آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92025 / تحميل: 9526
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

١ - طبقة المترجمين من اللغة الفارسيّة البهلويّة إلى العربيّة، والمنجّمين، مثل نوبخت، وولده أبي سهل، وعدد من ذراري أبي سهل كعبد الله، وأبي العبّاس فضل.

٢ - متكلّموا الإماميّة، كأبي إسحاق إبراهيم، وأبي سهل إسماعيل بن عليّ، وأبي محمّد الحسن بن موسى.

٣ - أصحاب الأئمة الاثني عشر وخواصّهم، نحو يعقوب بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، وإسحاق بن إسماعيل بن أبي سهل، وأبي القاسم الحسين بن روح.

٢١

٤ - الأدباء ورواة الشعر، مثل إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت، وبعض إخوته، وأبي طالب، ومحمّد بن روح، وأبي الحسين عليّ، وأبي عبد الله حسين.

٥ - الكتّاب كالعلَمين الأخيرين المارّ ذكرهما في الأُدباء ورواة الشعر، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، وأبي يعقوب إسحاق، وأبي الفضل يعقوب، وعليّ بن أحمد بن عليّ.

٦ - علماء الأخبار الإماميّة، كأبي الحسن موسى بن كبرياء، وأبي محمّد حسن بن حسين، وغيرهما.

وسنرى في الفصول القادمة مفصّلاً أنّ أفراد كلّ طبقة من هذه الطبقات الستّ كانوا محطّ الأنظار ويلهج بذكرهم الخاصّ والعامّ، وعُدّت أقوالهم وكتاباتهم حجّة لمن جاء بعدهم من العلماء، فقيل في منجّميهم إنّهم أعلم الناس بالنجوم(١) ، وقيل في المتكلّمين الذين هم على عقيدة الإماميّة إنّ أقوالهم يُستند إليها(٢) ، وذكر في العلم بالمقالات والآراء والديانات أنّ كتاب أبي محمّد النوبختيّ من الكتب الموثوقة في هذا الفن(٣) ، وصاحبه قدوة تامّة في معرفة الملل والنحل(٤) . وجاء في أخبار الشيعة الإماميّة وتقرير مذهبهم أنّ آل نوبخت كانوا من أركان هذا الدين إذ عُدّوا في مصافّ الشيخ المفيد، وابن بابويه، وأبيه(٥) . وكانوا من أهمّ المراجع وأوثقها في جمع أخبار وأشعار أبي نؤاس، والبحتريّ، وابن الروميّ، ونبغوا في الترجمة حتّى أصبحوا في عداد المترجمين الكبار(٦) .

____________________

١ - ديوان ابن الروميّ ١٢٢-١٢٣.

٢ - بحار الأنوار ١٤: ٣٥٢-٣٥٥.

٣ - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٩٥، مروج الذهب ٧: ١٥٧-١٥٨، تلبيس إبليس لابن الجوزيّ في مواضع متعدّدة.

٤ - معجم الأدباء ٢: ٢٧٩.

٥ - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٥٩٧.

٦ - عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ١: ٣٠٩.

٢٢

هذا كلّه حداني على إعداد ترجمة تضمّ أخبار هذه الأُسرة الجليلة؛ فكنت أجمع المعلومات تدريجاً من خلال مطالعة كتب التاريخ والأدب حتّى إذا تمّ لي ما أريد، نظمت هذا الكتاب في فصول مع بعض الملاحظات، وما هو بين يدي القرّاء الكرام لعلّهم يقطفون من ثماره ويكون تذكاراً لهواة المعلومات التاريخيّة والمغرمين بعظمة السلالة الفارسيّة ومجدها.

الفصل الأوّل

نوبخت جدّ الأُسرة

أوّل مَن يُذكر من آل نوبخت ويشار إليه في كتب التاريخ هو نوبخت المجوسيّ الّذي كان عاش عصر المنصور العبّاسيّ (١٣٦-١٥٨هـ)، وإليه ينسب أعضاء هذه الأسرة الكبيرة، وكلّهم أولاده؛ لذا سمّاهم المؤرّخون والكتّاب المسلمون: آل نوبخت، أو بني نوبخت، أو النوبختيّين.

وجاء في منظوم الشعراء ومنثور الأدباء الذين عاصروه أو كانوا قريبين من زمانه أنّ اسمه نوبخت، وضُبط بالياء أيضاً فقيل: نيبخت. ويبدو أنّ كليهما صحيح.

وهذه الكلمة من المفردات الفارسيّة المركّبة، يعني الجزء الأوّل منها (نَو): الطازَج والجديد، والثاني (بخت): الحظّ. وتستعمل الكلمة بجزءيها في الفارسيّة المعاصرة بهذا المعنى أيضاً.

ولعلّ في الفارسيّة القديمة تلفّظاً بين تلفّظ الياء المسبوقة بمتحرّك والواو المسبوقة بمتحرّك في العربيّة، ولمّا كان أداء ذلك متعذّراً حسب الهجاء العربيّ، فقد كانوا يقرأونه بالياء المسبوقة بمتحرّك تارة، وبالواو المسبوقة بمتحرّك تارة أخرى، ولا جرم أنّ كلا الصوتين لا يؤدّي التلفّظ المذكور تماماً، بَيد أنّه لمّا كان أشبه بذلك الصوت من غيره، فقد أُخرج بهاتين الصورتين، وفعل المسلمون العرب ذلك في عدد من ضروب التلفّظ الفارسيّة التي ينعدم نظيرها في العربيّة، وهذا موضوع لا يرتبط ببحثنا.

٢٣

ونحن اليوم لا نعلم على وجه الدقّة كيف كانت تقرأ كلمة (نَو) التي تؤلّف الجزء الأوّل من أسماء وأعلام فارسيّة مركّبة في العصر الساسانيّ؛ ذلك أنّ الأسماء والأعلام المذكورة جميعها وصلت إلينا بإملاء عربيّ، ولا يُعتَمد على تلفّظنا المعاصر من أجل فهم التلفّظ القديم غير أنّنا نعرف أنّ المسلمين العرب كانوا يقرأون الكلمات ذات المقطع الأوّل المماثل لما مرّ بنا بالشكلين المذكورين آنفاً نحو (نوبخت) و(نيبخت)، و(نوروز) و(نيروز) وغيرهما.

وكان آل نوبخت ينسبون أنفسهم إلى (گِبوْ) بن (گودَرْز) بطل (الشاهنامه) المعروف، وأشار الشاعر المشهور البُحتريّ إلى ذلك في قصيدتين من قصائده الّتي مدح بها عدداً من أفراد هذه الأسرة، منها قوله في مدح أبي الفضل يعقوب بن أبي يعقوب إسحاق النوبختيّ:

وإذا أبو الفضل استعار سجيّة

للمكرمات فمن أبي يعقوبِ

لا يحتذي خُلُقَ القصيّ ولا يُرى

متشبّهاً في سؤددٍ بغريبِ

تُمضي صريمتَهُ وتُوقد رأيَهُ

عَزَماتُ جوذَرزٍ وسَوَرةٌ بيبِ(١)

شَرفٌ تتابع كابراً عن كابرٍ

كالرمح أُنبوباً على أُنبوبِ(٢)

وأرى النجابة لا يكون تمامها

لنجيب قوم ليس بابن نجيبِ(٣)

____________________

١ - جوذرز معرّب، وهو أحد أشكال (گودرز) و(بيب) شكل آخر! (گيوا). وكان قلب الواو و(الگاف) الفارسيّة باءً مألوفاً جدّاً على ألسنة الآريّين.

٢ - جرى هذا البيت في آل نوبخت مجرى الأمثال.

٣ - ديوان البحتريّ ١٧٦-١٧٧.

٢٤

وقال هذا الشاعر في قصيدة أُخرى نظمها في مدح أبي الممدوح المذكور، أي: أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت (المقتول سنة ٣٢٢هـ):

ما للمكارم لا تُريد سوى أبي

يعقوبَ إسحاقَ بن إِسماعيلِ؟!

والى أبي سهلِ بنِ نوبختَ انتهى

ما كان من غُررٍ لها وحُجُولِ

نسباً كما اطّردت كُعوبُ مثقَّفٍ

لَدْنٍ يزيدك بسطةً في الطُّولِ

يُفضي إلى بيبِ بن جوذرزٍ الّذي

شهرَ الشجاعةَ بعد فَرطِ خمولِ

أعقابُ أملاكٍ لهم عاداتها

من كلّ نَيلٍ مثل مَدّ النِّيلِ

الوارثون من السرير سُراتَه

عن كلّ ربِّ تحيّةٍ مأمولٍ

والضاربون بسَهمةٍ معروفة

في التاج ذي الشُّرفات والإكليلِ(١)

وكان نوبخت من معاصري المنصور العبّاسيّ، ولمّا كان المنصور أوّل حاكم عبّاسيّ اهتمّ بالتنجيم وأحكام النجوم، ودعا المنجّمين إليه، وعمل بتوجيهاتهم، فقد استقطب أيضاً نوبخت الّذي كان على الدين المجوسيّ، وحثّه على اعتناق الإسلام

ولا يعلم أحد على وجه التحديد متى تعرّف نوبخت على المنصور ومتى انضوى إلى خدمته، وذكر أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد(٢) (٣٩٢-٤٦٣هـ)، والسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاووس (٥٨٩-٦٦٤هـ) في فرج المهموم(٣) أنّ نوبخت كان مسجوناً في الأهواز قبل أن يحكم المنصور، أي: قبل سنة ١٣٦هـ.

____________________

١ - ديوان البحتريّ ١٧٧-١٧٩.

٢ - تاريخ بغداد ١٠: ٥٤-٥٥.

٣ - مخطوطة في مكتبة الآستانة الرضويّة المقدّسة، مشهد.

٢٥

وحدّث إسماعيل بن عليّ النوبختي تلميذه الحسين بن القاسم الكوكبيّ فقال له: كان جدّنا نوبخت على دين المجوسيّة، وكان في علم النجوم غاية وكان محبوساً بسجن الأهواز، فقال: رأيت أبا جعفر المنصور وقد أُدخل السجن، فرأيت من هيبته، وجلالته، وسيماه، وحسن وجهه، وبنائه ما لم أره لأحد قطّ، فصرت من موضعي إليه فقلتُ: يا سيّدي، ليس وجهك من وجوه أهل هذه البلاد، فقال: أجل يا مجوسيّ، قلت: فمن أيّ بلاد أنت؟ فقال: من أهل المدينة، فقلتُ: أيّ مدينة؟ فقال: مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلتُ: وحقّ الشمس والقمر إنّك لَمن ولد صاحب المدينة! قال: ولكنّي من عرب المدينة، قال: فلم أزل أتقرّب إليه وأخدمه حتّى سألته عن كنيته، فقال: كنيتي أبو جعفر. فقلتُ: أبشر فَوَحقِّ المجوسيّة لَتملكنّ جميع ما في هذه البلدة، حتّى تملك فارس وخراسان والجبال.

فقال لي: وما يدريك يا مجوسيّ؟ قلتُ: هو كما أقول، فاذكر لي هذه البشرى. فقال: إن قضي شيء فسوف يكون، قال: قلت: قد قضاه الله من السماء فطب نفساً، وطلبت دواة فوجدتها، فكتب لي...، فلمّا ولي الخلافة صرتُ إليه فأخرجتُ الكتاب، فقال: أنا له ذاكر، ولك متوقّع، فالحمد لله الّذي صدق وعده، وحقّق الظنّ، وردّ الأمر إلى أهله، فأسلم نوبخت وكان منجّماً لأبي جعفر ومولى)(١) .

وعلى الرغم من أنّ القرائن تدلّ على أنّ نوبخت قد التزم المذهب السنّيّ لا محالة، وهو المذهب الرسميّ لحكّام بغداد، بَيْد أنّ أولاده اشتهروا بالتشيّع، أو أنّهم عُرفوا - في الأقل - بولاية آل عليّ على حدّ تعبير ابن النديم(٢) ، وسوف نرى أنّ عدداً منهم أصبح من كبار علماء الإماميّة فارتقى ذروة المجد.

وكان نوبخت وابنه أبو سهل من خاصّة المنجّمين عند المنصور، وعندما اعتزم المنصور إنشاء بغداد (شرع في بنائها سنة ١٤٤هـ) وضع أساسها في الساعة الّتي اختارها نوبخت، حسب الأحكام النجوميّة(٣) .

____________________

١ - تاريخ بغداد ١٠: ٥٥.

٢ - الفهرست ١٧٧.

٣ - تاريخ بغداد ١: ٦٧؛ تاريخ اليعقوبيّ ٢٣٨. de Goeje, B. G. A. Vll؛ الآثار الباقية ٢٧٠؛ آثار البلاد ٢٠٩؛ الكامل ٥: ٤٣٦ (طبعة ليدن)، وكتب تاريخيّة وجغرافيّة أُخرى،

salmon, introd, a la topog. De bagdad p. ١/٧٦.

٢٦

وتحدّث الطبريّ عن وقائع سنة ١٤٥هـ، فقال في سياق حديثه المفصّل حول قتل إبراهيم بن عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد النفس الزكيّة: دخل نيبخت المنجّم على أبي جعفر المنصور قبل أن يبلغه مقتل إبراهيم، فقال له: الظفر لك وسيُقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثّل ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقيّ:

فألقَت عصاها واستقرّت بها النَّوى

كما قرّ عيناً بالإيابِ المسافرُ

فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفَي جريب بنهر جَوْبَر(١) .

ورد البيت المذكور الّذي تمثّل به المنصور بعد اطّلاعه على قتل إبراهيم بن عبد الله في مقطوعة نقلها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني(٢) ، وهذا البيت جرى مجرى الأمثال عند العرب؛ إذ يُستشهد به في المواطن اللازمة، وكانت عائشة قد أنشدته بعد استشهاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وتمثّل به المنصور بعد قتل أبي مسلم الخراساني(٣) .

كان نهر جَوْبَر من المناطق أو الطُّسوج - كما اصطلح عليه الجغرافيّون القُدامى - القريبة من بغداد في الجانب الغربيّ من نهر دجلة(٤) ويبدو أنّ نوبخت وأولاده ابتنوا لهم دوراً وأنشأوا أبنية في الألفَي جريب الّتي أقطعها المنصور نوبخت؛ إذ أُثر أنّ لآل نوبخت - كما يستشفّ من القرائن - أملاكاً ودوراً في بعض ضواحي بغداد وأكناف دجلة، منها: حيّ (نهر طابق) وهو أحد الأحياء الغربيّة ببغداد(٥) ، ومنها:

____________________

١ - تاريخ الطبريّ ٣: ٣١٧-٣١٨ (طبعة ليدن)، والكامل لابن الأثير، وقائع سنة ١٤٥هـ، وكتاب العيون ٢٤٨ في أجزاء من التاريخ العربيّ Fragmenta hist, arabicorum طبعة دغويه de goeje وديونج de jong.

٢ - الأغاني ١٠: ٤٦.

٣ - حياة الحيوان ١: ٧، ٤٣، ٦٨، وكتاب الأذكياء لابن الجوزيّ ٥٣، ووفيات الأعيان ١: ٣٠٧.

٤ - ابن خرداذ به ٧.

٥ - الأغاني ٣: ١٦١.

٢٧

النوبختيّة(١) ، وكانوا يمتلكون منازل أيضاً قرب النعمانيّة (مدينة تقع بين بغداد وواسط على الساحل الغربيّ من دجلة)(٢) .

وليس في أيدينا معلومات أخرى عن سيرة نوبخت غير ما ذكرناه آنفاً وما نقله الحاج خليفة في كشف الظنون، إذ أورد اسمه في عداد المؤلّفين في الأحكام النجوميّة، ونسب إليه كتاباً في أحكام النجوم(٣) .

وإذا صحّ ذلك، فمن المحتمل بعامّة أنّ نوبخت عرّب الكتاب المذكور من الفارسيّة البهلويّة؛ إذ إن بعض المؤرّخين جعله في جملة الأفراد الأُوّل من أعضاء هذه الأسرة المنسوبة إليه الذين تَرجموا الكتب من الفارسيّة البهلويّة إلى العربيّة، ونقل ابنه أبو سهل عدداً من الكتب البهلويّة إلى العربيّة، وفي ضوء ما قاله ابن النديم، فإنّه كان يعوّل في علم النجوم على كتب الفرس في هذا الفنّ(٤) .

وكان نوبخت شيخاً كبيراً أيّام المنصور العبّاسيّ (١٣٦-١٥٨هـ)، وقد أعاقته شيخوخته عن أداء مهامّه حقّ الأداء فخوّل المنصور ولده أبا سهل وظيفة أبيه.

ويبدو أنّ نوبخت لم يعقب ولداً آخر غيره؛ لأنّ نسب آل نوبخت ينتهي إليه، ولم يذكر في الكتب والأشعار ولد لنوبخت سواه.

____________________

١ - تجارب الأمم ٥: ٢٧١ و٦: ١٩٧، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسيّ ٢٥٢.

٢ - تاريخ اليعقوبيّ ٣٢١.

٣ - كشف الظنون ٥: ٣٥.

٤ - الفهرست ٢٧٤.

٢٨

الفصل الثاني

أبو سهل بن نوبخت

قلنا سابقاً إنّ نوبخت عندما شاخ وضعف، وعجز عن خدمة المنصور جلس ابنه أبو سهل مجلسه في صحبة الحاكم العبّاسي بإشارة الحاكم نفسه.

وينقل أبو سهل أنّه لمّا مَثُل بين يدي المنصور، تسمّى له (بخُر شاذماه(١»(٢) ، و(طيماذاما زرياذ)(٣) و(خسروا بهمشاذ)(٤) . فقال له: كلّ ما ذكرت فهو اسمك؟ قال: نعم، فتبسّم وقال: إمّا أن أقتصر بك من كلّ ما ذكرت على (طيماذ)، وإمّا أن تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم، وهي أبو سهل، قال أبو سهل: قد رضيت بالكنية(٥) ، فبقيت كنيته وبطل اسمه)(٦) .

____________________

١ - لا جرم أنّ هذه الكلمات مصحّفة ولذا يعسر فهمها، الجزء الأوّل من الكلمة الأُولى (خورشيد) (شمس) وكانت تكتب (خرشيد) بلا واو، والألف بعد الخاء عربيّة كان يستعملها المؤلّفون العرب أحياناً للتعبير عن صوت الياء الفارسيّة المجهولة.

٢ - خ. ل: خرخشاذ.

٣ - خ. ل: مازارباد.

٤ - خ. ل: خسروانهشاه.

٥ - لعلّ اختيار هذه الكنية يعود إلى صعوبة تلفّظ الاسم الطويل، وهو ما تنبّه إليه المنصور.

٦ - ابن أبي أُصيبعة ١: ١٥٢، والقفطيّ ٤٠٩، ومختصر الدول ٢٢٤.

٢٩

وظلّ أبو سهل في خدمة المنصور منذ بناء بغداد (سنة ١٤٤هـ) على ما نقل ياقوت، وهو الذي اختار الطالع عند إنشائها بأمر المنصور، وخبّره بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها، وأعلمه أيضاً بخلّة من خلالها، هي: أنّه لا يموت بها سلطان حتفَ أنفِه أبداً(١) .

ولبث أبو سهل عند المنصور من سنة ١٤٤ إلى سنة ١٥٨هـ، وهي السنة التي توفّي فيها المنصور، ولم يبارحه، وكان من ندمائه، ولازمه حتّى في آخر حجّة حجّها، وهي الحجّة التي هلك فيها (٢٤ ذي الحجّة سنة ١٥٨هـ).

ونقل أبو سهل نفسه لولده إسماعيل أنّه صاحب المنصور في آخر حجّة حجّها، ومعه ابن اللَّجْلاج طبيب المنصور الخاصّ، وعندما كان المنصور يَخلُد إلى النوم، كان أبو سهل ينادم ابن اللجلاج، وفسأل ابن اللجلاج - وقد عمل فيه النبيذ - أبا سهل عمّا بقي من عمر المنصور، فعزّ ذلك عليه وامتنع عن تناول النبيذ، وعزم على الكفّ عن منادمة ابن اللجلاج، وهجره ثلاثة أيّام، ثم اصطلحا بعد ذلك واستبدلا الصلح والصفاء بالتوتّر والكدر، فلمّا جلسا يحتسيان النبيذ على عادتهما قال ابن اللجلاج معاتباً أبا سهل: (سألتك عن علمك ببعض الأمور فَبخِلتَ به وهجرتني، ولستُ أبخل عليك بعلمي فاسمَعْه)، ثمّ قال: (إنّ المنصور رجل مَحرُور تَزداد يُبوسةُ بدنه كلّما أسَنّ، وقد حلق رأسه بالحيرة وجعل تمكان الشعر الذي حلقه غالية، وهو في هذا الحجاز يداوم الغالية، وما يقبل قولي في تركها، ولا أحسبه يبلغ إلى فَيد حتّى يحدث في دماغه من اليبس ما لا يكون عندي ولا عند أحد من المتطبّبين حيلة في ترطيبه، فليس يبلغ فَيد إنْ بَلَغها إلاّ مريضاً، ولا يبلغ مكّة إنْ بلغها وبه حياة) .

____________________

١ - معجم البلدان ١: ٤٨٥-٦٨٤. ولم يصرّح الخطيب في تاريخ بغداد باسم هذا المنجّم، ونقل النبوءة المذكورة عن أحد المنجّمين دون تصريح باسمه، تاريخ بغداد ١: ٦٧.

٣٠

يقول أبو سهل: فو اللهِ ما بلغ المنصور فيد إلاّ وهو عليل وما وافى مكة إلاّ وهو ميّت، فدُفن ببئر ميمون(١) .

وعاش أبو سهل بن نوبخت بعد وفاة المنصور مدّة، وأدرك عصر هارون الرشيد (١٧٠-١٩٣هـ)، وكان في بيت الحكمة أو خزانة الحكمة، مركز اجتماع الفرس والشعوبيّة(٢) .

قضى أبو سهل خمساً وعشرين سنة من عمره تقريباً في خدمة الحكّام العبّاسيّين الأُوَل، ويبدو أنّه توفّي في أوائل حكومة هارون إذ لم يَرِد له ذكر منذ ذلك الحين، كما لا نجد له أثراً في شعر أبي نواس الذي كان يعيش بين ظهرانّي آل نوبخت، وكان معاشراً لأولاده .

كان أبو سهل من المنجّمين الفرس، وأحد المترجمين من اللغة الفارسيّة البهلويّة إلى العربيّة، ومعوّله في النجوم على معلومات المنجّمين الفرس وكتبهم في العهد الساسانيّ، وذكر له ابن النديم الكتب السبعة الآتية:

١ - كتاب اليَهُبَطان(٣) في المواليد.

٢ - كتاب الفأل النجوميّ.

٣ - كتاب المواليد (مفرد، وهو غير كتاب اليهبطان).

٤ - كتاب تحويل سِني المواليد.

٥ - كتاب المدخل.

٦ - كتاب التشبيه والتمثيل.

٧ - كتاب المنتحل من أقاويل المنجّمين في الأخبار والمسائل والمواليد وغيرها(٤) .

____________________

١ - عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ١؛ ١٥٢.

٢ - الفهرست ٢٧٤. طبقات الأمم ٦٠.

٣ - ثمّة اختلاف في قراءته: البهطمان والنهمطان، وورد في المخطوطة العائدة للميرزا أبي عبد الله الزنجانيّ (كان عالماً فاضلاً معاصراً للمؤلّف كما ذكر المؤلّف ذلك): اليهبطان كما تقدّم في النّص.

٤ - الفهرست ٢٧٤، والقفطيّ ٢٥٥.

٣١

ويبدو أنّ أشهر هذه الكتب هو الكتاب الأوّل، أي: اليهبطان في المواليد، وقد نقل ابن النديم فصلاً كبيراً منه في كتاب الفهرست(١) .

وضبط عنوان هذا الكتاب في النسخة المطبوعة من الفهرست: النهمطان، بَيْد أنّا آثرنا ما ذكرناه آنفاً، وفي أقرب الاحتمالات أنّ (يهبطان) إحدى الكلمات البهلويّة المأخوذة من اللغة الآراميّة، وقد ترجمت بالعربيّة: (مواليد)، والألف والنون في آخرها علامة الجمع بالفارسيّة.

وذكر ابن النديم أنّ اسم (أبو سهل) هو الفضل، كما حكاه القفطيّ أيضاً، ويبدو أنّ هذا سهو، للأسباب الآتية:

١ - إنّ اسم (أبو سهل) قد أُبطل من قبل المنصور العبّاسيّ لطوله فاختيرت له هذه الكنية كما مرّ بنا سابقاً.

٢ - سنلاحظ أنّ لأبي سهل ولداً يُدعى الفضل، ولعلّ ابن النديم قد شُبّه عليه؛ إذ تصوّر أنّ أبا العبّاس الفضل بن أبي سهل بن نوبخت هو أبو سهل بن نوبخت نفسه.

٣ - لم يذكر المؤلّفون في العصور المتأخّرة اسم (أبو سهل) لضياعه، وكان يشقّ عليهم العثور على اسمه، حتّى أنّ المعاصرين والقريبين من عهده كانوا يجهلون اسمه(٢) .

وذكر أبو العبّاس النجاشيّ صاحب الكتاب الرجاليّ المعروف اسم (أبو سهل) على أنّه طيمارث، متردّداً في ذلك(٣) ، وهذه الكلمة تصحيف لجزء من ذلك الاسم الطويل الذي أورده القفطيّ، وابن العِبريّ، وابن أبي أُصيبعة.

____________________

١ - الفهرست ٢٣٨-٢٣٩.

٢ - عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ١: ١٥٢.

٣ - رجال النجاشيّ ٢٩٠.

٣٢

الفصل الثالث

أبناء أبي سهل بن نوبخت

كان لأبي سهل بن نوبخت أبناء كثيرون، ذُكرت أسماء عشرة منهم في كتب الأخبار والأشعار.

وهؤلاء جميعهم كانوا معاصرين للشاعر المعروف أبي نواس - كما سنأتي عليه - وكانوا على اتّصال به. وهذا الشاعر الظريف الشهير طالما كان يتردّد إلى بيوتهم متنعّماً بموائدهم، وكان يمدحهم أو يهجوهم بما تمليه عليه قريحته الشعريّة، فكان الباعث على بقاء أسماء بعضهم، وخلود ذكرهم في أخباره وأشعاره، وفيما يأتي أسماء أبناء أبي سهل وأخبارهم:

١ - إسماعيل

وهو أشهرهم، وطارت أخباره مع أبي نواس بنحو يفوق التصوّر، وهجاه هذا الشاعر السليط اللسان هجاءً ركيكاً، ويلاحظ في ديوانه أربع قصائد يهجو بها إسماعيل(١) ، وأشهرها القصيدتان الآتيتان اللتان يصفه فيهما بالبخل واللؤم، فيقول في إحداهما:

____________________

١ - ديوان أبي نواس ١٧١-١٧٢ طبعة القاهرة، والجزء الأوّل من شرح ديوانه (مخطوطة في باريس).

٣٣

خبز إسماعيل كالوش

ي إذا ما شُقّ يُرفا

عجباً من أثر الصّن

عة فيه كيف يخفى

إنّ رفّاءك هذا

ألطفُ الأمّةِ كفّا

فإذا قابل بالنِّص

ف من الجِرذَقِ نِصفا

ألطف الصنعة حتّى

لا يُري مطعن أشفى

مثل ما جاء من التنّ

ور ما غادرَ حرفا

وله في الماء أيضاً

عملٌ أبدع ظَرفا

مَزجُهُ العذبُ بماء الب

ئر كي يزدادَ ضِعفا

فهو لا يسقيك منه

مثل ما يَشرب صِرفا(١)

ويقول في الأخرى:

على خبز إسماعيل واقية البُخلِ

فقد حلّ في دار الأمان من الأكلِ

وما خبزه إلاّ كآوى يُرى ابنُهُ

ولم يُرَ آوى في حزونٍ ولا سهلِ

وما خبزُه إلاّ كعنقاء مُغرِبٍ

تُصوَّر في بُسطِ الملوك وفي المثلِ

يُحدّث عنه الناسُ من غير رؤيةٍ

سوى صورةٍ ما إن تُمرّ ولا تُحلي

وما خبزهُ إلاّ كُليبُ بن وائلٍ

ومن كان يحمي عِزُّه منبتَ البقلِ

وإذ هو لا يَستبُّ خصمانِ عندَهُ

ولا الصوتُ مرفوعٌ بجدٍّ ولا هَزلِ

فَإنْ خبزُ إسماعيلَ حلّ به الّذي

أصابَ كُليباً لم يكن ذاك من ذُلِّ

ولكنْ قضاءٌ ليس يُسطاع ردّهُ

بحيلةِ ذي مكرٍ ولا فكرِ ذي عقل(٢)

____________________

١ - أخبار أبي نواس ١: ١٢٥-١٢٧، وشرح ديوانه لحمزة الأصفهاني، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس ١: الورقة ٢٥٢ b.

٢ - أخبار أبي نواس ١: ١٢٧-١٢٨، وشرح ديوانه ج١، وكتاب الحيوان للجاحظ ٣: ٤٠.

٣٤

هاتان القصيدتان مشهورتان جدّاً بين الأدباء العرب لا سيّما الثانية منهما، وهم ينقلونهما وينشدونهما على سبيل الاستشهاد, كما نجد أنّ أبا زيد المروزيّ عندما ذهب مع أبي حيّان عليّ بن محمّد التوحيديّ إلى منزل ذي الكفايتين عليّ بن محمد بن العميد، واعتذر لهما حاجبه لانشغاله بأكل الخبز، تمثّل بالقصيدة الثانية(١) . وتوهّم مركليوث(٢) الذي طبع معجم الأُدباء أنّها لأبي زيد المروزيّ، وأنّها أُنشدت في الصاحب إسماعيل بن عبّاد، وذكر ذلك في ذيل الصفحة التي ورد فيها اسم إسماعيل، في حين هي لأبي نواس في ذمّ إسماعيل بن أبي سهل، وإنّما تمثّل بها أبو زيد المروزيّ كما نصّ على ذلك ياقوت.

تعرّض أبو نواس إلى لوم الأدباء الذين جاؤا بعده بسبب هجائه إسماعيل ووصفه إيّاه بالبخل، مع أنّه أكرمه وضيّفه، ونجد الجاحظ لم يتوانَ عن ذمّ سلوكه ونكرانه للجميل(٣) ، علماً أنّ إسماعيل هذا فاق إخوته في خدمته لأبي نواس، وضبطه أخبارَه وأشعاره، وروايتها للناس، ونقل حمزة الأصفهاني وغيره أخبار أبي نواس عنه بعدّة وسائط(٤) ، وأبو نواس نفسه عندما مدح إسماعيل، فإنّه أثنى على مجده وحلمه(٥) .

وظلّ إسماعيل بن أبي سهل حيّاً ردحاً من الزمن بعد وفاة أبي نواس (القول الأصحّ سنة ١٩٩هـ)، وقال في حقّ هذا الشاعر: (ما رأيت قطّ أوسع علماً من أبي نواس، ولا أحفظ منه...، ولقد فتّشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلاّ قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير).

عاش إسماعيل حتّى سنة ٢٣٢هـ في الأقلّ، وهي سنة وفاة الواثق العبّاسيّ.

____________________

١ - معجم الأُدباء ٥: ٣٨٢.

٢ - Margoliouth.

٣ - البخلاء ٧٧.

٤ - شرح ديوان أبي نواس في مواضع متعدّدة، وأخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط)، ووفيات الأعيان ١: ١٩٩ طبعة de slane.

٥ - ديوان أبي نواس ١٠٦ (طبعة مصر سنة ١٣٢٣).

٣٥

وكان من ندماء المأمون، ومن الأُدباء الّذين عاشوا في بلاطه(١) ، وروى عنه أحد تلاميذه، وهو أبو الحسن يوسف بن إبراهيم الكاتب الذي كان بدمشق سنة ٢٥٥هـ، وهو من خدم أبي إسحاق إبراهيم بن المهديّ (١٦٣-٢٢٤هـ).

ونصّ الطبريّ على أنّ الواثق العبّاسيّ عندما احتُضِر سنة ٢٣٢هـ، استُشير فيه جماعة من الأطبّاء والمنجّمين، منهم الحسن بن سهل أخو ذي الرئاستين الفضل بن سهل السرخسيّ، وإسماعيل بن (أبي سهل) بن نوبخت(٢) .

وخلط أبو الفرج بن العبريّ بين الحسن بن سهل السرخسيّ أخي الفضل بن سهل، وبين إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت المذكورين في رواية الطبريّ، وقال إنّ الحسن بن سهل بن نوبخت كان من المنجّمين الذين حضروا عند الواثق حين احتضاره، في حين كان المقصود من الحسن المنجّم كما ذكر الطبريّ - وورد في الكامل: الحسن بن سهل المنجّم(٣) - هو أخو الفضل ذي الرئاستين الذي مات بعد الواثق بأربع سنين، أي في سنة ٢٣٦هـ، وهو الذي كان يأتي الواثق أيّام علّته غالباً ويسأل عنه، ويتحدّث معه حول أقسام الأغذية وضروب الأمراض(٤) .

وحصل هذا السهو نفسه تقريباً لكِلّر(٥) الذي نشر قسماً من تاريخ بغداد لمؤلّفه أحمد بن أبي طاهر طيفور عندما أراد أن ينظّم دليلاً هجائيّاً للكتاب المذكور، علماً أنّ مؤلّف الكتاب يقصد من الحسن بن سهل هو الحسن أخو ذي الرئاستين؛ إذ ذكره مرّة بوصفه منجّماً، وعدّه الناشر أيضاً في مسرد الكتاب من آل نوبخت، ومُني آخرون بهذا الخلط(٦) .

____________________

١ - تاريخ بغداد لابن طيفور ٢٩٩-٣٠٠.

٢ - تاريخ الطبريّ ٤: ١٣٦٤.

٣ - الكامل، وقائع سنة ٢٣٢هـ.

٤ - الأوائل لأبي هلال العسكريّ، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس، الورقة ١٨٤ a.

٥ - keeler.

٦ - L.Massignon, passion d`al-halladj p.١٤٤، ومقدّمة كتاب فرق الشيعة، صفحة ط.

٣٦

٢ - أبو أيّوب سليمان

كان من ندماء أبي نواس ومضيّفي، روى قسماً من أخباره وأشعاره، ونقل حمزة الأصفهاني أكثرها في (شرح ديوان أبي نواس)، كما أوردها ابن منظور المصريّ في الكتاب المتعلّق بأخبار هذا الشاعر، ويستبين من مقطوعة لأبي نواس أنّ سليمان كان يحكم الزاب أيضاً(١) ، وكان في عداد الشعراء المقلّين، ونقل ابن النديم أنّ ديوانه يبلغ خمسين ورقة(٢) .

٣ - داود

نقل قسماً من أخبار أبي نواس، وكان من معاشريه(٣) .

٤ - إسحاق

وهو جدّ المتكلّم المعروف أبي سهل إسماعيل بن عليّ، وأخيه أبي جعفر محمّد لأبيهما، وجدّ أبي محمّد حسن بن موسى لأُمّه، وسنتحدّث عنهم قريباً.

٥ و٦ و٧ - أبو الحسين عليّ، وهارون، ومحمّد

كان عليّ من معاشري أبي نواس أيضاً، وكان هذا الشاعر يمدحه(٤) .

____________________

١ - ديوان أبي نواس المطبوع: ١٨٢.

٢ - الفهرست ١٦٦.

٣ - شرح ديوان أبي نواس، مخطوطة في المكتبة الوطنيّة بباريس، ج٢، الورقة ٢٩٥ b.

٤ - شرح ديوان أبي نواس، ج٢، الورقة ٥١٠ b، وأخبار أبي نواس، ج٢ (مخطوط).

٣٧

وعندما أنشد فيه مازحاً:

أبو الحُشَّين كُنيتُه بحقٍّ

فإن صحّفتُ قلتُ أبو الحسينِ

لم يتحمّل ذلك منه؛ إذ ليس له من الحلم ما كان لإخوته عبد الله، وسليمان، وعبّاس، فانقلب عليه ولاحَقَه ليعاقبه، ففرّ إلى بيت أخيه هارون بن أبي سهل، بَيْد أنّ عليّاً أدركه فأخذه وطرحه على الأرض وركله بشدّة، وتدخّل هارون فخلّصه من يد أخيه، وقال البعض إنّ أبا نواس مات بعد مدّة من جرّاء ذاك الركل(١) .

وروى العلاّمة المجلسيّ في بحار الأنوار نقلاً عن كتاب فرج المهموم للسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاووس أنّ هارون بن أبي سهل وأخاه محمّداً كتبا رقعة إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام (٨٣-١٤٨هـ) على أنّهما من أولاد نوبخت، وأنّ أباهما وجدّهما أمضَيا أعمارهما في تحصيل النجوم، فهل يجوز الاشتغال بهذا الفنّ أم لا؟ فأجابعليه‌السلام :«أنّه حلال» (٢) .

هذه الرواية تجانب الصواب تاريخيّاً، ذلك أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام توفّي سنة ١٤٨هـ، أي: قبل هلاك المنصور بعشر سنين، وكان أبو سهل بن نوبخت والد هارون ومحمّد - كما ذكرنا سابقاً حيّاً آنذاك، بل كان حيّاً حتّى سنة ١٧٠هـ - في الأقل - وهي السنة الأولى من حكومة الرشيد، فيكف يمكن حينئذٍ أن يذكر ولدا أبي سهل (من معاصري الأمين وأبي نواس) أباهما على أنّه ميّت قبل وفاته بثلاثين سنة تقريباً؟! فمن المحتمل - إذن - أنّهما كتبا هذه الرقعة إلى إمام آخر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام واستفتياه في حلّيّة الاشتغال بعلم النجوم أو حرمته.

٨ - أبو العبّاس الفضل

كان من ندماء أبي نواس، ومن المنجّمين المعاصرين لهارون الرشيد والمأمون(٣) ، له مصنّفات في النجوم أيضاً.

____________________

١ - أخبار أبي نواس، ج٢ (مخطوط).

٢ - بحار الأنوار ١٤: ١٣٢.

٣ - طبقات الأمم ٦٠ وبحار الأنوار ١٤: ١٤٣ نقلاً عن فرج المهموم للسيّد ابن طاووس وعيون أخبار الرضا ٣١٩-٣٢٠.

٣٨

وهو الذي أعلم المأمون بخطأ المنجّمين في اختيار الساعة التي تُفوّض فيها ولاية العهد إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فامتعض منه المأمون ونهره، على قول مشهور، وكان السيّد ابن طاووس قد طالع بعض كتبه النجوميّة، وشهد ببراعته في هذا الفنّ(١) .

وكان أبو نواس يمدحه تارةً ويهجوه تارة أخرى، وأشار في إحدى قصائده الهجائيّة إلى أنّ للفضل بن أبي سهل بنتين توأمين(٢) .

٩ - عبد الله

هجاه أبو نواس في إحدى قصائده، فرّد عليه أخوه سليمان بقصيدة أُخرى.

وهاتان القصيدتان في ديوان أبي نواس، وشرحه لحمزة الأصفهاني، وكتاب أخبار أبي نواس(٣) ، ونسب القفطيّ قصّة إخبار المأمون بخطأ المنجّمين - ومنهم الفضل ذو الرئاستين - إلى عبد الله، وذكر سهواً أنّ أباه سهل، ونقل الزمخشريّ في كتاب ربيع الأبرار حكاية عنه(٤) .

١٠ - سهل وابنه حسن

كان سهل من ندماء أبي نواس(٥) ، وابنه حسن من المنجّمين المشهورين وله كتاب في النجوم عنوانه الأنواء(٦) ، وظنّ عدد من المؤلّفين أنّه الحسن بن سهل السرخسيّ أخو ذي الرئاستين.

____________________

١ - فرج المهموم (مخطوط).

٢ - شرح ديوان أبي نواس ج١، ورقة ٢٩٨ b، وأخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط).

٣ - الديوان المطبوع ٣٤، وشرحه لحمزة ج١، ورقة ٤٥ b وأخبار أبي نواس ١: ١٩٩-٢٠٠.

٤ - تاريخ الحكماء ٢٢٢.

٥ - أخبار أبي نواس ١١١.

٦ - الفهرست ٢٧٥.

٣٩

ومن هؤلاء: ابن العبريّ الذي عدّه مكان أخي ذي الرئاستين، وذكر أنّه أحد المنجّمين الذين حضروا عند الواثق العبّاسيّ ساعة احتضاره(١) .

ولم يبقَ أثر من كتاب الأنواء المذكور الذي صنّفه الحسن بن سهل بن أبي سهل بن نوبخت، بَيْد أنّ أبا سعيد بن منصور بن عليّ بن بُندار الدامغانيّ الذي كان يعيش في أوائل القرن السادس الهجريّ له كتاب في أحكام النجوم نقل فيه أقوال حسن، وتحتفظ مكتبة مدرسة سپهسالار (سابقاً) في طهران بنسخة من الكتاب المشار إليه المصنّف في سنة ٥٠٧هـ(٢) .

أبو نواس وآل نوبخت

أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر العذب اللسان الفارسيّ الأصل الذي قلّما كان شاعر مثله - في قرون ما بعد الإسلام - في لطافة قوله وجمال ألفاظه وظرافته وذوقه، كما يستشفّ ذلك من ديوانه وشرحه النفيس لحمزة الأصفهاني، وكان على اتّصال وثيق بآل نوبخت، ويُمضي أكثر أيّامه في منازلهم، ويحتسي معهم الخمر متمتّعاً بنعمة وكرم أُولئك النبلاء المحبّين للفضائل، وأشار أبو نواس نفسه إلى ذلك مراراً، وسمّى آل نوبخت ندماءه على الشراب(٣) ، بَيد أنّه لم يتورّع عن الإساءة إليهم وذمّهم بما كان عليه من خليقة الهجاء وذلاقة اللسان، فهجا أبناء أبي سهل - لا سيّما إسماعيل - بسفساف من الشعر، وبلغ به الأمر أنّه قدح بأعراضهم.

____________________

١ - مختصر الدول ٢٤٥.

٢ - گاهنامه ١٩٣٢م، ص١٦١.

٣ - شرح ديوان أبي نواس، ج١، الورقة ٢٥٣ b.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

التّفسير

العقاب بعد البيان :

إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضا ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ما دام لم يبيّن حكما ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحدا ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) .

إنّ المقصود من (يضل) ـ في الأصل الإضلال والتضييع ، أو الحكم بالإضلال ـ كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق ، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه)(1) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة ، وهو في الواقع بمعنى العقاب.

أو أنّ المقصود من «الإضلال» ما قلناه سابقا ، وهو سلب نعمة التوفيق ، وإيكال الإنسان إلى نفسه ، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة ، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الذّنوب دائما هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد(2) .

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي إن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه ما دام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه.

__________________

(1) يتصور البعض أنّ باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم ، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال) أيضا ، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت ، حيث يقول في بيان عشقه وحبّه لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وطائفة قد أكفروني بحبّكم.

(2) لمزيد التوضيح حول معنى الهداية والضلال في القرآن ، راجع ذيل الآية (26) من سورة البقرة.

٢٤١

جواب سؤال

يتصور بعض المفسّرين والمحدّثين أنّ الآية دليل على أن «المستقلات العقلية» ـ (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع ، كإدراك قبح الظلم وحسن العدل ، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس وأمثال ذلك) ـ ما دام الشرع لم يبيّنها ، فإن أحدا غير مسئول عنها. وبتعبير آخر فإنّ كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية على الناس ، وعلى هذا فإنّ الناس قبل نزول الشرع غير مسئولين مطلقا ، حتى في مقابل المستقلات العقلية.

إلّا أنّ بطلان هذا التصور واضح ، فإنّ جملة( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ) تجيبهم وتبيّن لهم أنّ هذه الآية وأمثالها خاصّة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى التّبيين والإيضاح ، ومن المسلّم أنّها لا تشمل المستقلات العقلية ، لأنّ قبح الظلم وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.

الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول ـ إن صحّ ـ فلا وجه لوجوب تلبية دعوة الأنبياء ، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النّبوة ومعجزاته حتى يتبيّن لهم صدقه أو كذبه ، لأنّ صدق النّبي والحكم الإلهي لم يبيّن لحد الآن لهؤلاء ، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.

وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النّبوة بحكم العقل ، وهو من المستقلات العقلية ، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.

والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي كتاب التوحيد ، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(1) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلّي أصولي ، وهو

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 276.

٢٤٢

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شيء ، فإنّنا غير مسئولين عنه ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء مباح لنا ، إلّا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه ، وهو ما يسمونه ب (أصل البراءة).

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد :( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته ، فإنّه هو الذي( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وعلى هذا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادوهم ، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

* * *

٢٤٣

الآيتان

( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )

سبب النّزول

درس كبير!

قال المفسّرون : إنّ الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك ، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة ، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع ، إلّا أنّ اللطف الإلهي والتوفيق الرّباني شملهم ، فثبتوا في مكانهم.

ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة ، وكان من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،لا من المنافقين ، إلّا أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤٤

مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة ، وكان الهواء حارا محرقا ، فحضر يوما عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته ، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد ، فتذكر فجأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغاص في تفكير عميق ، وقال في نفسه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وضمن له آخرته ، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة ، وتحمل مشقّة هذا السفر ، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد ، يتمتع بأنواع الأطعمة ، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة ، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار ، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس ببنت شفة ، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : من هذا الراكب على الطريق؟ ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس ، قالوا : نعم ، هو أبو خيثمة ، فأناخ راحلته وسلّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدثه بما جرى له ، فرحبّ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له.

وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.

* * *

وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية ، خلاصته : إنّ ثلاثة من المسلمين وهم : «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «وهلال بن أمية» ، امتنعوا من المسير مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشتراك في غزوة تبوك ، إلّا أن ذلك ليس لكونهم جزءا من المنافقين ، بل لكسلهم وتثاقلهم ، فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن

٢٤٥

تقصيرهم ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة ، وأمر المسلمين أيضا أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة ، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهم بالمفارقة ، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر ، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا ، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال : كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا مغموم ، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي ، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها : إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا ، فتغير حالي وقلت : الويل لي ، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر : إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام ، إلّا أنّهم لا يكلمونهم قط ، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم ، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال : إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا ، فلما ذا لا يعتزل كل منا صاحبه ، صحيح أنّنا مذنبون جميعا ، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا ، ولم بتكلموا بكلمة واحدة ، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا وبعد خمسين يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(1) .

__________________

(1) مجمع البيان ، وسفينة البحار ، وتفسير أبي الفتوح الرازي.

٢٤٦

التّفسير

الحصار الاجتماعي للمذنبين :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك ، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير ، وما جرى خلاله.

فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول :( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) .

ثمّ تبيّن أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول :( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) . ثمّ توكّد مرّة أخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد :( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) .

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عند ما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعة اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول :( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) .

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّا وغمّا بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم( وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ

٢٤٧

إِلَّا إِلَيْهِ ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أخرى ، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

بحوث

وهنا بحوث نلفت النظر إليها :

1 ـ المراد من توبة الله على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، وقبل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ، وإن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحداث تبوك.

إلّا أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة هذا التّفسير ، لأن :

أوّلا : إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام:( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة ، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.

ثانيا : لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة : رجع عليه بفضله

٢٤٨

وقبوله :

ثالثا : إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإلهية تعم الجميع ، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ، بل هي الرحمة الإلهية الخاصّة التي أدركت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.

2 ـ غزوة تبوك وساعة العسرة

«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ، سواء كان قصيرا أم طويلا ، ولا يقال للزمن الطويل جدا : ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.

إن تاريخ الإسلام يبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ، لأنّ المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.

وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ، ولا بدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.

وإذا تجاوزنا جميع ذلك ، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.

والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية

أمّا من ناحية الطعام والشراب ، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.

٢٤٩

بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا ، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

لكن ، ورغم كل هذه الأوضاع ، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات ، فإنّهم توجهوا برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو العدو ، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون ، درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن درسا كافيا لكل الأجيال ، وطريقا للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.

لكن ، وكما رأينا ، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ، ولطف الله سبحانه بهم ، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.

3 ـ ما هو معنى( خُلِّفُوا ) ؟

لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب (خلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ، وذلك لأن المسلمين عند ما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ، فإنّهم لا يعبؤون به ، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى جبهات الجهاد.

أو لأنّ هؤلاء عند ما حضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ، وأخّر قبول توبتهم.

٢٥٠

4 ـ درس كبير دائمي

من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات ، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات ، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.

إنّ هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدّا ، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرءوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.

إنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون ، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون ، إلّا أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن ، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين ، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة ، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعا ، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.

أمّا روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال ، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين ، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.

5 ـ غزوة تبوك ونتائجها

منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته ، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام ، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إنّ انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت

٢٥١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية ، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم ، فلما بزغ فجر الإسلام ، وظهرت قوّة جيش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة ، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز ، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع ، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل ، وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم ، واستقر الجيش في حدود الحجاز ، فوصل الخبر إلى مسامع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق المسافرين ، فأراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.

فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد ، وبعث الرسل الى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين ، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحّر ، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية ، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّا ، إلّا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

إنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية ، والمسير الطويل ، والرياح السموم المحرقة ، وعواصف الرمال الكاسحة ، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل ، قد عرف ب (جيش العسرة) ، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل ، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلف علياعليه‌السلام مكانه ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إن قيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة عليعليه‌السلام مكانه كان عملا ضروريا وفي محله ، فإنّه

٢٥٢

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة ، إلّا أنّ وجود عليعليه‌السلام كان سدّا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش الروم ، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم ، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة ، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب ، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم ، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود ، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة ، شائعة لا أساس لها ، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية ، فخافوا من ذلك.

إلّا أنّ حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس :

أولا : إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام ، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا : إنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمضوا عهودا بعدم التعرض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربته ، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية ، وأمنوا خطرهم.

ثالثا : إنّ إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم ، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم ، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعا : إنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق ، وتحملهم لهذه الصعاب ، قد عبّدوا

٢٥٣

الطريق لفتح الشام في المستقبل ، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا ، فإنّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع ، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية ، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق ، وضعفت مقاومتهم الجسمية ، فأقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

* * *

٢٥٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) )

التّفسير

كونوا مع الصّادقين :

في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم ، ونبّهوههم على خطئهم.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.

في البداية تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت :( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين ، ومن هم؟إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق ، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.

٢٥٥

فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (177) :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة ، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثمّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول : إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.

وعلى هذا ، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات ، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي ، وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقرا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإنّ هذه الآية أيضا تعرّف الصدق بأنّه مجموع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.

ونقرا في الآية (8) من سورة الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أنّ الصادقين هم الذين

٢٥٦

يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟

بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين ـ كما ذكرنا سابقا ـ مفهوم واسع ، إلّا أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.

يروي سليم بن قيس الهلالي : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين ، ومن جملة ما قال : «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) . فقال سلمان : يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة»؟ قالوا : اللهم نعم(1) .

ويروي نافع عن عبد الله بن عمر : إنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمّد وأهل بيته(2) .

وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا : مع محمّد وأصحابه ، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان ، وصحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في زمن خاص ، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة ، وقال : إنّ

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

(2) المصدر السّابق.

٢٥٧

موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس ، يروي في ذيل هذه الآية : هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول : أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز(1) .

أمّا المطلب الأهم ، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى ، ثمّ بالكون مع الصادقين ، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّا وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لكان اللازم أن يقال : وكونوا من الصادقين ، لا مع الصادقين. (فتأمل جيدا).

إنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.

ومن جهة أخرى ، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.

إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟

وعلى هذا ، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا النظر فيها.

إن الملفت للنظر هنا ، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي ، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول : إنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّه يضيف بعد ذلك : إنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا ، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت ، إلّا أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمّة ، لا أنّه فرد

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

٢٥٨

واحد! وبتعبير آخر : إنّ هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين ، وعدم خطأ مجموع الأمّة(1) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا ، إلّا أنّه زاغ في النصف الثّاني ، ولو أنّه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضا بسلامة ، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمّة ، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام ، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي ، والتابعين غير المتبوعين ، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).

ونتيجة ذلك : إنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.

ويبقى سؤال أخير ، وهو أنّ الصادقين جمع ، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟

والجواب على هذا السؤال واضح أيضا ، وهو أنّ الخطاب ليس مختصا بأهل زمن وعصر معين ، بل إنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون ، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر ، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم ، فإنّنا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإعتبار ، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.

والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد تجب طاعته غير شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه ، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 16 ، ص 220 ـ 221.

٢٥٩

الآيتان

( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) )

التّفسير

معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب :

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.

فالآية الأولى تقول :( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) لأنّه قائد الأمّة ، ورسول الله ، ورمز

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288