آل نوبخت

آل نوبخت20%

آل نوبخت مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 288

آل نوبخت
  • البداية
  • السابق
  • 288 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92008 / تحميل: 9523
الحجم الحجم الحجم
آل نوبخت

آل نوبخت

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وشجّع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) على التفاهم لتجنّب الخلافات الحادّة، فقال: (خير نسائكم التي إنْ غضبت أو أُغضبت قالت لزوجها: يدي في يدك لا أكتحل بغمضٍ حتى ترضى عني) (1).

وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته) (2).

ونهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الزوجة عن الممارسات التي تؤدّي إلى حدوث الخلافات فقال: (من شرّ نسائكم الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود، التي لا تتورّع عن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها زوجها، الحصان معه إذا حضر، التي لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، فإذا خلا بها تمنّعت تمنّع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً) (3) .

ونهى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الزوجة عن تكليف الزوج فوق طاقته، فقال: (أيّما امرأة أدخلت على زوجها في أمر النفقة وكلّفته مالا يطيق؛ لا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً إلاّ أن تتوب وترجع وتطلب منه طاقته) (4) .

ونهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المنّ على الزوج، فقال: (لو أنّ جميع ما في الأرض من ذهب وفضة حملته المرأة إلى بيت زوجها، ثم ضربت على رأس زوجها يوماً من الأيام، تقول: مَن أنت؟ إنّما المال مالي، حبط عملها ولو كانت من أعبد الناس، إلاّ أن تتوب وترجع وتعتذر إلى

____________________

(1) مكارم الأخلاق 200.

(2) مَن لا يحضره الفقيه 3: 277 | 4 باب حق الزوج على المرأة.

(3) مكارم الأخلاق 202.

(4) مكارم الأخلاق 202.

٢١

زوجها) (1) .

وحذّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مواجهة الزوجة لزوجها بالكلام اللاذع المثير لأعصابه، فقال: (أيّما امرأة آذت زوجها بلسانها، لم يقبل منها صرفاً ولا عدلاً ولا حسنة من عملها حتى ترضيه..) (2) .

ونهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الهجران، باعتباره مقدمة للانفصام وانقطاع العلاقات، فقال: (أيّما امرأة هجرت زوجها وهي ظالمة حشرت يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون في الدّرك الأسفل من النار إلاّ أن تتوب وترجع) (3) . وهذه التوجيهات إن رُوعيت رعاية تامة فإنّها كفيلة بالحد من التوتّرات والتشنّجات، وإذا لم يستطع الزوجان مراعاتها فالأفضل أن يكون النقاش الحاد والمتشنّج بعيداً عن مسامع الأطفال، وأن يكون تبادل النظرة السلبية، وتبادل الاتهامات والإهانات بعيداً عن مسامعهم، وأنْ يوضّح للأطفال أنّ الخلافات شيء طبيعي، وأنّهما لازالا يحبّان بعضهما البعض، ويجب عليهما حسم الخلافات وإنهائها في أسرع وقت.

خامساً: التحذير من الطلاق

حذّر الإسلام من الطلاق وإنهاء العلاقة الزوجية؛ للآثار السلبية التي يتركها على الزوجين وعلى الأطفال، وعلى المجتمع. فالطلاق مصدر القلق عند الأطفال، ومصدر للاضطراب النفسي والعاطفي والسلوكي،

____________________

(1) مكارم الأخلاق 202.

(2) مكارم الأخلاق 214.

(3) مكارم الأخلاق 202.

٢٢

حيثُ إنّ الطفل بحاجة إلى الحب والحنان من كلا الوالدين على حدٍّ سواء، بل إنّ التفكير المجرد بالطلاق يولّد القلق والاضطراب في أعماقه، فيبقى في دوامة من المخاوف والاضطرابات التي تنعكس سلبياً على ثباته العاطفي وعلى شخصيته السوّية، وقد وضع الإسلام منهجاً في العلاقات وإدامتها، للحيلولة دون الوصول إلى قرار فصم العلاقات الزوجية، وتهديم الأُسرة، فحذّر من الطلاق في مواضع مختلفة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أوصاني جبرئيل (عليه السلام) بالمرأة حتى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها إلاّ من فاحشة مبيّنة) (1) .

وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (ما من شيءٍ ممّا أحلّه الله عزَّ وجلَّ أبغض إليه من الطلاق، وإنّ الله يبغض المطلاق الذوّاق) (2) .

وقال (عليه السلام): (إنّ الله عزّ وجلّ يحب البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق، وما من شيء أبغض إلى الله عزّ وجل من الطلاق) (3) .

وحثّ الإسلام على اتخاذ التدابير الموضوعية للحيلولة دون وقوع الطلاق، فدعا إلى توثيق روابط المودّة والمحبّة، ودعا إلى حلّ المشاكل والخلافات التي تؤدّي إلى الطلاق، فأمر بالعِشْرة بالمعروف، قال الله تعالى: ( .. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) (4) .

____________________

(1) مَن لا يحضره الفقيه 3: 278 | باب حق المرأة على الزوج.

(2) الكافي 6: 54 | 2 باب كراهية طلاق الزوجة الموافقة ـ الذوّاق: السريع النكاح السريع الطلاق.

(3) الكافي 6: 54 | 3 باب كراهية طلاق الزوجة الموافقة.

(4) النساء 4: 19.

٢٣

وحثّ على الإصلاح وإعادة التماسك الأُسري، قال الله تعالى: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.. ) (1) . فالصلح أولى من عدمه، وبما أنّ القلوب تتقلّب وأنّ المشاعر تتغيّر من وقتٍ لآخر ومن ظرفٍ لآخر، فإنّ الإسلام حثّ على إجراء مفاوضات الصلح قبل القرار بالانفصال، قال تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) (2) وإذا لم تنفع كل محاولات الإصلاح وإعادة العلاقات إلى مجاريها، وإذا لم تتوقّف التشنّجات والتوتّرات إلاّ بالطلاق، فقد يكون الطلاق سعادة لكلا الزوجين، ولكنّه يؤثّر على نفسيّة الطفل، وينعكس على سلوكه، ولهذا منح الإسلام فرصة جديدة للعودة إلى الحياة الزوجية، فأعطى للرجل حق العودة أثناء العدّة دون عقد جديد، وبعد العدّة بعقد جديد، وجعل للرجل حق العودة بعد الطلاق الأول والثاني، فإذا لم تنجح محاولات إعادة العلاقة الزوجية، وتمّ انفصالها، يجب على الوالدين مراعاة مشاعر الطفل ومنحه الحنان والحب، ويجب عليهما توفير كل الظروف التي تساعده على الإيمان بسلامة أخلاق والده أو والدته، حيثُ حرّم الإسلام البهتان والغيبة وكشف المساوئ. وبهذا الأسلوب يستطيع الطفل تحمّل صدمة الطلاق، أمّا إذا لم يُتّبع هذا الأُسلوب وحاول كلٌّ من الوالدين كشف مساوئ الآخر أمام الطفل، فإنّ الطفل سوف يبغض الحياة ويحتقر نفسه، وتنعكس على عواطفه اتجاه والديه فهو يحبهّما

____________________

(1) النساء 4: 128.

(2) النساء 4: 35.

٢٤

ويبغضهما في آن واحد بعد اطلاعه على مساوئهما، فيبقى يعيش في دوّامة من القلق والاضطراب، وتزداد همومه يوماً بعد يوم وتنعكس سلبيّاً على علاقاته الاجتماعية، وعلاقاته الأُسرية في المستقبل.

٢٥

٢٦

الفصل الثاني

المرحلة الأُولى: مرحلة ما قبل الاقتران ومرحلة الحمل

حرص الإسلام على العناية بالطفل، والحفاظ على صحّته البدنية والنفسية قبل أن يُولد بإعداد الإطار الذي يتحرّك فيه، وتهيئة العوامل اللازمة التي تقي الطفل من كثير من عوامل الضعف الجسدي والنفسي، ابتداءً من انتقاء الزوج أو الزوجة، ومروراً بالمحيط الأول للطفل وهو رحم الأُم، الذي يلعب دوراً كبيراً ومؤثّراً على مستقبل الطفل وحركته في الحياة، وتتحدد معالم هذه المرحلة بما يأتي:

أولاً: مرحلة ما قبل الاقتران

أثبت الواقع الاجتماعي، والواقع العلمي بدراساته المستفيضة الأثر الحاسم للوراثة، والمحيط الاجتماعي في تكوين الطفل ونشوئه، وانعكاسات الوراثة والمحيط عليه في جميع جوانبه الجسدية والنفسية (1) فأغلب الصفات تنتقل من الآباء والأُمهات والأجداد إلى الأبناء، كالذكاء والاضطراب السلوكي وانفصام الشخصية والأمراض

____________________

(1) علم النفس التربوي، للدكتور فاخر عاقل: 45 ـ 57 (دار العلم للملايين 1985 م ط11).

٢٧

العقلية والانضباط الذاتي، وصفات التسامح والمرونة، فيكونون وسطاً مساعداً للانتقال، أو يكون في الأبناء الاستعداد للاتصاف بها، إضافة إلى انعكاس العادات والتقاليد على الأبناء، نتيجة لتكرّر الأعمال (1) ومن هنا أكدّ الإسلام على الزواج الانتقائي، أي بانتقاء الزوجين من أُسرة صالحة وبيئة صالحة.

1 ـ انتقاء الزوجة:

راعى الإسلام في تعليماته لاختيار الزوجة الجانبين، الوراثي الذي انحدرت منه المرأة، والجانب الاجتماعي الذي عاشته وانعكاسه على سلوكها وسيرتها، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (اختاروا لنطفكم فإنّ الخال أحد الضجيعين) (2) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (تخيّروا لنطفكم فإنّ العِرقَ دسّاس) (3) .

فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يؤكّد على اختيار الزوجة من الأُسر التي تحمل الصفات النبيلة؛ لتأثير الوراثة على تكوين المرأة وعلى تكوين الطفل الذي تلده. وكانت سيرته قائمة على هذا الأساس، فاختار خديجة (عليها السلام) فأنجبت له أفضل النساء فاطمة (عليها السلام)، وتبعه في السيرة هذه أهل البيت (عليهم السلام) فاختاروا زوجاتهم من الأُسر الكريمة، وإلى جانب الانتقاء على أُسس الوراثة، أكدّ الإسلام على انتقاء الزوجة من المحيط الاجتماعي الصالح الذي أكسبها الصلاح وحسن السلوك، فحذّر من المحيط غير الصالح

____________________

(1) علم النفس العام، للدكتور انطون حمصي 1: 94 ـ مطبعة ابن حبّان دمشق 1407 هـ.

(2) الكافي، للكليني 5: 332 | 2 باب اختيار الزوجة ـ دار التعارف 1401 هـ ط 3.

(3) المحجّة البيضاء، للفيض الكاشاني 3: 93، جامعة المدرّسين قم ط2.

٢٨

الذي تعيشه، فحذّر من الزواج من الحسناء المترعرعة في منبت السوء، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إيّاكم وخضراء الدمن.. المرأة الحسناء في منبت السوء) (1) .

وحذّر الإمام الصادق (عليه السلام) من المرأة الزانية قال: (لا تتزوّجوا المرأة المستعلنة بالزنا) (2) والسبب في ذلك أنّها تخلق في أبنائها الاستعداد لهذا العمل الطالح.

وحذّر الإمام الباقر (عليه السلام) من الزواج من المرأة المجنونة خوفاً من انتقال الصفات منها إلى الطفل، فسُئل عن ذلك فقال: (لا، ولكن إن كانت عنده أمَة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها) (3) .

وحذّر الإمام علي (عليه السلام) من تزوّج الحمقاء لانتقال هذهِ الصفة إلى الطفل، ولعدم قدرتها على تربية الطفل تربية سويّة فقال: (إيّاكم وتزويج الحمقاء فإنّ صحبتها بلاء وولدها ضياع) (4) .

وأكدّت الروايات على أن يكون التدّين مقياساً لاختيار الزوجة، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشجّع على ذلك، فقد أتاه رجل يستأمره في الزواج فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (عليك بذات الدين تربت يداك) (5) .

وقدّم الإمام الصادق (عليه السلام) اختيار التدّين على المال والجمال، فقال: (إذا

____________________

(1) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 304 ـ منشورات الشريف الرضي1410 هـ ط2.

(2) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 305 ـ منشورات الشريف الرضي 1410 هـ ط2.

(3) وسائل الشيعة، للحر العاملي 20: 85 | 1 باب 34 ـ مؤسّسة آل البيت قم 1412 هـ ط1.

(4) الكافي 5: 354 | 1 باب كراهية تزويج الحمقاء.

(5) الكافي 5: 332 | باب فضل مَن تزوّج ذات دين.

٢٩

تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وكّل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها رزقه الله الجمال والمال) (1) .

فالمرأة المنحدرة من سلالة صالحة ومن أُسرة صالحة، وكان التدّين صفة ملازمة لها، فإنّ سير الحركة التربوية يتقدّم أشواطاً إلى الأمام، وتكون تربيتها للأطفال منسجمة مع القواعد التي وضعها الإسلام في شؤون التربية، فيكون المنهج التربوي المتَّبع متَّفقاً عليه من قبل الزوجين، لا تناقض فيه ولا تضّاد، وتكون الزوجة حريصة على إنجاح العملية التربوية وتعتبرها تكليفاً شرعياً قبل كل شيء، هذا التكليف يجنّبها عن أي ممارسة سلبية مؤثّرة على النمو العاطفي والنفسي للأطفال.

2 ـ انتقاء الزوج:

للأب الدور الأكبر في تنشئة الأطفال وإعدادهم نفسياً وروحياً، ولذا أكدّ الإسلام في أول المراحل على اختياره طبقاً للموازين الإسلامية التي يراعى فيها الوراثة والمحيط الذي ترعرع فيه، وما يتصف به من صفات نبيلة وصالحة؛ لأنّه القدوة الذي يقتدي به الأطفال وتنعكس صفاته وأخلاقه عليهم، إضافة إلى اكتساب الزوجة (الأُم) بعض صفاته وأخلاقه من خلال المعايشة المستمرّة. وقد أكّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على اختيار الزوج الكفء وعرفّه بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الكفء أن يكون عفيفاً وعنده يسار) (2) . والكفء هو الذي ينحدر من سلالة صالحة وذو دين وخُلق سامٍ.

____________________

(1) الكافي 5: 333 | 3 باب فضل مَن تزوّج ذات دين.

(2) الكافي 5: 347 | 1 باب الكفء.

٣٠

وحذّر الإمام الصادق (عليه السلام) من تزويج الرجل المريض نفسياً فقال: (تزّوجوا في الشكاك ولا تزوّجوهم، لأنّ المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه) (1) .

وجعل الإسلام التدّين مقياساً في اختيار الزوج، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا جاءكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوّجوه) (2) .

وحرّم الإسلام كما هو مشهور من تزويج غير المسلم؛ حفاظاً على سلامة الأطفال وسلامة العائلة من جميع جوانب السلامة، في العقيدة وفي السلوك وفي الظواهر الروحية والنفسية؛ لتأثّر الزوجة والأطفال بمفاهيم الزوج وسلوكه في الحياة.

ونهى الإسلام عن تزويج غير المتدّين والمنحرف في سلوكه عن المنهج الإسلامي في الحياة، لتحصين العائلة والأطفال من الانحراف السلوكي والنفسي، فنهى الإمام الصادق (عليه السلام) عن تزويج الرجل المستعلن بالزنا، حيثُ قال (عليه السلام): (لا تتزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا، ولا تزوّجوا الرجل المستعلن بالزنا إلاّ أن تعرفوا منهما التوبة) (3) .

وحذّر الإمام الصادق (عليه السلام) من تزويج شارب الخمر، فقال: (مَن زوّج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمه) (4) .

فالمنحرف يؤثّر سلبياً على سلامة الأطفال السلوكية، لانعكاس سلوكه

____________________

(1) الكافي 5: 348 | 1 باب مناكحة النصّاب والشكّاك.

(2) الكافي 5: 347 | 2، 3 باب آخر منه.

(3) مكارم الأخلاق: 305.

(4) وسائل الشيعة 20: 79. الكافي 5: 347 | 1 باب 29.

٣١

عليهم وعدم حرصه على تربيتهم، إضافة إلى المشاكل التي يخلقها مع الزوجة التي تساعد على إشاعة الاضطراب والقلق النفسي في أجواء العائلة، وجعل الحياة العائلية بعيدة عن الاطمئنان والاستقرار والهدوء الذي يحتاجه الأطفال في نموّهم الجسدي والنفسي والروحي.

وقد كانت سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) قائمة على أساس اختيار الأكفاء لأبنائهم وبناتهم، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يزوّج فاطمة لكبار الصحابة، وكان جوابه لهم أنّه ينتظر بها نزول القضاء (1) ثم زوّجها بأمر من الله تعالى إلى عليّ بن أبي طالب (2) .

وشجّع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إحدى المسلمات وهي الذلفاء المعروفة بانتسابها إلى أُسرة عريقة، والمتصفة بالجمال الفائق من الاقتران بأحد المسلمين، وهو جويبر، الذي لا يملك مالاً ولا جمالاً إلاّ التدّين (3) .

3 ـ العلاقة قبل الحمل وتكوين الطفل

بعد عملية الاختيار للزوج على أُسس وموازين إسلامية نبيلة، يستمر الإسلام في التدرّج مع الطفل خطوة خطوة، ويضع لكلِّ خطوة واقعة في طريق تكوين الطفل ونشوئه أُسساً وقواعد واقعية لينشأ نشأة سليمة، وما على الزوجين إلاّ العمل على ضوئها.

قال سبحانه وتعالى: ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً

____________________

(1) مجمع الزوائد، للهيثمي 9: 206 ـ دار الكتاب العربي 1402 هـ ط3.

(2) مجمع الزوائد 9: 204. المعجم الكبير للطبراني 22: 408. الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي.

(3) الكافي 5: 342 | 1 باب أنّ المؤمن كفؤ المؤمنة.

٣٢

لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.. ) (1) .

فجعل العلاقة بين الزوجين علاقة مودّة وحب، وتبادل العواطف النبيلة والأحاسيس المرهفة، ومن أجل إدامة هذه العلاقة دعا الإسلام إلى ربط الزوجين بالقيم والموازين التي حدّدها المنهج الربّاني في الحياة، ففي أول خطوات العلاقة والاتصال بين الزوج والزوجة، وهي ليلة الزفاف، أمر الإسلام بالتقيّد بالقيم الربّانية؛ لكي لا تكون العلاقة علاقة بهيمية جسدية فقط، وأول هذه القيم هي استحباب الصلاة ركعتين لكلِّ منهما، وحمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسول الله وآله، ثم الدعاء بإدامة الحب والودّ: (اللّهمّ ارزقني إلفها وودّها ورضاها بي، وأرضني بها واجمع بيننا بأحسن اجتماع وأيسر ائتلاف، فانّك تحب الحلال وتكره الحرام) (2) .

والالتزام بذلك يخلق جوّاً من الاطمئنان والاستقرار والهدوء في أول خطوات اللقاء، ولا يبقى لقلق الزوجة واضطرابها مجالاً، فتكون ليلة الزفاف ليلة أُنس وحب وودّ.

ويستمر الدعاء عند الخطوة الثانية وهي مرحلة المباشرة، فيستحب أن يقول: (اللّهم ارزقني ولداً واجعله تقيّاً ذكيّاً ليس في خلقه زيادة ولا نقصان، واجعل عاقبته إلى خير)، وأفضل الذكر في أول المباشرة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) (3) .

____________________

(1) الروم 30: 21.

(2) مكارم الأخلاق: 208.

(3) مكارم الأخلاق: 209.

٣٣

ثانياً: مرحلة الحمل

1 ـ انعقاد الجنين:

من أجل سلامة الجنين الجسدية والنفسية؛ وضع الإسلام برنامجاً سهلاً يسيراً لا كلفة فيه ولا عسر ولا شدّة.

فقد أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمنع الزوجة في أُسبوعها الأول من (الألبان والخلّ والكزبرة والتفاح الحامض)، لتأثير هذه المواد على تأخّر الإنجاب واضطرابه وعسر الولادة، والإصابة ببعض الأمراض (1) التي تؤثّر سلبياً على الحمل وعلى الوليد.

كما حذّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) من المباشرة في أوقات معيّنة، وهذا التحذير لا يصل مرتبة الحرمة، ولكن فيه كراهة؛ لانعكاساته السلبية على سلامة الجنين وصحّته الجسدية والنفسية، ومن هذه الأوقات: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن مغيب الشمس إلى مغيب الشفق، وبعد الظهر مباشرة، وفي أول الشهر ووسطه وآخره، وفي الأوقات التي ينخسف فيها القمر، وتنكسف فيها الشمس، وفي أوقات الريح السوداء والحمراء والصفراء، والأوقات التي تحدث فيها الزلازل، وشجّع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على غير هذه الأوقات، فبعض الأوقات لها تأثير على الجانب العاطفي للطفل، وخصوصاً الأوقات المخيفة، فينشأ الطفل مضطرباً هيّاباً متردداً، والأوقات الأُخرى قد تؤدي إلى إصابة الطفل بالجذام والحمق

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 209.

٣٤

والجنون (1) .

وهنالك بعض التوصيات المتعلّقة في المباشرة.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تتكلّم عند الجماع، فإنّه إن قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس، ولا ينظرنَّ أحد في فرج امرأته، وليغض بصره عند الجماع، فإنّ النظر إلى الفرج يورث العمى في الولد) (2) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من احتلامه الذي رأى، فإن فعل ذلك فخرج الولد مجنوناً فلا يلومنَّ إلاّ نفسه) (3) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تجامع امرأتك من قيام، فإنّ ذلك من فعل الحمير، وإن قضى بينكما ولد كان بوّالاً في الفراش..) (4) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك، فإنّي أخشى إن قضي بينكما ولد أن يكون مخنّثاً، مؤنّثاً، مخبلاً) (5) .

ويُفهم من هذه الرواية الشريفة أن لا يتخيّل الرجل امرأة أُخرى في أثناء المباشرة.

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلاّ وأنت على وضوء،

____________________

(1) الكافي 5: 498 | 1 باب الأوقات التي يكره فيها الباه. مكارم الأخلاق: 208 ـ 209.

(2) مكارم الأخلاق: 209.

(3) مكارم الأخلاق: 209.

(4) مكارم الأخلاق: 210.

(5) مكارم الأخلاق: 211.

٣٥

فإنّه إن قُضي بينكما ولد يكون أعمى القلب، بخيل اليد) (1) .

وفي كلِّ الأوقات يشجّع الإسلام على ذكر الله تعالى قبل المباشرة والتسمية عندها، إضافة إلى استخدام الأساليب المعمّقة لروابط الحب والودّ والرباط المقدّس، كالتقبيل والعناق ورقّة الكلمات وعذوبتها (2) .

2 ـ المحيط الأوّل للطفل:

رحم الأُم هو المحيط الأول الذي ينشأ به الإنسان، ولهذا المحيط تأثيراته الايجابية والسلبية على الجنين؛ لأنّه الإطار الذي يتحرك فيه، ويعتبر الجنين جزءاً من الأُم، تنعكس عليه جميع الظروف التي تعيشها الأُم، وقد أثبتت الدراسات العلمية تأثير الأُم على نمو الجنين الجسدي والنفسي، فالاضطراب والقلق والخوف والكبت وغير ذلك، يترك أثره في اضطراب الوليد عاطفياً (3) .

فالجنين يتأثّر بالأُم ومواصفاتها النفسية، وما يطرأ عليها في مرحلة الحمل من عوامل ايجابية أو سلبية، وإنّ (الاضطرابات العصبية للأُم توجّه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولّده، إلى درجة أنّها تحوّله إلى موجود عصبي لا أكثر، ومن هنا يجب أن نتوصّل إلى مدى أهميّة التفات الأُم في دور الحمل إلى الابتعاد عن الأفكار المقلقة، والهمّ والغمّ، والاحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار) (4) .

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 211.

(2) مكارم الأخلاق: 212.

(3) علم النفس التربوي، للدكتور فاخر عاقل: 46 ـ 47.

(4) الطفل بين الوراثة والتربية، لمحمد تقي فلسفي 1: 106 ـ دار التعارف 1381 هـ، عن كتاب نحن والأبناء 27.

٣٦

وشهور فترة الحمل تؤثّر في الثبات العاطفي للطفل إيجاباً أو سلباً (1) .

وقد أكدّ الإسلام على هذهِ الحقيقة قبل أن يكتشفها علماء النفس في يومنا هذا، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الشقي مَن شقى في بطن أمّه، والسعيد مَن سعد في بطن أُمه) (2) .

والمقصود من الشقاء والسعادة في بطن الأُم، هو تلك الانعكاسات التي تطرأ على الجنين تأثّراً بالحالة الصحّية الجسدية والنفسية للأُم، فتولِّد فيه استعداداً للشقاء أو للسعادة، فبعض الأمراض الجسدية تؤثّر على الجنين فيولد مصاباً ببعضها وتلازمه الإصابة إلى الكبر فتكون مصدر الشقاء له، أو يكون سالماً من الأمراض فتكون السلامة ملازمة له، وكذلك الحالة النفسية والعاطفية، فالقلق أو الاطمئنان، والاضطراب أو الاستقرار، والخوف وعدمه، وغير ذلك يؤثّر في الجنين ويبقى ملازماً له ما لم يتوفّر له المحيط الاجتماعي المثالي لكي ينقذه من آثار الماضي، أو يبعده عن السلامة في صحّته الجسدية والنفسية، وفيما يلي الإجراءات الوقائية التي اتخذها الإسلام لإبعاد الجنين عن الظواهر السلبية المؤثّرة في نموه الجسدي والنفسي:

أ ـ الاهتمام بغذاء الأُم:

من الحقائق الثابتة أنّ صحّة الجنين الجسدية تتناسب طردياً مع صحة الأُم، ومن العوامل المؤثّرة في صحّة الأُم الغذاء، ونحن نلاحظ أنّ المجاعة في بعض البلدان كان لها تأثير واضح في صحّة الوليد، فالضعف

____________________

(1) مشاكل الآباء في تربية الأبناء، للدكتور سپوك: 263 ـ 1980 م ط3.

(2) بحار الأنوار، للمجلسي 3: 44 ـ مؤسّسة الوفاء 1403 هـ ط2.

٣٧

الجسدي والأمراض الجسدية والتشوّهات في الخلقة، ترجع أسبابها إلى المجاعة وسوء التغذية، والعكس صحيح.

لذا أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) بالاهتمام بغذاء الحامل، وخصوصاً الغذاء الذي له تأثير على الصفات النفسية والروحية للجنين.

السفرجل:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (كلوا السفرجل فإنّه يجلو البصر وينبت المودّة في القلب، وأطعموه حبالاكم فإنّه يحسّن أولادكم) (1) .

اللبان:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (اطعموا نساءكم الحوامل اللبان، فانّه يزيد في عقل الصبي) (2) .

وقال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): (أطعموا حبالاكم اللبان، فإن يكن في بطنهنَّ غلام خرج ذكي القلب عالماً شجاعاً. وإن يكن جارية حسن خَلقها وخُلقها، وعظمت عجيزتها، وحظيت عند زوجه) (3) .

التمر:

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنّ ولدها يكون حليماً نقياً) (4) .

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 172.

(2) مكارم الأخلاق: 194.

(3) مكارم الأخلاق: 194.

(4) مكارم الأخلاق: 169.

٣٨

وقد وضع أهل البيت (عليهم السلام) جدولاً متكاملاً في أنواع الأغذية المفيدة في صحّة الجسم، كما ورد في كتاب الأطعمة والأشربة من الكافي ومكارم الأخلاق، كالرمّان والتين، والعنب، والزبيب، والبقول، والسلق، والفواكه الأُخرى، وكذلك اللحم والهريسة والخضروات.

إضافة إلى منعهم من الغذاء المضرّ على الصحّة الجسدية والنفسية، كالميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، وكل ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية من الأطعمة والأشربة المحرّمة.

ب ـ الاهتمام بالصحّة النفسية للحامل:

اختيار المنزل الواسع:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من السعادة سعة المنزل) (1) .

وقال (عليه السلام): (للمؤمن راحة في سعة المنزل) (2) .

أثر سعة المنزل على سعادة الإنسان من الحقائق الثابتة. والإسلام يشجّع على ذلك، فإذا كان المجتمع مجتمعاً إسلامياً، يتبنّى الإسلام منهاجاً له في الحياة، فسيكون للتكافل الاجتماعي دور في إشباع هذه الحاجة، وفي غير ذلك، وفي حالة عدم قدرة الرجل على شراء أو إيجار المنزل الواسع، فيمكنه أن يطمئن المرأة الزوجة على العمل، وبذل الجهد من أجل الحصول عليه ويؤمّلها بذلك، أو تشجيعها على الصبر الجميل، وما أعدّه الله تعالى لهما من الثواب والحسنات على ما يعانونه من فقر،

____________________

(1) مكارم الأخلاق 125.

(2) مكارم الأخلاق: 131.

٣٩

فإنّ ذلك يجعلها مطمئنة ومرتاحة البال وإن كان المنزل ضيّقاً.

توفير المستلزمات الضرورية للمرأة:

عن عبد الله بن عطا قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فرأيت في منزله نضداً ووسائد وأنماطاً ومرافق، فقلت ما هذا؟ قال: (متاع المرأة) (1) .

فالمستلزمات التي تحتاجها المرأة في المنزل ضرورية، كالوسائد والمتّكآت ومفارش الصوف الملوّنة، إضافة إلى الملابس الجميلة وبعض الأثاث المنزلية تؤثّر في راحتها وسعادتها، فمن الضروري توفيرها لها حسب القدرة والإمكانيات، وفي حالة عدم القدرة عليها جميعاً أو على بعضها، فيمكن للرجل إقناعها بما أعدّه الله تعالى لها من النعيم في الدار الآخرة، إضافة إلى زرع الأمل في نفسها بتحسين أوضاعها وإشباع حاجاتها.

حسن التعامل مع المرأة:

حسن التعامل مع المرأة، وخصوصاً الحامل، يجعلها تعيش حياة سعيدة مليئة بالارتياح والاطمئنان والاستقرار النفسي والروحي، فلا يبقى للقلق والاضطراب النفسي موضعاً في قلبها وروحها.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (وأمّا حقّ رعيّتك بملك النكاح، فأنْ تعلم أنّ الله جعلها سكناً ومستراحاً وأُنساً وواقية، وكذلك كلّ واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أنّ ذلك نعمة منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها، فإنّ لها حق الرحمة

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 131.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

علماء الكلام زنادقة، ولا يرى أنّ المشتغلين في الكلام من أهل الفلاح(١) .

١ - كان مخالفو أهل الكلام - أي أصحاب الحديث والسنّة - يقولون: حَسْبُ المسلمين في الهداية إلى الإيمان ودفع الضلال ما واصل إليهم عن الآباء والأسلاف بطريق النقل، وينبغي أن تتيسّر معرفة الاعتقادات بالأدلّة السمعيّة، أي الأدلّة الّتي استخرجها السابقون من القرآن والأحاديث النبويّة وأوصلوها إلينا، يضاف إلى ذلك أنّ إجماع المسلمين أيضاً حجّة في كلّ أمر، وتجب طاعته و اتّباعه، وكان هؤلاء يرون عدم الاستعانة بالعقل في أُصول الدين والبحث فيها؛ إذ أنّ العقل قاصر عن فهم هذه المسائل، ولابدّ من الإقرار بأحكام الدين كما وصلنا لا نزيد فيها ولا ننقص شيئاً، وينبغي الاحتراز - عند الحديث عن صفات الله - عن ذكر الكيفيّة، وتشبيه ذاته المقدّسة بالأشياء، وعلى الرغم من هذا النهي الشديد نجد أنّ فريقاً من المتكلّمين يستخدم في تأويل الآيات القرآنيّة وبيان ذات الله تعالى وصفاته كلمات تشمّ منها رائحة التشبيه والتجسيم، وهذا الفريق الذي عُرف بالمشبّهة والمجسّمة لم يسلم من سخط عامّة المسلمين وأُولي النظر والاستدلال، ذلك أنّ هؤلاء كانوا يذهبون إلى أنّ الله لا يشبه عباده في أيّ صفة من صفاته، وكلّ صفة موجودة فيه تخالف مثلها في الإنسان. على سبيل المثال، يختلف علم الله وقدرته وإرادته عن علم الإنسان وقدرته وإرادته، ويقال لهؤلاء: أهل التنزيه.

٢ - فتح المعتزلة باب الاستدلال العقليّ في المناظرات الأصوليّة على عكس أصحاب السنّة والحديث، وذهبوا إلى أنّ الأدلّة العقليّة أو اليقينيّة ضروريّة لمعرفة الاعتقادات، ومن هذا المنطلق رفضوا إثبات الصفات بوصفه مخالفاً للتوحيد، كما رفضوا الاعتقاد بوصفه مغايراً للعدل، ودوّنوا أُصول عقائدهم بالنظر والاستدلال.

____________________

١ - تلبيس إبليس ٨٨.

٦١

٣ - ظهرت فرقة أُخرى بين الزّهاد والعبّاد والمعرضين عن الدنيا، في مقابل أنصار الأدلّة النقليّة والعقليّة. وكان أُسلوبها في معرفة ذات الباري تعالى تصفية الباطن وتزكية النفس، عن طريق الرياضات(١) والمجاهدات(٢) ، وكانت ترى أنّ أداة ذلك الخطرات(٣) ، والوساوس(٤) ،(٥) ، وتتلخّص عقيدة هذه الفرقة المعروفة بأهل الكشف أو المتصوّفة في مراعاة أربعة أُصول، هي: رياضة النفس، ومجاهدة الطبع، ومنعه من الأخلاق الرذيلة، ودفعه إلى الأخلاق الحميدة كالزهد، والحلم، والصبر، والإخلاص، والصدق، وهي التي مَن فاز بها حَسُن ذكره في الدنيا، وأدرك ثواب الآخرة(٦) .

وفي البدء كان معظم المسلمين يراعون هذه الأُصول، وإذا زعم المتصوّفة أنّهم أوّل من عرف الله بالرياضة والمراقبة والتفكّر، فإنّ مقالاتهم التي انتشرت عنهم، واعتقادهم بالحلول ووحدة الوجود، ورغبتهم في السماع والرقص وغيرهما ممّا تغلغل بينهم، كلّ ذلك دفع جماعة من العلماء والمتكلّمين إلى ردّ

____________________

١ - الرياضة عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسيّة، فإنّ تهذيبها عن خلطات الطبع ونزعاته، (التعريفات للجرجانيّ ٥٠، اصطلاحات الفتوحات المكّيّة ملحق الكتاب ١١٧).

٢ - المجاهدة حمل النفس على المشاقّ البدنيّة ومخالفة الهوى على كلّ حال، (التعريفات ٨١. اصطلاحات الفتوحات المكّيّة ١١٧).

٣ - الخطرات والخاطرات والخواطر جمع الخَطْرَة والخاطرة والخاطر: ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد الّذي لا عمل للعبد فيه، وما كان خطاباً فهو أربعة أقسام: ربّانيّ وهو أوّل الخواطر، وهو لا يخطئ أبداً، وقد يعرف بالقوّة والتسلّط وعدم الاندفاع، وملكيّ: وهو الباعث على مندوب أو مفروض، ويسمّى: إلهاماً، ونفسانيّ: وهو ما فيه حظّ النفس ويسمّى هاجساً، وشيطانيّ: وهو ما يدعو إلى مخالفة الحقّ وارتكاب الفحشاء والمعاصي (التعريفات ٤٣، واصطلاحات الصوفيّة ١٥٧).

٤ - الوسوسة: الكلام الخفيّ الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع، (مجمع البحرين ٣٥٢).

٥ - تلبيس إبليس ١٧٤، الفهرست ١٨٣، معجم الأُدباء ٢: ٢٧٩.

٦ - تلبيس إبليس ١٧٣، أوّل من أشتغل في علم الكلام ببغداد على مذاق المتصوّفة أبو حمزة محمّد بن إبراهيم الصوفيّ (المتوفّى سنة ٢٦٩هـ) تاريخ بغداد ١: ٣٩٣.

٦٢

عقائدهم، فتمهّدت الأرضيّة في كثير من المدائن الإسلاميّة لإيذائهم.

وبلغ المعتزلة ذروة عزّهم واقتدارهم في الفترة الواقعة بين حكم المأمون وحكم المتوكّل (١٩٨-٢٣٢هـ)، ذلك أنّ المأمون كان عارفاً بعلم الكلام، ومن محبّي البحث والجدل في المسائل الدينيّة، وكانت له صداقة عامّة مع المعتزلة. ونُقل عنه دعوته المتكلّمين من مناطق مختلفة إلى بغداد وحثّهم على المناظرات في المسائل الاعتقاديّة، كما طلب كتب الفلسفة اليونانيّة من الخارج وشجّع المترجمين على ترجمتها وشرحها، وكان يُمضي معظم أوقاته مع أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام، وأبي الهُذيل العَلاّف، وثُمامة بن الأشرس، وأبي عبد الله أحمد بن أبي دوْاد الإياديّ (المتوفّى سنة ٢٤٠هـ)، وهم من رؤساء المعتزلة الكبار. وهذا ما جعله يتعلّق بالمعتزلة تعلّقاً قلبيّاً، ويناصر عقائدهم بسبب تلك المعاشرة، لكنّه لم يُبدِ تعصّباً يذكر في هذا المجال، بل كان يرغب كثيراً في أن يتناظر متكلّمو الفرق المختلفة فيما بينهم ويثبتوا حقّانيّة عقائدهم بإقامة البرهان والحجّة، وهو نفسه كان يقول: غلبة الحجّة أحبّ إليّ من غلبة القدرة؛ لأنّ غلبة القدرة تزول بزوالها وغلبة الحجّة لا يُزيلها شيء(١) .

وقيل: إنّ المأمون ركن إلى الاعتزال بواسطة ثُمامة بن الأشرس(٢) ، وقرّب إليه أحمد بن أبي دوْاد الذي كان في عداد الشعراء والمتكلّمين والفصحاء أُولي الشأن، وفوّض إليه القضاء، وكان يحترمه احتراماً بالغاً حتّى إنّه أوصى أخاه المعتصم أن يستشيره في أُموره جميعاً، ولا يختار وزيراً غيره.

وكان أحمد بن أبي دوْاد من تلاميذ واصل من عطاء، وساعد نفوذه في حكومة المأمون، وميل المأمون إلى الاعتزال على أن يمسك المعتزلة بزمام الأُمور تقريباً.

____________________

١ - تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ١٠: ١٨٦.

٢ - الفرق بين الفرق ١٥٧.

٦٣

وحاولت هذه الفرقة أن تستغلّ منصب أحمد بن أبي دوْاد القاضي، وميل المأمون إلى عقائدها فتفرض أفكارها على مخالفيها بواسطة العامِلين في الجهاز الحكوميّ. واستمرّ هذا الوضع من سنة ٢١٨ إلى سنة ٢٣٢هـ حيث جلوس المتوكّل على العرش.

الاعتقاد بخلق القرآن

أصدر المأمون في ربيع الأوّل سنة ٢١٨هـ أمراً إلى شرطته بامتحان القضاة والمحدّثين - وهو ما كان يعرف بالمحنة -، وذلك بمؤازرة أحمد بن أبي دوْاد ومستشاريه الآخرين من المعتزلة، فمن قال منهم بخلق القرآن أُقرّ على عمله، وقُبلت شهادته، ومن خالف هذه العقيدة فلا تقبل شهادته وحكمه، وكتب المأمون وابن أبي دوْاد رسائل عديدة إلى الأمصار الخاضعة للحكم العبّاسيّ في تنفيذ هذا الحكم، وأكّدا ذلك كثيراً.

وكان هناك خلاف عامّ بين الفرق الإسلاميّة في القرآن، ففي حين كانوا يتّفقون على أنّ الله تعالى متكلّم، أي متّصف بصفة الكلام كانوا يختلفون في معنى الكلام وحدوثه وقِدَمه؛ إذ أنّ لكلّ منهم رأيه الخاصّ في هذا الموضوع؛ فأصحاب الحديث والسنّة يَرَون أنّ كلام الله قديم وأزليّ وليس مخلوقاً، وعلى الرغم من أنّ الإمام أحمد بن حنبل المروزيّ (١٦٤-٢٤١هـ) إمام أهل الحديث في عصر المأمون والمعتصم والواثق يذهب إلى ما ذهبت إليه المعتزلة والشيعة أنّ كلام الله حروف وأصوات تركّب بعضها على بعض للإفهام، بَيْد أنّه كان يقول أيضاً إنّ هذا التركيب من الحروف والأصوات ثابت في عالم الأزل بهذا الشكل، قائم بذات الباري تعالى. وإنّ المسموع من أصوات القرّاء، والمرئيّ من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم، حتّى أنّ بعض أتباعه كان يعتقد أنّ كلّ نسخة من نسخ

٦٤

القرآن، بل غلافها أيضاً أزليّ(١) ، وكان الإمام أحمد بن حنبل نفسه لا يرى مصلحة في البحث في هذا الموضوع أساساً؛ إذ يعدّه مخالفاً لسيرة السلف، وكان ينهى أتباعه عن الخوض به(٢) .

وذهب المعتزلة والشيعة إلى سُخف هذه العقيدة، وذكروا أنّ الكلام فعل الله، فلا يمكن القول بقدمه وأزليّته، بل القرآن مخلوق وحادث، ومعنى قولنا: إنّ الله متكلّم أنّه يُوجِد الكلام في بعض الأجسام، ويقول أبو الحسين الخيّاط المعتزليّ: لعمري أن لو عاش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في زمان المعتزلة لَنصَّ لأُمّته على خلق القرآن نصّاً مفسّراً(٣) .

كان البحث في كلام الله - وهو ما احتدم بعد ظهور الأشاعرة - من أوّل وأهمّ المباحث الّتي حام حولها الجدل بين المسلمين، ولما كان هذا المبحث مطروحاً بين الفرق الإسلاميّة قبل انتشار كتب الفلسفة، ولم يهتمّ به الفلاسفة كثيراً، فإنّ البعض يرى أنّ علم الكلام عُرِف بهذا الاسم للسبب المذكور.

وكان الاعتقاد بقدم القرآن عامّاً تقريباً في أواخر العصر الأُمويّ، ولم يجرؤ أحد على معارضته، وكان الجعد بن دِرهَم أوّل من عارضه، إذ أظهر الاعتقاد بخلق القرآن، وذكرنا سابقاً أنّه قُتل في أيّام هشام بن عبد الملك (١٠٥-١٢٥هـ) لهذا السبب.

وشاع الاعتقاد بخلق القرآن في زمن هارون الرشيد بسبب نفوذ المعتزلة، غير أنّ قدرة الرشيد وتعصّبه حالا دون جهر المعتزلة برأيهم هذا، بخاصّة أنّه كان يقتل كلّ من يتظاهر بهذه العقيدة شرّ قتلة.

وأصبح هذا الاعتقاد علنيّاً في عصر المأمون، كما ذكرنا ذلك سابقاً، وانحاز

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٩٩.

٢ - تلبيس إبليس ٩٤.

٣ - الانتصار ١٦٠.

٦٥

المأمون إلى أصحاب هذا الاعتقاد، بل قطع شوطاً في هذا المجال بشدّة وتعصّب، ومهّد هو وأعضاء حكومته الأرضيّة للتضييق على المعارضين، وبلغت محنة القضاة والشهود والمحدّثين أشدّها.

وكان الإمام أحمد بن حنبل أكثر الناس إصراراً على عقيدته القديمة، ومعارضة رأي المأمون والمعتزلة(١) . ولم يقرّ بهذا القول على الرغم من تشدّد شرطة المأمون إلى أن صُفِد وأُشخص إلى المأمون الذي كان يؤمئذ في الشام، ولكنّه لم يصل إليه؛ إذ نُعي إليهم المأمون وهو في الطريق، فأُرجع إلى بغداد.

وحذا المعتصم حذو أخيه المأمون في هذا الموضوع؛ إذ ظلّ الاعتقاد بالقرآن في عهد المعتصم (٢١٨-٢٢٧هـ) على ما كان عليه في عصر أخيه، وبلغ أحمد بن أبي دوْاد منصب قاضي القضاة أيّام المعتصم، فاستخدم سلطته في هذا المجال أكثر من السابق، وتفاقمت الملاحقة (المحنة) في زمن المعتصم ففاقت ما كانت عليه في أيّام المأمون، وبلغت مبلغاً أنّ المعتصم كان يُكره الإمام أحمد بن حنبل المتمسّك بعقيدته على أن يترك هذه العقيدة بمحضر من الملأ المجتمعين ويناظر المخالفين. وكان قد أمهله ثلاثة أيّام، وذلك في سنة ٢١٩هـ. ولما رأى تمسّكه بعقيدته أمر بجلده، فجُلد ثماني وثلاثين جلدة، وعومل بقسوة حتّى أُغمي عليه وورم جلده. ثمّ لما خاف المعتصم تمرّد الحنابلة وسائر المعارضين عليه أمر بحبسه، وعندما حكم الواثق نجل المعتصم (٢٢٧-٢٣٢هـ)، سار سيرة عمّه وأبيه، وكان يجالس الفلاسفة والمعتزلة وأهل البحث والجدل كعمّه المأمون، وكان من خواصّه: أحمد بن أبي دؤاد، وجعفر بن حرب الهمداني (المتوفّى سنة ٢٣٦هـ)، وهما من كبار رؤساء المعتزلة، وقام بتفتيش العقائد الدينيّة، وتواصلت (المحنة) في عصره، فأسخط عليه كثيراً من الناس، فأطلقوا ألسنتهم في الطعن عليه ولعنه، وأبدى أفراد

____________________

١ - انظر: تاريخ بغداد ٥: ١٧٧ للتعرّف على تفصيل ذلك الإصرار وتعذيب أربعة من علماء مرو.

٦٦

حكومته تعصّباً شديداً في هذا المجال حتّى أنّهم عندما كانوا يَفْسدون المسلمين من أسر الروم سنة ٢٣١هـ، وَفَد رسولُ أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة إلى ديار الروم ليسأل الأسرى عن عقيدتهم؛ فمن كان يعتقد بخلق القرآن ونَفي الرؤية عن الحقّ تعالى، فُودي به وأحسن إليه، ومن أبى تُرك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأُسارى الرجوع إلى أرض النصرانيّة على القول بذلك(١) .

وعندما تربّع المتوكّل على كرسيّ الحكم سنة ٢٣٢هـ، لم يسلك مدارج أسلافه: المأمون، والمعتصم، والواثق. فأوقف المجادلة والمناظرة ونهج منهج أصحاب الحديث والسنّة، واحترم الإمام أحمد بن حنبل، واتّخذه مشيراً له، وبهذا انتهت المحنة.

ومنذ ذلك الحين، أخذت قدرة المعتزلة بالتضاؤل؛ لأنّ أصحاب الحديث والسُّنّة قد نشطوا مرّة أخرى وحالوا الدفاع عن عقائدهم، ودحض آراء المعتزلة ومقالاتهم من جهة، وأنّ الشيعة أصبحت قادرة على مناوءة المعتزلة ونقض بعض عقائدهم بواسطة عدد من المتكلّمين الذين نبغوا في وسطها من جهة أُخرى، ففقدت المعتزلة شوكتها وشأنها الأوّل تدريجاً.

كان علم الكلام في البداية وسيلة لتقدّم المعتزلة والشيعة، وشاقّه أصحاب الحديث والسنّة، ثمّ استقطب اهتمام المسلمين عامّة شيئاً فشيئاً، ذلك أنّ أصحاب الحديث والسنّة رأوا أن لا سبيل إلى تفنيد اعتراضات المخالفين إلاّ التمسّك بأدلّتهم الكلاميّة نفسها، وانتهاج أُسلوبهم في الاستدلال والكلام. وكانت استعانتهم بالأدلّة الكلاميّة أوّل الأمر من أجل الدفاع عن أُصول عقائدهم، ولم يتيسّر لهم تغيير أسسهم الدينيّة، بَيد أنّ معظم علمائهم تَبنَّوا الكلام في أوائل القرن الرابع الهجريّ من أجل إثبات عقائدهم وتقريرها، وكان هذا في وقت ما يزال فيه عدد من كبراء

____________________

١ - التنبيه والإشراف ١٩١.

٦٧

المعتزلة مشغولين ببثّ عقائدهم في البصرة وبغداد كأبي علي محمّد بن عبد الوهاب الجُبّائيّ (٢٣٥-٣٠٣هـ)، وابنه أبي هاشم عبد السلام الجبّائيّ (المتوفّى سنة ٣٢١هـ)، وأبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبيّ البلخيّ (المتوفّى سنة ٣١٩هـ)، وأبي بكر أحمد بن عليّ بن الإخشيد(١) (٢٧٠-٣٢٦هـ) واجتمع حول كلّ واحد منهم عدد من التلاميذ.

وكان أبو الحسن عليّ الأشعريّ (٢٦٠-٣٢٤هـ) من تلاميذ أبي عليّ الجبّائيّ، تلمذ له مدّة متّبعاً عقائد المعتزلة، ثمّ اعترض على بعض آرائه وافترق عنه وتاب من الاعتزال علانيةً، وتبنّى آراء الإمام الشافعيّ في الفروع، واستخدم الأدلّة الكلاميّة في تحقيق الاعتقادات مع نهي السلف عن ذلك، واستطاع أن يوفّق بين أصول الكلام وعقائد أهل السنّة، فأصبح واضعاً لعلم الكلام ناشراً إيّاه بين أهل السنّة.

وشمّر عن ساعد الجدّ لمناظرة المعتزلة وردّ مقالاتهم بعد أن دوّن أُصول عقائده، ولمّا كان قويّاً في الكلام مطّلعاً اطّلاعاً تامّاً على الحديث والسنّة، فقد أفلح تماماً في هذا الميدان، واستطاع هو وتلاميذه من جهة، ومتكلّمو الشيعة - كما سنرى - من جهة أُخرى أن يُحدِقوا بالمعتزلة ويخمدوا جذوتهم تقريباً، فلم ينهض بالأمر منهم رجل مشهور من أُولي البحث والمناظرة يتصدّى للأشعريّة بعد أبي عليّ وأبي هاشم الجبّائيّين وأبي القاسم البلخيّ إلاّ قليل، وتقارنت آخر فترة لنفوذهم بالبرهة التي حكم فيها الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد (٢٢٦-٣٨٥هـ) وزير

____________________

١ - أبو بكر أحمد بن عليّ بن بيغجور (أو اجور أو معجور (الفصل ٤: ٢٠٣؛ والفهرست ١٧٣) ) بن الإخشيد من أشهر متكلّمي المعتزلة ومصنّفيهم وصلحائهم، وهو أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم رئاسة المعتزلة. ثمّ وقعت الفُرقة بينهم بعد هؤلاء الثلاثة، والآخران هما أبو هاشم الجبّائيّ، وأبو القاسم الكعبيّ البلخيّ. (انظر: كتاب الفِصَل لابن حزم الظاهريّ ٤: ٢٠٣، والفهرست ١٧٣، وتاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ٤: ٣٠٩، للتعرّف على ترجمة أبي بكر الإخشيد وعقائده وكتبه).

٦٨

البويهيّين وتلميذ أبي هاشم الجبّائيّ، وكان الديالمة يشجّعونه بسبب عدائهم للحكّام وأهل السّنّة.

وكان المعتزلة اللامعون في الفترة الأخيرة هم قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد الأسد آباديّ الهمدانيّ (النصف الثاني من القرن الرابع)، وأبو الحسين محمّد بن عليّ البصريّ (المتوفّى ٤٣٦هـ)، وأبو عُبَيد الله محمّد بن عمران المرزبانيّ الخراسانيّ (٢٩٧-٣٨٤هـ) وهو من كبار الكتّاب والأُدباء، وكانت عقائده في الاعتزال قريبة من عقائد الشيعة، وله كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدامى، وفي أهل العدل والتوحيد (المعتزلة) وذكر بعض مجالسهم ويقع في ألف ورقة تقريباً(١) .

وكان للمذهب المعتزليّ أتباعه حتّى فترة استيلاء المغول على البلاد الإسلاميّة أواسط القرن السابع الهجريّ. وكان العلاّمة الكبير جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ (٤٦٧-٥٣٨هـ)، والأديب المؤرّخ المشهور عبد الحميد بن أبي الحديد (٥٨٦-٦٥٥هـ) شارح نهج البلاغة في القرن السادس والسابع الهجريّ يتبنّيانه. ثمّ أفَلَ نجمه تدريجاً وعاد لا يذكر له أثر في يومنا هذا تقريباً.

____________________

١ - الفهرست ١٣٢-١٣٤، وتاريخ بغداد ٣: ١٣٥-١٣٦.

٦٩

٧٠

الفصل الخامس

الشيعة ومتكلّموهم الأُوَل

عندما ظهر المعتزلة، صار المسلمون خمس فرق هي: الشيعة، وأهل السنّة - أي: أصحاب الحديث والرواية - والخوارج، والمعتزلة، والمرجئة(١) ، ثمّ انقسمت هذه الفرق إلى فرق فرعيّة أُخرى، وظهرت من بين بعضها فرق أيضاً، تعدّ كلّ واحدة منها فرقة مستقلّة بسبب اختلاف مقالاتها بعضها مع بعض، وكان هناك خلاف بين أصحاب الملل والنحل حول المتصوّفة، والباطنيّة، وبعض الفرق الأُخرى، فمنهم من ذكرها في عداد الفرق الإسلاميّة، ومنهم من لم يحسبها مسلمة بسبب بعض عقائدها.

فرق الشيعة المختلفة

كان لقب الشيعة يطلق في البداية على الذين يعتقدون أنّ الإمامة حقّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثَبَتوا على مودّته وولايته بالرغم من مبايعة الناس أبا بكر؛ لذلك عُرفوا بأنّهم (شيعة عليّ) أي: أتباعه. ومن

____________________

١ - الانتصار ١٣٩، والفصل ٢: ١١١، وفرق الشيعة ١٥.

٧١

هؤلاء: المقداد بن الأسوَد، وسلمان الفارسيّ، وأبو ذرّ الغِفاريّ، وعمّار بن ياسر. وهم أوّل من عُرف بالتشيّع بين المسلمين، والشيعة في هذا المجال هم مجموع المعتقدين بالإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهذه الشريحة تعدّ الأصل الذي انبثقت منه فرق الشيعة عامّة(١) ، ذلك أنّ الفرق الشيعيّة التي ظهرت بعد كالشريحة الصغيرة المذكورة كانت تؤمن أنّ الإمامة حقّ لآل عليّ، وإنّما اختلفت في الإمام الذي يخلف الإمام السابق له، ومقامه، وهل تختم الإمامة به أو لا، وهذا ما أدّى إلى الإمامة، ولمزيد الاطّلاع يمكن الرجوع إلى الكتب المصنّفة في الملل والنحل والمقالات، وأخصّ بالذكر كتاب فرق الشيعة لأبي محمّد الحسن بن موسى النوبختيّ، ومقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعريّ.

كانت فرق الشيعة تقسّم في البداية إلى ثلاثة أقسام كبيرة، ثمّ تشذّرت كلّ فرقة فرقاً عديدة:

١ - الغلاة أو الغالية: وهم الذين غَلّوا في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولادهعليهم‌السلام ، وقالوا بأُلوهيّتهم، وهؤلاء ليسوا من الشيعة في شيء حقّاً، فهم إمّا أن يكونوا قد ألصقوا أنفسهم بهم، أو أنّ المناوئين المعاندين للشيعة جعلوهم في عداد الشيعة.

٢ - الإماميّة: وهم الذين يَرَون أنّ تعيين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إماماً كان من قِبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذهبون إلى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اختار ابن عمّه لهذا المقام في حياته، وأعلَمَ المسلمين بهذا الاختيار، ومن بايع أبا بكر، وعمر مخالفاً

____________________

١ - فرق الشيعة ٦ و١٦. وأحسب أنّ مؤلّف كتاب فرق الشيعة قد سها؛ إذ جعل الشيعة فرقاً، فالشيعة فرقة واحدة تهتدي بالقرآن وسنّة نبيّها الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وتؤمن بإمامة عليّ بن أبي طالب والأئمّة الأحد عشرعليهم‌السلام جميعاً بعده، عملاً بوصيّته واقتداءً بسنّته، وأمّا ما حُسب على الشيعة من سائر الفرق فقد كانوا شيعةً ثمّ انحرفوا فتفرّقوا فرقاً مختلفة كالزيديّة والإسماعيليّة وغيرهما(م).

٧٢

أمر نبيّه فقد سلك سبيل الضلال، وعمل خلاف ما أوصى به النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله . وتنعقد الإمامة لقرابة الرسول بالنصّ والتوقيف كما يعتقد الإماميّة، والإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه. وسمّى مناوئو الشيعة هؤلاء (الشيعة) (الرافضة)؛ لأنّهم رفضوا إمامة أبي بكر، وعمر، وتركوا هذين الحاكمين، وهذه التسمية نابعة من روح عدائيّة لا محالة.

٣ - الزيديّة: وهم الذين بايعوا زيداً بالكوفة بعد وفاة أبيه السّجادعليه‌السلام (أيّام حكومة هشام بن عبد الملك)، ولمّا كان زيد من تلاميذ واصل بن عطاء المعتزليّ، فقد نَهَج الاعتزالَ في الأُصول، وأصبح أتباعه قاطبة معتزلة.

وانقسم الإماميّة بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى فرقتين كبيرتين: الأُولى: اختارت الإمام عليّ بن الحسين - وجدّتُه فاطمة الزهراءعليها‌السلام - إماماً لها، ومنها ظهرت الزيديّة، الثانية: اتّخذت محمّد بن الحنفيّة إماماً - وهو ابن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من غير فاطمةعليها‌السلام - وسارت خلفه، وعُرفت هذه الفرقة بالكيسانيّة، وكيسان كان لقباً للمختار بن أبي عُبيد الثَقَفيّ الذي كان يترأس هذه الفرقة، وهو الذي قام مطالباً بدم الحسينعليه‌السلام ، ويرى الكيسانيّة أنّ محمّد بن الحنفيّة وصيّ أبيه، والمختار كان عامله.

وبايعت فرقة من الكيسانيّة أبا هشام عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة بعد وفاة أبيه سنة ٨١هـ ولمّا مات أبو هاشم سنة ٩٨هـ التفّ جماعة من أصحابه حول محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب لزعمهم أنّه وصيّ أبي هاشم، وجدّوا كثيراً في التبليغ لعقيدتهم والسير بهم قُدُماً، وعُرفوا منذ ذلك الحين بشيعة آل العبّاس أو الراونديّة، وهم الذين أجلسوا بني العبّاس (أولاد محمّد المذكور) على دفّة الحكم آخر المطاف. وسُمّي الإماميّة: الشيعة العَلَويّة، تمييزاً لهم عن شيعة بني العبّاس.

وذهبت الشيعة العلويّة إلى أنّ الإمام بعد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب

٧٣

وولديه الحَسَنَينعليهم‌السلام هو زين العابدين أبو محمّد عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، ولمّا توفّي سنة ٩٤هـ ذهبوا إلى إمامة ولده أبي جعفر محمّد بن عليّ الملقّب بباقر العلم إماماً خامساً لهم (٥٩-١١٤هـ) في مقابل الزيديّة الذين بايعوا أخاه زيداً، ثمّ ذهبوا إلى إمامة ولده أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام (٨٣-١٤٨هـ) إماماً سادساً لهم.

ثمّ انقسم الشيعة العلويّة إلى ستّ فرق بعد وفاة الإمام الصادقعليه‌السلام - وحَظِيت إحداها فيما بعد بأهمّيّة كبيرة - ففرقة قالت: إنّ الإمام السادس لم يَمُت بل غاب وعلينا أن ننتظر رجعته؛ لأنّه هو المهديّ، وتُعرف هذه الفرقة بالناووسيّة.

وذهبت فرقة أُخرى إلى إمامة ولده إسماعيل الذي مات في حياة أبيه، إذ كانت تعتقد أنّه لم يَمُت، وهو خليفة أبيه الحقّ، ولن يموت حتّى يملك العالم، ويدير شؤون الناس، وعُرف هؤلاء بالإسماعيليّة أو الخطّابيّة نسبة إلى رئيسهم أبي الخطّاب محمّد، وهؤلاء يمثّلون النواة لفرق الإسماعيليّة المهمّة التي ظهرت بَعدُ.

أمّا الفرقة الثالثة فقد التفّت حول محمّد بن إسماعيل حفيد الإمام الصادقعليه‌السلام بعد وفاة الإمام، ولما كان (مبارك) - وهو أحد غلمان الإمام الصادق رئيساً لها فقد دُعيت بالمُباركيّة، وأدّى ظهور هذه الفرقة إلى انتماء جماعة من الإسماعيليّة إليها.

وقالت جماعة من المباركيّة والخطّابيّة: إنّ روح الإمام السادس حلّت في بدن أبي الخطّاب، ثمّ انتقلت منه إلى بدن محمّد بن إسماعيل، فالإمامة لولده من بعده، وسمّي هؤلاء: القَرامطة؛ لأنّ رئيسهم كان يدعى: قُرْمطويه.

واختارت الفرقة الرابعة محمّد بن جعفر الصادق إماماً لها، ورئيسها يحيى بن أبي السُّمَيط، وعرفت بالسُّمَيْطيّة نسبة إليه.

واتّخذت الفرقة الخامسة ابن الإمام الأكبر عبد الله بن جعفر الأفطح إماماً فسُمّيت بالأفطحيّة.

وأمّا الفرقة السادسة من الشيعة العلويّة فقد آمنت بإمامة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام (١٢٨-١٨٣هـ)، وأنكرت إمامة عبد الله الأفطح، وتضمّ هذه الفرقة كبار

٧٤

أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام وعلماء الشيعة ومتكلّميهم كأبي جعفر مؤمن الطاق، وأبان بن تغلب، وهشام بن الحكم وهشام بن سالم.

وعندما توفّي الإمام موسى بن جعفر الملّقب بالكاظم، وهو الإمام السابع للشيعة الإماميّة، برز خلاف بين أصحابه فانقسموا خمس فرق، أشهرها فرقتان: الأُولى أنكرت موته وزعمت مهدويّته، وخَتْم الإمامة به، وقالت: إنّه حيّ ولن يموت حتّى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه الفرقة هي الواقفة.

أمّا الثانية فهي على خلاف الواقفة، إذ قطعت بوفاة الإمام وذهبت إلى إمامة ولده أبي الحسن عليّ بن موسى الرِّضاعليه‌السلام (١٥٥-٢٠٣هـ) فاشتهرت بالقطعيّة.

وعلى الرغم من أنّ الشيعة انقسمت إلى عدّة فرق بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام - وقد بلغت أربع عشرة فرقة بعد وفاة الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ (٢٣٢-٢٦٠هـ) - لكنّ هذه الفرق لم تتمتّع بشأن يذكر، إذ كان الشأن والشهرة كلّها للشيعة الذين آمنوا بإمامة الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد (١٩٥-٢٢٠هـ) بعد أبيه الرِّضاعليه‌السلام ، ثمّ اعتقدوا بإمامة ولده الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد الهاديعليه‌السلام (٢١٤-٢٥٤هـ) إماماً عاشراً لهم، وبعد وفاته قالوا بإمامة ولده الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ (٢٣٢-٢٦٠هـ) إماماً حاديَ عشرَ لهم.

وانقسمت الشيعة بعده - كما قلنا - إلى أربع عشرة فرقة، لكنّها لم تصمد في مقابل الإماميّة، وبادت كلّها.

ويعتقد الشيعة الإماميّة أنّ الدنيا لا تخلو من إمام أبداً، والله تعالى مختار أن يُظهر الإمام بين الخلق أو يخفيه عن أنظارهم؛ لأنّ الأرض لا تخلو من حجّة أبداً، وحجّة الله بعد الإمام الحادي عشر ولده الغائب، وإذا شاء الله فإنّه سيظهر بَعدَ أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلاً، وسنتحدّث في الفصول القادمة عن غيبة الإمام الثاني عشر وعقيدة الإماميّة في هذا الموضوع.

٧٥

الإمامة

إنّ أكبر خلاف برز بين المسلمين في المسائل الدينيّة يحوم حول الإمامة، أي خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ تناظروا وتجادلوا وتنازعوا، وأبدَوا تحمّساً في ذلك، ولم يُلحظ خلاف بينهم بلغ في شدّة هذا الخلاف، ويعود السبب إلى اتّسام الإمامة بالطابع السياسيّ غالباً وإذا ما تفوّقت عقيدة لفرقة من الفرق، فإنّ هذه الفرقة ستمُسك بزمام الأُمور الدنيويّة للمسلمين كما تمسك بشؤونهم الدينيّة، وكان هذا الخلاف قائماً بين المسلمين ولا يزال منذ أن طرأ على المسلمين يوم وفاة نبيّهم العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتعني كلمة الإمام لغةً: مَن يأتمّ به الناس فيتّبعونه ويأخذون عنه؛ لأنّهم يؤمّون أفعاله، أي يقصدونها فيتّبعونها، ويقال للطريق: إمام؛ لأنّه يُؤَمّ، أي: يُقصَد ويتّبع(١) . أمّا اصطلاحاً، فهي: رئاسة عامّة في أُمور الدنيا والدين نيابةً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويدور خلاف بين شتّى الفرق الإسلاميّة حول من يستحقّ منصب الإمامة، وكيف يتمّ تعيين الإمام، وهل تجب الإمامة أو لا، وهل يكفي إمام واحد أو عدّة أئمّة.

وكانت الفرق الإسلاميّة عامّة ترى وجوب الإمامّة، غير أنّ فرقة من الخوارج، واثنين من رؤساء المعتزلة لا يرون ذلك، وقال النجدات - وهم قوم من الخوارج -: إنّه ليس بواجب أصلاً، وعلى الناس أن يتعاملوا فيما بينهم على سبيل الحقّ وبحكم القرآن، وقال أبو بكر الأصمّ من المعتزلة: لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج، ويجب عند ظهور الظلم، وقال هشام الفُوَطيّ منهم (معاصر للمأمون العبّاسيّ): بالعكس، أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرائع

____________________

١ - مجمع البحرين ٥٢٥.

٧٦

الشرع، لا عند ظهور الظلم؛ لأنّ الظَّلَمة ربما لم يطيعوه، وصار سبباً لزيادة الفتن لنا(١) .

كان المتكلّمون على ثلاثة آراء في طريق وجوب الإمامة، فالأشاعرة وأهل السنّة والجماعة، وثلّة من المعتزلة يثبتون وجوب الإمامة عن طريق النقل، أي الأدلّة السمعيّة، أمّا الجاحظ، وأبو القاسم الكعبيّ، وأبو الحسين البصريّ فإنّهم يثبتونه بالأدلّة السمعيّة والعقليّة، وأمّا الإسماعيليّة والشيعة الإماميّة فإنّهم يثبتونه بالأدلّة العقليّة فحسب(٢) .

ويقول متكلّمو الإماميّة: الإمامة واجبة عقلاً على الله تعالى، وهو الحقّ، والدليل على حقّيّته هو أنّ الإمامة لطف، وكلّ لطف واجب على الله تعالى، فالإمامة واجبة على الله تعالى، واللطف هو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية، وهذا المعنى حاصل في الإمامة؛ لأنّ الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مُرشد فيما بينهم يردع الظالم عن ظلمه، والباغي عن بغيه، وينتصف للمظلوم من ظالمه، ويحملهم على القواعد العقليّة والوظائف الدينيّة، ويردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في أُمور معاشهم، وعن القبائح الموجبة للوبال في معادهم، بحيث يخاف كلّ واحد من مؤاخذته على ذلك، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، ولا نعني باللطف إلاّ ذلك ويكون الإمامة لطفاً، وهو المطلوب(٣) .

ويرى الإسماعيليّة أيضاً - كالإماميّة - أنّ الإمامة واجبة عقلاً على الله تعالى، لكنّهم لا يعتقدون كالإماميّة أنّ نصب الإمام ينبع من قاعدة اللطف، بل كانوا يقولون:

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٢٧٣، ومقالات الإسلاميّين ٤٦٠، والفِصَل ٤: ٨٧-٨٨، وكتاب الألفين ٨.

٢ - الإماميّة يثبتونه بالأدلة العقليّة والنقليّة معاً لا بالأدلّة العقليّة وحدها، فليُنْتَبَه!(م)

٣ - شرح الباب الحادي عشر ٥٢-٥٣.

٧٧

لما كان العقل لا يكفي لمعرفة الله تعالى، فيجب أن يكون الإمام معلّماً للناس في هذا السبيل(١) ، ويأخذ الناس منه عن طريق التعليم، لذلك تُسمَّى هذه الفرقة: التعليميّة أيضاً(٢) .

ويعتقد علماء الإماميّة أنّ كلّ ما دلّ على وجوب النبوّة فهو دالّ على وجوب النبوّة فهو دالّ على وجوب الإمامة؛ إذ الإمامة خلافة عن النبوّة قائمة مقامها إلاّ في تلقّي الوحي الإلهيّ بلا واسطة، ولكن الإمامة لطف عامّ: والنبوّة لطف خاصّ؛ لأنّه يمكن أن يخلو الزمان من نبيّ، بَيْد أنّه لا يخلو من إمام(٣) . ولذلك ترى الإماميّة أنّ مبحث الإمامة من فروع مبحث النبوّة وتوابعه، ومن أعظم أركان الدين، ولا يستقيم الإيمان بدون الاعتقاد بالإمامة، ويقال للمرء مؤمناً مطلقاً إذا كان على عقيدة الإماميّة(٤) ، في حين ترى الفرق الإسلاميّة الأخرى أنّ الإمامة من فروع الدين(٥) ، وأقحم متكلّمو السنّة هذا المبحث في كلامهم لدحض عقائد الشيعة في هذا الباب(٦) .

وبعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نشب الخلاف بين المهاجرين والأنصار حول الخلافة كما قلنا سابقاً، وبايعت الأكثريّة من قريش أبا بكر، أمّا الشيعة وهم أقليّة فكانوا يَرَون أنّ الإمامة حقّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وغُلب الأنصار الذين كانوا يدّعون هذا المقام لهم، ثمّ انقرضوا تدريجاً. ومنذ ذلك الحين فُتح باب البحث فيمن يصلح لمقام الإمامة، وترى فرق الشيعة بأسرها، وأهل السنّة، وبعض فرق المعتزلة، وأكثريّة المرجئة أنّ الإمامة لا تصحّ في غير قريش. بَيْد أنّ الخوارج جميعهم وأكثريّة المعتزلة وبعض المرجئة يذهبون إلى أنّ من نهض لإقامة أحكام القرآن وسنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الإمام سواءً كان قرشيّاً أم عربيّاً من غير قريش أم من الموالي. وترى الشيعة أنّ الإمامة حقّ لبني هاشم. أمّا أنصار الإمامة في قريش

____________________

١ - شرح المقاصد ٢: ٢٧٢.

٢ - تلبيس إبليس ١١٢.

٣ - شرح الباب الحادي عشر ٥٣، وكتاب الألفين ٣.

٤ - مجمع البحرين ٥٧٢.

٥ - شرح الباب الحادي عشر ٥١، والألفين ١٠.

٦ - شرح المقاصد ٢: ٢٧١.

٧٨

فيرون أنّها تكون في غير بني هاشم أيضاً، وتذهب الراونديّة شيعة بني العبّاس إلى أنّ الإمامة لأولاد العبّاس بن عبد المطّلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا العلويّة فإنّها تقول بإمامة أولاد عليّ، وتطرّقنا سابقاً إلى اختلاف الزيديّة والكيسانيّة والإسماعيليّة في هذا الميدان.

ويلحظ في موضوع تعدّد الأئمّة أنّ البعض لا يجيز وجود أكثر من إمام في زمان واحد، في حين يجيز البعض الآخر ذلك؛ إذ يمكن أن يكون إمامان في عصر واحد: أحدهما ناطق، والآخر صامت، فإذا مات الناطق، حلّ الصامت محلّه، وثمّة من يرى وجود ثلاثة أئمّة في آن واحد.

واختلف المسلمون في تعيين الإمام وتثبيته، ففريق منهم يرى أنّ الإمامة تثبت بالإجماع، فإذا أجمع المسلمون أو جماعة ذات شأن منهم على أحد واختاروه للإمامة، فهو الإمام، وهؤلاء يعرفون بأهل الإجماع، ومن هذا المنطلق استصوبوا إمامة الخلفاء الراشدين، ومعاوية، ومروان بن الحكم، وأولاده، وفريق آخر يذهب إلى أنّ الإمامة من أهمّ المسائل الدينيّة، ولا يمكن أن يغفل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه المسألة في حياته، فيترك أمّته هَمَلاً بلا خليفة يرعى شؤونها الدينيّة والدنيويّة ويدافع عن دينها، فهو - على عكس التصوّر المذكور - قد نصَبَ ابن عمّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ونصّ على خلافته، وهؤلاء يُعرفون بأهل النصّ، ومنهم الإماميّة، والكيسانيّة، والإسماعيليّة.

وكان الراونديّة يَرَون أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وارثُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذلك كانوا يعتقدون أنّ الإمامة إرث لبني العبّاس، وكان الخوارج يختارون لهم إماماً من بينهم في كلّ عصر، ويشترطون عليه أن يسير وفق عقائدهم، ويكون عادلاً، وإذا ما تمرّد فإنّه يُخلع من الإمامة، وقد يُقتَل، ويعتقد الزيديّة أنّ كلّ فاطميّ يخرج فهو إمام يجب اتّباعه، بشرط أن يكون عالماً زاهداً شجاعاً سخيّاً حتّى لو كان من أولاد الإمام الحسنعليه‌السلام .

إنّ أحد شروط الإمامة عند الإماميّة هو أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه، ولكنّ

٧٩

الزيديّة وأكثر المعتزلة لا يتّفقون معهم في هذا الرأي ويقولون: قد يكون بين رعيّة الملك من هو أفضل منه، فكذلك أتباع الإمام إذ يمكن أن يكون فيهم من هو أفضل منه؛ ولذلك لا قدح عندهم في إمامة المفضول، كما نلاحظ أنّ جماعة من المعتزلة - لا سيّما معتزلة بغداد - كانوا يذهبون إلى صحّة إمامة أبي بكر، وهو مفضول بالنسبة إلى عليّ بن أبي طالب - مع أنّهم كانوا يَرَون أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل من أبي بكر.

وإذا كنّا قد أشرنا في السطور المتقدّمة إلى أُصول عقيدة الإماميّة الاثني عشريّة في باب الإمامة، فإنّنا ننقل فيما يأتي خلاصة عقيدتهم فيها ليزداد الموضوع جلاءً:

١ - يجب أن يكون الإمام معصوماً، والمقصود من عصمته هو أنّه لا حاجة عنده إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية عمداً أو سهواً مع قدرته على ذلك، ووافقهم الإسماعيلية في هذا الموضوع.

٢ - الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه؛ لأنّ العصمة من الأُمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله، أو إنّ الله العالم بعصمته يحكم بإمامته بالنّص، أو تظهر على يده معجزة تدلّ على صدقه، ولابدّ أن يكون التنصيص من الله أو من النبيّ أو من الإمام السابق.

٣ - الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه.

٤ - الإمام بالحقّ بعد رسول الله بلا فصل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأولاده الأحد عشر من بعده، وكلّهم معصومون، وهم أفضل الخلائق في عهدهم، ونُصب كلّ منهم إماماً بنصّ صريح من قبل الإمام السابق له(١) .

الإماميّة ومتكلّموهم الأُوَل

كانت فرق الشيعة من الغلاة والزيديّة والكيسانيّة والإماميّة قليلة العدد قياساً

____________________

١ - شرح الباب الحادي عشر ٥٣-٥٨.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288