ابن عباس و أموال البصرة

ابن عباس و أموال البصرة40%

ابن عباس و أموال البصرة مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 93

  • البداية
  • السابق
  • 93 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31896 / تحميل: 7162
الحجم الحجم الحجم
ابن عباس و أموال البصرة

ابن عباس و أموال البصرة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أكاذيب وحقائق: الحلقة الأولى

ابن عبّاس و أموال البصرة

دراسة وتحليّل

جعفر مرتضى

الطّبعة الأولى، ١٣٩٦هـ،شعبان.

حقوق الطّبع محفوظة للمؤلف

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيّم

٣
٤

تقديم:

بسم الله الرّحمن الرحيّم

والحمّد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خير خلقه أجمعين، سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين.. .

وبعد:

فقد سنحت لي الفرصة أخيراً للقيام ببحث هذه القضّية، الّتي طالما تشوّقت لبحثها وتمّحيصها، وكشف النّقاب عن ظروفهاوملابساتها...

٥

هذه القضّية التي لها علاقة مباشرة بابن عبّاس الشّخصيّة الفذّة، الّذي قام بدور رئيس في تأييد الامام عليّعليه‌السلام ، سواء في حياة الإمامعليه‌السلام ، أم في تأييد حق علي وحق أهل البيت بعد وفاته( صلوات الله وسلامه عليه)،والرجل الّذي أشتهر بصراحته المثيرة ومواقفه الجريئة،والإنسان الّذي كان - وما يزال - يتمتّع بالاحترام والتقدير، وله شهرة علميّة وأدبيّة واسعة. والّتي لم تكن لتكون له؛ لو لم يكن يتمتّع بالمؤهّلات الحقيقيّة والنّادرة، الّتي رسخّت بمعطياتها هذه الشّهرة الواسعة، وجسّدت المثال الحيّ للشّخصيّة الّتي تستحق كلّ هذا الإحترام، وكلّ ذلك التّقدير..

ولكنّنا - ومع كل أسى وأسف - نُلاحظ: أنّه قد نُسب إلى هذا الرّجل بالذّات ،ابن عبّاس،ما يمس كرامته، ويطعن في نزاهته، ويُنّزله من أوج الجلال والمهابة.. إلى حضيض الذل والمهانة.. لقد نُسب إليه سرقة بيت مال البصّرة، حينما كان والياً عليها من قبل عليّعليه‌السلام ...

٦

ولعلّ ممّا يعمّق فينا الشّعور بالأسف والمرارة، أنْ نرى كاتباً، كبيراً، وأديباً بارعاً كالدّكتور طه حسين، يحاول إستغلال هذه القضيّة، فيعقد لها فصلاً خاصاً في كتابه: الفتنة الكبرى، ويعرضها - من ثمّ - على طريقته الخاصّة، ويحاول أن يصوّرها بشكل مقنع ومقبول.. ودون ما أيّ تمّحيص أو بحث، نراه يعتبرها من المسلّمات التّاريخيّة ، بالرغم من محاولاته التّشكيّك فيما هو أكثر قوةً ووضوحاً منها ثم هو يركّز عليها بشكل بارز وملحوظ في كثير من إستنتاجاته وملاحظاته، في العديد من الموارد في كتابه الآنف الذكر... .

وعلى كل حال.. ومهما يكن الدّافع لطه حسين في موقفه هذا من ابن عبّاس، وزير عليّعليه‌السلام ، ومدبّر أموره - على حدّ تعبير هذا الكاتب - ،فإنّ الشّيء الّذي لابدّ لنا من الإشارة إليه، هو:

إنّ شخصيّة ابن عبّاس الفذّة.. ، وإن بقيت طاغية على هذا الإتّهام، وخنقته في مهده أو كادت..، إلاّ أنّه لا يسع الباحث - في أيٍّ من الظّروف والأحوال - تجاهل إتّهام كهذا، والإستسلام في رده أو قبوله إلى إنّفعالات عاطفيّة، أو وجدانيّة بحتة.. كما قد يفعله الآخرون.. .

بل لابدّ للباحث المُنّصف من تلمُّس الحقيقة في الوقائع التّاريخيّة نفسها، ومحاكمة أيّة قضيّة في ضوئها، وعلى أساسها،

٧

بعد التّعرّف الكامل على الأجواء والمناخات التّاريخيّة، الّتي تُعطي الباحث الضّوء الأخّضر، وتمنحه شجاعة إصّدار الرّأي الحر، قبولاً أو رفضاً؛ إذا اقتضى الأمر أياً من الرّفض أو القبول..

وكان ذلك هو المنطلق في هذه الدّراسة الموجزة، كما سيلمسه القارئ بنفسه..

ومن الله نستمد العون..

وهو الموفق والمسدّد..

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٨

ابن عبّاس في سطور:

هو: عبدالله ، بن العبّاس، بن عبد المطّلب، بن هاشم، بن عبد مناف..

أبوه: العبّاس، عم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمه: أمّ الفضل، لبابة بنت الحارث الهلاليّة..

ولادته: قبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاث سنين، عنّدما كان بنو هاشم محاصرين في الشعب من قبل قريش.. وقيل: بل قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل غير ذلك. والأول هو الأشهر،وعليه الأكثر..

٩

وفاته: في سنة ٦٨هـ ،على أشهر الأقوال، أي: في خلافة عبدالملك بن مروان في الشّام، وعبدالله بن الزّبير في مكّة.. ،عن عُمْرٍ ناف على السّبعين. وكانت وفاته بالطّائف، وصلّى عليه محمّد بن الحنفيّة..

صفته: كان أبيضاً، طويلاً، جسيماً، وسيماً، صبيح الوجه، له وفرة، ولما كُفّ بصره، إعترى لونه صفرة يسيرة..

يقال: إنّه غزا أفريقية مع ابن أبي سرح سنة سبع وعشرين.

شهد مع عليّعليه‌السلام : الجمل، وصفّين، والنّهروان..

كان على مقدّمة عليّعليه‌السلام في حرب الجمل، كما ذكره الشّيخ المفيّد في كتاب الجمل..، لكن يظهر من آخرين أنّه كان على ميّمنة عليّ فيها..،وكان على ميسرة عليّعليه‌السلام في صفّين..

ولاّه عليّعليه‌السلام البصرة بعد حرب الجمل، واستمر والياً عليها إلى أن قُتل عليّعليه‌السلام في سنة أربعين..

وولّي البصرة أيضاً من قِبل الإمام الحسنعليه‌السلام ، وبقي عليها إلى أن صالح الحسن معاوية على شروط لم يفِ بها معاوية له.. ويقال: إنّه شهد الصّلح أيضاً..

١٠

رشّحه الإمام عليّعليه‌السلام ممثّلاً عنه في التّحكيم بعد صفّين، فرفضه أولئك الّذين أصبحوا فيما بعد خوارج..

ناظر الخوارج في النّهروان، وكان يُلقي عليهم ما يُلقّنه إياه الإمامعليه‌السلام ؛ فرجع منهم - على ما قيل - ألفان عن غيّهم وضلالهم..

كان مع الطّالبيين الّذين حاصرهم ابن الزّبير، وجمع الحطب حول دورهم، وأراد إحراقهم، فأنّقذتهم النّجدة من الكوفة من شر ابن الزّبير..

اشتهر عنه: أنّه كان يكتب الحديث، ويحتفظ به، ويقصد بيوت الصّحابة في طلبه..

اشتهر بالتّفسير والفقه، وقوّة العارضة في الجواب، وإيراد الحجج..

له مواقف، واحتجاجات ومناظرات مشهورة مع معاوية، وابن العاص، ومروان، وابن الزّبير.. وغيرهم، من أعداء عليّعليه‌السلام وأهل بيته..

كُفّ بصره في آخر عمره، فعيّره معاوية بذلك؛ حيث قال له: أنتم يا بني هاشم تُصأبون في أبصاركم. فقال له ابن عبّاس: وأنتم يا بني أميّة تُصأبون في بصائركم.. ؛ ولعلّ فقْده بصره ،كان هو المانع له عن الخروج مع الحسين، كما يُفهم من ابن كثير في البداية والنّهاية.. .

١١

وأخيراً.. فقد كان يتمتّع بمكانة مرموقة، سواء في حياة عليّعليه‌السلام ، أم بعد وفاته..، وأمّا مكانته من عليّ نفسه؛ فتلك غنيّة عن البيان. ويكفي أن نذكر: أنّ طه حسين يراه: (أقرب النّاس إلى عليّ، وآثرهم عنده). وأنّه: (صاحب رأي عليّ، وأعرف النّاس بدخيلة أمره) إلى آخر كلامه.. الّذي لا نرى حاجة لإيراده..

١٢

ابن عبّاس وأموال البصرة..

البداية

النّص التّاريخي للرّواية

قيس بن سعد الغاضب

ابن الزّبير أيضاً

١٣

١٤

البداية:

يذكر بعض المؤرّخين: أنّ ابن عبّاس قد سرق أموال البصرة ؛وذلك عنّدما كان والياً عليها من قبل ابن عمّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولقد أطال بعضهم في تفصيل هذه القضيّة، وذكر ملابساتها، ونصوص الكتب المتبادلة بين عليّ وأبي الأسود من جهة، ومن جهة ثانية: بين عليّ وابن عبّاس، وهو في البصرة تارة، وفي مكّة أخرى..

ونحن ننقل هذه القضيّة بعين النّصوص الّتي جاءت في المصادر الّتي رجعنا إليها،

١٥

ولا نُسقط منها إلاّ نصوص الكتب المتبادلة بين من ذكرنا آنفاً؛ لأنّنا رأينا: أن ذكر الرّسائل أيضاً سوف يطول به المقام، ويوجب - ولا شكْ - الملل لدى القارئ، كما لابدّ وأنْ نُشير إلى أنّنا قد حاولنا إدخال حديث بعض تلك المصادر في بعض، وتتميم ما نقص من بعضها، ممّا زاد في الآخر..

ونستطيع أن نعرض هذه الرّواية - بعدما قدّمناه - على النّحو التّالي:

(النّص التّاريخي للرّواية):

إنّه في سنة أربعين للهجرة(١) خرج عبدالله بن العبّاس من البصرة، ولحق بمكّة..

____________________

(١) تعيين السّنة قد ورد في: الكامل لابن الأثير، ج ٣ ،ص ٣٨٦ ،ط صادر، تارخ الطّبري، ج ٤ ،ص ١٠٨ ،ط مطبعة الاستقامة، تذّكرة الخواص، ص ١٠٧. وفي أنساب الأشراف،ج ١ ،ص ٤٠٥،ط الأعلمي ، قال: (وكان عبدالله قد نافر عليّاً بالنّهروان؛ ولحق بمكّة..).

١٦

وسبب ذلك: أنّ عبدالله قد مرّ - وهو والي البصرة - على أبي الأسود الدؤلي، فقال له: يا أبا الأسود، لو كنت من البهائم كنت جملاً، ولو كنت راعياً ما بلغت المرعى، ولا أحسنت مهنته في المشتا..

فكتب أبو الأسود إلى عليّ يتّهم ابن عبّاس: بأنّه قد أكل ما تحت يده، بغير علمه..

فكتب عليّ إليه: يشكره على وشايته، ويطلب منه إعلامه بكل ما يكون بحضرته..ثم كتب إلى ابن عبّاس: يطلب منه أن يرفع إليه حسابه..فأجابه ابن عبّاس نافياً التّهمة عن نفسه، ويطلب منه أن لا يصدّق الظّنون فيه..فأجابهعليه‌السلام بالإصرار على محاسبته، ومعرفة كل ما أخذه، وأين وضعه..فأجابه ابن عبّاس، بكلام قاسٍ، يتّهمه فيه: بأنّه قتل النّاس، وسفك الدّماء من أجل الملك،وأنّه ظاعن عن عمله؛ فليبعث مكانه من أحب ، فعندّما تسلّم عليعليه‌السلام كتابه تعجّب منه،

١٧

وقال: أو ابن عبّاس لم يشركنا في هذه الدّماء؟!..

ثم كتب إليه: أنّه هو أيضاً قد شارك في سفك هذه الدّماء، ولكنه يقول ذلك؛ لأنّه لاحياء له..

قالوا: ولمّا أراد ابن عبّاس الخروج من البصرة، دعا أخواله من بني هلال بن عامر؛ فجاءه الضّحّاك بن عبدالله - وكان على شرطة البصرة - وعبدالله بن رزين، وقبيصة بن عبد عون، وغيرهم من الهلاليّين. فقال الهلاليّون: لا غناء بنا عن إخواننا من بني سليم. ثم اجتمعت معه قيس كلّها.

وصحب ابن عبّاس أيضاً: سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي، والحصين بن أبي الحر العنبّري، والرّبيع بن زياد الحارثي..

فلما رأى عبدالله من معه، حمل المال - وهو ستة آلاف ألف - في الغرائز (قال أبو عبيدة: كانت أرزاقاً قد اجتمعت؛ فحمل مقدار ما اجتمع له)، ثم سار، واتّبعه أخماس البصرة(١) كلهم، فلحقوه بالطّف على أربعة فراسخ من البصرة؛ فتواقفوا يريدون أخذ المال.

____________________

(١) قيل لهم ذلك؛ لأنّ البصرة كانت قد قسّمت حسب القبائل إلى خمسة أقسام..

١٨

فقالت قيس: والله، لا يصلون إليه ومنا عين تطرف. فطلب صبرة بن شيمان بن عكيف الحداني، وهو رأس الأزد، الإنصراف؛ إبقاءاً على مودّة عشيرته مع قيس. واعتزلت أيضاً بكر، وعبد القيس. وأبى بنو تميم الإنصراف، فنصحهم الأحنف، فأصرّوا على القتال من أجل المال؛ فاعتزلهم الأحنف؛ فرأسوا عليهم ابن المجاعة التّميمي. فاقتتلوا قتالاً كثيراً، وحمل الضّحّاك على ابن المجاعة؛ فطعنه، فاعتنقه عبدالله بن رزين، فسقطا إلى الأرض يعتركان. وكثُرت الجرحى من الفريقين، ولم يُقتل أحد..

فقالت الأخماس: ما صنعنا شيئاً؛ اعتزلناهم، وتركناهم يتحاربون؛ فضربوا وجوه بعضهم عن بعض، وحجزوا بينهم، وقالوا لبني تميم: والله، لنحن أسخى أنفساً منكم؛ حين تركنا هذا المال لبني عمّكم وأنتم تقاتلونهم عليه؛ إنّ القوم قد حملوا وحموا، فخلّوا عن القوم، وعن ابن أختهم؛ ففعلوا ذلك..

ومضى ابن عبّاس، ومعه من وجوههم نحو عشرين، سوى مواليهم، ومواليه، ولم يفارقه الضّحّاك، ولا ابن رزين، حتى وافى مكّة..

١٩

وقال قائل أهل البصرة، وقيل: بل القائل هو راجز عبدالله بن العبّاس نفسه:

صبح من كاظمة الحض الغضب

سبع دجاجات وسنور جرب

مع ابن عبّاس بن عبد المطلب

وجعل ابن عبّاس يرتجز ويقول:

آوي إلى أهلك يا رباب

آوي فقد آن لك الإياب

وجعل أيضاً يرتجز ويقول:

وهنَّ يمشين بنا هميسا

أن يصدق الطير (...) لميسا(١)

فقالوا له: يا أبا العبّاس، أمثلك يرفث في هذا الموضع!، قال: إنما الرفث ما يقال عنّد النساء..

وكان ابن عبّاس يعطي في طريقه من سأله ، ومن لم يسأله من الضّعفاء، حتى قدم مكّة. ولمّا قدمها ابتاع من عطاء بن جبير، مولى بني كعب بن خزاعة: ثلاث مولِّدات: شادن، وحوراء، وفنون، بثلاثة آلاف دينار..

فأرسل إليه عليّعليه‌السلام كتاباً يؤنّبه فيه على شرائه الإماء بأموال اليتامى والأرامل ويتهدّده.

____________________

(١) محل النّقاط الثّلاث كلمة يُستقبح التّصريح بها.

٢٠

فأجابه عبدالله: بأنّ ما أخذه هو دون حقه في بيت المال..

فكتب إليه عليّ أيضاً مؤنّباً، ومخوّفاً من سوء الحساب.

فأجابه ابن عبّاس: (والله، لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنَّه إلى معاوية يقاتلك به..).

فكفّ عنه عليّ(١) .

____________________

(١) العقد الفريد ،ج ٣ ،ص ١٢٠ - ١٢٣ ،ط سنة ١٣٤٦هـ ، وأنساب الأشراف، ص ١٦٩ - ١٧٦، ط الأعلمي، وتاريخ الطّبري، ج ٤ ،ص ١٠٨، ١٠٩،ط مطبعة الاستقامة،والكامل لابن الأثير، ج ٣ ،ص ٣٨٦، ٣٨٧، ط صادر، وتذّكرة الخواص، ص ١٥١، ١٥٢،و البداية والنّهاية ،ج ٧ ،ص ٣٢٣ ملخّصاً، والفتنة الكبرى ،ج ٢ ،ص ١٢١ - ١٢٩.

ويمكن مراجعة نصوص الكتب - بالإضافة إلى المصادر الآنف ذكرها - في: رجال الكشّي، ص ٥٨ - ٦٠،ط كربلاء، ومعجم رجال الحديث ،ج ١٠ ،ص ٢٤٦ - ٢٤٨ ، وعنه، قاموس الرّجال، ج ٦ ،ص ٦ - ٨ ، وعنه أيضاً، شرح النّهج للمعتزلي، ج ١٦، ص ١٧٠ - ١٧١، والنّهج ، وغير ذلك.

٢١

قيس بن سعد الغاضب:

وعندما لحق عبيدالله بن العبّاس بمعاوية، الّذي جاء لحرب الحسنعليه‌السلام ؛حيث أغراه معاوية بالمال.. قام قيس بن سعد، فخطب في الجند حينئذٍ، وقال: (إنّ هذا، وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط: إنّ أباه عمّ النّبي، خرج يقاتله ببدر؛ فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري؛ فأتى به رسول الله، فأخذ فداءه وقسّمه بين المسلمين، وإنّ أخاه ولاّه عليّ أمير المؤمنين على البصرة؛ فسرق مال الله، ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أنّ ذلك له حلال)(١) .

وابن الزّبير أيضاً:

كما أنّ عبد الله بن الزّبير قد عرّض بابن عبّاس؛ وسرقته لبيت مال البصرة؛ فقال - بحيث يسمعه ابن عبّاس - : (.. وإنّ

____________________

(١) مقاتل الطّالبيين، ص ٦٥.

٢٢

هاهنا رجلاً قد أعمى الله قلبه، كما أعمى بصيرته، يزعم: أنّ متعة النّساء حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنّملة؛ وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النّوى. وكيف ألومه في ذلك، وقد قاتل أمّ المؤمنين.. ثم ذكر جواب ابن عبّاس له؛ فكان ممّا قاله: وأمّا حملي المال؛ فإنّه كان مالاً جبيناه، وأعطينا كلّ ذي حقٍ حقّه، وبقيت بقيّة، دون حقِّنا في كتاب الله؛ فأخذناها بحقِّنا..)(١) .

____________________

(١) شرح النّهج للمعتزلي، ج ٢٠ ،ص ١٢٩، ١٣٠.

٢٣

٢٤

الرّواية

بين الواقع والخيال

حكمنا على هذه الرّواية

ملاحظات لابدّ منها

ما نستند إليه في حكمنا على هذه الرّواية

المبرّرات لا تجدي

الرّأي الأمثل

٢٥

٢٦

حكمنا على هذه الرّواية:

كان ذلك هو خلاصة ما يذكره بعض المؤرّخين حول سرقة ابن عبّاس لبيت مال البصرة.

أمّا نحن فنعتقد: أنّ هذه الرّواية بتمامها من نسج الخيال؛ لأنّنا نجد في الدّلائل والشّواهد التّاريخيّة ،ما يدل على أنّها لا يمكن أنْ تصُحَّ، وما يمكن أنْ يصحَّ - لو كان لهذه القضيّة أصل - هو رواية ابن أعثم الكوفي الآتية..

وأمّا هذه الرّواية الطّويلة العريضة، الّتي يطغى عليها

٢٧

الطّابع الرّوائي المسرحي، وتنسجم كل الإنسجام مع الأسلوب الّذي كان ينتهجه القصّاصون، الّذين كانوا يستطيعون أن يجعلوا من الحبّة قُبّة - كما يظهر من ملاحظة وقائعها، والمعركة الّتي اقتتلوا فيها قتالاً كثيراً!!، وكثُر فيها الجرحى، ولم يكن بينهم قتيل...!!، وغير ذلك من الفقرات، الّتي لابدّ وأن تُثير عجب واستغراب كل من يلاحظها، ويتأمل فيها. أمّا هذه الرّواية ، فكلّ الأدلّة تشير إلى أنّها - بهذا النّحو - مُفتَعلة ومُختَلقة..

وقبل أنْ نذكر ما نستند إليه في حكمنا هذا، نودّ أنْ نشير إلى:

ملاحظات لابدّ منها:

١- إنّ عمر ابن عبّاس كان سنة أربعين للهجرة، يناهز الـ (٤٣) أو الـ (٤٥) عاماً، على اختلاف النقل في تاريخ ميلاده..

وكان له - على حد تعبير طه حسين: (من العلم بأمور الدّين والدّنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامّة،

٢٨

وفي نفوس المسلمين جميعاً، ما كان خليقاً أن يعصمه عن الإنحراف عن ابن عمّه، مهما تعظُم الحوادث، وتدْلَهم الخطوب..)(١) .

كما أنّ كهولته، وعلمه، وسداد رأيه، ومكانته الّتي جعلت معاوية يرى أنّه: (رأس النّاس بعد عليّ)، كل ذلك - لم يمنعه من سرقة أموال المسلمين، والإنغماس في لذّاته، والإنقياد إلى شهواته، حتى ولو كان ذلك على حساب كل ما ذكرناه من مميّزاته تلك. وكأنّه لم يكن يعلم: أنّ المباح قد يحرم؛ لو كان يتنافى مع شخصية الإنسان، ومكانته الإجتماعيّة!!.

كما أنّ ذلك كله.. لم يمنعه من التفوّه بتلك الأرجاز الرّكيكة، الّتي تنسبها الرّواية إليه، سيما تلك الّتي تتضمّن الألفاظ القبيحة والصّريحة، حتى لقد جعل صاحبه يعترض عليه، ويقول له: (أمثلك يرفث في هذا الموضع؟!!)، مما يعني أنّ مكانة ابن عبّاس لم تكن لتسمح له - وهو الرّجل الكامل المُسن، العالم الحازم - بأن يصدر منه مثل ذلك..

____________________

(١) الفتنة الكبرى ،ج ٢ ،ص ١٢١، لكن طه حسين - مع ذلك - يُصر على نسبة السّرقة إلى ابن عبّاس، ويحاول توجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع، كما سنرى..

٢٩

٢- إنّنا بالإضافة إلى عدم علمنا الكثير، عن عدد من الشخصيّات الواردة أسماؤهم في هذه الرواية، وبعضهم مجهول لدينا تماماً.. نلاحظ: أنّ سلسلة رواة هذه الرّواية، تشتمل على مجهولين - كرجل من أهل اليمامة، وسليمان بن راشد، وغير ذلك - أو على من عُرفوا بالإنحراف عن أهل البيت، والبغض لعليّ وآله، وممالاتهم لأعدائهم ومناوئيهم، كالشّعبي، والزّهري وغيرهما..

٣- تذكر لنا هذه الرّواية: أنّ ابن عبّاس يتهم عليّاً في بعض رسائله له: بأنّه إنّما أراق دماء المسلمين؛ من أجل الملك والسّلطان، الأمر الّذي أثار عجب عليّعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام : وابن عبّاس، ألم يشركنا في هذه الدّماء؟!

وهذا ينافي ما جرى بينه وبين ذلك الشّامي! ؛الّذي سأله عن الدّماء الّتي سفكها عليّعليه‌السلام ..؛ حيث أثبت له ابن عبّاس - بعد موت عليّ - : أنّ سفك عليّعليه‌السلام لتلك الدّماء كان بالحقّ؛ لأنّها كانت كلها تستحق القتل، وقد أطال في إثبات هذا الأمر، حتى اقتنع ذلك الشّامي، وأقر، وعاد إلى موالاة عليّعليه‌السلام (١) .

____________________

(١) المحاسن والمساوئ، البيهقي ،ج ١ ،ص ٦٥ - ٦٨.

٣٠

كما أنّه لا يتفق مع مواقف ابن عبّاس السّابقة واللاحقة، في دفاعه عن مواقف عليّعليه‌السلام ، وتأكيداته المتكرّرة لكل خصوم عليّ: أنّهعليه‌السلام كان على الهدى والحقّ، ولم يكن يقصد في كل مواقفه إلاّ رضا الله تعالى...، بخلاف أعدائه ومناوئيه: معاوية، ومن لفّ لفّه، وابن الزّبير، وغيرهم؛ فإنهم كانوا طلاب ملك وسلطان..(١)

ولم نجد أبداً من يشكل عليه: بأنّ ذلك يناقض قوله:

____________________

(١) مواقفه أشهر من أنْ تُذكر، سيما في حروبه؛ وليراجع على سبيل المثال لا الحصر: شرح النّهج، للمعتزلي ،ج ١ ،ص ١٨٩، و ج ٦ ،ص ٣٢٦ - ٣٢٩، و ج ٢ ،ص ٥٧، ٥٨ ، والبيان والتّبيين، ج ٢ ،ص ٣٠٠، ٣٠١ ،ط سنة ١٩٦٠، ووقعة صفّين، ص ١١٦، ٣١٨، ٤١٣، ٤١٥، وأمالي الطّوسي ،ج ١ ،ص ١١ و٩٧ ، والعقد الفريد ،ج ٢ ،ص ٢٣٠ ،وج ٤، ص ٧ - ١٢ ، وكشف الغمة ،ص ١٢٦، ومروج الذّهب ،ج ٣ ،ص ٨ و٦٠ و٢٦ و٤٣٥، واليعقوبي ،ج ٢ ،ص ١١٢، والإمامة والسّياسة ،ج ١ ،ص ١٢٨، وأمالي المرتضى ،ج ١ ،ص ٢٧٧ - ٢٨٦، والمحاسن والمساوئ، وغير ذلك.

٣١

إنّ سفك عليّعليه‌السلام دماء المسلمين كان من أجل الملك والسّلطان!!.. أم أنّهم كانوا أغبياء إلى حد أنّهم جميعاً، ينسون هذه الحجة الدامغة؛ وفيهم دهاة العرب، المشهود لهم من كل أحد بالفطنة، والدّقة، والذّكاء؟!

٤- يُلاحظ: أنّ هذه الرّواية لم تبيّن حال هذه السّتة ملايين: هل هي من الدّراهم؟ أو من الدّنانير؟!..

٥- تَنُصّ الرّواية على أنّ الضّحّاك بن عبدالله، أو عبيدالله الهلالي، كان على شرطة البصرة.. لكن كتب التّاريخ تقول: إنّ الّذي كان على شرطة ابن عبّاس في البصرة هو: الضّحّاك بن قيس الهلالي(١) ، أو الضّحّاك بن قيس بن عبدالله، حسبما ينصّ عليه البلاذري(٢) ، وذلك يناقض قول البلاذري الآخر في الرّواية: إنّ الّذي كان على شرطة ابن عبّاس في البصرة ،هو: الضّحّاك بن عبدالله..

وإذا ما أردنا توجيه ذلك: بأنّ كلاً من الرّجلين واحد؛ وذلك لشيوع النّسبة إلى اب تارة، وإلى الجد أخرى..

____________________

(١) الكامل لابن الأثير،ج ٣ ، ص٣٦٠ ،ط صادر.

(٢) أنساب الأشراف، ج ١ ، ص ٤٢٤ ،ط الأعلمي.

٣٢

مؤيّدين ذلك بأنّ البعض قد صرّح بأنّ مجيب ابن الحضرمي ،هو الضّحّاك بن عبدالله الهلالي(١) ، نفس البطل المذكور في رواية السّرقة المتقدمة..

فإنّنا سوف نجد أنّ القضيّة سوف نصبح أكثر إشكالاً بالنسبة إلى البلاذري، الّذي يرى: أنّ قضيّة السّرقة، وفرار ابن عبّاس إلى مكّة ، كانت قبل فتنة ابن الحضرمي، مع أنّه ، هو وغيره ، يصرّحون بأنّ الضّحّاك ،قد فرّ مع ابن عبّاس إلى مكّة، كما أنّه، هو نفسه، يصرّح بأنّ الضّحّاك قد واجه ابن الحضرمي بكلامٍ قاسٍ في البصرة!؛ فهل يعقل أنْ يكون الضّحّاك في البصرة، وفي مكّة، في وقت واحد؟!.. هناك مع ابن عبّاس، وهنا في موقفه مع ابن الحضرمي؟!.

ولو أنّنا احتملنا: أنْ يكون الضّحّاك قد أوصل ابن عبّاس إلى مكّة، فلمّا اطمأن عليه عاد إلى البصرة، ووقف من ابن الحضرمي ذلك الموقف الغريب، الّذي أيّد فيه عليّاً!!!.. بعد أنْ ناصر عامله، وأعانه على شق عصا الطّاعة، وسرقة بيت المال!!! ، الأمر الّذي أساءه وأزعجه جداً..،

____________________

(١) الغارات للثقفي، ص ٣٧٩، وشرح النّهج، المعتزلي، ج ٤ ،ص ٣٧.

٣٣

- لو أنّنا احتملنا ذلك ، فإنّنا نجد من النّاحية الأخرى، أنّ الطّبري في تاريخه، وابن كثير في البداية والنّهاية، والمعتزلي، والثّقفي ،يصرّحون : بأنّ ابن عبّاس كان في سنة ٣٩ عنّد عليّ في الكوفة...، وأنّه كان في هذه السّنة - كما يصرّحون وابن الأثير معهم - والياً على البصرة من قبل عليّ، وهو الّذي ولّى في هذه السّنة أيضاً، زياداً على فارس، أو أشار بتوليته.. هذا بالإضافة إلى التّصريحات السّابقة بأنّ قضيّّة السّرقة، ومفارقة ابن عبّاس لعليّعليه‌السلام ، كانت في سنة أربعين للهجرة. وأمّا فتنة ابن الحضرمي فقد كانت في سنة ٣٨هـ فكيف تكون فتنة ابن الحضرمي بعد سرقة ابن عبّاس للأموال، كما يقوله البلاذري؟!!..، وبعد فراره إلى مكّة؟!!.

٦- تنصّ الرّواية على أنّ إحدى عشر رسالة قد تُبودلت بين عليٍّعليه‌السلام وابن عبّاس، وعليٍّ وأبي الأسود. بل وإذا أضفنا إلى ذلك: أنّ ابن عبّاس قد ندم، واعتذر إلى عليّ، وأنّ عليّاً قد راسله بالرّضا عنه - حسب بعض الرّوايات - ؛ فإنّ الرّقم سوف يزيد عن ذلك أيضاً..، يضاف إلى ذلك: مسير ابن عبّاس من البصرة إلى مكّة، ووقائع طفّ البصرة، وكذلك ما

٣٤

جرى في مكّة، ثم عودة ابن عبّاس منها إلى البصرة، بعد رضا عليّ عنه، - حسب بعض الرّوايات .

وأضفنا إليه أيضاً: أنّنا لم نجد ما يدلّ على سوء تفاهم بين عليّ وابن عبّاس في سنة تسع وثلاثين، بل نجد الكثير مما يدلّ على تمام التّفاهم والإنّسجام، خصوصاً وأنّه كان في هذه السّنة عندّه في الكوفة حسبما أشرنا إليه. هذا مع تصريح عدد من المؤرّخين: بأنّ هذه القضيّة قد كانت في سنة أربعين: نفس السّنة الّتي قتل فيها عليّعليه‌السلام ... ثم إنّنا بملاحظة بُعد البصرة عن الكوفة من جهة، وبُعد مكّة عنها من الجهة الأخرى..

إنّنا بعد ملاحظة كلّ ذلك ، سوف نجد من أنفسنا القطع بأنّ الزّمان الّذي يفترض أنْ تجري كلّ هذه الحوادث فيه.. أو فقل افترضته تلك الرّواية لها.. لا يمكن ان يسعها في العادة، ولا يكفي لكل تلك الأحداث، والملابسات..

٧- لم يذكر لنا الّذين أوردوا قضيّة السّرقة، من تولّى البصرة بعد ابن عبّاس، لعليّ، أو لمعاوية؛ فهل تركها هملاً، ولم يستخلف عليها أحداً؟!.. وعليّ، هل غضّ النّظر عنها، او نسيها؟!، ثم معاوية، والحسن من بعده؟ فمن الّذي تولاها

٣٥

للحسن الّذي بقي في الخلافة أكثر من ستة أشهر؟!، فهل بقيت سنة كاملة، أو أقل أو أكثر، من حين ترْك ابن عبّاس لها، وحتّى صلح الإمام الحسن مع معاوية ؟! هل بقيت - كلَّ هذه المدّة من دون وال ولا مشرف؟!!.. إنّ ذلك لعجيب حقاً!!، وأيّ عجيب!!

وأمّا ما ذكره البلاذري بقوله: (وكثرت غاشية ابن الحضرمي، وأتباعه؛ فهال ذلك زياداً، ورعبه، وراعه - وكان عبد الله بن عبّاس حين شخص إلى مكّة مغاضباً لعليّ خلَفه على البصرة؛ فلم ينزعه علّي، وكان يكاتبه ابن عبّاس على أنّه خليفته، ثم كاتب عليّاً دون ابن عبّاس - فكاتب زياداً؛ فلمّا رأى زيادٌ ما صار إليه أمر ابن الحضرمي الخ..)(١)

أمّا هذا.. فلا ينسجم مع ما ذكره الطّبري، وابن الأثير، وسبط ابن الجوزي: من أنّ مفارقة ابن عبّاس لعليّ كانت سنة ٤٠ للهجرة، ومع ما ذكره الطّبري، وابن الأثير، وابن كثير، وغيرهم، من أنّه كان سنة ٣٩ نائباً عنه في البصرة، وأنّه هو الّذي ولّى زياداً على الأهواز في هذه السنة نفسها، وأنّه كان عند فتنة ابن الحضرمي عند عليّ..

____________________

(١) أنساب الأشراف ،ج ١ ،ص ٤٢٦ ،ط الأعلمي..

٣٦

كلّ ذلك لا ينسجم مع ما ذكره البلاذري؛ لأنّ فتنة ابن الحضرمي كانت سنة ٣٨ للهجرة..

والصّحيح: هو ما ذكره آخرون: من أنّ ابن عبّاس كان حين فتنة ابن الحضرمي عند عليّعليه‌السلام بالكوفة. وقد كاتبه زياد في أمر ابن الحضرمي، وطلب منه أنْ يخبر عليّاً بأمره؛ فأخبره، ثم كاتبه على نفسه إلى آخر ما ذكروه(١) .

ومن هنا نعرف: أنّ إصرار طه حسين على كون السّرقة قد وقعت قبل فتنة ابن الحضرمي، تبعاً للبلاذري، لا يمكن أنْ يستقيم تاريخيّاً، فضلاً عن سائر الدّلائل والشّواهد الدّالّة على عدم صحّة تلك الرّواية من أساسها..

كانت تلك هي بعض الملاحظات، الّتي أحببنا أنْ نسجّلها في هذه العجالة، قبل ذكرنا لبعض الأدلّة والشّواهد، الّتي نرى أنّها كافية للحكم على هذه الرّواية بالوضع والإفتعال..

____________________

(١) الغارات، الثّقفي، ص ٣٩٠،وشرح النّهج ،المعتزلي ،ج ٤ ،ص ٤٢، وفي ص ٤١ منه: أنّه كان قد قدم الكوفة ليُعزّي عليّاًعليه‌السلام بمقتل محمد بن أبي بكر.

٣٧

(ما نستند إليه في حكمنا على هذه الرّواية):

وبعد ذلك.. فإنّ ما نستند إليه في حكمنا الآنف على هذه الرّواية، يتلخّص بالأمور التّالية:

أوّلاً: إنّ أوّل ما يطالعنا في هذه الرّواية هو إعتداء ابن عبّاس، العالم، والحازم ،على أبي الأسود، الّذي لم يكن له شرف، ولا علم، ولا مكانة ابن عبّاس ، يعتدي عليه - بلا مبرر ظاهر.. الأمر الّذي دفعه للوشاية به إلى عليّعليه‌السلام ، وفضحه، وكشف أوراقه أمام الرّأي العام!!، فلماذا لم يحاسنه ويلاطفه، ويتودّد إليه، حتّى لا يشي به، ويفضحّه أمام النّاس كلّهم؟!، ولماذا لا يشي به أبو الأسود إلاّ بعد أنْ اعتدى عليه!!.. وبعد..

فلا يمكننا أصلاً أنْ نصغي إلى طه حسين حيث يقول: إنّه إنّما شتم أبا الأسود ؛لأنّه آنس منه (شيئاً من النّكير، فأغلظ له في القول ذات يوم؛ فضاق أبو الأسود بما رأى وما سمع؛ فكتب إلى عليّ الخ..)(١) .

____________________

(١) الفتنة الكبرى، ج ٢ ،ص ١٢٢.

٣٨

فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون تخرُّصاً، ورجماً بالغيب.. ولعل المنطق السّليم يساعد على ضدّ ذلك تماماً: أي على محاسنة أبي الأسود، والتّحمّل منه مهما أمكن، أمّا أنّ سرّ شتمه له: أنّه آنس منه شيئاً من النّكير؛ فلا شاهد له أصلاً.. نعم.. لو أخذنا برواية ابن أعثم، الّتي هي الوحيدة المتعرّضة لذلك كما سيأتي.. فإنّنا نجدها تقول: إنّ سبب غضب ابن عبّاس على أبي الأسود، هو الخلاف الّذي نشب بين أبي الأسود وزياد ، في غيبة ابن عبّاس إلى الحج، وهجاء أبي الأسود لزياد.

ولكنّنا في مقابل ذلك نجد: أنّ عدداً من المؤرّخين يقول: إنّ ابن عبّاس لم يحج في خلافة عليّعليه‌السلام أصلاً.(١)

ثانياً: وابن عبّاس.. ألم يكن يخشى بطش عليّ وسطوته؟!، ألا يعرف حزمه وصلابته؟!.. فكيف يخاطر بنفسه، ويقدم على ما أقدم عليه؟! ثمّ.. كيف يذهب إلى مكّة؟ ؛ ولمَ لا يذهب إلى معاوية الّذي يستطيع أنْ يحميه من عليّ، والّذي ما زال يخطب ودّه، ويحاول أن يكون معه، وإلى جانبه؟!..

____________________

(١) الكامل، ابن الأثير، ج ٣ ،ص ٣٧٧، ط صادر، والبداية والنّهاية ،ج ٧ ،ص ٣٢٢، والطّبري، ج ،٤ ص ١٠٤.

٣٩

وإذا كان من الممكن: أنْ يمنعه إباء نفسه من الذّهاب إلى معاوية كما يقال.. فلمَ لا يمنعه هذا الإباء عن إرتكاب جريمة السّرقة نفسها، وعن شراء المولِّدات، والتفوّه بالألفاظ النّابية والقبيحة؟!.. وهل يمكن أن نصدّق أنّه يفضّل الموت والقصاص من عليّعليه‌السلام على الذّهاب إلى معاوية؟!

وإذا ما قيل: أنّه كان عازماً على الفرار إلى معاوية،عند الإضطرار، كما يدلّ عليه تهديده لعليّ،

فهل من الممكن أن نتصوّره لا يضطر إلى ذلك؛ وهو يعلم أنّ عليّاً هو الّذي يطالبه.. عليّ الّذي يقول: إنّه سوف يبقر الباطل حتى يخرج الحقّ من خاصرته.. والّذي يكون الذّليل عنده عزيزاً، حتّى يأخذ الحقّ له، والعزيز عنده ذليلاً حتّى يأخذ الحقّ منه؟!..

وإذا كان يرى أنّ التجاءه إلى البيت الحرام، يمنع عليّاً من أخذه؛ لتقيّد عليّ بالشّرع كما صرّح به طه حسين؛ حيث قال: إنّه لم يترك عمله: (ليعود إلى الكوفة، أو ليقيم في العراق؛ أو في حيث يستطيع الإمام أن يأخذه بتقديم الحساب؛ ويسأله عن عمله قبل أنْ يعتزله. وإنّما ترك المصر ولحق بمكّة حيث لا يبلغه سلطان الإمام؛ وحيث لا يقدر الإمام على أنْ يناله بالعقاب، أن

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93