آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92062 / تحميل: 9530
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.

ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ بالله منها ومن أمثالها.

ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على الله تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٧.

٢١

بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف الله تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس(١) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياءعليهم‌السلام ؛ لأنّ دليل

__________________

(١) جبل أبي قبيس : هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكرّمة ، قيل : سمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس ، وقيل : كنّاه النبيّ آدمعليه‌السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس ، وكان في الجاهلية يسمّى « الأمين » لأنّ الحجر الأسود كان مستودعا فيه أيّام الطوفان.

انظر : معجم البلدان ١ / ١٠٣ رقم ١٥٩ ، مراصد الاطّلاع ٣ / ١٠٦٦ ، وانظر مادّة « قبس » في : لسان العرب ١١ / ١١ ، تاج العروس ٨ / ٤٠٥.

٢٢

النبوّة هو : أنّ الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.

ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه الله تعالى ، وكان الواجب ـ على قولهم ـ أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.

* * *

٢٣

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من الله تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه(٢) .

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد ـ على رأي الأشاعرة ـ فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ الله يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٠٣.

(٢) انظر الصفحة ٧ من هذا الجزء.

٢٤

وأقول :

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها!(١) .

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم » إلى آخره

ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد الله سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا(٢) .

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم »

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع الصفحة ٩ من هذا الجزء.

٢٥

فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فالله أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك الله أحسن الخالقين.

* * *

٢٦

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المطلب الرابع

في أنّ الله تعالى يفعل لغرض وحكمة

قالت الإمامية : إنّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم(٢) .

وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات(٣) .

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، والله تعالى يقول :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالى ـ : ١١٥ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٩٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٢٧

وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (١) ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (٢) .

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ١٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩١.

٢٨

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة(٢) .

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها(٣) .

ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.

فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه(٤) ، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :

منها : أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٢٤.

(٢) راجع ج ٢ / ٣٤٦ من هذا الكتاب.

(٣) المحيط بالتكليف : ٢٦٣ ، وانظر : ج ٢ / ٣٤٥ من هذا الكتاب.

(٤) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٩

والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٠٥.

٣٠

وأقول :

لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم(١) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدينرحمه‌الله في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه »(٢) .

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى الله تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّفرحمه‌الله بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».

فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣ ، وقد مرّ ذلك في ج ٢ / ٣٤٧ ه‍ ١.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

٣١

أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم(١) .

وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها(٢) فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٩ من هذا الجزء.

(٢) تمهيد الأوائل : ٢٢٧ ، الملل والنحل ١ / ٨١ ـ ٨٢ ، المواقف : ٢٧٩ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

٣٢

تعالى :( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (١) .

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب الله وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى :( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (٢) .

هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد ـ مع ردّه ـ عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي(٣) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام

قال : « إعلم أنّه ـ رضي الله عنه ـ قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

__________________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ١ و ٢.

(٢) سورة المطفّفين ٨٣ : ٣٤.

(٣) هو : محمّد بن صفي الدين عبدالرحمن بن محمّد بن عبدالسلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي ، ولد سنة ٨٣٢ ه‍ وتوفّي سنة ٩٠٦ ه‍ ، له تصانيف عديدة منها : جوامع التبيان في تفسير القرآن ، كتاب تهافت الفلسفة ، حاشية على التلويح للتفتازاني.

انظر : هديّة العارفين ٦ / ٢٢٣ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٤٠١ رقم ١٤٠٠٤.

٣٣

وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة(١) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات »(٢) .

والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس(٣) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل الله وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا

__________________

(١) في المصدر : « مرّة » ، والمرّة ، القوّة وشدّة العقل ؛ انظر : لسلن العرب ١٣ / ٧٤ مادّة « مرر ».

(٢) إحقاق الحقّ ١ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) التبصرة في أصول الفقه : ٤١٩ مسألة ٣ ، المستصفى من علم الأصول ٢ / ٢٣٤ ، المحصول في علم أصول الفقه ٢ / ٢٤٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٣ / ١٦٤ وما بعدها ، المواقف : ٣٦.

٣٤

من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف »(١) .

وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.

على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح » إلى آخره

إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!

وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه الله سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥

قال المصنّف ـ رحمه الله تعالى ـ (١) :

ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون الله سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ بالله من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٩.

٣٦

وقال الفضل (١) :

جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.

وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.

وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه »

فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.

وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٤.

٣٧

وأقول :

منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر :

لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت

كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما(١)

فإنّها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما(٢)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.

* * *

__________________

(١) السّحّ : الصّبّ المتتابع الكثير ، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١٨٨ مادّة « سحح ».

والدّيم ، جمع ديمة : المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق ، وهي هنا على المجاز : العطاء الدائم المستمرّ ؛ انظر : لسان العرب ٤ / ٤٤٦ و ٤٥٨ مادّتي « دوم » و« ديم ».

(٢) البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّاد ؛ انظر ديوانه : ٤٠٩ ـ ٤١٠ رقم ٢١٤ ، وانظر : مرآة الجنان ٢ / ٣١٤ ، شذرات الذهب ٣ / ١٠٥.

٣٨

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.

فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٠ ـ ٩١.

٣٩

وقال الفضل (١) :

إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ]

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل(٢) .

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء

مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فالله تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٣٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٠٤.

٤٠

وكان بينهم من أُوتي قريحة شعريّة كسليمان بن أبي سهل، فلم يسكت بل كان يردّ على هذا الشاعر الخليع هجاءه ويذمّه ويعنّفه، وهذا التعنيف كان يغضب أبا نواس بدلاً من أن يذكّره بسوابق نعم آل نوبخت وفضلهم عليه، فيثب إلى هجاء بني أبي سهل بشعر أكثر حدّة وقذاعة، كما نجد ذلك عندما هجا زرّين زوجة أبي سهل جدّة النوبختيّين، فقال في آخر مقطوعة بذيئة جدّاً، وهو يردّ عليهم:

سيبقى بقاءَ الدهرِ ما قلتُ فيكُمُ

وأمّا الذي قد قُلتموه فَرِيحُ(١)

وإنّ من عجائب الدهر حقّاً أن تبقى هذه الأبيات القبيحة المبتذلة التي مرّ عليها ما يزيد على ألف ومائتي سنة كما تنبّأ أبو نواس بذلك، ولم يبق من الكتب الثمينة التي صنّفها آل نوبخت إلاّ كتاب أو كتابان، والأعجب من ذلك أنّ البيت المذكور جرى مجرى الأمثال، وتداولته الألسن في عصر حمزة الأصفهاني(٢) .

إنّ الخصومة التي ظهرت في نهاية المطاف بين أبي نواس وأبناء أبي سهل ودفعت الشاعر إلى قذعهم، جعلت البعض يتّهم آل نوبخت بأنّهم قد دسّوا له السمّ، فذهبت جماعة إلى أنّ آل نوبخت سمّوه لمقطوعة نظمها زنبور الكاتب أحد معاصريه في هجاء الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأتباعه، ونسبها إليه ورواها عنه، ورأت جماعة أُخرى أنّ إسماعيل بن أبي سهل قام بذلك لهجاء أبي نواس إيّاه ووالدته، ووصفه بالرفض والبخل، وقال آخرون إنّ موته كان بسبب ضربة تلقّاها من عليّ بن أبي سهل في دار أخيه هارون(٣) ، ومهما يكن من شيء فإنّ دور آل نوبخت في موت أبي نواس يكتنفه الغموض تماماً، ولمّا لم يهتمّ كبار الكتّاب والمؤرّخين بذكر ذلك، فلنا أن نعدّه في سياق الطعون التي وجّهها أعداء آل نوبخت إليهم.

وعندما توفّي أبو نواس استبق أبناء أبي سهل إلى تجهيزه، وكان كلّ منهم يودّ أن ينال شرف ذلك، حتّى آل الأمر إلى إجماعهم على المساهمة فيه برمّتهم(٤) ، كما أنشدوا شعراً في رثائه أيضاً(٥) .

____________________

١ - أخبار أبي نواس ١: ٢٠٠.

٢ - شرح ديوان أبي نواس ج٢، الورقة ٤٠٥ b.

٣ - أخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط).

٤ - نفسه، ج٢ (مخطوط).

٥ - شرح ديوان أبي نواس ج٣، الورقة ٢٠٨ b.

٤١

ولما كان أبو نواس معاشراً لأولاد أبي سهل بن نوبخت مستأنساً بهم، وكان يَضيفهم غالباً، فإنّهم كانوا أقدر من غيرهم على جمع أخباره وأشعاره، بخاصّة أنّهم كانوا قاطبةً أولي علم وأدب، فكانوا يشترون تلك الأخبار والأشعار مهما بلغت قيمتها، ويجمعونها.

وإذا كان أبو نواس لم يُراعِ الدقّة الكافية في ضبط أشعاره، فتبعثر قسم منها وضاع(١) ، فإنّ آل نوبخت دوّنوها مع أخباره ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وتناقلوها في أسرتهم مشافهة، وزوّدوا بها من جاء بعدهم في القرون التالية ممّن كان يُعنى بتدوين أخبار أبي نواس وأشعاره، ومن هؤلاء: الأديب والمؤرّخ المشهور أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني (المتوفّى بين سنة ٣٥٩ و٣٦٠هـ) الذي شرح ديوانه شرحاً نفيساً جدّاً، وجمع أقواله، وأخذ معظم أخباره وأشعاره من آل نوبخت مباشرة؛ إذ سافر من أجل ذلك إلى بغداد ثلاث مرّات، وفي سفرته الثالثة، أي سنة ٣٢٦هـ، طلب نسخة ديوانه التي كان آل نوبخت قد جمعوها، فطالعها واستنسخها(٢) ، ثمّ إنّهم أرشدوه إلى مَن جمع أخباره وشعره، مضافاً إلى النسخة التي أتحفوه بها، ومن هؤلاء الذين أخذ منهم قسماً من أخباره وأشعاره: المُهَلْهِل بن يَموت بن المُزَرَّع أحد الشعراء البارعين، وحفيد أخت الجاحظ...، وكان مهتمّاً بجمع شعر أبي نواس، ويبدو أنّه كان يرمي من وراء ذلك إلى تأليف كتاب في السرقات الشعريّة لهذا الشاعر وفي تحايله، وتحتفظ مكتبة اسكوريال في إسبانيا بنسخة من كتاب المهلهل المذكور(٣) .

____________________

١ - شرح ديوان أبي نواس ج١، الورقة ٤ b.

٢ - نفسه، ج٢، الورقة ١٩٩ b.

٣ - Hart, Derenbourg. Mss. Ar. D,escurial، No ٧٧٢.

٤٢

وتلاحظ في عدد من الكتب أسماء النوبختيّين الذين نقلوا أخبار أبي نواس وأشعاره عن أجدادهم، أي أولاد أبي سهل بن نوبخت، وموّنوا بها أمثال حمزة الأصفهاني، وأبي بكر الصوليّ جامعَي ديوانه أو الرواة الآخرين. وفيما يأتي هذه الأسماء:

١ - أبو طالب النوبختيّ(١) .

٢ - محمّد بن روح(٢) .

٣ - أبو محمّد الحسن بن موسى(٣) (وفاته بين سنة ٣٠٠ و٣١٠هـ).

٤ - يعقوب بن إسحاق بن إسماعيل بن أبي سهل(٤) .

٥ - أبو سهل إسماعيل بن علي(٥) (٢٣٧-٣١١هـ).

٦ - أبو محمّد حسن بن حسين(٦) (٣٢٠-٤٠٢هـ).

٧ - علي بن إسحاق بن إسماعيل(٧) .

وسنذكر في الفصول الآتية ترجمتهم.

____________________

١ - شرح ديوان أبي نواس ج٢، الورقة ٢٧١ b.

٢ - نفسه ج٣، الورقة ٢٨١، وكتاب الموشّح للمرزبانيّ ٢٧٤.

٣ - الموشّح ٢٧٤.

٤ - نفسه.

٥ - أخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط).

٦ - تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ٧: ٤٤٣.

٧ - نفسه ١: ١٥٦.

٤٣

٤٤

الفصل الرابع

ظهور علم الكلام والمتكلّمين الأُوَل

أشرنا في مقدّمة كتابنا إلى أنّ عدداً من النوبختيّين كانوا في مصافّ المتكلّمين الكبار بين الإماميّة، وتزامن عصرهم مع اندفاع الفرق الإسلاميّة المختلفة للانطلاق بآرائها ومقالاتها ومناظرة مناوئيها، ونفقت يؤمئذٍ سوق المباحثة والمجادلة والمناظرة تماماً بسبب ترجمة كتب الإغريق في الفلسفة والمنطق، والكتب الدينيّة لغير المسلمين ومقالاتهم، بخاصّة الزنادقة، وأتباع ماني، وأصحاب مرقيون(١) ،

____________________

١ - كان مرقيون (Marcion) أحد علماء النصارى في القرن الثاني الميلاديّ، وقد كُفِّر من قبل النصارى بوصفه مرتدّاً، ونُبذ من ساحتهم، فابتدع له مذهباً جديداً أساسه مقتبس من الدين المسيحيّ لكنّه يغايره بإنكار سماويّة القسم الأعظم من العهد القديم وقسم من العهد الجديد، واعتقاده بالثنويّة، أي مبدأي النور والظلمة، وقال هذا الرجل: لمّا كان هذان المبدآن متضادّين لا يمكن اجتماعهما، فلابدّ من مبدأ ثالث أوطأ درجة من النور وأعلى من الظلمة يكون بينهما فيمتزج بهما فينشأ العالم من هذا الامتزاج، وينقسم العالم في عقيدة مرقيون إلى ثلاث طبقات، كلّ واحد فوق الأُخرى، فالطبقة العليا مَقرّ الله الرحمن، والسفلى نطاق المادّة، والوسطى التي هي فوق الأرض مركز قدرة الله الخالق، أي موجد العدالة والشريعة، الذي أوجد الإنسان من المادّة على صورته، ويعرف أتباع مرقيون بالمرقونيّة، وهم ينتشرون في إيطاليا، ومصر، والشام، وإيران. وظلّوا في تلك البلدان بعده بمدّة، للتعرّف على موجز من عقائد هذه الفرقة، انظر: الفهرست ٣٣٩؛ الملل والنحل ١٩٥-١٩٦؛ التنبيه و الإشراف =

٤٥

وابن ديصان(١) ، وابن سُمَنيّة(٢) ، والبراهمة، واليهود، والنصارى، والمجوس. ولم

____________________

= ١٠١، ١٢٧، ١٣٥؛ الفصل لابن حزم ١: ٣٦؛ بحار الأنوار ٢: ١٠٨-١٠٩؛ مقالات الإسلاميّين ٣٣٢ و٣٣٨؛ Burkitt, religion of the manichees ٨٠-٨٤.

١ - كان ابن ديصان (١٥٤-٢٢٢هـ) Bardesane أحد حكماء الشام، وهو بارثيّ المحتد، نزح أبواه من بلاد فارس إلى مدينة الرَّها (أُورفا الحاليّة) Edesse، فولد فيها ونُسب إلى نه دَيصان في الرَّها المذكورة.

تَنصّر سنة ١٧٩هـ، فكان من أكبر المدافعين عن النصرانيّة أمام المناوئين وأهل البدعة بخاصّة أتباع مرقيون، ثمّ اخترع آراء وعقائد لم يَرْضَها النصارى فأعلنوا ارتداده، وكان شاعراً وفلكيّاً ومؤرّخاً، وكان يرى رأي الثنويّة ويقول: النور فاعل الخير اختياراً والظلام فاعل الشرّ اضطراراً، ويصدر الحُسن والخير والنفع والرائحة الطيّبة عن النور عموماً، ويصدر القُبح والشرّ والضرّ والعفونة الكليّة عن الظلام.

والنور حيّ وعليم وقادر وحسّاس ودرّاك، ومنه الحركة والحياة، والظلام ميّت وجاهل وعاجز وجامد ولا يقبل التطبيق والتمييز، وتوزّع الديصانيّة على الصين، وخراسان، ومناطق القسم الأسفل من الفرات، أي البطائح، وكان منهم جماعة في عراق العرب في القرن الثالث الهجريّ، وكان أبو شاكر الديصانيّ من مشاهيرهم، وقد نسب نفسه إلى الإماميّة، وكان معاصراً للمتكلّم الإماميّ الكبير أبي محمّد هشام بن الحكم (المتوفّى سنة ١٩٩هـ).

واقتبس ماني كثيراً من عقائد مرقيون، وابن ديصان، ولذلك يعدّ هذان الشخصان عادة من المتقدّمين على ماني، ويُذكر هؤلاء الثلاثة غالباً في نَسَقٍ واحد، وكان المترجم والكاتب المانويّ المعروف عبد الله بن المقفَّع متّهماً بتعريب كتب هؤلاء الثلاثة ونشرها بين المسلمين، (مروج الذهب ٨: ٩٢٣).

للتعرّف على سيرة ابن ديصان وعقائده انظر: الفهرست ٣٣٨-٣٣٩، والملل والنحل ١٩٤-١٩٥، والفِصَل لابن حزم ١: ٣٦، وتلبيس إبليس ٤٧-٤٨، والتنبيه والإشراف ١٣٠ و١٣٥، والانتصار ٣٩-٤٣، وبحار الأنوار ٢: ١٥٦، ومقالات الإسلاميّين ٣٠٨، ٣٣٢ و٣٢٧ و٣٣٨ و٣٤٩ و٣٥٠.

w.wright, syriac literature ٢٨-٣٠. burkih, opcit. ٧٠-٧٩.

٢ - السُّمَنيّة مشتقّة من السُّمَن. وهو إمّا اسم مؤسّس هذه الفرقة، أو اسم صنمهم على ما يذهب إليه بعض اللغويّين الإسلاميّين، ظهرت هذه الفرقة بادئ الأمر في الهند، ولعلّ المذهب السمنيّ مستنبط من الأديان الهنديّة أساساً، ويعتقد السمنيّة بقدم العالم وتناسخ الأرواح، وينكرون النظر والاستدلال.

وكانوا يقولون: لا طريق إلى معرفة الأشياء إلاّ الحواسّ الخمس، وكانوا يكثرون في الصين، والهند، وخراسان، وناظر أحد مشاهيرهم المدعو جرير بن حازم الأزديّ المتكلّم المعتزليّ المعروف عمرو بن عُبَيد (٨٠-١٤٤هـ) في البصرة في القرن الثاني الهجريّ (الأغاني ٣: ٢٤)، للتعرّف على عقائد هذه الفرقة، انظر: الفهرست ٣٤٥، ومفاتيح العلوم للخوارزميّ ٢٥ طبعة مصر، والفرق بين الفرق ٣٤٦، وشرح المقاصد ١: ٣٣.

٤٦

تألُ الفرق الدينيّة جهداً في تأليف الكتب والرسائل للدفاع عن دينها والردّ على عقائد المخالفين، وبلغ اهتمام الناس بهذا الموضوع أنّ كلاًّ منهم كان يظهر وجوده على هذا المسرح بمقدار جهده ونفوذه وفهمه وتفكّره، بدءاً بالحكّام وأركان الحكومة، وانتهاءاً بالكسبة والحرفيّين من الذين كانوا أُولي فهم وإدراك لمثل هذه الموضوعات، وما من أحد إلاّ ورغب في الموضوع المشار إليه.

وكان على المسلمين أن يردّوا على المعترضين بجواب مقنع دامغ من جهة، ويوضّحوا المبادئ الدينيّة توضيحاً تامّاً من خلال التقرير المنطقيّ البيّن وتصنيف الكتب المتقنة من جهة أخرى، وذلك من أجل الدفاع عن مبادئ الدين الإسلاميّ صدّاً لتعرّض المناوئين أو حؤولاً دون التغلغل الفكريّ لبعض حديثي العهد بالإسلام، الذين لم ينسوا عقائد آبائهم الأوّلين مع قبولهم الشريعة المحمّديّة وتظاهرهم بالإسلام، وكانوا يتلمّسون طريقاً للتوفيق بين عقائدهم الباطنيّة والمبادئ الإسلاميّة. والمسلمون إنّما يفعلون ذلك لئلاّ يضلّ الناس من جهة، ولكي يوصد الباب على المغرضين من أهل البدعة والمتظاهرين بالإسلام من جهة أُخرى، وكان هذا الدفاع عملاً ترى عامّة الفرق الإسلاميّة أنّ القيام به واجب دينيّ وتكليف شرعيّ، وعلى الرغم من خلافاتها العامّة في بعض الأُصول والفروع إلاّ أنّها كانت تسهم في هذا الميدان باسم الدفاع عن الإسلام ودحض أهل الخلاف والبدعة، وكان آل نوبخت - كما سنرى - من أعلام الإماميّة في هذا الميدان ينافحون عن المبادئ الإسلامية التي تنسجم مع عقائد الإماميّة بأقلامهم وألسنتهم وأعمالهم، ولمّا كان متكلّمو كلّ فرقة من الفرق الإسلاميّة يومذاك قد دوّنوا عقائدهم منقّحة، وتركوا لأتباعهم عملاً منجزاً، وذلك بعد المناظرات الكثيرة، والبحث والجدل مع الخصوم، والتركيز في العمل، وإكمال المصطلحات، ووضع الحدود والرسوم لكلّ موضوع من الموضوعات الخلافيّة، فإنّ مكانة المتكلّمين من آل نوبخت تستبين جيّداً في تقرير وتدوين المبادئ المذهبيّة للشيعة، وعلى الرغم

٤٧

من أنّا نأسف إذ لم يصل إلينا من الكتب الكلاميّة لهذه الجماعة إلاّ كتاب أو كتابان - في حدود اطّلاعي - بَيْد أنّها كانت متداولة بين علماء الإماميّة الذين جاؤا بعدهم، وكانت مصدراً للطائفة الإماميّة من أجل كسب العلم والمعرفة.

ونقرأ أنّ عدداً من كبار متكلّمي الشيعة وعلماء الإماميّة كشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (٣٨٥-٤٦٠هـ)، والسيّد الأجلّ علم الهدى الشريف المرتضى أبي القاسم عليّ بن الحسين (٣٥٥-٤٣٦هـ)، والشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (٣٣٦-٤١٣هـ)، وأبي الجيش مظفّر بن محمّد البلخيّ (المتوفّى ٣٦٧هـ)، وأبي الحسين عليّ بن وصيف الناشئ الأصغر (٢٧٠-٣٦٥هـ)، وأبي الحسن محمّد بن بشر السوسنجرديّ، قد أخذوا العلم من أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ (٢٣٧-٣١١هـ) بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فقد كان الشيخ الطوسيّ تلميذ الشريف المرتضى، والشريف تلميذ الشيخ المفيد، والشيخ المفيد تلميذ أبي الجيش، وأبو الجيش تلميذ أبي سهل إسماعيل(١) ، وشرح العلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّيّ (٦٤٨-٧٢٦هـ) - وهو أحد علماء الإماميّة الكبار - وعبد الحميد بن أبي الحديد (٥٨٦-٦٥٥هـ) - وهو من معتزلة بغداد وأدبائهم ومتكلّميهم العظام، وكان قريباً من الشيعة في كثير من العقائد - الكتاب الكلاميّ المشهور (الياقوت) للشيخ أبي إسحاق النوبختيّ، ونشر فيه آراء المؤلّف مفصّلاً. ونقل الشيخ الصدوق في كتاب كمال الدين فصلاً من كتاب التنبيه لأبي سهل إسماعيل، ويستشهد ابن أبي الحديد، والعلاّمة الحلّيّ، والمجلسيّ في كتبهم بالأقوال الكلاميّة لآل نوبخت.

إنّ ترجمة المتكلّمين النوبختيّين وتعداد مصنّفاتهم والإشارة إلى المسائل الخلاقيّة بينهم وبين مخالفي الإماميّة، كلّ ذلك جعلنا نلتقي بكثير من الموضوعات

____________________

١ - روضات الجنّات: ٣١.

٤٨

والمصطلحات الكلاميّة، فلابدّ لنا إذن من أن نتحدّث في هذا الفصل قليلاً عن تاريخ ظهور علم الكلام بين المسلمين، وأحوال مشاهير المتكلّمين الأُوَل من الشيعة توضيحاً لهذا الموضوع، وهدفي من هذا التمهيد تثبيت ملاحظات تاريخيّة فحسب؛ إذ أنّ البحث في المسائل الكلاميّة ليس من شأن هذا الكتاب، كما أنّي لا أراني أهلاً للخوض في هذا الموضوع الخطير، من هذا المنطلق أرجو القرّاء الواعين أن يغضّوا الطرف إذا ما وجدوا خبطاً أو خطأً، ولا يؤاخذوني بإساءة الظنّ بي؛ فإنّي أُقرّ بقلّة بضاعتي وقصور باعي.

لم يظهر في عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ خلاف يؤدّي إلى الجدال والنزاع وانقسام المسلمين إلى فرق مختلفة، بسبب نفوذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقدرته المطلقة، وتحمّس المسلمين وشوقهم إلى نشر الشريعة والأحكام الدينيّة، ووجود العنصر العربيّ وحده في المجتمع الإسلامي، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعالج عامّة المشاكل، وأمره السامي متَّبَع، وطاعته واجبة على كلّ مسلم، وليس لأحد أن يعصيه ويتمرّد عليه، بَيْد أنّه ما إن رحل إلى ربّه حتى نشب الخلاف بين الصحابة حول الإمامة، أي تعيين الخليفة بعده، وهو بعدُ لم يُجهّز، وعلى الرغم من أنّ كبار الصحابة حاولوا أن يحولوا دون هذا الأمر، فلم يتيسّر لهم ذلك، وقد زادت أهميّته على تواتر الأيّام، حتّى غدا من أكبر مواطن الخلاف بين المسلمين.

يضاف إلى الخلاف المحتوم في الإمامة - وهو ما سنتحدّث عنه قريباً - بروز خلافات أخرى أيضاً في فروع الدين والشؤون الدنيويّة، وقد تيسّر رفعها عاجلاً بفضل اقتدار الصحابة، وكان علاج هذا الضرب من الخلافات يومئذٍ يتحقّق بالاستشهاد بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، فإذا ما نقل الصحابيّ حديثاً نبويّاً، أو روى ما سمعه من النبيّ أو رآه منه في موضوع خلافيّ معيّن، فليس لأحد أن يماري؛ لأنّ عامّة المسلمين كانوا يفكّرون بنسقٍ واحد، ولم يفتح أمامهم طريق الشبهة والتفكير في المسائل الدينيّة لمحدوديّتهم بالعنصر العربيّ، ومعرفتهم التامّة

٤٩

بدقائق اللغة العربيّة ورموزها وبالأُسلوب القرآني، وعدم اطّلاعهم على طريقة التفكير عند غير العرب، وعدم اختلاطهم بالمتحضّرين من سائر الأقطار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نهى الصحابة بشدّة عن تأويل الآيات المتشابهة والتفسير بالرّأي، بخاصّة أنّ المسلمين كانوا مشغولين في الجهاد والفتوحات وإدخال الناس في الإسلام، ولم يستتبّ الهدوء في المجتمع الإسلاميّ يومئذٍ فيكون المجال مفسوحاً لمثل هذا اللون من النقاش والتفكير؛ لذلك كان معظم الخلافات يطرأ في حقل فروع الدين والعبادات والمعاملات، ويتيسّر علاجه بالرجوع إلى الصحابة والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة.

وظهر الشعور بالحاجة إلى تعريف الإيمان والإسلام تعريفاً تامّاً في عصر أبي بكر، بعد ارتداد عدد كبير من سكّان الجزيرة العربيّة وظهور المتنبّئين وذلك لتمييز المسلمين الحقيقيّين من المرتدّين والذين تمرّدوا على الأحكام الإسلاميّة، فتستبين المبادئ التي إذا اتّبعها الإنسان كان مؤمناً ومسلماً حقيقيّاً، وإذا خالفها واجترح السيّئات كان في عداد المرتدّين والكفّار، واكتسبت هذه المسألة أهمّيّة فائقة فأوجدت التفرقة والانقسام بين المسلمين بعد سلسلة من الأعمال المشينة التي مارسها عثمان، وبعد قتال طلحة والزبير وعائشة أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وظهور الخوارج، وحكومة معاوية غير الشرعيّة، وتحرّكاته المشاكسة.

وانقسم المسلمون بعد مقتلِ عثمان ومبايعةِ أكثر الناس عليَّ بن أبي طالبعليه‌السلام (٣٥هـ) إلى ثلاث فرق هي:

١ - فرقة ثبتت على ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ممتثلة أوامره.

٢ - فرقة اختارت الحياد واعتزلت، وعدد أفرادها ضئيل جدّاً.

وهؤلاء لم ينصروا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه، ولم يخذلوا مناوئيه.

واعتزلوا (الفتنة) على حدّ تعبيرهم فسُمّوا المعتزلة، وينبغي ألاّ نحسب هذه الفرقة الضئيلة المحايدة فرقة كبيرة كسائر الفرق التي ظهرت فيما بعد، ومن أفراد هذه

٥٠

الفرقة: سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاريّ، وأُسامة بن زيد بن الحارث الكلبيّ، والأحنف بن قيس، وغيرهم.

٣ - فرقة تمرّدت على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام مطالبة بدم عثمان، وتعرف هذه الفرقة بالعثمانيّة. وترأسها طلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد قضى عليهم الإمامعليه‌السلام في واقعة الجمل سنة ٣٦هـ، فقُتل طلحة والزبير، وفرّ الباقون من أعوانهم، والتحقت جماعة منهم بمعاوية، وناوؤا أمير المؤمنينعليه‌السلام مع أهل الشام، ونصبوا معاوية إماماً لهم، فنشبت حرب صِفّين سنة ٣٧هـ، وانتهت بالتحكيم كما نعلم، وبعد إعلان نتيجة التحكيم مرقت جماعة من أصحاب الإمام كانوا على بيعته فخطّأوا قبول التحكيم، ونقضوا بيعة الإمام وخرجوا عليه، ومع أنّ خلقاً كثيراً قُتل منهم في وقعة النهروان (سنة ٣٩هـ) لكنّهم لم يتركوا عقائدهم، وزاد عددهم على كرور الأيّام حتّى أصبحوا فرقة كبيرة في مقابل أهل السنّة والجماعة والشيعة، ومن ثَمَّ أثاروا المتاعب للمسلمين، وتفرّعت منهم فرق عديدة.

وعندما استشهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (سنة ٤٠هـ) كانت هناك فرقة صغيرة هم الشيعة الذين كانوا يؤمنون بإمامة الإمام وخلافته بعد النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يَرَون أنّ حقّ الخلافة لآل عليّعليه‌السلام ، يضاف إلى ذلك أنّ سائر المسلمين وأتباع طلحة والزبير وعائشة قد اتّحدوا مع أصحاب معاوية الذين كانوا يؤلّفون السواد الأعظم من المسلمين، فعُرفوا بالمرجئة، وضمّت هذه الفرقة أصحاب البلاط والمقتاتين على فُتات مائدة معاوية، وأنصار الغالب، أعني من التفّ حول معاوية، وكانت عقيدتهم أنّ أهل القبلة جميعهم مؤمنون ما أقرّوا بالشهادتين ظاهراً، وأنّ ارتكاب الخطيئة لا يضرّ الإيمان كما أنّ الكفر لا يزول بالطاعة، ولا يحقّ لأحد أن يحكم على أهل الكبائر بأنّهم في النار أو في الجنّة، وإنّما ينبغي تأجيل حكمه إلى يوم القيامة، وإرجاء عذابه إلى ذلك اليوم.

إنّ عقيدة المرجئة في الإمام الذي يخلف الرسول هي أنّه إذا اختير شخص

٥١

للإمامة بالإجماع، فإنّ كلامه نافذ، وأمره مفترض الطاعة، ولا تشترط عصمته من الخطأ، وكانت هذه العقيدة في مصلحة معاوية والحكّام الأمويّين بعده تماماً، ولهذا السبب يقال للمرجئة فرقة الأمويّين الحكوميّة، ولمّا كان الشيعة والخوارج ممتعضين شديد الامتعاض من الأمويّين لممارساتهم المشينة وإقحامهم النصارى في الأعمال، فإنّ المرجئة دعمت بني أميّة، وكان لها شأنها أيّام تسلّطهم، وما إن ألوى بهم الدهر حتّى فقدت مكانتها، وكان أبو حنيفة النعمان بن ثابت من أعضاء هذه الفرقة في العراق، وهو الذي ابتدع المذهب الحنفيّ أحد المذاهب السنّيّة الأربعة.

المعتزلة

نشط التفكير في أصول المذهب، وإثارة الشبهات، وتأويل الآيات القرآنيّة تدريجاً في أواسط العصر الأمويّ من قبل جماعة من المسلمين غير العرب، أو من قبل الأشخاص الذين عاشروا الأُمم الأجنبيّة الكافرة وأخذوا منهم بعض الآراء والعقائد، وكان موضوع القضاء والقدر والجبر والتفويض هو الموضوع المهمّ جدّاً الذي توجّهت إليه الأنظار، وظهرت أوّل شبهة في هذا الميدان أيّام حكومة عبد الملك بن مروان (٦٥-٨٦هـ)، وكان معبد بن عبد الله الجُهَنيّ هو الذي أثارها، إذ عارض المجبّرة أو الجبريّة وأتى بكلام يخالف فيه عقيدة أهل الجبر.

وكان المجبّرة يقولون إنّ العبد غير قادر على أيّ فعل، بل هو مجبور ومقهور على ذلك، والله هو الذي يُحدث الفعل عند ظهوره من العبد، ونسبة أفعال الخير والشرّ إلى الناس نسبة مجازيّة، وكما نقول مجازاً: يجري النهر وتدور الرَّحى، فكذلك ننسب الفعل إلى الإنسان عن طريق المجاز، وكانوا يُؤوّلون بعض الآيات القرآنيّة لإثبات دعواهم.

وأنكر معبد الجهنيّ الّذي أخذ عقيدته من رجل فارسيّ يُدعى سنبويه نسبة

٥٢

أفعال الخير والشرّ إلى القضاء والقدر، وقال: إنّ الإنسان قادر تماماً قبل أن يَصدُر منه الفعل، وهو مختار مستطيع في أفعاله، وقد فوّض الله إليه فعله، وهذا هو الذي يُدعى بالتفويض.

وعُرف أتباع معبد الجهنيّ بالقَدَريّة، بَيد أنّ المعتزلة الذين أقرّوا برأي معبد فيما بعد تبرّأوا من هذا اللقب وكانوا يقولون: لمّا كنّا ننكر القدر ونخطّئ نسبته إلى الله تعالى، فينبغي أن يُدعى مخالفونا بهذا الاسم، وهم الجبريّة الذين يعتقدون بالقضاء والقدر، ولكنّ الجبريّة أبَوا ذلك، وكلتا الفرقتين المتخالفتين كانت تبرأ بشدّة من الاشتهار بهذه الصفة؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن القَدَريّة وقال:« القَدَريَّةُ مَجُوسُ هذِهِ الأُمَّةِ » (١) .

قيل: إنّ معبد الجهنيّ قتل في البصرة على يد الحجّاج بن يوسف الثقفيّ سنة ٨٠هـ، وقيل: بل قتله عبد الملك بن مروان في دمشق.

وجاهرَ بهذه العقيدة أيضاً رجال آخرون غير معبد الجهنيّ، منهم غيلان الدمشقيّ، ويونس الأسواريّ، والجَعد بن دِرهَم، وأوَّلَ هؤلاء بعض الآيات القرآنيّة لتأييد رأيهم بزعمهم، ولكن هذه المقالة الجديدة لم تكن لتقبل بسرعة دون اعتراض أصحاب الحديث والسنّة؛ من هذا المنطلق تبرّأ منهم عدد من الصحابة الذين كانوا أحياء يومئذٍ، وأوصوا أخلافهم أن لا يسلّموا على القدريّة، ولا يصلّوا على موتاهم، ولا يعودوا مرضاهم(٢) .

وقُتِل غيلان الدمشقيّ على يد هشام بن عبد الملك (١٠٥-١٢٥هـ)، كما قُتِل الجعد بن درهم على يد خالد بن عبد الله القَسْريّ والي العراق وخراسان (المقتول سنة ١٢٦هـ)، لكنّ عقائدهما لم تندثر، وكان عدد أتباعهما يزداد على كرور الأيّام بخاصّة عندما تبنّى أبو حُذَيفة واصل بن عطاء (٨٠-١٣١هـ) تلميذ الحسن بن يسار

____________________

١ - كنز الفوائد ٤٩.

٢ - الفرق بين الفِرَق ١٥.

٥٣

البصريّ (٢١-١١٠هـ) - وهو من الموالي الفرس - آراء معبد وغيلان، فأوجد حركة كبيرة في العالم الإسلامي يومئذٍ.

وعندما كان الحسن البصريّ مشغولاً بالتعليم والوعظ في البصرة، وكان الناس يستفيدون كثيراً من فصاحته وعلمه ومواعظه في ذمّ الدنيا، وضرورة الاعتبار بها، وقد توجّه إليه جماعة كثيرة من المسلمين لزهده وتقواه، ثارت فرقة من الخوارج يعرفون بالأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق على الأمويّين بزعامة قُطَريّ بن الفُجاءة.

ولقّب قُطريّ نفسه: أمير المؤمنين، فانشغل بجمع الخوارج الأزارقة وحرّضهم على بني أميّة، واستولى على الأهواز، وحدثت اشتباكات بينه وبين ولاة الأمويّين حوالي البصرة ونهر الكارون، ثمّ أُجلي عنها من قبل المهلّبِ بن أبي صُفرَة في أوائل حكومة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على العراقَين.

ونشب خلاف شديد بين المسلمين أيّام فتنة الأزارقة حول حكم المذنبين.

ولكلّ فرقة منهم رأي في هذا الموضوع:

١ - كان الأزارقة يقولون إنّ مَن ارتكب ذنباً من المسلمين وغيرهم مشرك يجب قتله وقتل أطفاله ونسائه، سواء كان ذنبه صغيراً أم كبيراً.

٢ - كانت فرقة أُخرى من الخوارج تدعى الصفريّة، ترى رأي الأزارقة في مرتكبي الذنوب، إلاّ أنّها لم تجوّز قتل الأطفال.

٣ - كان النَّجدات، وهم فرقة من الخوارج، يقولون: إذا رتكب أحد ذنباً حرمته ثابتة، وأجمع عامّة المسلمين على ذلك، فهو مشرك، ولكنّه إذا ارتكب ذنباً لم يجمع المسلمون على حرمته، كأن يقال مثلاً إنّه لم يعلم بحرمته، فلا بدّ من الامتناع عن الحكم عليه ما لم يحصل الدليل والحجّة القاطعة، ويفوَّض أمره إلى الفقهاء.

٤ - كان المرجئة وأكثر علماء التابعين يرون أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن مادام يقرّ بالأنبياء والكتب السماويّة وحقّانيّة الأحكام الإلهيّة، ولكنّه يعدّ فاسقاً لارتكابه الكبيرة، والفسق لا يغاير الإيمان والإسلام.

٥٤

٥ - كان الحسن البصريّ وأتباعه يذهبون إلى أنّ مرتكب الكبيرة منافق، والمنافق أسوأ من الكافر الذي يظهر كفره أضعاف المرّات.

أمّا واصل بن عطاء فإنّه رفض هذه الآراء التي حكم أصحابها بكفر المذنبين وشركهم أو بإيمانهم وإسلامهم، وجاء برأي وسط بين الاثنين، فقال: إنّ مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن، بل هو في منزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الإيمان عبارة عن مجموعة من الخصال الصالحة إذا اجتمعت في رجل فهو مؤمن، وإذا لم تجتمع فهو فاسق ولا يمكن أن يسمّى مؤمناً، ولكن لمّا كانت فيه خصال صالحة أُخرى، وهو لا ينكر الشهادتين، فلا يصحّ إنكار هذه الصفات، وإطلاق اسم الكافر عليه، وإنّ مرتكب الكبيرة في الحقيقة خارج عن صفّ الكفّار والمؤمنين معتزل إيّاهم، ولا يحسب على أحد منهم، بَيْد أنّ مرتكب الكبيرة إذا خرج من الدنيا بلا توبة فهو في الآخرة من أهل جهنّم، ذلك أنّ الناس يومئذٍ فريقان: إمّا في السعير وإمّا في الجنّة، مع فارقِ أنّ عذابه سيخفّف، ومستقرّه خير من مستقرّ الكفّار.

وعُرفت عقيدة واصل بن عطاء، منذ ذلك التاريخ، بالمنزلة بين المنزلتين وبالاعتزال كما عرُف أتباعه بأهل الاعتزال أو المعتزلة، ولمّا أظهر هذه العقيدة، طرده الحسن البصريّ من درسه، وأفلح واصل في استمالة تلميذ آخر من تلاميذ الحسن إليه، هو عمرو بن عُبَيد بن باب (٨٠-١٤٤هـ) الّذي كان من الموالي الفرس أيضاً، فتعاون الاثنان على تأسيس فرقة المعتزلة الكبيرة.

وقد طرح واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد آراء خاصّة في التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد ماعدا عقيدتهما في التفويض، والاعتزال، وإنكار القدر، وأُقرّت عقائدهما في هذه المسائل من قبل عامّة المعتزلة، وعلى الرغم من بروز بعض الخلافات بين أفراد هذه الفرقة في الفروع ممّا أدّى إلى انقسامها إلى فرق معقّدة، بَيْد أنّ أُصول العقائد التي وضعها واصل وعمرو، وعرفت بالأُصول الخمسة، ظلّت

٥٥

محفوظة، ولا يستحقّ أحد اسم الاعتزال حتّى يجمع القول بالأُصول الخمسة(١) .

وهذه الأصول هي:

١ - التوحيد: (إنّ الله عزّ وجلّ ليس بجسم ولا عَرَض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وإنّ شيئاً من الحواسّ لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وإنّه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار بل هو الّذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حدّ، وإنّه الخالق للأشياء المبدع لها لا من شيء، وإنّه القديم، وإنّ ما سواه حادث).

٢ - العدل: (إنّ الله لا يحبّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أُمروا به ونُهوا عنه بالقدرة الّتي جعلها الله لهم وركّبها فيهم، وإنّه لم يأمر إلاّ بما أراد ولم يَنْهَ إلاّ عمّا كرِه، وإنّه وليّ كلّ حسنة أمر بها، بريء من كلّ سيّئة نهى عنها، لم يكلّفهم ما لا يطيقونه، ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه، وإنّ أحداً لا يقدر على قبض ولا بسط إلاّ بقدرة الله التي أعطاهم إيّاها، وهو المالك لها دونهم، يفنيها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء. ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطراريّاً عن معصيته ولكان على ذلك قادراً، غير أنّه لا يفعل إذ كان في ذلك رفع للمحنة وإزالة البلوى)، وعرف المعتزلة بأهل التوحيد والعدل، لإصرارهم على تعريفهما وتقريرهما ومناظرتِهِم المجسِّمةَ والمشبِّهة والمجبِّرة وغيرهم في هذا الموضوع.

٣ - الوعد والوعيد: (إن الله لا يَغفر لمرتكب الكبائر إلاّ بالتوبة، وإنّه لَصادق في وعده ووعيده، لا مبدّل لكلماته).

٤ - المنزلة بين المنزلتين: مرّ شرحه.

٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (أمّا القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أنّ ما ذُكر على سائر المؤمنين واجب، على حسب

____________________

١ - الانتصار ١٢٦.

٥٦

استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق)(١) .

وجاء بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد تلاميذهما وأتباعهما، كأبي الهُذيل محمّد بن الهُذَيل العَلاّف (١٣١-٢٣٥هـ)، وأبي سهل بِشر بن المعتمر (المتوفّى سنة ٢١٠هـ)، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام (المتوفّى بين ٢٢١ و٢٣١هـ)، وثُمامة بن الأشرس (عاصر هارون والمأمون)، وهِشام بن عمرو الفُوَطيّ (كان معاصراً للمأمون)، وأبي الحسين عبد الرحيم بن محمّد الخيّاط (النصف الثاني من القرن الثالث)، وأبي موسى عيسى بن صبيح المردار (من معاصري بِشر بن المعتمر)، وأبي محمّد جعفر بن مُبشِّر (المتوفّى سنة ٢٣٤هـ)، وأبي الفضل جعفر بن حرب (المتوفّى سنة ٢٣٦هـ)، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى سنة ٢٥٥هـ)، فنشروا الأُصول الخمسة المذكورة في مركزَيهم المهمَّين: البصرة وبغداد، بعد شرحها وتفصيلها، وعلى الرغم من خلافاتهم الكثيرة مع شيوخهم الأُوَل، وخلافاتهم فيما بينهم، لكنّهم عُرفوا جميعاً بالمعتزلة في مقابل الفرق الإسلاميّة الأُخرى، ومخالفيهم غير المسلمين، ودافع كلّهم عن الأصول الخمسة، مع فوارق طفيفة تقرّبهم إلى الشيعة تارة، وإلى أصحاب السنّة والمرجئة تارة أخرى.

وعندما أظهر واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد الأصولَ المذكورة في أيّام حكومة يزيد بن الوليد بن عبد الملك (سنة ١٢٦هـ)، فإنّ هذا الحاكم الأمويّ تبنّى عقائدهما، فالتفّ حوله المعتزلة، وفضّلوه في الدين على سائر الأُمويّين بما فيهم عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد أوّل حاكم انحاز إلى المعتزلة، ثمّ سار سيرته عدد من الحكّام العبّاسيّين أيضاً.

____________________

١ - مروج الذهب ٦: ٢٣.

٥٧

علم الكلام

شاعت بين المسلمين أفكار أجنبيّة وأساليب جديدة في الفكر والاستدلال بعد تأسيس الحكومة العبّاسيّة والاهتمام بترجمة كتب الشعوب غير العربيّة وانتشار الكتب اليونانيّة في الفلسفة والمنطق، وبثّ المقالات الدينيّة للأُمم غير المسلمة.

وتعاظم نفوذ تلك الأفكار والأساليب في هذا العصر تدريجاً، وكانت قد برزت في أواخر العصر الأُمويّ بمعاشرة المسلمين للأُمم غير المسلمة ومناظرتهم إيّاهم، فاستحرّ الخلاف بين الفرق الإسلاميّة أكثر من ذي قبل.

ونلحظ أنّ كتب ماني، ومرقيون، وابن ديصان قد انتشرت بين الناس إبّان حكومة المهديّ العبّاسيّ (١٥٨-١٦٩هـ)، وصنّف بعض الزنادقة عدداً من الكتب في تأييد المذهب المانويّ، والمرقيونيّ، والديصانيّ، ومن هؤلاء: عبد الكريم بن أبي العوجاء، وحمّاد عَجرد، ويحيى بن زياد، ومُطِيع بن إياس(١) ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان عدد من المسلمين الذين درسوا الفلسفة اليونانيّة واشتغلوا بالبحث والاستدلال في أصل كلّ شيء ومبدئه قد تحدّثوا في ذات الباري تعالى وصفاته، وذهبوا إلى ضرورة النظر والاستدلال واتّباع الفلاسفة المتميّزين بشدّة الذكاء واتّقاد الفكر، وذلك بغية التخلّص من عار العامّيّة وتقليد الأسلاف والتوقّف عند ظواهر الشرع(٢) .

إنّ الأحكام الشرعيّة في الإسلام بعامّة، إمّا أن ترتبط بالعمل والطاعة، أو بالمعرفة والاعتقاد، وتسمّى الأُولى: الأحكام الفرعيّة أو العمليّة، وتُدعى الثانية: الأحكام الأصليّة أو الاعتقاديّة، ويعدّ البحث في مسائل العبادات والأحكام العمليّة من الفروع، والبحث في الاعتقادات والمعرفة من الأُصول، ومن بحث في

____________________

١ - مروج الذهب ٨: ٢٩٣.

٢ - تلبيس إبليس ٥٢ و٨٧.

٥٨

المعرفة والتوحيد فهو أُصوليّ، أمّا من بحث في الطاعة والشريعة فهو فروعيّ(١) .

وكان المسلمون بادئ الأمر في غنىً عن تدوين أحكام الشرع وتنظيمها فصولاً وأبواباً وتقسيمها فروعاً وأُصولاً، بفضل سماع الأخبار من صاحب الشريعة، إذ كانوا يستهدون بوجوده، وكذلك بسبب قلّة الخلافات، وسهولة الرجوع إلى الصحابه والثقاة لقربهم من عصر البعثة، إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البِدع، وإبداء الآراء الظاهرة المختلفة وعرض الفتاوى المتنوّعة، فمسّت الحاجة إلى زيادة نظر والتفات إلى تدوين الأحكام الشرعيّة وتقريرها، وطفق أُولو الاستدلال والنظر يستنبطون الأحكام ويبذلون الجهود في تحقيق العقائد الدينيّة وتمهيد أُصولها وقوانينها وحججها وبراهينها، وتدوين المسائل بأدلّتها، والشُّبَه بأجوبتها. وسمّي العلم الحاصل عبر هذا الطريق: الفقه. وعُرف القسم المرتبط بالاعتقادات منه بالفقه الأكبر، وأُطلق على الأحكام العمليّة غالباً: الفقه، وعلى الاعتقادات: علم التوحيد والصفات؛ لأنّ أشهر مباحثه وأسماها هو مبحث التوحيد والصفات، وسمّي هذا العلم أيضاً: علم الكلام؛ لأنّ مباحثه كانت مصدّرة بقولهم: (كلام في ذكر المبحث الفلانيّ أو في ذكر فلان). والكلام هنا يعني الشرح والبيان والاستدلال العقليّ(٢) ، يضاف إلى ذلك أنّ أشهر الموضوعات الخلافيّة في هذا العلم الجديد هو البحث في كلام الله، هل هو قديم أم حادث، فكان علماء الكلام يقولون: إنّ علم الكلام يجعل المرء قادراً على تحقيق الشرعيّات كما أنّ علم المنطق يزيد قدرته في تحقيق الفلسفيّات، ناهيك عن أنّ الحاجة إلى الكلام في البحث في الشرعيّات وردّ المخالفين هي أكثر من الحاجة إلى أيّ شيء آخر، كما أنّ الاستدلال في هذا المقام يبدو مقتصراً على الكلام. وكان يسمّى أقوى الكلامين

____________________

١ - الملل والنحل ٢٨ وشرح المقاصد للتفتازانيّ ٦.

٢ - انظر: كتاب الانتصار ٧ للوقوف على أدلّة هذا الموضوع.

٥٩

وأثبتهما كلاماً بنحو مطلق(١) .

ونضج علم الكلام عند المسلمين في الفترة الممتدّة بين عصر المهديّ وعصر المأمون (١٥٨-٢١٨هـ)؛ إذ إنّ المهدي عندما رأى انتشار مقالات أتباع ماني، ومرقيون، وابن ديصان، حثّ أهل الجدل والبحث على تصنيف الكتب في دحض عقائدهم وإقامة البراهين على نقض شبهاتهم، وتوضيح الحقّ لضعاف الإيمان، وذوي الشكّ والتردّد(٢) . وكان المأمون يجالس أهل الكلام وهو الذي لم يُخْفِ تعلّقه بعقائد المعتزلة، وكان يدعو أرباب الجدل والمناظرة إلى بلاطه، كما كان يشجّع الناس على تعلّم آداب البحث والمجادلة وصنعة الاستدلال(٣) .

إنّ علم الكلام، في اصطلاح الواضعين له، هو العلم الذي يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، وهذا القيد الأخير هو الذي يتناوله الفلاسفة ويميّزه عن علم الكلام(٤) . لإخراج العلم الإلهيّ، وكان مَن يشتغل بهذا العلم يقال له: متكلّم.

إنّ ظهور علم الكلام الّذي ينبغي أن نعدّ بدايته مع بزوغ نجم المتكلّمين المعتزلة، بخاصّة أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام المولع بفلسفة اليونان، حمل الفقهاء من أصحاب الحديث والسنّة على مناوءته بشدّة، وكان هؤلاء يقولون إنّ مناظرات المتكلّمين تنتهي آخر المطاف بالشكّ والإلحاد والخروج عن الإسلام؛ لذلك يجب الاحتراز بقوّة عن الاشتغال في الكلام، كما يجب الرجوع إلى القرآن والسنّة النبويّة في أمر الإيمان، وكان الشافعيّ يقول: لو أنّ عبداً ارتكب عامّة النواهي ما عدا الشرك لكان خيراً له من النظر في الكلام. وكان أحمد بن حنبل يعدّ

____________________

١ - شرح المقاصد ٦.

٢ - مروج الذهب ٨: ٢٩٣.

٣ - نفسه ٢٩٥.

٤ - التعريفات للجرجانيّ ٨٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288