ابن عباس و أموال البصرة

ابن عباس و أموال البصرة0%

ابن عباس و أموال البصرة مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 93

  • البداية
  • السابق
  • 93 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30183 / تحميل: 6589
الحجم الحجم الحجم
ابن عباس و أموال البصرة

ابن عباس و أموال البصرة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فأجابه عبدالله: بأنّ ما أخذه هو دون حقه في بيت المال..

فكتب إليه عليّ أيضاً مؤنّباً، ومخوّفاً من سوء الحساب.

فأجابه ابن عبّاس: (والله، لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنَّه إلى معاوية يقاتلك به..).

فكفّ عنه عليّ(١) .

____________________

(١) العقد الفريد ،ج ٣ ،ص ١٢٠ - ١٢٣ ،ط سنة ١٣٤٦هـ ، وأنساب الأشراف، ص ١٦٩ - ١٧٦، ط الأعلمي، وتاريخ الطّبري، ج ٤ ،ص ١٠٨، ١٠٩،ط مطبعة الاستقامة،والكامل لابن الأثير، ج ٣ ،ص ٣٨٦، ٣٨٧، ط صادر، وتذّكرة الخواص، ص ١٥١، ١٥٢،و البداية والنّهاية ،ج ٧ ،ص ٣٢٣ ملخّصاً، والفتنة الكبرى ،ج ٢ ،ص ١٢١ - ١٢٩.

ويمكن مراجعة نصوص الكتب - بالإضافة إلى المصادر الآنف ذكرها - في: رجال الكشّي، ص ٥٨ - ٦٠،ط كربلاء، ومعجم رجال الحديث ،ج ١٠ ،ص ٢٤٦ - ٢٤٨ ، وعنه، قاموس الرّجال، ج ٦ ،ص ٦ - ٨ ، وعنه أيضاً، شرح النّهج للمعتزلي، ج ١٦، ص ١٧٠ - ١٧١، والنّهج ، وغير ذلك.

٢١

قيس بن سعد الغاضب:

وعندما لحق عبيدالله بن العبّاس بمعاوية، الّذي جاء لحرب الحسنعليه‌السلام ؛حيث أغراه معاوية بالمال.. قام قيس بن سعد، فخطب في الجند حينئذٍ، وقال: (إنّ هذا، وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط: إنّ أباه عمّ النّبي، خرج يقاتله ببدر؛ فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري؛ فأتى به رسول الله، فأخذ فداءه وقسّمه بين المسلمين، وإنّ أخاه ولاّه عليّ أمير المؤمنين على البصرة؛ فسرق مال الله، ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أنّ ذلك له حلال)(١) .

وابن الزّبير أيضاً:

كما أنّ عبد الله بن الزّبير قد عرّض بابن عبّاس؛ وسرقته لبيت مال البصرة؛ فقال - بحيث يسمعه ابن عبّاس - : (.. وإنّ

____________________

(١) مقاتل الطّالبيين، ص ٦٥.

٢٢

هاهنا رجلاً قد أعمى الله قلبه، كما أعمى بصيرته، يزعم: أنّ متعة النّساء حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنّملة؛ وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النّوى. وكيف ألومه في ذلك، وقد قاتل أمّ المؤمنين.. ثم ذكر جواب ابن عبّاس له؛ فكان ممّا قاله: وأمّا حملي المال؛ فإنّه كان مالاً جبيناه، وأعطينا كلّ ذي حقٍ حقّه، وبقيت بقيّة، دون حقِّنا في كتاب الله؛ فأخذناها بحقِّنا..)(١) .

____________________

(١) شرح النّهج للمعتزلي، ج ٢٠ ،ص ١٢٩، ١٣٠.

٢٣

٢٤

الرّواية

بين الواقع والخيال

حكمنا على هذه الرّواية

ملاحظات لابدّ منها

ما نستند إليه في حكمنا على هذه الرّواية

المبرّرات لا تجدي

الرّأي الأمثل

٢٥

٢٦

حكمنا على هذه الرّواية:

كان ذلك هو خلاصة ما يذكره بعض المؤرّخين حول سرقة ابن عبّاس لبيت مال البصرة.

أمّا نحن فنعتقد: أنّ هذه الرّواية بتمامها من نسج الخيال؛ لأنّنا نجد في الدّلائل والشّواهد التّاريخيّة ،ما يدل على أنّها لا يمكن أنْ تصُحَّ، وما يمكن أنْ يصحَّ - لو كان لهذه القضيّة أصل - هو رواية ابن أعثم الكوفي الآتية..

وأمّا هذه الرّواية الطّويلة العريضة، الّتي يطغى عليها

٢٧

الطّابع الرّوائي المسرحي، وتنسجم كل الإنسجام مع الأسلوب الّذي كان ينتهجه القصّاصون، الّذين كانوا يستطيعون أن يجعلوا من الحبّة قُبّة - كما يظهر من ملاحظة وقائعها، والمعركة الّتي اقتتلوا فيها قتالاً كثيراً!!، وكثُر فيها الجرحى، ولم يكن بينهم قتيل...!!، وغير ذلك من الفقرات، الّتي لابدّ وأن تُثير عجب واستغراب كل من يلاحظها، ويتأمل فيها. أمّا هذه الرّواية ، فكلّ الأدلّة تشير إلى أنّها - بهذا النّحو - مُفتَعلة ومُختَلقة..

وقبل أنْ نذكر ما نستند إليه في حكمنا هذا، نودّ أنْ نشير إلى:

ملاحظات لابدّ منها:

١- إنّ عمر ابن عبّاس كان سنة أربعين للهجرة، يناهز الـ (٤٣) أو الـ (٤٥) عاماً، على اختلاف النقل في تاريخ ميلاده..

وكان له - على حد تعبير طه حسين: (من العلم بأمور الدّين والدّنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامّة،

٢٨

وفي نفوس المسلمين جميعاً، ما كان خليقاً أن يعصمه عن الإنحراف عن ابن عمّه، مهما تعظُم الحوادث، وتدْلَهم الخطوب..)(١) .

كما أنّ كهولته، وعلمه، وسداد رأيه، ومكانته الّتي جعلت معاوية يرى أنّه: (رأس النّاس بعد عليّ)، كل ذلك - لم يمنعه من سرقة أموال المسلمين، والإنغماس في لذّاته، والإنقياد إلى شهواته، حتى ولو كان ذلك على حساب كل ما ذكرناه من مميّزاته تلك. وكأنّه لم يكن يعلم: أنّ المباح قد يحرم؛ لو كان يتنافى مع شخصية الإنسان، ومكانته الإجتماعيّة!!.

كما أنّ ذلك كله.. لم يمنعه من التفوّه بتلك الأرجاز الرّكيكة، الّتي تنسبها الرّواية إليه، سيما تلك الّتي تتضمّن الألفاظ القبيحة والصّريحة، حتى لقد جعل صاحبه يعترض عليه، ويقول له: (أمثلك يرفث في هذا الموضع؟!!)، مما يعني أنّ مكانة ابن عبّاس لم تكن لتسمح له - وهو الرّجل الكامل المُسن، العالم الحازم - بأن يصدر منه مثل ذلك..

____________________

(١) الفتنة الكبرى ،ج ٢ ،ص ١٢١، لكن طه حسين - مع ذلك - يُصر على نسبة السّرقة إلى ابن عبّاس، ويحاول توجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع، كما سنرى..

٢٩

٢- إنّنا بالإضافة إلى عدم علمنا الكثير، عن عدد من الشخصيّات الواردة أسماؤهم في هذه الرواية، وبعضهم مجهول لدينا تماماً.. نلاحظ: أنّ سلسلة رواة هذه الرّواية، تشتمل على مجهولين - كرجل من أهل اليمامة، وسليمان بن راشد، وغير ذلك - أو على من عُرفوا بالإنحراف عن أهل البيت، والبغض لعليّ وآله، وممالاتهم لأعدائهم ومناوئيهم، كالشّعبي، والزّهري وغيرهما..

٣- تذكر لنا هذه الرّواية: أنّ ابن عبّاس يتهم عليّاً في بعض رسائله له: بأنّه إنّما أراق دماء المسلمين؛ من أجل الملك والسّلطان، الأمر الّذي أثار عجب عليّعليه‌السلام ، فقالعليه‌السلام : وابن عبّاس، ألم يشركنا في هذه الدّماء؟!

وهذا ينافي ما جرى بينه وبين ذلك الشّامي! ؛الّذي سأله عن الدّماء الّتي سفكها عليّعليه‌السلام ..؛ حيث أثبت له ابن عبّاس - بعد موت عليّ - : أنّ سفك عليّعليه‌السلام لتلك الدّماء كان بالحقّ؛ لأنّها كانت كلها تستحق القتل، وقد أطال في إثبات هذا الأمر، حتى اقتنع ذلك الشّامي، وأقر، وعاد إلى موالاة عليّعليه‌السلام (١) .

____________________

(١) المحاسن والمساوئ، البيهقي ،ج ١ ،ص ٦٥ - ٦٨.

٣٠

كما أنّه لا يتفق مع مواقف ابن عبّاس السّابقة واللاحقة، في دفاعه عن مواقف عليّعليه‌السلام ، وتأكيداته المتكرّرة لكل خصوم عليّ: أنّهعليه‌السلام كان على الهدى والحقّ، ولم يكن يقصد في كل مواقفه إلاّ رضا الله تعالى...، بخلاف أعدائه ومناوئيه: معاوية، ومن لفّ لفّه، وابن الزّبير، وغيرهم؛ فإنهم كانوا طلاب ملك وسلطان..(١)

ولم نجد أبداً من يشكل عليه: بأنّ ذلك يناقض قوله:

____________________

(١) مواقفه أشهر من أنْ تُذكر، سيما في حروبه؛ وليراجع على سبيل المثال لا الحصر: شرح النّهج، للمعتزلي ،ج ١ ،ص ١٨٩، و ج ٦ ،ص ٣٢٦ - ٣٢٩، و ج ٢ ،ص ٥٧، ٥٨ ، والبيان والتّبيين، ج ٢ ،ص ٣٠٠، ٣٠١ ،ط سنة ١٩٦٠، ووقعة صفّين، ص ١١٦، ٣١٨، ٤١٣، ٤١٥، وأمالي الطّوسي ،ج ١ ،ص ١١ و٩٧ ، والعقد الفريد ،ج ٢ ،ص ٢٣٠ ،وج ٤، ص ٧ - ١٢ ، وكشف الغمة ،ص ١٢٦، ومروج الذّهب ،ج ٣ ،ص ٨ و٦٠ و٢٦ و٤٣٥، واليعقوبي ،ج ٢ ،ص ١١٢، والإمامة والسّياسة ،ج ١ ،ص ١٢٨، وأمالي المرتضى ،ج ١ ،ص ٢٧٧ - ٢٨٦، والمحاسن والمساوئ، وغير ذلك.

٣١

إنّ سفك عليّعليه‌السلام دماء المسلمين كان من أجل الملك والسّلطان!!.. أم أنّهم كانوا أغبياء إلى حد أنّهم جميعاً، ينسون هذه الحجة الدامغة؛ وفيهم دهاة العرب، المشهود لهم من كل أحد بالفطنة، والدّقة، والذّكاء؟!

٤- يُلاحظ: أنّ هذه الرّواية لم تبيّن حال هذه السّتة ملايين: هل هي من الدّراهم؟ أو من الدّنانير؟!..

٥- تَنُصّ الرّواية على أنّ الضّحّاك بن عبدالله، أو عبيدالله الهلالي، كان على شرطة البصرة.. لكن كتب التّاريخ تقول: إنّ الّذي كان على شرطة ابن عبّاس في البصرة هو: الضّحّاك بن قيس الهلالي(١) ، أو الضّحّاك بن قيس بن عبدالله، حسبما ينصّ عليه البلاذري(٢) ، وذلك يناقض قول البلاذري الآخر في الرّواية: إنّ الّذي كان على شرطة ابن عبّاس في البصرة ،هو: الضّحّاك بن عبدالله..

وإذا ما أردنا توجيه ذلك: بأنّ كلاً من الرّجلين واحد؛ وذلك لشيوع النّسبة إلى اب تارة، وإلى الجد أخرى..

____________________

(١) الكامل لابن الأثير،ج ٣ ، ص٣٦٠ ،ط صادر.

(٢) أنساب الأشراف، ج ١ ، ص ٤٢٤ ،ط الأعلمي.

٣٢

مؤيّدين ذلك بأنّ البعض قد صرّح بأنّ مجيب ابن الحضرمي ،هو الضّحّاك بن عبدالله الهلالي(١) ، نفس البطل المذكور في رواية السّرقة المتقدمة..

فإنّنا سوف نجد أنّ القضيّة سوف نصبح أكثر إشكالاً بالنسبة إلى البلاذري، الّذي يرى: أنّ قضيّة السّرقة، وفرار ابن عبّاس إلى مكّة ، كانت قبل فتنة ابن الحضرمي، مع أنّه ، هو وغيره ، يصرّحون بأنّ الضّحّاك ،قد فرّ مع ابن عبّاس إلى مكّة، كما أنّه، هو نفسه، يصرّح بأنّ الضّحّاك قد واجه ابن الحضرمي بكلامٍ قاسٍ في البصرة!؛ فهل يعقل أنْ يكون الضّحّاك في البصرة، وفي مكّة، في وقت واحد؟!.. هناك مع ابن عبّاس، وهنا في موقفه مع ابن الحضرمي؟!.

ولو أنّنا احتملنا: أنْ يكون الضّحّاك قد أوصل ابن عبّاس إلى مكّة، فلمّا اطمأن عليه عاد إلى البصرة، ووقف من ابن الحضرمي ذلك الموقف الغريب، الّذي أيّد فيه عليّاً!!!.. بعد أنْ ناصر عامله، وأعانه على شق عصا الطّاعة، وسرقة بيت المال!!! ، الأمر الّذي أساءه وأزعجه جداً..،

____________________

(١) الغارات للثقفي، ص ٣٧٩، وشرح النّهج، المعتزلي، ج ٤ ،ص ٣٧.

٣٣

- لو أنّنا احتملنا ذلك ، فإنّنا نجد من النّاحية الأخرى، أنّ الطّبري في تاريخه، وابن كثير في البداية والنّهاية، والمعتزلي، والثّقفي ،يصرّحون : بأنّ ابن عبّاس كان في سنة ٣٩ عنّد عليّ في الكوفة...، وأنّه كان في هذه السّنة - كما يصرّحون وابن الأثير معهم - والياً على البصرة من قبل عليّ، وهو الّذي ولّى في هذه السّنة أيضاً، زياداً على فارس، أو أشار بتوليته.. هذا بالإضافة إلى التّصريحات السّابقة بأنّ قضيّّة السّرقة، ومفارقة ابن عبّاس لعليّعليه‌السلام ، كانت في سنة أربعين للهجرة. وأمّا فتنة ابن الحضرمي فقد كانت في سنة ٣٨هـ فكيف تكون فتنة ابن الحضرمي بعد سرقة ابن عبّاس للأموال، كما يقوله البلاذري؟!!..، وبعد فراره إلى مكّة؟!!.

٦- تنصّ الرّواية على أنّ إحدى عشر رسالة قد تُبودلت بين عليٍّعليه‌السلام وابن عبّاس، وعليٍّ وأبي الأسود. بل وإذا أضفنا إلى ذلك: أنّ ابن عبّاس قد ندم، واعتذر إلى عليّ، وأنّ عليّاً قد راسله بالرّضا عنه - حسب بعض الرّوايات - ؛ فإنّ الرّقم سوف يزيد عن ذلك أيضاً..، يضاف إلى ذلك: مسير ابن عبّاس من البصرة إلى مكّة، ووقائع طفّ البصرة، وكذلك ما

٣٤

جرى في مكّة، ثم عودة ابن عبّاس منها إلى البصرة، بعد رضا عليّ عنه، - حسب بعض الرّوايات .

وأضفنا إليه أيضاً: أنّنا لم نجد ما يدلّ على سوء تفاهم بين عليّ وابن عبّاس في سنة تسع وثلاثين، بل نجد الكثير مما يدلّ على تمام التّفاهم والإنّسجام، خصوصاً وأنّه كان في هذه السّنة عندّه في الكوفة حسبما أشرنا إليه. هذا مع تصريح عدد من المؤرّخين: بأنّ هذه القضيّة قد كانت في سنة أربعين: نفس السّنة الّتي قتل فيها عليّعليه‌السلام ... ثم إنّنا بملاحظة بُعد البصرة عن الكوفة من جهة، وبُعد مكّة عنها من الجهة الأخرى..

إنّنا بعد ملاحظة كلّ ذلك ، سوف نجد من أنفسنا القطع بأنّ الزّمان الّذي يفترض أنْ تجري كلّ هذه الحوادث فيه.. أو فقل افترضته تلك الرّواية لها.. لا يمكن ان يسعها في العادة، ولا يكفي لكل تلك الأحداث، والملابسات..

٧- لم يذكر لنا الّذين أوردوا قضيّة السّرقة، من تولّى البصرة بعد ابن عبّاس، لعليّ، أو لمعاوية؛ فهل تركها هملاً، ولم يستخلف عليها أحداً؟!.. وعليّ، هل غضّ النّظر عنها، او نسيها؟!، ثم معاوية، والحسن من بعده؟ فمن الّذي تولاها

٣٥

للحسن الّذي بقي في الخلافة أكثر من ستة أشهر؟!، فهل بقيت سنة كاملة، أو أقل أو أكثر، من حين ترْك ابن عبّاس لها، وحتّى صلح الإمام الحسن مع معاوية ؟! هل بقيت - كلَّ هذه المدّة من دون وال ولا مشرف؟!!.. إنّ ذلك لعجيب حقاً!!، وأيّ عجيب!!

وأمّا ما ذكره البلاذري بقوله: (وكثرت غاشية ابن الحضرمي، وأتباعه؛ فهال ذلك زياداً، ورعبه، وراعه - وكان عبد الله بن عبّاس حين شخص إلى مكّة مغاضباً لعليّ خلَفه على البصرة؛ فلم ينزعه علّي، وكان يكاتبه ابن عبّاس على أنّه خليفته، ثم كاتب عليّاً دون ابن عبّاس - فكاتب زياداً؛ فلمّا رأى زيادٌ ما صار إليه أمر ابن الحضرمي الخ..)(١)

أمّا هذا.. فلا ينسجم مع ما ذكره الطّبري، وابن الأثير، وسبط ابن الجوزي: من أنّ مفارقة ابن عبّاس لعليّ كانت سنة ٤٠ للهجرة، ومع ما ذكره الطّبري، وابن الأثير، وابن كثير، وغيرهم، من أنّه كان سنة ٣٩ نائباً عنه في البصرة، وأنّه هو الّذي ولّى زياداً على الأهواز في هذه السنة نفسها، وأنّه كان عند فتنة ابن الحضرمي عند عليّ..

____________________

(١) أنساب الأشراف ،ج ١ ،ص ٤٢٦ ،ط الأعلمي..

٣٦

كلّ ذلك لا ينسجم مع ما ذكره البلاذري؛ لأنّ فتنة ابن الحضرمي كانت سنة ٣٨ للهجرة..

والصّحيح: هو ما ذكره آخرون: من أنّ ابن عبّاس كان حين فتنة ابن الحضرمي عند عليّعليه‌السلام بالكوفة. وقد كاتبه زياد في أمر ابن الحضرمي، وطلب منه أنْ يخبر عليّاً بأمره؛ فأخبره، ثم كاتبه على نفسه إلى آخر ما ذكروه(١) .

ومن هنا نعرف: أنّ إصرار طه حسين على كون السّرقة قد وقعت قبل فتنة ابن الحضرمي، تبعاً للبلاذري، لا يمكن أنْ يستقيم تاريخيّاً، فضلاً عن سائر الدّلائل والشّواهد الدّالّة على عدم صحّة تلك الرّواية من أساسها..

كانت تلك هي بعض الملاحظات، الّتي أحببنا أنْ نسجّلها في هذه العجالة، قبل ذكرنا لبعض الأدلّة والشّواهد، الّتي نرى أنّها كافية للحكم على هذه الرّواية بالوضع والإفتعال..

____________________

(١) الغارات، الثّقفي، ص ٣٩٠،وشرح النّهج ،المعتزلي ،ج ٤ ،ص ٤٢، وفي ص ٤١ منه: أنّه كان قد قدم الكوفة ليُعزّي عليّاًعليه‌السلام بمقتل محمد بن أبي بكر.

٣٧

(ما نستند إليه في حكمنا على هذه الرّواية):

وبعد ذلك.. فإنّ ما نستند إليه في حكمنا الآنف على هذه الرّواية، يتلخّص بالأمور التّالية:

أوّلاً: إنّ أوّل ما يطالعنا في هذه الرّواية هو إعتداء ابن عبّاس، العالم، والحازم ،على أبي الأسود، الّذي لم يكن له شرف، ولا علم، ولا مكانة ابن عبّاس ، يعتدي عليه - بلا مبرر ظاهر.. الأمر الّذي دفعه للوشاية به إلى عليّعليه‌السلام ، وفضحه، وكشف أوراقه أمام الرّأي العام!!، فلماذا لم يحاسنه ويلاطفه، ويتودّد إليه، حتّى لا يشي به، ويفضحّه أمام النّاس كلّهم؟!، ولماذا لا يشي به أبو الأسود إلاّ بعد أنْ اعتدى عليه!!.. وبعد..

فلا يمكننا أصلاً أنْ نصغي إلى طه حسين حيث يقول: إنّه إنّما شتم أبا الأسود ؛لأنّه آنس منه (شيئاً من النّكير، فأغلظ له في القول ذات يوم؛ فضاق أبو الأسود بما رأى وما سمع؛ فكتب إلى عليّ الخ..)(١) .

____________________

(١) الفتنة الكبرى، ج ٢ ،ص ١٢٢.

٣٨

فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون تخرُّصاً، ورجماً بالغيب.. ولعل المنطق السّليم يساعد على ضدّ ذلك تماماً: أي على محاسنة أبي الأسود، والتّحمّل منه مهما أمكن، أمّا أنّ سرّ شتمه له: أنّه آنس منه شيئاً من النّكير؛ فلا شاهد له أصلاً.. نعم.. لو أخذنا برواية ابن أعثم، الّتي هي الوحيدة المتعرّضة لذلك كما سيأتي.. فإنّنا نجدها تقول: إنّ سبب غضب ابن عبّاس على أبي الأسود، هو الخلاف الّذي نشب بين أبي الأسود وزياد ، في غيبة ابن عبّاس إلى الحج، وهجاء أبي الأسود لزياد.

ولكنّنا في مقابل ذلك نجد: أنّ عدداً من المؤرّخين يقول: إنّ ابن عبّاس لم يحج في خلافة عليّعليه‌السلام أصلاً.(١)

ثانياً: وابن عبّاس.. ألم يكن يخشى بطش عليّ وسطوته؟!، ألا يعرف حزمه وصلابته؟!.. فكيف يخاطر بنفسه، ويقدم على ما أقدم عليه؟! ثمّ.. كيف يذهب إلى مكّة؟ ؛ ولمَ لا يذهب إلى معاوية الّذي يستطيع أنْ يحميه من عليّ، والّذي ما زال يخطب ودّه، ويحاول أن يكون معه، وإلى جانبه؟!..

____________________

(١) الكامل، ابن الأثير، ج ٣ ،ص ٣٧٧، ط صادر، والبداية والنّهاية ،ج ٧ ،ص ٣٢٢، والطّبري، ج ،٤ ص ١٠٤.

٣٩

وإذا كان من الممكن: أنْ يمنعه إباء نفسه من الذّهاب إلى معاوية كما يقال.. فلمَ لا يمنعه هذا الإباء عن إرتكاب جريمة السّرقة نفسها، وعن شراء المولِّدات، والتفوّه بالألفاظ النّابية والقبيحة؟!.. وهل يمكن أن نصدّق أنّه يفضّل الموت والقصاص من عليّعليه‌السلام على الذّهاب إلى معاوية؟!

وإذا ما قيل: أنّه كان عازماً على الفرار إلى معاوية،عند الإضطرار، كما يدلّ عليه تهديده لعليّ،

فهل من الممكن أن نتصوّره لا يضطر إلى ذلك؛ وهو يعلم أنّ عليّاً هو الّذي يطالبه.. عليّ الّذي يقول: إنّه سوف يبقر الباطل حتى يخرج الحقّ من خاصرته.. والّذي يكون الذّليل عنده عزيزاً، حتّى يأخذ الحقّ له، والعزيز عنده ذليلاً حتّى يأخذ الحقّ منه؟!..

وإذا كان يرى أنّ التجاءه إلى البيت الحرام، يمنع عليّاً من أخذه؛ لتقيّد عليّ بالشّرع كما صرّح به طه حسين؛ حيث قال: إنّه لم يترك عمله: (ليعود إلى الكوفة، أو ليقيم في العراق؛ أو في حيث يستطيع الإمام أن يأخذه بتقديم الحساب؛ ويسأله عن عمله قبل أنْ يعتزله. وإنّما ترك المصر ولحق بمكّة حيث لا يبلغه سلطان الإمام؛ وحيث لا يقدر الإمام على أنْ يناله بالعقاب، أن

٤٠