصّة عن الإمام المهديعليه‌السلام .

يرى الشيعة الإماميّة أنّه النائب الثالث للإمامعليه‌السلام في عصر الغَيبة الصغرى؛ فقد اختير لهذا المقام بعد أبي عمرو عثمان بن سعيد العَمريّ، وولده أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العَمريّ.

روى علماء الأخبار الإماميّة أنّ ولادة الإمام أبي القاسم محمّد بن الحسن العسكريّ الملقّب بقائم آل محمد كانت في سنة ٢٥٦هـ. وبدأت الغيبة الصغرى بعد ولادته بأربع سنين، أي: في نسة ٢٦٠هـ(١) ، ودامت حتّى سنة ٣٢٩هـ، وهي السنة التي توفّي فيها النائب الرابع للإمامعليه‌السلام ، أي: أستغرقت تسعاً وستّين سنةً. ثمّ بدأت الغيبة الكبرى منذ ذلك الحين وما زالت.

____________________

١ - كتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ ١٦٧، ٢٧٥.

٢٤٧

إنّ النوّاب الأربعة الذين كان أوّلهم وكيلاً للإمام الهادي والعسكريّعليهما‌السلام وعُيّن مِن قِبلهما، وُعيِّن الثلاثة الآخرون مِن قِبل خلفهما كانوا هم الواسطة بين الإمامعليه‌السلام والشيعة منذ سنة ٢٥٦هـ التي وُلد فيها الإمام، وكان لهم عنوان السفارة، ومنصب النيابة الخاصّة للإمام. وكانوا يوصلون إليه طلبات الشيعة وحوائجهم وأسئلتهم، وهم يجيبونهم بإذن الإمام، وكانت الأجوبة تصدر إليهم على شكل تواقيع.

وفيما يأتي أسماء هؤلاء النوّاب الأربعة وعصر نيابتهم:

١ - أبو عمرو عثمان بن سعيد العَمريّ: اختاره لهذا المنصب الإمامُ أبو الحسن عليّ بن محمّد الهادي، والإمام أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكريّعليهما‌السلام .

٢- ولده أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمريّ.

ودامت نيابة الأب والابن من سنة ٢٦٠هـ إلى سنة ٣٠٤هـ أو جمادى الأُولى سنة ٣٠٥هـ(١) .

٣ - أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختيّ: (من سنة ٣٠٥هـ إلى شعبان سنة ٣٢٦هـ).

٤ - أبو الحسين عليّ بن محمّد السَّمَريّ: (من شعبان ٣٢٦ إلى شعبان ٣٢٩هـ).

وقد بحثت كثيراً في الكتب والمصادر المتوفّرة فلم أُفلح في العثور على العلاقة التي كانت تربط أبا القاسم الحسين بن روح بسائر أفراد الأُسرة النوبختيّة. ولم أعرف من ثمَّ نسبته إلى آل نوبخت، غير أنّ الذي يبدو هو أنّه كان من أقرباء أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ وزير ابن رائق، وسنذكر أنّه كان مسيطراً عليه تماماً.

____________________

١ - تاريخ وفاة أبي عمرو عثمان بن سعيد مجهول، من هنا لا نستطيع أن نحدّد بالضبط فترة نيابته. ولكن لمّا كان ولده الذي توفّي سنة ٣٠٤هـ في منصب النيابة قرابة خمسين سنةً، فقد كان نائباً للإمام بعد سنة ٢٦٠تقريباً. وكان أبو جعفر وكيلاً للإمام حتّى في أيّام أبيه. (رجال الكشيّ٣٣٠؛ وكتاب الغيبة للطوسيّ ٢٣٨).

٢٤٨

لا شكّ في نوبختيّة أبي القاسم الحسين بن روح؛ لأنّ عامّة أصحاب الرجال وعلماء الأخبار ذكروه بهذا اللقب. كما كان معاشراً لأفراد الأُسرة النوبختيّة وكبارها في عصره مثل أبي سهل إسماعيل بن عليّ، وأبي عبد الله الحسين بن عليّ وزير ابن رائق، يشاورهم ويشاورونه، يضاف إلى ذلك أنّه دُفن في مقابر النوبختيّة. وفي حياته كان عدد من بني نوبخت يُعَدّون من محارمه، كما كان بعضهم من كتّابه. وسيستبين هذا من المطالب التي سنذكرها فيما بعد.

ذكره المؤرّخون وعلماء الأخبار تارةً النوبختيّ(١) ، وتارةً الروحي(٢) ، وأُخرى الحسين بن روح بن بني نوبخت(٣) ، ورابعة القميّ(٤) . وذكر شمس الدين الذهبيّ نقلاً عن المؤرّخ الشيعيّ يحيى بن أبي طيّ (المتوفّى سنة ٦٣٠هـ) - نسبةً له يقرّ بأنّها قد كُتب في مخطوطة تاريخ يحيى بن أبي طيّ بخطٍّ غامض وسقيم؛ من هنا فإنّ ضبطها الصحيح مبهم، وهو (القيني؟) أو (القيي؟). ونحتمل أنّها (القمّيّ)، وهذا ما ذكره الكشّيّ في رجاله بعد اسم الحسين بن روح. ولعلّ ما يدعم كونه قمّيّاً معرفته باللغة الآبية، وهي لغة أهالي منطقة (آبه) إحدى المناطق القديمة التابعة لقم(٥) .

وإذا صحّت هذه النسبة فلابدّ أن يكون المترجَم له - من جهة الأب - من أسرةٍ لم تربطها علاقة قُربى بالأُسرة النوبختيّة التي كانت تعدّ من الأُسر البغداديّة، وإنّما جادت هذه النسبة بسبب مصاهرة أبيه للأسرة المذكورة، فكان نوبختيّاً من جهة الأُمّ كأبي محمّد الحسن بن موسى ابن أُخت أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ. على أيّ حال، سواءً كان الحسين بن روح من أهالي قمّ أم من مدينة أُخرى، فإنّه كان يرتبط بالأُسرة النوبختيّة من جهة الأمّ؛ إذ لم يُلحظ في فهرس أعضاء الأُسرة

____________________

١ - كتاب كتاب الغيبة للطوسيّ ٢٤٢؛ كتاب الأوراق للصوليّ f. ١٤٧ a؛ مناقب ابن شهرآشوب ٤٥٨.

٢ - الغيبة ٢٠٩ و٢٤١؛ كمال الدين ٢٧٥، ٢٧٦، ٢٨٦.

٣ - الاحتجاج ٢٤٥.

٤ - رجال الكشيّ ٣٤٥.

٥ - كمال الدين ٢٧٧؛ كتاب الغيبة للطوسيّ ٢٠٩-٢١٠.

٢٤٩

النوبختيّة اسم أبيه روح ولا اسم جدّه أبي بحر.

وكان من خاصّة أصحاب الإمام أبي محمّد الحسن العسكريّعليه‌السلام يُصطَلَح عليه بأنّه باب الإمام الحادي عشر(١) . وكان ينقل شيئاً من أخبار الأئمّة السابقين، وكان قد سمعها بالواسطة(٢) .

انتهت النيابة إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختيّ بعد وفاة النائب الثاني للإمامعليه‌السلام ، وهو أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمريّ الذي توفّي سنة ٣٠٤هـ، وعلى قولٍ، في أواخر جمادى الأُولى سنة ٣٠٥هـ. وتمّ نصبه - وكان له عنوان البابيّة منذ مدّة سابقة - مِن قِبل أبي جعفر العمريّ بحضور جماعة من وجوه الإماميّة كأبي عليّ محمّد بن همام الإسكافيّ(٣) ، وأبي عبد الله بن محمّد الكاتب، وأبي عبد الله الباقطانيّ، وأبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ، وأبي عبد الله بن عليّ الوجناء النصيبيّ(٤) .

كان الحسين بن روح كما ذكرنا من خواصّ أبي جعفر العمريّ ومعتمديه، ومن أصحاب الإمام الحادي عشرعليه‌السلام . وكان مكيناً عند أبي جعفر إلى درجة أنّ أبا القاسم الحسين بن روح كان - عند تقسيم رؤساء الإماميّة إلى طبقات - أوّل من يأذن

____________________

١ - مناقب ابن شهرآشوب ٤٥٨. (طبعة طهران).

٢ - نفسه ٤٦٠؛ الغيبة للطوسيّ ١٥٣. جاء في المناقب المطبوع ببومباي: الحسن بن روح.

٣ - أبو عليّ محمّد بن همام بن سهيل بن بيزان الإسكافيّ البغداديّ أحد شيوخ الإماميّة وكان أجداده من المجوس. ألّف كتاباً في تاريخ الأئمّة عنوانه الأنوار (وكان لمعاصره أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ كتاب في هذا الموضوع أيضاً كما رأينا). ذكر النجاشيّ أنّه ولد في يوم الاثنين ٦ ذي الحجّة ٢٥٨هـ وتوفّي في يوم الخميس ١٨ جمادى الآخرة سنة ٣٣٦هـ (رجال النّجاشيّ ٢٦٩). بيد أنّ الخطيب البغدادي وابن شهرآشوب ذكرا أنّه مات في جمادى الآخرة سنة ٣٣٢هـ (تاريخ بغداد ٣: ٣٦٥، ورجال الاسترآبادي ٣٤٨ نقلاً عن معالم العلماء لابن شهرآشوب). وسيأتي ذكر الإسكافيّ في هذا الفصل أيضاً.

٤ - الغيبة للطوسيّ ٢٤٢.

٢٥٠

له بالدخول عليه(١) .

تقول أمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ: (كان أبو القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) وكيلاً لأبي جعفر (رضي الله عنه) سنين كثيرة، ينظر له في أملاكه ويَلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة. وكان خصيصاً به حتّى أنّه كان يحدّثه بما يجري بينه وبين جواريه؛ لقربه منه وأُنسه. وكان يدفع إليه في كلّ شهر ثلاثين ديناراً رزقاً له، غير ما يصل إليه من الوزراء والرؤساء من الشيعة مثل آل فرات وغيرهم، لجاهه ولموضعه وجلالة محلّه عندهم. فحصل في أنفس الشيعة محصلاً جليلاً؛ لمعرفتهم باختصاص أبي إيّاه وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه وما كان يحتمله من هذا الأمر، فمهدت له الحال في طول حياة أبي إلى أن انتهت الوصيّة إليه بالنصّ عليه)(٢) .

وكان أبو جعفر العمريّ قد أمر الشيعة قبل موته بسنتين أن يسلّموا أموال الإمام وغيرها إلى الحسين بن روح، ولا يطالبوه بالقبوض. وكان يتوجّد إذا ماطل أحد أو امتنع من ذلك(٣) .

عندما توفّي أبو جعفر العمريّ وأوصى بنصب الحسين بن روح نائباً ثالثاً للإمام الغائبعليه‌السلام ، قَدِم ابنُ روح إلى دار النيابة في بغداد وجلس، فالتفّ حوله وجوه الشيعة وكبارها. وحضر ذكاء خادم أبي جعفر، وكان معه عُكّازة أبي جعفر ومفتاح صندوقه. وقال: أمرني أبو جعفر أن أُسلّم هذه الأشياء بعد موته إلى أبي القاسم. وفي هذا الصندوق خواتيم الأئمّة. وخرج الحسين بن روح في آخر ذلك اليوم من دار النيابة مع جماعة من الشيعة وذهبوا إلى بيت أبي جعفر محمّد بن عليّ

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ f.١٣٢ b.

٢ - الغيبة ٢٤٢، ٢٤٣.

٣ - نفسه ٢٣٩-٢٤٠، ٢٤١؛ كمال الدين ٢٧٥-٢٧٦.

٢٥١

الشلمغانيّ(١) . وأوّل توقيع صدر على يد الحسين بن روح كان في يوم الأحد ٢٤ شوّال سنة ٣٠٥هـ(٢) .

لم يعترض أحد على اختيار الحسين بن روح لنيابة الإمام مع وصيّة أبي جعفر العمريّ، ذلك أنّ أبا جعفر كان يعمل تحت إمرته قرابةُ عشرة من خواصّ الشيعة ينفّذون أوامره في بغداد. وكلّهم كانوا أخصّ به من الحسين بن روح؛ لذا قلّما كان يخال أحد أنّه يخلُف أبا جعفر(٣) . يضاف إلى ذلك أنّ رجالاً من عظماء الشيعة كانوا على درجة من الوجاهة والاحترام حتّى غلب الظنّ أنّهم للنيابة أجدر من الحسين بن روح. ومنهم العالم المتكلّم الكبير أبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ الذي سُئل عن سبب عدم نصبه مكان أبي القاسم الحسين بن روح، فقال: هم أعلم وما اختاروه. ولكن أنا رجل ألقَى الخصوم وأُناظرهم. ولو علمتُ بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجّة على مكانه لعلّي كنت أدلّ على مكانه، وأبو القاسم فلو كان الحجّة تحت ذيله وقُرِض بالمقاريض ما كشف الذيلَ عنه(٤) .

وممّن أنكر وكالة الحسين بن روح في البداية: أبو عبد الله الحسين بن عليّ الوَجْناء النصيبيّ الذي كان أحد رؤساء الإماميّة المشاركين في الاجتماع المعقود لتعيينه من قبل أبي جعفر العمريّ. ولكنّ محمّد بن فضل الموصليّ أحد شيوخ الشيعة ببغداد أتى به آخر الأمر إلى الحسين بن روح سنة ٣٠٧هـ، فأقرّ بصحّة وكالة الشيخ أبي القاسم النوبختيّ منذ ذلك التاريخ(٥) .

عاش الحسين بن روح في بغداد موفور الحُرمة منذ تعيينه نائباً إلى عهد وزارة حامد بن العبّاس (من جمادى الآخرة سنة ٣٠٦هـ إلى ربيع الآخر سنة ٣١١هـ).

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ f. ١٣٢ b.

٢ - الغيبة للطوسيّ ٢٤٣.

٣ - نفسه ٢٤٠.

٤ - نفسه ٢٠٥.

٥ - نفسه ٢٠٥-٢٠٦.

٢٥٢

وكان يتردّد عليه في منزله الأُمراء والأعيان والوزراء المعزولون. ولم يؤذِ وأصحابَه أحد، بخاصّة في عصر آل فرات الذين كانوا ينظرون إليه بعين الاحترام كما ذكرنا، وكانوا معدودين من أتباع المذهب الإماميّ. فعاش في عهدهم مكرّماً عندما وزروا للمقتدر العبّاسيّ، وشغلوا مناصب حكوميّة مهمّة أُخرى. وكان الشيعة يأتون إليه من مختلف الأنحاء بالأموال الملزمين بتسليمها إليه. ولكن ما إن أطاح حامد بن العبّاس وأنصاره بآل فرات، وسَجنَ الوزيرُ الجديد آل فرات وأقاربهم وصادر أموالهم، حتّى وقعت حوادث مرّة بينه وبين الحسين بن روح لم تصل إلينا تفاصيلها. ولا يخفى أنّ حياة النائب الثالث للإمام منذ ذلك التاريخ حتّى سنة ٣١٧هـ إنّما خروجه من السجن يكتنفها الغموض. ويمكن أن نستنبط من كلام المؤرّخين ثلاث ملاحظات فحسب تتعلّق بحياته، وهي كما يأتي:

١ - أُودع الحسين بن روح السجن سنة ٣١٢هـ بسبب المال الذي كان يطالبه به الديوان. ويتسنّى لنا أن نتبيّن التاريخ الذي بدأ به سجنه - أي: سنة ٣١٢هـ - عبر طريقين هما: الأوّل: تذكر أخبار الشيعة أنّه كان سجيناً أيّام المقتدر في ذي الحجّة سنة ٣١٢هـ(١) . الثاني: دام سجنه خمسَ سنين. ولمّا كان قد أُطلق من السجن في المحرّم سنة ٣١٧هـ(٢) ، فإنّ حبسه خمس سنين مِن قبلُ يقارن سنة ٣١٢هـ.

٢ - استخفَى الحسين بن روح مدّة، وقد نصب أبا جعفر محمّد بن عليّ الشلمغانيّ المعروف بابن العزاقر نائباً عنه، فكان واسطة وسفيراً بينه وبين الشيعة(٣) . ولا جَرَمَ أنّ الاستخفاء المذكور كان قبل سجنه؛ لأنّ الشلمغانيّ كان على جادّة الاستقامة قبل هذا التاريخ ولم يخالف مذهب الإماميّة في ادّعائه النبوّة والألوهيّة بَعدُ. وكان أوّل انحرافه سنة ٣١٢هـ، وفي ذي الحجّة من هذه السنة

____________________

١ - الغيبة للطوسيّ ٢٠٠.

٢ - تاريخ الإسلام f. ١٣٣ a؛ صلة عريب ١٤١.

٣ - الغيبة ١٩٦.

٢٥٣

صدر التوقيع من الحسين بن روح - وهو في السجن - بلعنه(١) .

٣ - كانت للمقتدر العبّاسيّ يدٌ في سجن الحسين بن روح؛ لأنّ المقتدر عندما سُجن في ١٥ محرّم الحرام سنة ٣١٧هـ من قبل جند مؤنس المظفّر وأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وخُلع من السلطة، فإنّ مؤنساً أطلق عدداً من السجناء الذين كانوا في حبس المقتدر، منهم الحسين بن روح الذي أرجعه مؤنس إلى داره. وعندما ذُكر الحسين بن روح عند المقتدر، قال: دعوهُ فبخطيّته جرى علينا ما جرى(٢) . بَيد أنّنا لا نعلم على وجه الدقّة دور الحسين بن روح في محنة المقتدر، وقصد المقتدر من كلامه المذكور.

ونحتمل بعامّة أنّ أعداء الحسين بن روح - كما أشار الذهبيّ - اتّهموه بعلاقة له بالقرامطة الذين كانوا يومئذ مسيطرين على سواحل الخليج الفارسيّ والحجاز، وكانوا سبباً في فزع أهالي بغداد ورعبهم؛ إذ نقل المؤرّخ المذكور أنّ ابن روح كان قد رُمي بأنّه يكاتب القرامطة ليقدموا ويحاصروا بغداد. لكنّه تلطّف في الذبّ عن نفسه بعبارات تدلّ على رزانته ووفور عقله ودهائه وعلمه(٣) . وهذه المهمة كانت شائعةً جدّاً في بغداد آنذاك. وقد حُبس بهذه التهمة أيضاً الوزير أبو الحسن بن فرات ونجله محسّن صديقا الحسين بن روح، وسمّاهما أعداؤهما: القرمطيّ الكبير والقرمطيّ الصغير، وصادروا أموالهما ثمّ قتلوهما. على أيّ حال، مهما كان السبب الحقيقيّ لسجن الحسين بن روح فإنّ عمّال الديوان سجنوه بذريعة طلب المال(٤) .

وعندما أُطلق الحسين بن روح من السجن، ظلّ يدير الشؤون الدينيّة للشّيعة في بغداد بنفس العزّ والاحترام السابقَين، وكان الإماميّة يوصلون إليه الأموال التي في ذمّتهم. ولمّا كان عدد من آل نوبخت يشغلون يومئذ مناصب مهمّة في البلاط

____________________

١ - الغيبة ٢٠٠.

٢ تاريخ الإسلام f. ١٣٣ a.

٣ - نفسه.

٤ - صله عريب ١٤١.

٢٥٤

والعسكر كأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل (المقتول سنة ٣٢٢هـ)، وأبي الحسين عليّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)، وأبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ (المتوفّى سنة ٣٢٦هـ)، لم يستطع أحد أن يسبّب حرجاً وإزعاجاً لأبي القاسم الحسين بن روح. بل على العكس كانت داره آنذاك مالفاً لكبار الأعيان ورجال البلاط والوزراء السابقين في بغداد. وكان بعضهم يستشفعه إلى السلاطين والأُمراء في إنجاز الأعمال، كما فعل ذلك أبو عليّ بن مُقلة سنة ٣٢٥هـ؛ إذ استعان به لقضاء حاجته، فتحدّث الحسين بن روح مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختيّ وزير ابن رائق في ذلك، وعرض أبو عبد الله موضوعه على ابن رائق، فحقّق له ما أراد. وتوضيح ذلك أنّ محمّد بن رائق حين تولّى تدبير شؤون الحكومة، أمر بالاستيلاء على ضياع ابن مقلة وابنه. وعندما وصل إلى بغداد (يوم الجمعة ٢٤ من ذي الحجّة ٣٢٤هـ) ذهب أبو عليّ بن مقلة إلى لقائه ولقاء وزيره أبي عبد الله النوبختيّ لعلّهما يُرجعان إليه ضياعه. ونلحظ أنّه كان يتشبّث ببعض الأشخاص كالحسين بن روح من أجل حلّ مشكلته المذكورة، ولمّا تحدّث الحسين مع ابن رائق بواسطة أبي عبد الله النوبختيّ أصلح ابن رائق وضعه مؤقّتاً، وأمر أبا عبد الله النوبختيّ أن يفتح باب بيته الذي كان مغلقاً(١) .

إنّ تشبّث ابن مقلة بأذيال الحسين بن روح - كما أشار إليه الصوليّ - كان في سنة ٣٢٥هـ، ولمّا كان في أيّام وزارة الحسين بن عليّ النوبختيّ التي لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر وثمانية أياّم(٢) (من أوائل المحرّم سنة ٣٢٥هـ إلى أواسط ربيع الأوّل من السنة نفسها) فلابدّ أنّه كان في تلك الفترة أيضاً.

وكان للحسين بن روح منزلة سامقة عند الشيعة في القسم الأكبر من أيّام حكومة الراضي (٣٢٢-٣٢٩هـ). وبسبب كثرة المال الذي كان يأتي به الشيعة إليه

____________________

١ - الأوراق للصوليّ f. ١٢٢ a.

٢ - تجارب الأُمم ٥: ٣٦٣.

٢٥٥

والمكانة التي كان يتمتّع بها عندهم، توجّهت إليه أنظار السلطان العبّاسيّ وعمّال الديوان الذين كانوا يعانون يومئذ من ضائقة ماليّة، وكان السلطان يذكره غالباً. يقول أبو بكر محمّد بن يحيى الصوليّ مؤلّف كتاب الأوراق (المتوفّى سنة ٣٣٥ أو سنة ٣٣٦هـ) - وكان معاصراً للحسين بن روح - ما مضمونه: كان الراضي طالما يقول لنا: لم أكن غير راغبٍ في أن يكون ألف شخص مثل الحسين بن روح ويهب الإمامية أموالهم له كي يجعلهم الله محتاجين. فإنّ ثراء الحسين بن روح وأضرابه بأخذ أموال الإماميّة أمر لا يسوؤني(١) .

كان أبو القاسم الحسين بن روح من أعقل الناس عند المخالف والمؤالف(٢) . وعاش بين الناس والسلاطين بعزّ واحترام بخاصّة أنّه حَظِي بمنزلة عظيمة عند المقتدر العبّاسيّ وأمّه السيّدة. ولمّا كان رجلاً عاقلاً عارفاً بالمصحلة، كان يستعمل التقيّة. ونقل الشيخ الطوسيّ عنه حكايتين في هذا الباب(٣) .

توفّي الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختيّ مساء الأربعاء ١٨ شعبان سنة ٢٣٦هـ(٤) ، ودُفن بالنوبختيّة(٥) في زقاق كان فيه بيت عليّ بن أحمد بن عليّ النوبختيّ(٦) . وهذا القبر ما زال ماثلاً في محلّة النوبختيّة السابقة ببغداد. وهو في بيت يقع في الجانب الشرقيّ الأيمن من محلّة (سوق العطّارين)(٧) .

ذكر رواة الشيعة ومؤرّخوهم في كتبهم ترجمة الحسين بن روح مفصّلاً، ولكن من سوء الحظّ لم يصل إلينا شيء من هذه الكتب. ومن هؤلاء: أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن نوح السيرافيّ، وكان من كبار مصنّفي الشيعة، ومن شيوخ رواية النجاشيّ

____________________

١ - الأوراق f. ١٤٧ a. قمنا بترجمة هذا الكلام لعدم عثورنا على أصل الكتاب المنقول عنه.

٢ - الغيبة للشيخ الطوسيّ ٢٥٠؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ f. f. ١٣٢ b و١٣٣ a.

٣ - الغيبة ٢٥٠-٢٥٢.

٤ - كتاب الأوراق للصوليّ f. ١٢٧.

٥ - الغيبة للطوسيّ ٢٥٢.

٦ - انظر: ص٢٣٩.

٧ - أحسن الوديعة ٢: ٢٣٢.

٢٥٦

صاحب الرجال (٣٧٢-٤٥٠هـ)؛ فقد كان له كتاب بعنوان أخبار الوكلاء الأربعة. وكان قد أخذ أكثر أخباره من أبي نصر هبة الله بن أحمد بن محمّد الكاتب. وأبو نصر هذا كان من جهة الأب حفيد أمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ، ومن جهة الأمّ كان ينتسب إلى آل نوبخت(١) . وهو أحد الرواة المهمّين لأخبار الحسين بن روح ورُويت عنه أخبار كثيرة فيه.

ومنهم: منتجب الدين أبو زكريّا يحيى بن أبي طيّ النجّار الحلبيّ الفَقعانيّ (المتوفّى ٦٣٠هـ)، فقد أورد ترجمة للحسين بن روح في ستّ أوراق من تاريخه. وكانت لدى شمس الدين الذهبيّ الذي نقل خلاصتها في تاريخ الإسلام ضمن وقائع سنة ٣٢٦هـ(٢) .

الحسين بن روح والشَّلْمغانيّ

الشَّلْمغانيّ أحد الذين عارضوا الحسين بن روح، وأسّس مذهباً جديداً، حسداً من عند نفسه. وهو أبو جعفر محمّد بن عليّ، من قرية شَلْمَغان التّابعة

____________________

١ - الغيبة ٢٤٢.

٢ - ابن أبي طيّ مؤلّف في تاريخ مدينة حلب، عنوان كتابه عقود الجواهر. ذكره أبو الفضل محمّد بن شحنة الحلبيّ (٨٠٤-٨٩٠هـ) في تاريخ حلب. وهو من أُسرة ابن أبي طيّ التي كانت من الأُسر الشيعيّة في حلب كبني زُهرة، وآل جرادة، (أنا مدين لسماحة شيخ الإسلام الزنجانيّ بهذه المعلومات). وذكر صاحب كتاب أمل الآمل، ومؤلّف كتاب روضات الجنّات بعض أفراد هذه الأُسرة في كتابيهما (أمل الآمل ٤٨٨ في حاشية ذيل رجال الأسترآباديّ؛ روضات الجنّات ٤٠٠-٤٠١). ولم يستطع الذهبيّ أن يقرأ نسب هذا الشخص في النسخة التي كانت لديه. وضبطه ماسينيون الذي نقل ترجمته من كتاب الوافي بالوفيات للصفدي على أنّه (الغسّانيّ)، بَيد أنّ الصّحيح هو (الفقعانيّ) كما نصّ عليه صاحب روضات الجنّات في كتابه. وورد ذكره أيضاً في كتاب طبقات المفسّرين لجلال الدين السيوطيّ (انظر: ص٣٧ منه، الطبعة الأجنبيّة). ونقل المقريزيّ في خططه عن ابن أبي طيّ كثيراً. انظر أيضاً:

.L. Massignon, Recueil des textes concernant Ia mystique. P. ٢٢٦-٢٢٧

٢٥٧

لمدينة واسط. ويُدعى ابن أبي العَزاقر، ومن هنا عُرف أتباعه بالعَزاقريّة.

كان الشلمغاني من كتّاب بغداد، وأحد علماء الشيعة الإماميّة ومؤلّفيهم. وكانت له منزلة رفيعة عند الشيعة أيّام استقامته، قبل تأسيس مذهبه الجديد، وصدوفه عن اتّباع الحسين بن روح. وكان الشيعة يرجعون إلى كتبه ويأخذون منها. حتّى إذا حلّ اليوم الذي خلف فيه الحسين بن روح أبا جعفر العمريّ، ذهب إلى دار الشلمغانيّ مع عدد من وجوه الشيعة بعد إقامة التقاليد الرسميّة المألوفة في عمل النيابة. ولمّا اختفى فترة - كما رأينا - نصب الشلمغانيّ نائباً عنه. فكان واسطة وسفيراً بينه وبين الإماميّة. وكانت تصدر توقيعات الإمام القائمعليه‌السلام بواسطة الحسين بن روح على يد الشلمغانيّ. والناس يراجعونه في قضاياهم وحلّ مهمّاتهم(١) .

ولا نعلم على وجه الدقّة متى تمرّد الشلمغانيّ على الحسين بن روح؛ لأننا لا نعرف متى اختفى الحسين بن روح ولا مدّة اختفائه، بَيْد أنّ القرائن تفيد أنّ فترة اختفائه تزامنت مع وزارة حامد بن العبّاس التي استمرّت من جمادى الآخرة سنة ٣٠٦هـ حتّى ربيع الآخر سنة ٣١١هـ.

في أغلب الظنّ أنّ الشلمغانيّ استغلّ اختفاء الحسين بن روح، فدعا جماعة من خواصّ الشيعة ومتنفّذيهم إلى الالتفاف حوله. ويبدو أنّ هدفه في البداية هو الاستحواذ على منصب الحسين بن روح، وادّعاؤه البابيّة مكانه، ثمّ بالغ في ادّعائه وزعم أنّه نبيّ وإله.

ذكر ابن الأثير أنّ أوّل مرّة كُشف فيه سرّ الشلمغانيّ ودعاواه كانت في أوان وزارة حامد بن العبّاس، وكان الحسين بن روح النوبختيّ، هو الذي كشف أمره(٢) .

بعد عزل حامد بن العبّاس، واستيزار أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات

____________________

١ - الغيبة ١٩٦.

٢ - الكامل، وقائع سنة ٣٢٢؛ الذهبيّ f ١١٩ b.

٢٥٨

للمرّة الثالثة (من ربيع الآخر ٣١١هـ حتّى ٨ ربيع الأوّل ٣١٢هـ) قرّب الشلمغانيّ ابنَ الوزير الجديد مُحَسّناً إليه، بسبب العلاقة التي كانت تربطه به. وعندما هاجم القرامطة قافلة الحجّاج في ذلك التاريخ وقتلوا الكثيرين منهم - وكانوا من أهالي بغداد - وثار أهالي العاصمة عليه وعلى أبيه واتّهموهما بالتواطؤ مع القرامطة، أدخل محسّنٌ الشلمغانيَّ في الجهاز الوزاريّ، وجعله مكان عددٍ من عمّال الديوان؛ للحؤول دون هجوم المناوئين والكشف عن الأموال التي كان قد أخذها من الناس. وبمؤازرته هو وغيره قبض على جماعة وذبحهم كما تذبح الخراف بذريعة المطالبة بالأموال المتبقيّة(١) .

اختفى الشلمغانيّ بعد قتل أبي الحسن بن الفرات ونجله محسّن واستيزار أبي القاسم الخاقانيّ (وزارته من ٨ ربيع الأوّل ٣١٢هـ حتّى رمضان ٣١٣هـ)، وفرّ إلى الموصل خوفاً. وفي تلك الفترة ذاتها - ذي الحجّة سنة ٣١٢ هـ - صدر التوقيع من الحسين بن روح - وهو في السجن - بلعنه. وسننقل هذا التوقيع عينه لاحقاً.

مكث الشلمغانيّ في الموصل عدد سنين عند الأمير ناصر الدولة حسن الحمدانيّ في حياة أبيه أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان (المقتول سنة ٣١٧هـ). واختفى مدّة في مُعْلَثايا إحدى القرى القريبة من جزيرة ابن عمر. وفي تلك الفترة ذاتها قرأ أبو المفضّل محمّد بن عبد الله بن المطّلب - وهو من شيوخ أبي العبّاس النجاشيّ صاحب كتاب الرجال المعروف - كتب الشلمغانيّ عنده، وأجازه الشلمغانيّ في روايتها(٢) .

ثمّ قَدِم الشلمغانيّ بغداد بعد مدّة، واختفى فيها فترة خوفاً من مناوئيه. وفي تلك البرهة نفسها شاعت عقائده وزاد عدد أتباعه، والتحق به جماعة من أكابر

____________________

١ - معجم الأُدباء ١: ٢٩٦؛ تجارب الأُمم ٥: ١٢٣.

٢ - رجال النجاشيّ ٢٦٨.

٢٥٩

بغداد وأعيانها. وبلغت فتنة العزاقريّة ذروتها فسبّبت متاعب جمّة للسلطان العبّاسيّ ووزيره وأهالي العاصمة.

وممّن لحق بالشلمغانيّ من المشاهير يومئذٍ الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المقتدر العبّاسيّ، وأبو جعفر بن بسطام، وأبو عليّ بن بسطام وهما من الكتّاب ووجهاء الشيعة في بغداد، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن أبي عون وهو من الأُدباء والمؤلّفين المشهورين، وابن الشَّبيب الزيّات، وأحمد بن محمّد بن عبدوس، وغيرهم(١) .

دعاوى الشلمغانيّ

دعاوى الشلمغانيّ وأُصول عقائده غير واضحة تماماً؛ إذ لم يصل إلينا شيء عنه وعن أتباعه، وما نقله مناوئوه يسيرٌ ومشوبٌ بالتهمة والأغراض. بَيْد أنّ الثابت هو أنّ الشلمغانيّ كان من الحُلوليّة كالحسين بن منصور الحلاّج، ولا تفاوت بين كثيرٍ من عقائدهما. وكان الشلمغانيّ يتّبع منهج الحلاّج في هذا الطريق. وكان الحسين بن روح يعدّه من متابعي قول الحلاّج صراحةً(٢) . يضاف إلى ذلك أنّ التناسخ، والغلوّ، والاعتقاد بالضدّ، وأُلوهيّة نفسه، والكيمياء من الأركان الرئيسة لمعتقداته.

ويمكن استخراج خلاصة لعقائده من المصادر الأربعة المهمّة الآتية:

١ - الرسالة التي كتبها الراضي العبّاسيّ إلى الأمير أبي الحسين نصر بن أحمد السامانيّ في بخارى بعد قتل الشلمغانيّ وأعوانه في ذي القعدة ٣٢٢هـ، واستنسخ ياقوت قسماً مهمّاً منها في مرو، وأورده في الجزء الأوّل من كتابه معجم الأُدباء عند

____________________

١ - الكامل في التاريخ، وقائع سنة ٣٢٢هـ.

٢ - الغيبة ٢٦٦؛ رسالة ابن القارح (في مجموعة رسائل البلغاء ٢٠٠-٢٠١).

٢٦٠

ترجمة إبراهيم بن محمّد بن أبي عون.

٢ - التوقيع الذي صدر بيد الحسين بن روح النوبختيّ في ذي الحجّة ٣١٢هـ في لعن الشلمغانيّ. والأخبار التي نقلها الشيخ الطوسيّ (المتوفّى سنة ٤٦٠هـ) في هذا الباب من كتاب الغيبة(١) ، عن رواة الشيعة في شأن عقائد الشلمغانيّ.

٣ - مجمل من عقائده مذكور في كتاب الفَرْق بين الفِرَق لأبي منصور عبد القاهر الأشعريّ البغداديّ المتوفّى سنة ٤٢٩هـ.

٤ - الشرح الذي أورده ابن الأثير (المتوفّى سنة ٦٣٢هـ) في وقائع سنة ٣٢٢هـ من تاريخه. وغالب مضامينه يتّفق مع ما تحويه رسالة الراضي إلى الأمير نصر. وغير ذلك من المصادر كرجال النجاشيّ، وتجارب الأُمم لأبي عليّ بن مسكويه، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهريّ، ووفيات الأعيان لابن خلّكان، والآثار الباقية لأبي الريحان البيرونيّ، ورسالة ابن القارح، وهي تقدّم لنا بعض المعلومات أيضاً. وسنشير إليها كلّها في هذه الترجمة الموجزة. بعامّة نستطيع أن نلخّص أُصول عقائد الشلمغانيّ كالآتي:

١ - يحلّ الله في كلّ شيء على قدر ما يحتمل، والشلمغانيّ هو مَن حلّت فيه روح الله بتمامها. ولمّا تشبّه الشلمغانيّ بالمسيح والحلاّج في هذا العمل، سُمّي (روح القُدُس)(٢) ، و(المسيح)(٣) ، و(الحلاّج)(٤) .

يعتقد الشلمغانيّ أنّ الله يظهر في كلّ شيء بكلّ صورة. وهو اسم لخطور المعاني والخواطر في قلوب الناس، ويصوّر كلّ ما خفي عليهم إلى الحدّ الذي يبدو فيه أنّهم يدركونه بالمشاهَدة. وكلّ من احتاج الناس إليه فهو إلههم؛ من هنا

____________________

١ - ألّف الشيخ الطوسيّ كتاب الغيبة سنة ٤٤٧هـ (انظر: ص٢٣٢-٢٣٣ منه).

٢ - الفرق بين الفرق ٢٤٩؛ الآثار الباقية ٢١٤.

٣ - معجم الأدباء ١: ٣٠١؛ الغيبة للطوسيّ ٢٦٥.

٤ - معجم الأُدباء ١: ٢٩٨؛ الغيبة ٢٦٥؛ تجارب الأُمم ٥: ١٢٣.

٢٦١

يستطيع كلّ إنسانٍ أن يستحقّ مقام الأُلوهيّة ويُدعى إلهاً.

كان كلّ واحد من أتباع الشلمغانيّ يرى نفسَه إلهاً لمن دونه، بعبارة أُخرى كلّ ما دون يُعدّ مفضولاً بالنسبة إلى ما فوق (الفاضل). على سبيل المثال كان أحد العزاقرة يقول: أنا إله فلان، وفلان إله فلان، وفلان إله إلهي، حتّى يصل التسلسل إلى الشلمغانيّ. وكان الشلمغانيّ يزعم أنّه ربّ الأرباب، وإله الآلهة، وأفضل العزاقريّة، ولا إله بعده.

والعزاقريّة أتباع الشلمغانيّ لا ينسبون الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . ويقولون: من اجتمعت له الرّبوبيّة لا يكون له ولد. وكانوا يسمّون موسىعليه‌السلام ومحمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله الخائنَين؛ لأنّهم يدّعون أنّ هارون أرسل موسى، وعليّاً أرسل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فخاناهما. ويزعمون أنّ عليّاً أمهل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عدّة سِنِي أصحاب الكهف. فإذا انقضت هذه العدّة، وهي ثلاثمائة وخمسون سنةً، انقرضت الشريعة. ويبدو أنّ هدفهم من ذكر هذا العدد هو أنّ الإسلام نُسخ وحلّ محلّه دين الشلمغانيّ بعد مضيّ (٣٥٠) سنة على المبعث النبويّ، وكان ذلك متزامناً مع أيّام ظهور دعوة الشلمغانيّ.

ويقول هؤلاء في وصف الملائكة: إنّ المَلَك كلّ مَن مَلَك نفسه، وعرف الحقّ ورآه. وإنّ الجنّة معرفتهم واتّباع مذهبهم، والنار الجهل بهم والرجوع عن مسلكهم.

وكان الشلمغانيّ يعتقد أنّ روح الله حلّت في آدم، ثمّ في شيث، ثمّ في الأنبياء والأوصياء والأئمّة واحداً بعد واحد، حتّى حلّ في الحسن بن عليّ العسكريّعليه‌السلام ، وأنّه حلّ فيه(١) .

وقال: إنّ روح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمريّ النائب الثاني للإمام المهديّعليه‌السلام ، وروح أمير المؤمنين

____________________

١ - معجم الأدباء ١: ٢٩٦.

٢٦٢

عليّعليه‌السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمةعليها‌السلام انتقلت إلى أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ(١) .

روى أبو عليّ بن همام الإسكافيّ أنّ الشلمغانيّ قال له: الحقّ واحد وإنّما تختلف قُمُصه. فيوم يكون في أبيض، ويوم يكون في أحمر، ويوم يكون في أزرق. قال ابن همام: فهذا أوّل ما أنكرتُه من قوله؛ لأنّه قول أصحاب الحُلول(٢) .

٢ - يعتقد العزاقريّة بترك الصلاة والصيام والغسل، ولا يتناكحون بعقدٍ على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبيحون الفروج. ويقولون: إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، ونفوسهم أبيّة، فأمرهم بالسجود ليمتحن طاعتهم. وإنّ الحكمة الآن أن يُمتحن الناس بإباحة فروج نسائهم. ولا إشكال عندهم في نكاح المحارم ونساء الأصدقاء والأولاد، إذا كان قد ورد في دين الشلمغانيّ. وذكر المؤرّخون أنّ العزاقريّة لم يستنكفوا عن إرسال نسائهم ليستمتع بهنّ من هو أعلى منهم درجة في دينهم. بل كانوا يرون هذا العمل شرفاً لهم؛ لاعتقادهم أنّ الفاضل يولج نوره في المفضول فيستمتع به المفضول. ولمّا كان الشلمغانيّ ربّ الأرباب وأفضل العزاقريّة، فإنّ أتباعه كانوا يتسابقون في إرسال نسائهم إليه من أجل كسب نور الفضل، ومَن أبى قُلِبَ امرأةً عند الشلمغانيّ الذي كان يقول بالتناسخ أيضاً. ودوّن الشلمغانيّ أحكامه الدينيّة في كتاب عنوانه الحاسّة السادسة. ويعدّ هذا الكتاب دستوراً دينيّاً لأصحابه، ويبدو أنّ موضوعه الأصليّ هو رفض أحكام الشرائع السابقة(٣) . ويبرأ الشلمغانيّ وأصحابه من آل أبي طالب وبني العبّاس، ويرون وجوب هلاكهما.

٣ - مِن أهمّ عقائد الشلمغانيّ قوله بحمل الضدّ، وهو أنّ الله خلق الضدّ ليدلّ

____________________

١ - الغيبة ٢٦٤.

٢ - نفسه ٢٦٧.

٣ - الآثار الباقية ٢١٤.

٢٦٣

على المضدود، وأنّه لا يتهيّأ إظهار فضيلة للوليّ إلاّ بطعن الضدّ فيه؛ لأنّه يحمل سامعي طعنه على طلب فضيلته، فإذاً هو أفضل من الوليّ؛ إذ لا يتهيّأ إظهار الفضل إلاّ به. وحينئذٍ يفوق الدليل على وجود الحقيقة نفس الحقيقة.

يرى أتباع الشلمغانيّ أنّ الله إذا حلّ في جسد ناسوتيّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، كما ظهرت هذه الحالة في سبعة أوادم (كلّ آدم يطابق عالَماً). وبعد آدم السابع ظهر اللاهوت في خمسة أجساد ناسوتيّة، وخمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة. ثمّ اجتمعت اللاهوتيّة في إدريس وإبليسه. وتفرّقت بعدهما كما تفرّقت بعد آدم. واجتمعت في نوح وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما. واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود. واجتمعت في هارون وإبليسه، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في داود وإبليسه جالوت. وفي سليمان، وفي عيسى وتلاميذه. ثمّ اجتمعت في عليّ بن أبي طالب. ثمّ في بدن ابن العزاقر(١) .

أمّا في الضدّ أو إبليس، فقال بعضهم: الوليّ ينصب الضدّ ويحمله على ذلك، كما قال قوم من أصحاب الظاهر: إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نصب أبا بكر في ذلك المقام. وقال بعضهم: لا، ولكن هو قديم معه لم يزل. (قالوا): والقائم الذي ذكر أصحاب الظاهر أنّه من ولد الإمام الحادي عشر، فإنّه يقوم معناه إبليس لأنّه قال:( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلّا إِبْلِيسَ ) ، فلم يسجد. ثمّ قال:( لَأَقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) . فدلّ على أنّه كان قائماً في وقت ما أُمر بالسجود، ثمّ قعد بعد ذلك. وقوله: يقوم القائم إنّما هو ذلك القائم الذي أُمر بالسجود فأبى، وهو إبليس لعنه الله(٢) .

وقال أحد شعراء العزاقريّة في باب الضدّ، أي: إبليس:

____________________

١ - معجم الأُدباء ١: ٣٠١-٣٠٢؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير، وقائع سنة ٣٢٢هـ.

٢ - الغيبة ٢٦٥.

٢٦٤

يا لاعناً للضدِّ من عَدِيِّ(١)

ما الضدُّ إلاّ ظاهِرَ الوليِّ

والحمدُ للمُهيمنِ الوفيِّ

لَستُ عَلَى حالٍ كَحَمّاميِّ

ولا حَجاميّ ولا جُغْديّ

قَد فُقْتُ مِن قَولي على الفَهديّ

نَعَم وَجَاوَزتُ مَدَى العيدي

فَوقٌ عَظيمٌ لَيسَ بِالمجوسيّ

لأَنّهُ الفَردُ بِلاَ كيفيّ

مُتَّحِدٌ بِكُلِّ أوحَدِيِّ

مُخالِطُ النُّوريِّ وَالظُّلْمِيّ

يا طالبِاً مِن بَيتِ هاشِميِّ

وجاحِداً مِن بَيتِ كِسرَويِّ

قد غابَ في نِسبَةِ أعْجَميِّ

في الفارِسيِّ الحَسَبِ الرَّضِيِّ

كما التَوى في العُربِ مِن لُوَيِّ(٢)

مؤلَّفات الشلمغانيّ

كان أبو جعفر الشلمغانيّ قد ألّف كتباً أُخرى غير كتاب الحاسّة السادسة. ولمّا كان في عداد علماء الإماميّة قبل انحرافه أو أيّام استقامته، فإنّ عدداً من كتبه كان لها شأنها عند الإماميّة. وكما ذكرنا سابقاً، فإنّه عندما عاش متخفّيّاً في مُعلّثايا، قام أبو الفضل محمّد بن عبد الله بن المطّلب، وهو من علماء الإماميّة، بقراءتها عنده. وفيما يأتي دليل لكتبه اعتماداً على كتاب رجال النجاشيّ، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ:

١ - كتاب التكليف

ألّفه الشلمغانيّ في أيّام استقامته. وعندما انتشر هذا الكتاب أخذه جماعة من الشيعة إلى الحسين بن روح، فقرأه من أوّله إلى آخره، فقال: ما فيه شيء إلاّ وقد رُوي عن الأئمّة إلاّ موضعين أو ثلاثة فإنّه كذب عليهم في روايتها(٣) . وكان الشيخ

____________________

١ - إشارة إلى الشيطان الذي كانوا يسمّونه (شيخ بني عَدِيّ).

٢ - الغيبة، الشيخ الطوسيّ ٢٦٦.

٣ - الغيبة ٢٦٧.

٢٦٥

المفيد يروي هذا الكتاب إلاّ موضعاً واحداً منه. وهو باب الشهادات الذي روى فيه العلاّمة الحلّيّ أنّ الشلمغانيّ قال فيه ما مضمونه: إذا كان للرجل شاهد واحد فحسب جاز لأخيه أن يشهد بحقّه عند الجهل بأصل الموضوع(١) .

ولعلّ الصحيح التامّ في هذا الموضوع ما نقله العلاّمة عن الشيخ المفيد هو ما رواه الشيخ الطوسيّ عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أنّ الشلمغانيّ قال في الشهادة: (إذا كان لأخيك المؤمن على رجلٍ حقٌّ فدفعه ولم يكن له من البيّنة عليه إلاّ شاهدٌ واحدٌ وكان الشاهد ثقة رجعت إلى الشاهد فسألته عن شهادته، فإذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهده عنده لئلاّ يتوى حقّ امرئ مسلم)(٢) .

نقل محمّد بن فضل بن تمّام عن أحد شيوخه أنّ الشلمغانيّ عندما كان يؤلّف كتاب التكليف، كان كلّما أصلح باباً منه أدخله إلى الحسين بن روح فيعرضه عليه ويحكّكه، فإذا صحّ الباب خرج فنقله وأمرنا بنسخه(٣) .

٢ - رسالة تحوي خطاباً موجّهاً إلى أبي عليّ محمّد بن همّام الإسكافيّ(٤) .

٣ - كتاب ماهيّة العصمة.

٤ - كتاب الزاهر بالحجج العقليّة.

٥ - كتاب المباهلة.

٦ - كتاب الأوصياء.

نقل الشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة مرّتين من الكتاب المذكور(٥) .

٧ - كتاب المعارف.

____________________

١ - الخلاصة، للعلاّمة الحلّيّ ١٢٤؛ رجال الأسترآباديّ ٣٠٧.

٢ - الغيبة ٢٦٧.

٣ - نفسه ٢٥٤.

٤ - انظر: ذيل ص٢٥٠ من هذا الكتاب.

٥ - الغيبة ١٥٨ و٢٢١.

٢٦٦

٨ - كتاب الإيضاح.

٩ - كتاب فضل النُّطق على الصَّمت.

١٠ - كتاب فضائل العُمرَتَين.

١١ - كتاب الأنوار.

١٢ - كتاب التسليم.

١٣ - كتاب الزُّهَّاد والتوحيد.

١٤ - كتاب البَداء والمشِيَّة.

١٥ - كتاب نظم القرآن.

١٦ - كتاب الإمامة، كبير.

١٧ - كتاب الإمامة، صغير(١) .

١٨ - كتاب الغَيْبَة.

وكان الشيخ الطوسيّ يقتني الكتاب الأخير، ونقل فقرةً منه(٢) .

كان لكتب الشلمغانيّ صيتها عند الشيعة الإماميّة، وكانوا يقتنونها بسبب منزلته العلميّة وقربه من الحسين بن روح، وذلك قبل ارتداده. وعندما ثبت ارتداده وصدر لعنه، سأل جماعةٌ من الإماميّة الحسينَ بن روح عن كتبه وأخبروه عن امتلاء دورهم بها، فقال لهم: أقول فيها ما قاله أبو محمّد الحسن بن عليّ صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضّال(٣) ، فقال صلوات الله عليه: «خُذُوا بما رَوَوا

____________________

١ - وردت عناوين هذه الكتب السبعة عشر مع كتاب آخر ليس له عنوان في رجال النجاشيّ ٢٦٨ باسم الشلمغانيّ.

٢ - الغيبة ٢٥٥.

٣ - هم أحمد المتوفّى سنة ٢٦٠هـ، ومحمّد، وأبو الحسن عليّ أبناء أبي محمّد الحسن بن عليّ بن فضّال الكوفيّ (المتوفّى سنة ٢٢٤هـ). وكانوا في عداد فقهاء الفطحيّة كأبيهم. وكان الفطحيّة يعدّونهم من فقهائهم الكبار. وقد صنّفوا كتباً كثيرة في تأييد هذا المذهب، بخاصّة عليّ الذي بلغت كتبه قرابة ثلاثين =

٢٦٧

وذَرُوا مارأوا» (١) .

دعا الشلمغانيّ في بدء أمره جماعة من أعيان بغداد إليه سرّاً. وكان ينشر أخباراً باسم الحسين بن روح، ويعرّف نفسه للشيعة على أنّه بابه.

روت أمّ كلثوم بنت أبي جعفر العَمريّ ما نصّه: (كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام(٢) ؛ وذلك أنّ الشيخ أبا القاسم - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - كان قد جعل له عند الناس منزلةً وجاهاً. فكان عند ارتداده يحكي كلّ كذبٍ وبلاء وكفر لبني بسطام، ويسنده عن الشيخ أبي القاسم فيقبلونه منه ويأخذونه عنه، حتّى انكشف ذلك لأبي القاسم - (رضي الله عنه) - فأنكره وأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه، وأمرهم بلعنه والبراءة منه، فلم ينتهوا وأقاموا على تولّيه؛ وذاك أنّه كان يقول لهم: إنّني أذعتُ السرّ وقد أُخِذ عليّ الكتمان فعوقبت بالإبعاد بعد الاختصاص؛ لأنّ الأمر عظيم لا يحتمله إلاّ مَلَك مقرّب أو نبيّ مُرسَل أو مؤمن مُمتَحن، فيوكد في نفوسهم عِظم الأمر وجلالَتَه. فبلغ ذلك أبا القاسم - (رضي الله عنه) - فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممّن تابعه على قوله، وأقام على تولّيه. فلمّا وصل إليهم أظهروه عليه فبكى بكاءً عظيماً، ثمّ قال: إنّ لهذا القول باطناً عظيماً، وهو أنّ اللعنة الإبعاد. فمعنى قوله: لعنه الله، أي: باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي! ومرّغ خدّيه على التراب، وقال: عليكم بالكتمان

____________________

= كتاباً. (للاطّلاع على ترجمتهم، انظر: رجال النجاشيّ ٢٥-٢٦، ٥٩، ١٨١، ١٨٣، ورجال الكشّيّ: ٣١٩ وغيرهما).

١- الغيبة: ٢٥٤.

٢ - كانت أُسرة بسطام من الأسر القديمة، تولّوا بعض الأعمال الكتابيّة والديوانيّة في البلاط العبّاسيّ وحكومات المناطق المجاورة. ومن هذه الأُسرة أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن بسطام وابناه أبو القاسم عليّ وأبو الحسن محمّد، وكانت لهم صلة بآل الفرات. وكان أبو الحسين محمّد صهراً لحامد بن العبّاس الوزير. وكانت هذه الأسرة في البداية تنحاز إلى الإماميّة كآل الفرات، لكنّها مالت إلى الشلمغانيّ بعد ظهور أمره. من هنا أصدر القاهر العبّاسيّ أمراً بمراقبة دارَي أبي القاسم عليّ وأبي الحسين محمّد من قبل مفرزة خاصة سنة ٣٢١هـ.

٢٦٨

لهذا الأمر).

قالت أمّ كلثوم رضي الله عنها: وقد كنت أخبرتُ الشيخ أبا القاسم أنّ أمّ أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوماً، وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتّى انكبّت على رِجلي تقبّلها، فأنكرتُ ذلك، وقلتُ لها: مَهلاً يا سِتّي؛ فإنّ هذا أمر عظيم. وانكببتُ على يدها، فبكت، ثمّ قالت: كيف لا أفعل بكِ هذا وأنتِ مولاتي فاطمة؟ فقلتُ لها: وكيف ذاك يا ستّي؟ فقالت لي: إنّ الشيخ أبا جعفر محمّد بن عليّ خرج إلينا بالسّر. قالت: فقلتُ لها: وما السرّ؟ قال: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعتهُ عُوقبتُ. قالت: وأعطيتها مَوثِقاً أنّي لا أكشفه لأحد، واعتقدتُ في نفسي الاستثناء بالشيخ - (رضي الله عنه) - يعني أبا القاسم الحسين بن روح - قالت: إنّ الشيخ أبا جعفر قال لنا: إنّ روح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أبيك - يعني: أبا جعفر محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، وروح أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمةعليها‌السلام انتقلت إليكِ، فكيف لا أُعظّمك يا سِتَّنا؟! فقلتُ لها: مهلاً لا تفعلي، فإنّ هذا كذبٌ يا ستّنا. فقالت لي: سرّ عظيم، وقد أخذ علينا لا نكشف هذا لأحد؛ فالله الله فيَّ لا يحلّ لي العذاب. ويا ستّي لو أنّك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحدٍ غيركِ. قالت الكبيرة أمّ كلثوم - رضي الله عنها -: فلمّا انصرفت من عندها، دخلتُ على الشيخ أبي القاسم بن روح - (رضي الله عنه) - فأخبرتُه بالقصّة - وكان يثق بي ويركن إلى قولي - فقال لي: يا بُنيّة إيّاكِ أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعةً إن كاتَبتكِ ولا رسولاً إن أنفذته إليك ولا تلقيها بعد قولها؛ فهذا كفرٌ بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم بأنّ الله تعالى اتّحد به وحلّ فيه كما يقول النصارى في المسيحعليه‌السلام ، ويعدو إلى قول الحلاّج لعنه الله. قالت: فهجرتُ بني بسطام وتركتُ المضيّ إليهم ولم أقبل لهم عذراً ولا لقيتُ أُمّهم بعدها. وشاع في بني

٢٦٩

نوبخت الحديث، فلم يَبقَ أحد إلاّ وتقدّم إليه الشيخ أبو القاسم، وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغانيّ والبراءة منه وممّن يتولاّه ورضي بقوله أو كلّمه فضلاً عن موالاته. ثمّ ظهر التوقيع من صاحب الزمانعليه‌السلام بلعن أبي جعفر محمّد بن عليّ والبراءة منه وممّن تابعه وشايعه ورضي بقوله، وأقام على تولّيه بعد المعرفة بهذا التوقيع)(١) .

ذكر الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج، والطوسيّ في كتاب الغيبة(٢) - باختلافٍ في الرواية - عين هذا التوقيع الذي أصدره الحسين بن روح في ذي الحجّة سنة ٣١٢هـ - وهو سجين في بلاط المقتدر - بإيعاز من الإمام المهديّعليه‌السلام ، وأنفذه إلى أبي عليّ محمّد بن همّام الإسكافيّ البغداديّ لنشره بين الإماميّة، وفيما يأتي نصّه:

«عَرِّفْ - أطال اللهُ بقاك وعرّفك الله الخير كلّه وختم به عملك - مَنْ تثق بدِينه وتسكن على نيّته من إخواننا، أدام الله سعادتهم، بأنّ محمّد بن عليّ المعروف بالشلمغانيّ - عجّل الله له النقمة ولا أمهله - قد ارتدّ عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله، وادّعى ما كفر معه بالخالق جلّ وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً، وإنّا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعنّاه، عليه لعائن الله تترى في الظاهر منّا والباطن في السرّ والجهر وفي كلّ وقتٍ وعلى كلّ حالٍ، وعلى كلّ مَن شايَعَه وتابَعَه وبلغه هذا القول منّا فأقام على تولِّيهِ بعده. وأعْلِمْهُم - تولاّكَ الله - أنّنا في التوقّي والمُحاذَرة منه على

____________________

١ - الغيبة ٢٦٣-٢٦٥.

٢ - الاحتجاج ٢٤٥؛ الغيبة ٢٦٨-٢٦٩. مع أنّ هذا التوقيع صدر في ذي الحجّة سنة ٣١٢هـ متزامناً مع الأيّام الأولى لحبس الحسين بن روح، بَيد أنّ القرائن تفيد أنّ الإذن بنشره قد صدر قبل نجاته من الحبس سنة ٣١٧هـ بقليل. (الغيبة ٢٦٨).

٢٧٠

مثل ما كنّا عليه ممّن تقدّمه من نظرائه من الشريعيّ (١) ، والنميريّ (٢) ، والهلاليّ (٣) ، والبلاليّ (٤) ، وغيرهم. وعادة الله جلّ ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة. وبه نثق وإيّاه نستعين وهو حسبنا في كلّ أُمورنا ونعم الوكيل» .

عندما صدر لعن الشلمغانيّ على يد الحسين بن روح ابتعد عنه شيعة بغداد، ونقلوا حكاية لعنه في المجالس والمحافل. وجهد الشلمغانيّ لإثبات أحقّيّته، ومعارضة الحسين بن روح، وإقناع الشيعة الموالين له. وصنّف كتاب الغيبة في تلك البرهة، وعرّض فيه بالحسين بن روح، وزعم أنّه شريك الشيخ أبي القاسم النوبختيّ في التمهيد للوكالة والنيابة، بَيْد أنّ معظم الإماميّة لم يُصغُوا إلى دعاواه، وسعوا في لعنه(٥) .

وتقارنت حادثة قتل الشلمغانيّ مع اجتماع رؤساء الشيعة في دار الوزير أبي عليّ بن مقلة، وكانوا يتناقلون لعنه الذي أظهره الحسين بن روح، فقال لهم: اجمعوا

____________________

١ - كان أبو محمّد الحسن الشريعيّ من أصحاب الإمام العاشر والحادي عشرعليهما‌السلام , وهو أوّل من أدّعى البابيّة بعد الإمام الحادي عشر، وظهر منه القول بالكفر والإلحاد، وخرج التوقيع بلعنه، يقال لأتباعه: الشريعيّة، وهم من الغلاة والحلوليّة (انظر: الغيبة ٢٤٨؛ مقالات الإسلاميّين ١٤-١٥؛ الفَرق بين الفِرَق ٢٣٩؛ تبصرة العوامّ ٤١٩؛ الاحتجاج ٢٤٤).

٢ - كان محمّد بن نُصير النُّميريّ من أصحاب الإمام الحادي عشرعليه‌السلام . فلمّا توفّي الإمام ادّعى مقام أبي جعفر العمريّ، وزعم أنّه رسولٌ نبيّ. سُمّي أتباعه: النّميريّة، وهم من الغلاة والحلوليّة. (انظر: رجال الكشّيّ ٣٢٣؛ الغيبة ٢٥٩-٢٦٠؛ مقالات الأشعريّ ١٥؛ تبصرة العوامّ ٤١٩؛ الفَرق بين الفِرَق ٢٣٩؛ الاحتجاج ٢٤٤؛ وص١٧٦-١٧٩ من هذا الكتاب).

٣ - أبو جعفر أحمد بن هلال العَبَرتائي الكرخيّ (١٨٠-٢٦٧هـ) من الغلاة ومن أصحاب الإمام العسكريّعليه‌السلام . أنكر وكالة أبي جعفر العمريّ بعد وفاة الإمام (للاطّلاع على ترجمته انظر: الغيبة ٢٦٠؛ رجال الكشّيّ ٣٣٢-٣٣٣؛ رجال النجاشيّ ٦٠-٦١؛ الفهرست للطوسيّ ٥٠؛ الاحتجاج ٢٤٥).

٤ - أبو طاهر محمّد بن عليّ بن بلال من أصحاب الإمام العسكريّعليه‌السلام . أنكر وكالة أبي جعفر العمريّ وسمّى نفسه وكيل الإمام الغائب مكانه. (انظر: الغيبة ٢٦٠-٢٦١؛ الاحتجاج ٢٤٥).

٥ - الغيبة ٢٥٥.

٢٧١

بيني وبينه حتّى آخذ يده ويأخذ بيدي، فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه، وإلاّ فجميع ما قاله فيّ حقٌّ. ورُقي في ذلك إلى الراضي فأمر بالقبض عليه وقتله(١) .

بَيْد أنّ القبض عليه لم يتحقّق بسهولة؛ لأنّ أبا عليّ بن مقلة كان يلاحقه مدّة بأمر السلطان. ولمـّا كان يعيش متخفّياً ويفرّ من نقطة إلى أُخرى، لم يفلح شرطة الوزير والسلطان بالقبض عليه وظلّ كذلك حتّى ظفروا به في شوّال سنة ٣٢٢هـ. فسجنه ابن مقلة وكبس داره فوجد فيها رقاعاً وكتباً ممّن يدّعي عليه أنّه على مذهبه كالحسين بن القاسم بن عبيد الله بن وهب، وإبراهيم بن محمّد بن أبي عون، وابن شبيب الزيّات، وأحمد بن محمّد بن عبدوس. وقد خاطبه فيها هؤلاء بما يليق بشأن الله تعالى. وعُرضت هذه الخطوط على الناس بمحضر السلطان. وثبتت صحّتها، فأقرّ الشلمغانيّ أنّها خطوطهم، وأنكر مذهبه وأظهر الإسلام، وتبرّأ ممّا يقال فيه.

واستدعى السلطان العبّاسيّ أحمدَ بن محمّد بن عبدوس، وإبراهيمَ بن أبي عون، والشلمغانيّ حاضر، فأمرهما بصفع ربّهما، فامتنعا. فلمّا أُكرها، مدّ ابن عبدوس يده وصفعه. أمّا ابن أبي عون فإنّه مدّ يده إلى لحيته ورأسه، فارتعدت يده، فقبّل لحية الشلمغانيّ ورأسه. ثمّ قال: إلهي، وسيّديّ، ورازقي! فقال له الراضي: قد زعمتَ أنّك لا تدّعي الإلهيّة، فما هذا؟ فقال: وما علَيّ من قول ابن أبي عون والله يعلم أنّني ما قلتُ له: إنّني إله قطّ! فقال ابن عبدوس: إنّه لم يدَّعِ الإلهيّة، وإنّما ادّعى أنّه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح(٢) .

حوكم الشلمغانيّ وأتباعه بأمر السلطان عدّة مرّات، بحضور القضاة والفقهاء والكتّاب ورؤساء الجيش(٣) . وأجمع الحاضرون على قتله. وقبل تنفيذ الحكم

____________________

١ - الغيبة ٢٦٥.

٢ - الكامل في التاريخ، وقائع سنة ٣٢٢.

٣ - للاطّلاع على تفصيل محاكمته، انظر: كتاب الفرق بين الفِرَق ٢٥٠، وهو لا يخلو من بعض الأخطاء التاريخيّة.

٢٧٢

استمهل القضاة ثلاثة أيّام لينزل حكم تبرئته من السماء أو يُبتلى أعداؤه بالعذاب. ولكنّ الفقهاء طلبوا من السلطان العبّاسيّ التعجيل في قتله، فأمر في يوم الثلاثاء ٢٩ من ذي القعدة سنة ٣٢٢هـ بجلد الشلمغانيّ وابن أبي عون، وضرب عنقيهما وصلبهما وحرقهما وإلقاء رمادهما في ماء دجلة(١) . وقتل الحسين بن قاسم في آخر ذي القعدة من السنة نفسها في مدينة الرقّة، وأُتي برأسه إلى بغداد(٢) .

لم يَرعُ العزاقريّة عن دعاواهم بعد قتل الشلمغانيّ بخاصّة أنّهم كان لهم أنصار في أُسرة بني بسطام. وبعد قتل الشلمغانيّ ادّعى رجل يعرف بالبصريّ نيابته، وزعم أنّ روح الشلمغانيّ حلّت فيه، وأنّ له مقام الأُلوهيّة. ولمّا مات سنة ٣٤٠هـ، خلّف مالاً كثيراً كان يجبيه من العزاقريّة. ورُفع إلى أبي محمّد الحسن بن محمّد المهلّبيّ وزير معز الدولة الديلميّ موت البصريّ وما كان يملكه، فأمر المهلّبيّ بالختم على التركة، والقبض على أصحابه، والذي قام بأمرهم بعده فلم يجد إلاّ مالاً يسيراً، ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم. وكان فيهم غلام شابٌّ يدّعي أنّ روح عليّ بن أبي طالب حلّت فيه، وامرأة يقال لها فاطمة تدّعي أنّ روح فاطمة حلّت فيها، وخادم لبني بسطام يدّعي أنّه ميكائيل، فأمر بهم المهلّبيّ فضّربوا ونالهم مكروه. ثمّ إنّهم توصّلوا بمن ألقى إلى معزّ الدولة أنّهم من شيعة عليّ بن أبي طالب، فأمر بإطلاقهم. وخاف المهلّبيّ أن يقيم على تشدّده في أمرهم فيُنسب إلى ترك التشيّع، فسكت عنهم(٣) .

____________________

١ - معجم الأُدباء ١: ٢٩٧؛ الفَرقُ بين الفِرَق ٢٥٠.

٢ - الكامل في التاريخ، وقائع سنة ٣٢٢هـ. وذكر عامّة المؤرّخين كياقوت، وابن الأثير، والذهبيّ أنّ الشلمغانيّ قُتل سنة ٣٢٢هـ، لكن الشيخ الطوسيّ أورد في كتاب الغيبة أنّه قتل سنة ٣٢٣هـ، ويبدو أنّه غير صحيح.

٣ - الكامل في التاريخ ٨: ٤٩٥، وقائع سنة ٣٤٠هـ.

٢٧٣

٢٧٤

الفصل الثاني عشر

أبو الحسن موسى بن كبرياء

(النصف الأوّل من القرن الرابع)

موسى بن حسن بن محمّد بن عبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت المعروف بابن كبرياء النوبختيّ من العلماء والمنجّمين، وممّن عاش في أيّام الغيبة الصغرى وعاصر الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح. روى عنه أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب الذي كان ينقل أخبار الوكلاء الأربعة أخبارَ النائب الثالث الحسين بن روح. ونلحظ في كتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ ثلاث فقرات من هذه الأخبار(١) .

وذكر النجاشيّ أنّ ابن كبرياء كان ملمّاً بالنجوم. وأُثر عنه كلام كثير في هذا الباب. ومع علمه وعقيدته بالنجوم، كان رجلاً متديّناً حسن العقيدة، وله كتب في النجوم منها: كتاب الكافي في أحداث الأزمنة(٢) .

ويستبين ممّا نقله أبو نصر هبة الله الكاتب مباشرةً، أو بواسطة أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ عن أبي الحسن موسى بن كبرياء، أنّ هذا الرجل كان من معاصري أمّ كلثوم والشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وظلّ على قيد الحياة بعد وفاة ابن روح.

____________________

١ - ص١٩٠، ٢٤٣، ٢٥١.

٢ - رجال النجاشيّ ٢٩٠؛ بحار الأنوار ١٤: ١٤٣ نقلاً عن فرج المهموم.

٢٧٥

٢٧٦

الفصل الثالث عشر

أبو محمّد الحسن بن الحسين

(٣٢٠-٤٠٢هـ)

كان لأبي عبد الله الحسين بن عليّ بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت المارّ ذكره وذكر أبيه أبي الحسين عليّ في الفصل العاشر، وَلَد يُدعى أبا محمّد الحسن. وُلِد سنة ٣٢٠هـ، أي: قبل وفاة أبيه بستّ سنين. وكان من محدّثي الإماميّة ورواة أخبارهم كأبيه، كما كان أحد الكتّاب ورواة الأخبار، وقد روى طرفاً من أخبار أبي نواس وشعره(١) . وروى عنه أبو الحسين هلال بن محسّن الصابي الكاتب (٣٥٩-٤٤٨هـ) بعض الوقائع(٢) .

صرّح الخطيب البغداديّ أنّ أبا محمّد كان يروي الحديث أكثر من أبي الحسن عليّ بن عبد الله المبشّر القصّاب الواسطيّ، وأبي عبد الله حسين بن إسماعيل بن محمّد الضبّيّ البغداديّ (٢٣٥-٣٣٠هـ) المشهور بالقاضي المَحامليّ، وكان له طلاّب كُثرٌ. وأشهر من كان يروي عنه هم:

١ - أبو بكر أحمد بن محمّد البرقانيّ الخوارزميّ (٣٣٦-٤٢٥هـ).

____________________

١ - تاريخ بغداد ٧: ٤٤٣.

٢ - عيون الأنباء ١: ٢٢٩.

٢٧٧

٢ - أبو الفرج الحسن بن عليّ الطَّناجيريّ (٣٥٠-٤٣٩هـ).

٣ - أبو القاسم عبد الله بن أحمد الصيرفيّ الأزهريّ (٣٥٥-٤٣٥هـ).

٤ - القاضي أبو القاسم عليّ بن محسن التنوخيّ (٣٦٥-٤٤٧).

٥ - أبو القاسم بن الخلاّل.

٦ - أبو الحسن أحمد بن محمّد العتيقيّ (٣٦٧-٤٤١هـ).

ويعدّ الثلاثة الأُوّل من مشايخ الحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ (٣٩٢-٤٦٣هـ) صاحب تاريخ بغداد المعروف؛ من هنا كان الخطيب تلميذ أبي محمّد الحسن بن الحسين بواسطةٍ واحدة. ولجأ الخطيب إلى تلامذة أبي محمّد النوبختيّ الذين كانوا أساتذته من أجل التعرّف على عقيدته الحقيقيّة، وقد سأل أبا القاسم الأزهريّ وأبا بكر البرقانيّ في هذا الشأن، فقال الأزهريّ: هو رافضيّ مردود المذهب. وقال البرقانيّ: هو معتزليّ مع مَيلٍ فيه إلى التشيّع، ومع ذلك كلّه فهو صدوق في روايته. وذكر أبو الحسن العتيقيّ أنّه ثقة في الحديث يميل إلى الاعتزال(١) وصحّح الخطيب البغداديّ نفسه سماعَه(٢) . ونقل كلام الخطيب في النوبختيّ كلّ من السمعانيّ في الأنساب، وابن الجوزيّ في المنتظم، وابن كثير في البداية والنهاية. وعلى الرغم من أنّ القاضي نور الله التُّستريّ عدّ أبا محمّد شيعيّاً مائلاً إلى الاعتزال لكنه تهجّم عليه قائلاً: (لمّا كان أهل السُّنّة لا يفرّقون بين الحقّ والباطل، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الشيعة والمعتزلة فرقة واحدة داعين كلاّ منهما باسم الأُخرى، وإلاّ فالفرق بينهما فرق ما بين الفَرقِ والقَدَم، والوجود والعدم)(٣) .

هذا الكلام ينمّ عن تعصّب القاضي نور الله الذي كان يسعى في نسبة بعض الأشخاص إلى التشيّع في حين لم يُعرَفوا بذلك. وكان مشهوراً بهذه السِّمة، وإلاّ

____________________

١ - المنتظم، مخطوط.

٢ - تاريخ بغداد ٧: ٢٩٩.

٣ - مجالس المؤمنين، المجلس الخامس.

٢٧٨

فقد ذكرنا سابقاً أنّه لا مانع من أن يكون الإنسان شيعيّاً مائلاً إلى الاعتزال أو معتزليّاً مائلاً إلى التشيّع. ولهذا نظائر كثيرة في تاريخ علم الكلام، فقد عُرف به من آل نوبخت رجل أو رجلان، وكذلك عُرف به كثير من معتزلة بغداد كأبي جعفر الإسكافيّ، وأبي عبيد الله المرزبانيّ، والقاضي أبي القاسم التنوخيّ، وأبي القاسم الكعبيّ البلخيّ؛ فقد كان هؤلاء قريبين من الشيعة في بعض عقائدهم، وعُدّوا من متشيّعة المعتزلة(١) . وبلغ الأمر أنّ الذهبيّ سمّى أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ كاتباً معتزليّاً مع أنّه عدّه من رؤوس متكلّمي الشيعة(٢) .

توفّي أبو محمّد في يوم الجمعة ليومين بَقِيا من ذي القعدة سنة ٤٢٠هـ. وهو آخر من نعرف عنه شيئاً مجملاً من الأسرة النوبختيّة، واختفى بعده أثر هذه الأُسرة الجليلة في ظلمات التاريخ(٣) .

____________________

١ - انظر: الانتصار ١٠٠؛ تاريخ بغداد ٣: ١٣٦؛ فوات الوفيات ٢: ٦٨.

٢ - تاريخ الإسلام f. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

٣ - للتعرّف على ترجمته انظر: تاريخ بغداد ٧: ٢٩٩ و٤٤٣؛ المنتظم لابن الجوزيّ؛ البداية والنهاية، وقائع سنة ٤٠٢هـ، الأنساب للشمعانيّ f. ٥٦٩ b؛ مجالس المؤمنين، المجلس الخامس؛ ميزان الاعتدال ١: ٢٢٥.

٢٧٩

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288