البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام21%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37432 / تحميل: 7796
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لندن إلى ملبورن باستراليا تتم في بضع ثوان، فاذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة، فما بالنا بنظامنا العصبي، وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيدا؟! ان ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي - الذي أوجدته الطبيعة - من جانب إلى آخر، ليل نهار. وهذه الأخبار هي التي توجه القلب في تدفقها، وفي حركتها، وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة، وتتحكم في الحركات الرئوية. ولو لم يكن هذا النظام موجودا في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقا لاشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.ومركز هذا النظام للمواصلات مخ الانسان، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون خلية عصبية، ومع كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم، وتسمى هذه الأسلاك «الأنسجة العصبية»، وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وارسال للأخبار، بسرعة سبعين ميلا في الساعة. وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق، ونسمع، ونرى، ونباشر سائر أعمالنا؛ بل ان هنالك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة وتسمى Taste Buds ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ. وبوساطة هذه الشعيرات يحس بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية. ومن خلال نظام معقد، يسري من هذه الخلايا، يسمع مخنا. وفي كل عين مائة وثلاثون مليونا من الخلايا الملتقطة للضوء Light Roceptors ، وتقوم بمهمة ارسال المجموعة التصويرية إلى المخ، وهناك شبكة من الأنسجة الحسية على امتداد جلدنا، فاذا قربنا إلى الجلد شيئا حارا، فان ثلاثين ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس بهذه العملية وترسلها فورا إلى المخ. واذا قربنا إلى الجلد شيئا باردا، فان ربع مليون من الخلايا، التي تلتقط الأشياء الباردة، تحس به، وعندئذ يمتلىء المخ باثرها، ويرتعد الجسم، وتتسع الشرايين الجلدين، فيسرع مزيد من الدم اليها ويزودها بالحرارة، ويرتعد الجسم، ويزودها بالحرارة. واذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة، فان مخابرات الحرارة توصلها إلى الدماغ، وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية - تلقائيا - عرقا باردا الى خارج الجسم. والنظام العصبي يشتمل على عدة فروع. منها (الفرع المتحرك ذاتي) Autonomic Branch ويقوم بأعمال تحدث ذاتيا في الجسم، كعملية الهضم والتنفس وحركات القلب. ويندرج تحت هذا الفرع نظامان: أحدهما (النظام الخالق للحركة) Sympathetic System والآخر: هو المانع لها Payasympathetic وهذا الأخير يقوم بعملية المقاومة والدفاع. ولو ترك الأمر للنظام الاول لازدادت حركة القلب زيادة يترتب عليها موت صاحبه، ولو سيطر النظام الثاني لتوقفت حركة القلب توقفا تاما. وأقسام هذين النظامين تباشر أعمالها في دقة فائقة، وفي توازن عام، ولكن هنالك حالات يزداد فيها نشاط أحد النظامين، فالنظام الأول يتغلب عند الضغط واحتياج القلب إلى قوة مسعفة، وعندئذ تزيد سرعة عمليات القلب والرئة، والنظام الثاني يتغلب عند النوم. فيسود السكون جميع الحركات الجسمية.

٦١

تقليد الطبيعة

ان أحسن الآلات من صناعة الانسان لايمكن أن تقف أمام النظام العجيب الذي يوجد في الكون. ولهذا فان تقليد نظام الطبيعة قد أصبح اليوم مصنوعا خاصا في العلم، يولي أهمية خاصة للسير بالآلات الميكانيكية وفق ذلك النظام. وأصبحنا نرى علما جديدا يسمى (بيونيكس) Bionics لهذه الدراسة. وكانت مقتصرة من قبل على اكتشاف القوى الكامنة في الطبيعة واستغلالها.

واليوم يسلك النظام البيولوجي سبلا كثيرة للحصول على معلومات تساعد على حل مسائل الهندسة. ومن أمثلة استغلال نظام الطبيعة في الصناعة آلة التصوير، وهي في الواقع تقليد ميكانيكي لعين الانسان، فعدسة الكاميرا Lens هي كالشبكة الخارجية للعين، والحجاب الحاجز Diaphragm هو قزحية العين Tyis والفيلم الذي يتأثر بالضوء. انما هو شاشة العين التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشياء معكوسة(١) . لقد ابتكرت جامعة موسكو آلة نموذجية لالتقاط وقياس (الذبذبات تحت الصوتية) Infra - Sonic Vibrations وهذه الآلة تستقبل وتلتقط أخبار الفيضانات والزلازل وما أشبهها من الكوارث قبل حدوثها بمدة تتراوح بين اثنتي عشرة ساعة، وخمس عشرة ساعة. وهي أقوى من الآلات المستعملة خمس مرات. فمن أين جاء هذا التفكير إلى العلماء؟ لقد استنبطوه من سمكة قنديل البحر، التي تسمى (هلامي) Jelly Fish فقلد المهندسون أعضاءها، وهي شديدة الحساسية، حتى لتحس بالذبذبات تحت الصوتية(٢) !.

وهناك أمثلة كثيرة جدا غير هذه يمكن عرضها، وهي تؤكد أن علماء الطبيعة والتكنولوجيا يقلدون - في تفكيرهم الحديث - النماذج الحية في الطبيعة.

وقد شغلت بال العلماء مسائل كثيرة من أزمان مضت، على حين حلتها الطبيعة منذ زمن بعيد. وان كانت اجهزة التصوير وتلقي الأخبار «التليبرنتر» لايمكن وجودها بغير عقل انساني، فمن المستحيل ان نتصور ان نظام الكون - الذي هو أكثر تعقيدا من أي نظام - قد قام بنفسه بغير عقل وراءه؛ بل لابد أن له مهندسا منظما - هو الاله، ولايمكن أن يتصور العقل نظاما دون منظم، فليس من اللامعقول أن نعتقد بوجود منظم للكون، بل ان من اللامعقول أن ننكر خالق هذا النظام، فالحقيقة أن العقل الانساني لايملك أساسا عقليا لانكار الاله.

___________________

(١) لن يجرؤ صاحب علم منا أن يدعي أن آلة التصوير جاءت عن نفسها، دون اختراع انساني. ولكن الكثيرين من علمائنا يعتقدون أن «العين» جاءت عن صدفة واتفاق محض!!.

(٢) Soviet Land, Delhi, Dec, ١٩٦٣.

٦٢

ثالثا - روح الكون الغريبة:

ليس الكون كسلة المهملات، وانما هو منطو على روح غريبة. وهذه الروح لايمكن أن تصدر الا عن عقل قام بخلق الكون، ويقوم بتدبيره. وليس من الممكن أن يوجد نظام وروح في عملية مادية عمياء، حدثت اتفاقا؛ فالكون متوازن، ومتناسب إلى حد لايمكن تصوره. لقد قال «شادفاش Chadvalsh : «ان من الممكن أن نسأل أي رجل - مؤمنا بالله كان او منكر له - نسأله ان يثبت كيف يمكن ان يكون هذا التوازن في صالحه، اذا كان الكون قد وجد بمحض الصدفة؟»(١) .

لابد للحياة فوق الأرض من أحوال كثيرة، يستحيل اجتماعها بنسبها الخاصة رياضيا. ولكننا نجد أن هذه الحالات المستحيل اجتماعها رياضيا موجودة على سطح الأرض فعلا. وذلك يحتم علينا أن نؤمن بأن هنالك طاقة عظيمة عاقلة وراء الكون؛ هي المتسببة في وجود هذه الحالات.

التوازن المدهش في الأرض

الأرض أهم عالم عرفناه، اذ توجد فيها أحوال لاتوجد في شيء من هذا الكون الواسع، وهي في ضخامتها (كما تبدو لنا) لاتساوي ذرة من هذا الكون العظيم، ولو ان حجمها كان أقل أو أكثر، مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها، فلو أنها كانت في حجم القمر مثلا؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلا. لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية، ونتيجة لذلك لايمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها، كما هي الحال في القمر، الذي لايوجد فيه ماء ولايحوطه غلاف هوائي، لضعف قوة الجاذبية فيه. وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلا حتى يتجمد كل مافيها، واشتداد الحرارة نهارا حتى يحترق كل ماعليها. وكذلك يترتب على نقص حجم الارض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارا كبيرا من الماء. وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض، ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب «عجلة التوازن العظيمة) Great Balance Wheel(٢) وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى. ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها، ثم تنخفض إلى ادنى درجاتها، على ما سبق ذكره.

وعلى العكس من ذلك، اذا كان قطر الارض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها

___________________

(١) The Evidence of God, p. ٨٨.

(٢) The Evidence of God, p. ٨٨.

٦٣

الحالية؛ وحينئذ ينكمش غلافها الجوي - الذي هو على بعد خمسمائة ميل - إلى ما دون ذلك. وسيترتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين من الضغط الجوي، وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.

ولو أن الأرض تضاعف حجمها، فصارت مثل حجم الشمس مثلا، لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مائة وخمسين مرة، ولاقترب غلافها الهوائي، حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط، بدلا من خمسمائة ميل، ولارتفع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة. وذلك يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية. وهو من الناحية النظرية يعني أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلا واحدا - تحت الكثافة الهوائية - الحالية - خمسمائة رطل. كما يهبط حجم الانسان حتى يصير في حجم فار كبير، ولاستحال وجود العقل في الانسان، لأنه لابد للعقل الانساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم، ولايوجد هذا النظام الا اذا كان حجم الجسم بقدر معين.

***

نحن قائمون على الأرض ظاهرا، ولكن الأصح ان نقول: نحن ملقون على رؤوسنا، ولتوضيح ذلك نقول: ان الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الانسان، فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة، ان سكان أمريكا سيكونون تحت سكان اهالي الهند، وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.

فأرضنا هذه ليست بثابتة، وانما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة، وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وضعت على محيط عجلة تدور بسرعة، يوشك أن تقذف بها في الفضاء، ولكن الأرض لاتقذفنا؛ بل نحن مستقرون عليها، فكيف تمسكنا وهي تدور بهذه السرعة؟!!.

ان في الأرض جاذبية غير عادية، وهي بهذه الجاذبية تشد كل شيء اليها، فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة، وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.

وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة مايقرب من ١٥ رطلا معناه: أن كل انسان يتحمل ما يقرب من ٤٠ر٢٢٨ رطلا من الضغط الجوي على جسمه، ولكن الانسان لايحس بهذا الوزن، لأن الهواء يضغطه من كل ناحية، كما يحدث عندما نسبح في الماء. ثم ان الهواء - وهو علم على مركب معين من الغازات - ذو فوائد كثيرة، لايمكن حصرها في كتاب.

***

٦٤

لقد توصل نيوتن، من خلال مشاهداته ومطالعاته، إلى أن الأجسام يجر بعضها بعضا، ولكنه لم يستطع تعليل هذا، ولذا سلم بأنه لاتفسير لديه لهذه العملية. وقد ذكر هذه المسألة (وهايت هيد) قائلا:

«لقد كشف نيوتن - حين سلم بهذا - عن حقيقة فلسفية عظيمة؛ هي أن الطبيعة لو كانت بغير روح فلن تفسر نفسها، كما أن الشخص الميت لايستطيع أن يحكي لنا واقعا. ان جميع التفسيرات الطبيعية والمنطقية لم تزد أخيرا على أن تكون اظهارا لهدف، لأن الميت لايمكن أن يكون حامل(١) أهداف».

وسوف أدفع حديث (وهايت هيد) إلى الأمام، قائلا² انه اذا لم يكن هذا الكون تحت سلطان «وجود ذي ادراك» فلماذا توجد فيه هذه الروح المدهشة؟.

***

ان الأرض تتم دورة واحدة حول محورها، في كل أربع وعشرين ساعة. ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، فاذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة، لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات، بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس - بشدة حرارتها - كل شيء فوق الارض، ومابقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة الشديدة في اليل.

وهذه الشمس، التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا، تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت؛ والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ مايقرب من ٠٠٠٠٠٠،٩٣ ميلا.

وهذا البون الهائل دائم، لايتغير أبدا بزيادة أو نقص، وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لانه لو نقص، واقتربت الشمس من الأرض. بمقدار النصف، مثلا، من الفاصل الحالي، فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها، ولو بعد هذا الفاصل، فصار ضعف ما هو عليه الآن فان البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد، سوف تقضي على الحياة في الأرض، ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادي، يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة، فسوف يجعل من الارض تنورا رهيبا.

ثم ان هذه الارض دائرة في الفضاء، وهي تؤدي عملها بزاوية ٥٣٣ درجة، الأمر الذي تنشأ عنه المواسم، ويترتب عليه صلاحية اكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى، فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة، ولسار بخار البحار شمالا

___________________

(١) The Age of Analysis, p. ٨٥.

٦٥

وجنوبا؛ ولما بقى على الأرض غير جبال الثلج، وفيافي الصحراوات؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.

***

فلو كان قياس العلماء صحيحا، وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة، فما أعجب هذا القياس، وما أكثر اثارته للدهشة!!. يقولون: ان الأرض انشقت من الشمس، ومعنى هذا: أن درة حرارتها كانت في مبدأ أمرها، نفس حرارة الشمس، وهي اثنا عشر ألف درجة فهر نهيت، ثم بدأت الارض تبرد؛ اذ لايمكن اتصال الأوكسجين بالهيدروجين الا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت - وفي هذه المرحلة وجد الماء، وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الارض ملايين السنين، حتى جاءت الأرض في صورتها الحالية، منذ أكثر من بليون سنة مضت، وذهبت الغازات من فضاء الارض إلى فضاء الكون، وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي، أو انجذبت إلى الاشياء الأرضية، أو بقيت في صورة الهواء؛ وأكثرها في صورة الأوكسجين او النتروجين. وهذا الهواء، في كثافته، يعد جزءا واحدا من ٠٠٠٠٠٠،٢ من أجزاء الأرض. ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض، كما انها كلها لم تتحول إلى (هواء). ولو انه حدث، لاستحالت حياة الانسان، فلو أننا فرضنا المستحيل، ووجدت الحياة في ظروف كهذه - تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف في الارطال من الضغط الجوي - لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الانسان الحالية.

ولو كانت قشرة الأرض اكثر سمكا، بمقدار عشرة اقدام من سمكها الحالي، لما وجد الأوكسيجين،(١) وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.

وكذلك لو كانت البحار اعمق بضعة أقدام، أكثر من القاع الحالي، لانجذب (ثاني أكسيد الكربون)، والأوكسجين(٢) ، ولاستحال وجود النباتات على الأرض؛ فضلا عن الحياة.

ولو كان الغلاف الهوائي للارض ألطف مما هو عليه الآن، لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الارض الخارجي، ولرايناها مضيئة في الليل، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها، فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلا في الثانية، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة، فانها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض، حتى تصبح الأرض غربالا في وقت ليس ببعيد.

___________________

(١) اذ أن القشرة الأرضية ستمتص حينئذ الأوكسجين.

(٢) حتى يمتصهما الماء.

٦٦

فلو لا ان غلاف الارض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا. فان سرعتها اكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة كما ان حرارتها الشديدة كافية لاهلاك كل شيء، بما فيه الانسان. فنحن أذن في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون، الذي لا تخترقه «الاشعة الشمسية ذات الاهمية الكيماوية) Actinic Rays الا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات، وايجاد الفيتامينات، والقضاء على الجراثيم الضارة، وما إلى ذلك. ان هذاالتوازن للكميات، المحتاج اليها، عجيب جدا.، فالغلاف الذي فوق الارض مكون من ستة غازات، منها ٧٨في المائة من النتروجين، و٢١في المائة من الاوكسيجين، والغازات الاخرى توجد بنسب قليلة، هذا الغلاف يضغط الارض بنسبة١٥رطلا في البوصة المربعة، ونسبة الاوكسيجين في هذا الضغط ٣ارطال في البوصة المربعة، والمقادير الاخرى للاوكسيجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الارض، وهي تمثل ٨و٠من الماء الموجود على سطح الارض، والاوكسيجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الارض، ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.

قانون الضغط والتوازن

وهنا يظهر سؤال هام، وهو. كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة، مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة، التي لابد منه للحياة، في الفضاء؟ والجواب: انه لوكانت نسبة الأوكسيجين ٥٠%،اواكثر، بدلا من ٢١%، لزادت قابلية الاحتراق، بما يساوي ارتفاع هذه النسبة. فاذا احترقت شجرة واحدة في غابة، حينما تكون نسبة الاوكسجين ٢١%فان الانفجار الخاطف، الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى ٥٠%يجعل احتراق الغابة كلها امرا حتميا في لحظات!

ولو ان هذه النسبة انخفضت فاصبحت١٠% لكان من الممكن، على مدى الكون ان تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الاوكسيجين إلى هذا الحد ولكنه يكون من المستحيل ان تزدهر الحضارة الانسانية، كما هي عليه في الظروف الحاليه(١) .

ولو ان الاوكسيجين الموجود على سطح الارض انجذب مع الاوكسيجين الذي انجذب قبل ذلك في الارض، لكان من المستحيل (الوجود الحيواني الحسي).

ان الاوكسيجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون، وغازات الكاربون الاخرى، على اختلاف اشكالها، تتركب معا فتصبح عناصر عظيمة الأهمية للحياة الحيوانية، وللاسس

___________________

(١) اذ ان اعضاء الجسم الانساني على فرض وجودها في هذه الحالة لن تتمكن في تلك الظروف من مواصلة عملها كعادتها اليوم في الظروف المتاحة فعلا، وذلك لاستحالة وجود الانسجة والخلايا البدنية والعقلية الدقيقة في ظل تلك الظروف، لانه كلما قل الاوكسجين قل النشاط الجسماني والعقلي.

٦٧

التي تقوم عليها الحياة الانسانية، وبناء عليه لا يوجد احتمال ٠٠٠٠٠٠،١٠١ ان تجتمع، هذه الغازات في تناسبها المطلوب، وبجميع خصائصها اللازمة للحياة، علىكوكب معين، بطريق الصدفة.

ولذلك يقول احد كبار علماء الطبيعة:

« Science has no ecplanation to offer for the facts, and to say it is ‘accidental’ is to defy mathematics »

«ان العلم لا يملك أي تفسير للحقائق والقول بانه حدثت «اتفاقا» انما يعتبر تحديا وتصادما مع الرياضيات». ان هناك وقائع كثيرة جدا، لا طريق لنا إلى فهمها او تفسيرها، الا اذا سلمنا بان للعقل يدا عليا في احداثها.

فمن الخصائص المهمة التي توجد في الماء: ان كثافة الثلج Density تقل بنسبة كبيرة عن كثافة الماء، فألماء أذن مادة معلومة، تقل كثافتها بعد التجمد ولهذا الامر قيمة عظيمة بالنسبة إلى الحياة، اذ يترتب على هذه الخاصة ان الثلج يطفو على سطح الماء، ولا ينزل إلى قاع البحار والانهار، ولولا ذلك، لكان الماء كله قد تجمد في البحار، والانهار، والخزانات المائية، ان الثلج يقوم بدور الحاجب للماء الذي تحته، كيما تبقى حرارته دون درجة التجمد، فتبقى الاسماك والحيوانات المائية على قيد الحياة.، فاذا ما جاء موسم الربيع ذاب الثلج، ولولا خاصة الثلج هذه لعانى سكان الاقطار الباردة الكثير من المتاعب والمصائب، الناجمة عن عدم ذوبان الثلج.

***

لقد اصاب مرض الاندوثيا Endothia في اوائل القرن العشرين اشجار (شاه بلوط) الثمينة في غابات امريكا، وانتشر بسرعة فائقة فقال بعض من راى تلك المواضع الخربةالكبيرة في «مظلة الغابات»: انها لن تمتليء ابدا!!

ولم يكن أي نوع من الاشجارـ حتى ذلك الحين قد انتزع هذا الامتياز الذي كان خاصا بهذا النوع من اشجارالبلوط، ذات الاخشاب الثمينة الغالية حتى كان يلقب:. «ملك اشجار الغابات الامريكية »قبل وصول وباء الأندوثيا من آسيا سنة ١٩٠٠م تقريبا.

اما الآن، فلا توجد هناك اية اثار لشاه بلوط، ذلك الشجر العظيم، في الغابات الامريكية. ولكن سرعان ما امتلات تلك المواضع في غابات امريكا بنوع آخر من الاشجار، يسمى: «التيوليب»، كانت لا تحتل من الغابات الا حيزا صغيرا، ولم تكن مزدهرة.

٦٨

لقد انتهزت اشجار «التيوليب»هذه الفرصة، فازدهرت وحلت محل شاه بلوط. اليوم لا يتذكر أي تاجر اخشاب امريكي وجود اشجار شاه بلوط، فقد حلت محلها اشجار «التيوليب»، التي تتضخم كل سنة بنسبة بوصة واحدة في الجذع. وترتفع ست بوصات في الفروع والاغصان، كما تعطي خشبا ممتازا يستعمل في جميع الصناعات الدقيقة.

***

ومن الاحداث العلمية الهامة التي وقعت في هذا القرن ما حدث في استراليا. لقد زرعوا نوعا خاصا من «الصبار» في مزارعها لكي يحميها.ولم يكن في استراليا أي نوع من الدودة يعادي ويأكل هذا النبات ذا الشوك، فاخذ ينتشر انتشارا رهيبا ومروعا، حتى استولى على منطقة توازي مساحة جزر بريطانيا كلها، لقد هاجم الصبار القرى والمدن، وخرب المزارع والحقول، حتى استحالت الزراعة، ولم يتمكنوا من استئصاله باية طريقة لقد اصبح جيشا جبارا، يزحف لكي يسيطر على استراليا كلها، وهي لا تجد ما تقاوم به، واستمرت هذه الحال، حتى خرج علماء الحشرات، يبحثون عن دودة تأكل الصبار. فاكتشفوا دودة لا تعيش الا عليه، ولا غذاء لها سواه، وقد كان نسلها يزيد بسرعة، ولا عدولها في حشرات استراليا، وسرعان ما تغلبت هذه الدودة الصغيرة على جيش الصبار العظيم، وانتهت مصائب استراليا!!

ايمكن ان يكون هذا القانون«قانون الضبط والتوازن Checks and Balances قد حدث دون تخطيط واع، هكذا صدفة واتفاقا؟!

السنن الرياضية المحكمة

وفي الكون سنن رياضية محكمة، بصورة تدعو إلى الدهشة والاكبار، وحتى المادة الجامدة، التي لا تملك شعورا لا يمكن ان تجري على غير نظام، وانما هي تتبع قوانين صارمة معلومة، ولفظ الماء، اينما كان الماء على هذه الارض الواسعة، لن يكون معناه سوى مادة سائلة تحتوي على١،١١%من الهيدروجين، و٩،٨٨% من الاوكسيجين. ولذلك يستطيع أي عالم يجري عملية تسخين الماء في معمله ان يقول بكل قطعية: ان درجة حرارة غليان الماء هي (١٠٠) سنتي جراد، دون ان يرى مقياس الحرارة، ما دام ضغط الهواء ٧٦٠م.م. فاذا كان ضغط الهواء اقل، فسوف نحتاج طاقة اقل لتوفير الحرارة التي تدفع جزئيات الماء. وتعطيها صورة البخار، وحينئذ سوف تنخفض درجة غليان الماء، وعلى العكس، لو كان ضغط الهواء اكثر من ٧٦٠م.م. فستزداد درجة غليان، بمقدار زيادة ضغط الهواء. لقد جربوا هذه العملية مرارا، إلى ان تمكنوا من البت في امر الغليان، حتى قبل تسخين الماء، والتنبؤ بدرجة غليانه دون استعمال المقياس. ولو لم يكن هذا النظام والضبط

٦٩

في المادة وعمليات الطاقة، لما وجد الانسان اسسا يقيم عليها كشوفه ومنجزاته العلمية. ولولا النظام والضبط لحكمت عالمنا الاتفاقات والصدف المحضة!ولكان من المستحيل على علماء الطبيعة ان يقولوا. انه بمباشرة عمل ما في حالة معينة تحصل نتيجة كذا.

نظام العناصر والدورية

ان أول شيء يشاهده الطالب في معمل الكيمياء هو نظام العناصر ودوريتها، وقد وضع العالم الروسي «ماندليف» خريطة للعناصر الكيماوية، بمقاديرها الجوهرية، وسميت بـ«الخريطة الدورية) Periodic Chart ، وفي ذلك الوقت لم تكن كل العناصر قد تم كشفها، حتى تملأ كل الخانات الموجودة في الخريطة، فتركها «ماندليف» خالية؛ إلى أن ملأها العلماء فيما بعد، كما تخيلها العالم الروسي من قبل كشفها بسنين طويلة، وهذه الخريطة تحوي جميع العناصر الجوهرية بأرقام وقوائم مختلفة. ومعنى الأرقام الجوهرية هو العدد الخاص الذي يوجد في مركز الذرة، من الشحنات الكهربية الايجابية «البروتون»، وهذا العدد هو الفارق بين ذرة عنصر وذرة عنصر آخر؛ فالهيدروجين، الذي نعتبره أبسط عنصر يوجد في مركز ذرته شحنة واحدة من الكهربية الايجابية، وكذلك توجد في العنصر المسمى «هيليم» شحنتان، وفي «ليثيم» ثلاث شحنات. وما كان لنا ان نتمكن من وضع خرائط العناصر المختلفة الا بناء على قوانينها الرياضية العجيبة. وهل هناك مثال للضبط أفضل من أننا عثرنا على العنصر رقم (١٠١) بمجرد معرفة شحناته الكهربية الخمسة عشر؟!!.

ليس من الممكن أن يطلق العلماء على هذا النظام الرائع في الطبيعة عبارة: (الصدفة الدورية) Periodic Chance ، وانما هو (القانون الدوري) Periodic Law وليس من الممكن أو نتنكر لماتطلبه هذه الضوابط والنظم من وجود اله ومهندس. فان عدم ايمان العلم الحديث بالاله انكار في الواقع لكشوفه كنتيجة حتمية!.

«سوف يحدث كسوف للشمس يوم ١١ أغسطس سنة ١٩٩٩م، ويمكن رؤيته كاملا في كورنفال(١) »، ليس هذا مجرد تنبؤ قياسي، ولكن علماء الفلك يؤمنون بأنه لابد من هذا الكسوف، بناء على نظام دوران الشمس الموجود حاليا.

ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الكواكب والنجوم التي لاحصر لها؛ ان هذ الكرات السماوية، التي لاتزال معلقة في الفضاء، منذ قرون لانعرف عدتها، نور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم بحيث يمكننا معرفة جميع الوقائع

___________________

(١) بلدة في جنوب غربي انجلترا - المراجع.

٧٠

المستقبلة قبل وقوعها بقرون. انه نظام لامثيل له، من الذرة إلى قطرة الماء، إلى الكواكب السحيقة في أجواء الفضاء. نظام تستنبط على أساسه قوانين علمية!.

ان نظرية «نيوتن» تفسر دوران الكرات الفلكية، وبناء على هذه النظرية استطاع العالمان: آدمز ولافرييز أن يتنبآ بوجود كوكب، لم يكن معروفا وجوده في وقتهما، وبناء على قولهما وجه مرصد برلين في ليلة من ليالي سبتمبر سنة ١٨٤٦ تلسكوبا إلى الجهة التي أشارا اليها، وسرعان ما وجد رجال المرصد الكوكب الذي نسميه اليوم (السيار نبتون)، في أسرة الشمس!!.

***

خصائص حكمية

ان أبعد الأمور عن القياس، وأعظمها استحالة، هو أن نؤمن بأن الكون وقطعيته. الرياضية، قد جاءا نتيجة «صدفة»!.

فمن الخصائص الحكيمة في هذا الكون كونه صالحا لتصرفات الانسان عند الضرورة، ولنأخذ النتروجين على سبيل المثال. فان ٧٨% من النتروجين توجد في كل هبة من الرياح، وكذلك توجد في أجزاء كيماوية أخرى، ونسميها حينئذ «النتروجين المركب»، وهذه كلها يستغلها النبات لكي يهىء لنا الجزء النتروجيني في غذائنا؛ فلولا هذه العملية، لهلك الحيوان والانسان، وكل ما يعتمد على النبات في أكله جوعا وفاقة؛ فان أي نبات غذائي لاينمو بدون هذا التحليل الكيماوي.

ان هناك طريقتين لاثالثة لهما، لتحليل النتروجين في الأرض، والطريقة الأولى: هي «العملية الجرثومية»، وتقوم بأدائها الجراثيم التي تعيش في جذور الشجرة تحت الأرض، وهذه الجراثيم تأخذ النتروجين من الهواء، وتصنع من «النتروجين المركب»، ويبقى هذا النتروجين تحت الأرض، بعد الحصاد، مع الجذور. وأما العملية الثانية التي تصنع النتروجين المركب فهي (الرعد). فكلما احتك الرعد في الفضاء، مزج شيئا من الأوكسجين في النتروجين، ويصل هذا النتروجين المركب إلى الحقول عن طريق الأمطار التي تلي العملية، والكمية التي تحصلها الحقول من هذا المركب بسهولة، كل سنة، هي ما يقرب من خمسة أرطال لكل «ايكر»(١) من الأرض، وهي تساوي ثلاثمائة رطل من نترات الصوديوم(٢) .

___________________

(١) مقياس انجليزي لسلطح الأرض، وهو أقل من (فدان) المراجع.

(٢) The Nature and properties of Soils. Lyon, Buckman and Brady ,

٧١

ولكن هذه الكمية من النتروجين المركب لا تكفي، لأن الحقول التي تزرع لمدة طويلة، ينفذ مافيها منه. ولذلك نرى الزراع يحولون المواسم الزراعية من حقل لآخر، بعد وقت معلوم. وأعجب ما حدث في هذا القرن - عندما ضاقت الأرض بما رحبت على سكانها، وقل النتروجين لكثرة الزراعة، وخافت الانسانية من القحط والفاقة - اكتشافنا في هذه المرحلة الخطيرة «طريقا ثالثة» لاستمداد النتروجين من الهواء، وكانت الجهود الأولى، التي بذلت في هذا الصدد، أنهم جربوا عملية خلق رعد صنعي في الفضاء باستعمال آلات قوتها ٠٠٠٠٠٠،٣ حصان؛ غير أنهم لم ينجحوا الا في صناعة كمية ضئيلة من النتروجين المركب. وتقدم الانسان بهذه التجارب، حتى كشف الطريق الثالثة² وهي استخدام الهواء في صناعة النتروجين المركب، في صورة (السماد). وهكذا استطاع أن يهيىء لغذائه جزءه الضروري، الذي لولاه لهلك جوعا. وهذا حدث عجيب في تاريخ الارض؛ فان الانسان كشف للمرة الأولى في تاريخه حلا لأزمة الغذاء، وابتعدت أشباح الكارثة عن سكان الأرض، حين كان من المستحيل أن يتجنبوها!!.

***

ان هناك أمورا كثيرة تؤكد وجود الحكمة والروح في الكون، وكل مالدينا من علم يؤكد لنا أن ما قد كشف أقل بكثير مما لم نستطع حتى الآن الكشف عنه! وبرغم ذلك فان ماكشفه الانسان كثير جدا، حتى اننا لو أردنا فهرسة عناوين هذه العلوم، فسنحتاج إلى سفر ضخم جدا، بالنسبة إلى هذا الكتاب الذي بين يدي القارىء، وسوف يبقى بعد ذلك ايضا الكثير منها دون فهرسة.

ان كل ما يمكن للسان الانساني أن يلفظه عن آلاء الله وآياته سوف يكون غاية في النقص، فمهما فصلناها وأسهبنا في تفسيرها، فسنخرج آخر الأمر مقتنعين بأننا لم نحط بها، وانما تناولنا منها «بعض الشيء».

والحق انه لو قدر أن تنكشف للانسان جميع العلوم الكونية، ثم يجلس سكان المعمورة، وقد هيئت لكل فرد منهم جميع الوسائل، في أكمل صورها، فان هؤلاء جميعا لن يستطيعوا تدوينها ابدا. أليس هذا هو مصداق قوله تعالى:

( وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللَّهِ ) : وقوله تعالى:( قُلْ لَوْ کَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِکَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (١) !!.

___________________

(١) لقمان/٢٧.

(٢) والكهف١٠٩.

٧٢

ان كل ما أتيحت له الفرصة كي يطالع صفحة من هذا الكون، سيعترف مصدقا أنه لامبالغة في هذه الكلمات الالهية، وانما هي تعبير بسيط عن الحقائق الموجودة فعلا.

***

صدفة أم عمليات حكيمة؟

ان معارضي الدين يسلمون بكل ما طرحناه في الصفحات الماضية من الأنظمة العجيبة، والحكمة غير العادية، والروح التي تسري في الكون، ولكنهم يفسرونها بطريقة أخرى؛ انهم عاجزون عن أن يجدوا فيها رمزا أو اشارة لمنظم ومدبر. فاذا بهم يرون أن كل هذا جاء نتيجة «صدفة محضة».

واستمع إلى قول «هكسلي»:

«لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون، الموجود الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في «المادة»، لبلايين السنين(١) ».

ان أي كلام من هذا القبيل «لغو مثير»، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان؛ فان جميع علومنا تجهل - إلى يوم الناس هذا - آية صدفةأنتجت واقعا عظيما ذا روح عجيبة، في روعة الكون، فنحن نعرف بعض الصدف، وما ينشأ عنها من آثار، فعندما تهب الرياح تصل «حبوب اللقاح» من وردة حمراء إلى وردة بيضاء، فتأتي بوردة صفراء. هذه صدفة لاتفسر قضيتنا الا تفسيرا جزئيا استثنائيا. فان وجود الوردة في الأرض بهذا التسلسل، ثم ارتباطها المدهش مع نظام الكون، لايمكن تفسيره بهبة رياح صدفة. انها تأتي بوردة صفراء ولكنها لاتأتي بالوردة نفسها! ان الحقيقة الجزئية الاستثنائية التي توجد في مصطلح «قانون الصدفة» باطلة كل البطلان، اذا ما أردنا تفسير الكون بها.

يقول البروفيسور ايدوين كونكلين:

«ان القول بأن الحياة وجدت نتيجة «حادث اتفاقي» شبيه في مغزاه بأن نتوقع اعداد معجم ضخم، نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة(٢) ».

وقد قيل: ان تفسير الكون بوساطة (قانون الصدفة) ليس «بكلام فارغ». بل هو

___________________

(١) The Mysterious Universe, pp. ٣ - ٤.

(٢) The Evidence of God , p. ١٧٤.

٧٣

كما يعتقد السير جيمس جينز ينطبق على «قوانين الصدفة الرياضية المحضة»

Purely Mathematical Laws of Chance(١)

ويقول احد العلماء الاميركيين:

«ان نظرية الصدفة ليست افتراضا، وانما هي نظرية رياضية عليا، وهي تطلق على الأمور التي لاتتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في امكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة، هي معرفة مدى امكان ووقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة(٢) ».

***

ولو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون، وافترضنا أيضا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها (ولست أجد أساسا لأقيم عليه هذه الافتراضات) ففي تلك الحال أيضا لن نظفر بتفسير الكون، فان «صدفة» أخرى تحول دون طريقنا. فلسوء حظنا: أن الرياضيات التي تعطينا نكتة «الصدفة» الثمينة، هي نفسها التي تنفي أي امكان رياضي في وجود الكون الحالي، بفعل قانون الصدفة.

لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال، لتسويغ ايجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.

ويمكننا أن نفهم شيئا عن قانون الصدفة من المثال التالي:

«لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد، من ١ إلى ١٠، ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى. فامكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه(٣) في المحاولة الأولى هو واحد على عشرة؛ وامكان أن تتناول الدرهمين(١،٢) بالترتيب، واحد في المائة، وامكان أن تخرج الدراهم(١،٢،٣،٤) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. حتى ان الامكان في أن تنجح في تناول الدرهم ١ إلى ١٠ بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات!!».

لقد ضرب هذا المثال العالم الأميركي الشهير «كريسي موريسن»، ثم استطرد قائلا:

___________________

(١) Mysrerious Universe, p. ٣.

(٢) The Evidence of God, p. ٢٣.

(٣) Man Doesnot Stand Alone p. ١٧.

٧٤

«ان الهدف من اثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس الا أن نوضح كيف تتعقد «الوقائع» بنسبة كبيرة جدا في مقابل «الصدفة»(١) .

ولنتأمل الآن في أمر هذا الكون، فلو كان كل هذا بالصدفة والاتفاق، فكم من الزمان استغرق تكوينه بناء على قانون الصدفة الرياضي؟.

ان الأجسام الحية تتركب من «خلايا حية»، وهذه (الخلية) مركب صغير جدا، ومعقد غاية التعقيد، وهي تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلاي) Cytology ومن الأجزاء التي تحتوي عليها هذه الخلايا: البروتين، وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر، هي: الكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويشمل الجزىء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر!!.

وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي، كلها منتشرة في أرجائه، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون الصدفة»؟ أيمكن أن تتركب خمسة عناصر - من هذا العدد الكبير - لايجاد «الجزيء البروتيني» بصدفة واتفاق محض؟! اننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه، لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المادة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.

لقد حاول رياضي سويسري شهير، هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضة. فانتهى في أبحاثه إلى أن (الامكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي - الذي من شأنه أن يؤدي إلى خلق كون،اذا ما توفرت المادة - هو واحد على ١٠/٦٠(أي: ١٠×١٠ مائة وستين مرة). وبعبارة أخرى: نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة!! وهو عدد هائل لايمكن وصفه في اللغة.

ان امكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون، حتى يمكن تحريكها وضخها، وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية، فهي أكثر من ١٠/٢٤٣ سنة(٢) !.

ان جزيء البروتين يتكون من «سلاسل» طويلة من الأحماض الأمينية Amino - Acids وأخطر مافي هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض، فانها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة لأصبحت سما قاتلا، بدل أن تصبح موجدة للحياة.

___________________

(١) Man Does not Stand Alone, p. ١٧.

(٢) أي: مائتان وثلاثة وأربعون صفرا أمام عشر سنين - المترجم.

٧٥

لقد توصل البروفيسور ج.ب. ليتز G. B. Leathes إلى أنه يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من ١٠/٤٨ صورة وطريقة. وهو يقول: انه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل - بمحض الصدفة - في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لاحصر لها، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوي أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.

ولابد أن يكون واضحا للقارىء أن القول بالامكان في قانون الصدفة الرياضي لايعني أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره، بعد تمام العمليات السابق ذكرها، في تلك المدة السحيقة؛ وانما معناه أن حدوثه في أثناء تلك المدة محتمل، لا بالضرورة، فمن المكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء مابعد تسلسل العملية إلى الأبد!.

***

هذا الجزيء البورتيني ذو وجود «كيماوي»، لايتمتع بالحياة الا عندما يصبح جزءا من الخلية، فهنا تبدأ الحياة، وهذا الواقع يطرح أهم سؤال في بحثنا: من أين تأتي الحرارة، عندما يندمج الجزيء بالخلية؟. ولاجواب عن هذا السؤال في أسفار المعارضين الملحدين.

ان من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي، لاينطبق على الخلية نفسها، وانما على جزء صغير منها، هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لايمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش، وفي جسد كل فرد منا، مايربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا!!. لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دي نواى) Cotme de Nouy بحثا وافيا حول هذا الوضوع، وخلاصة البحث: أن مقادير (الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الامكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، وهو يرى: أن حجم هذه المقادير التي سنحتاج اليه في عمليتنا لايمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الانسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث - على وجه الصدفة - من النوع الذي ندعيه، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته ١٠/٨٢ سنة ضوئية (أي: ٨٢ صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية!!) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي؛ فان ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل الينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط. وبناءا على هذا، فان فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لاتكفي أبدا لهذه العملية المفترضة. أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها، فاننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض، بسرعة خسمائة (تريليون) حركة، في الثانية الواحدة، لمدة ١٠/٢٤٣ بليون سنة

٧٦

(٢٤٣ صفرا أمام عشرة بلايين)، حتى يتسنى لنا حدوث امكان في ايجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.

ويقول «دي نواي» في هذا الصدد: لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد الا منذ بليونين من السنين، وأن الحياة - في أي صورة من الصور - لم توجد الا قبل بليون سنة، عندما بردت الأرض(١) ».

هذا، وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه، وأثبتت الدراسة في هذا الموضوع أن كوننا موجود منذ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة. وهي مدة قصيرة جدا، ولاتكفي على أي حال من الأحوال لخلق امكان، يوجد فيه الجزيء البروتيني، بناء على قانون الصدفة الرياضي.

وأما مايتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء، جزء من الشمس، انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء، شعلة من نار رهيبة، ولم يكون من الممكن ظهور الحياة على ظهوره حينئذ لشدة الحرارة، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد، ثم تجمدت وتماسكت، حتى ظهر امكان بدء الحياة على سطحها.

ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق، وأحسن طريقة عرفناها لهذه الدراسة، هي التي توصلنا اليها بعد كشف (العناصر المشعة) Radio - Active Elements ، فان الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة؛ وهذا (التحلل) Disintegration يقلل الذرات الكهربية في هذه العناصر، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة، وهو يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية، وهذه النسبة في الانتشار لاتتغير تحت أي ظرف، من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لاتتغير.

ان قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال، ومما لاشك فيه أن هذا اليورانيوم هو جزء من ذلك الجبل، منذ أن تجمد في شكله الأخير، عند تجميد الارض. وعلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص، ولانستطيع أن ندعي أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم. والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما اذا

___________________

(١) Human Destiny, pp. ٣٠ - ٣٦.

٧٧

كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم، أو أنها قطعة رصاص عادي، ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه، ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!.

لقد أثبتت التجاب ا،ه قد مر الف وأربعمائة مليون سنة على تجمد تلك الجبال، التي تعتبر - علميا - اقدم جبال الأرض، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال، ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشادة، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن «المعدل المعقول» لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة(١) !.

***

ولنتأمل الآن، بعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح، تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين، حتى يتسنى مجرد امكان لحدوث (جزيء بروتيني) فيها بالصدفة! فكيف آذن جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات، وأكثر من ٠٠٠،٢٠٠ ألف نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض، في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيوانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه «الانسان»؟ ولاأدري كيف نجرؤ على مثل هذه الاعتقادات، في حين أننا نعرف جيدا أن نظرية النشوء والارتقاء تقوم على أساس «تغييرات صدفية محضة»؟! وأما هذه التغيرات، فقد حسبها الرياضي «باتو) Patau ، وانتهى إلى أن اكتمال «تغير جديد» في جنس ما، قد يستغرق مليونا من الأجيال(٢) :

فلنفكر في أمر (الكلب) الذي يزعمون أنه جد (الحصان) الأعلى، كم من المدة، على قول الرياضي باتو سوف يستغرقها الكلب، حتى يصبح حصانا؟!.

وما أصح ماقاله عالم الأعضاء الاميركي مارلين ب. كريدر:

«ان الأمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق - عن طريق الصدفة - في نسبها الصحيحة، هو ما يقرب من «لاشيء»(٣) .

لقد أطلت في هذا البحث حتى نتبين مدى سخافة فكرة الخلق بالصدفة، وبطلانها، ولست - في الحق - أشك في أنه يستحيل وجود الجزيء البروتيني والذرة عن الصدفة، كما لايمكن ان يكون عقلك هذا - الذي يتأمل في أسرار الكون وخفاياه - من ثمار الخلق

___________________

(١) JWN Sullivan Limitations of Science, p. ٧٨.

(٢) The Evidence of God , p. ١١٧.

(٣) Ibid, p. ٦٧.

٧٨

الصدفي، مهما بالغنا في افتراضاتنا عن المدة الطويلة التي استغرقتها عملية المادة في الكون. ونظرية الخلق هذه ليست مستحيلة في ضوء قانون الصدفة الرياضي فحسب، وانما هي لاتتمتع بأي وزن منطقي في نفس الوقت.

وأي كلام من هذا القبيل سخيف وملىء بالصلافة. ومثاله كمن يزعم أن سقوط كوب مملوء بالماء أو بالقهوة سوف يرسم خريطة العالم على الأرض!! لامانع من أن أسأل هذا الرجل: من أين جاء بهذا الفرش الأرضي، والجاذبية، والماء، والكوب، حتى يقع هذا الاتفاق الغريب؟!.

***

ولقد ولغ عالم البيولوجيا «هيكل) Haeckel في زعمه حين قال:

ايتوني بالهواء، وبالماء وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الانسان». ولكن «هيكل» نسى أو تجاهل في هذه القالة: أنه بتقريره احتياجه إلى المادة والأحوال المادية، ينفي زعمه من تلقاء نفسه!.

يقول الأستاذ «كريسي موريسن»(١) في هذا الصدد:

«ان هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية، ومسالة الحياة نفسها، فان أول شيء سيحتاج اليه عند خلق الانسان، هو الذرات التي لاسبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات)، أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة. ولكن امكان الخلق في هذه المحاولةبعد كل هذا، لايعدو واحدا على عدة بلايين، ولو افترضنا أن «هيكل» نجح في محاولته، فانه لن يسميها «صدفة»، بل سوف يقررها، ويعدها نتيجة لعبقريته»(٢) .

***

ولنختم هذا البحث بقول عالم الطبيعة الأميركي «جورج ايرل ديفيس»:

(لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه، فان معنى ذلك أن يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الاله. وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الاله)، ولكن الهنا هذا سوف يكون عجيبا: الها غيبيا وماديا في آن واحد!! انني أفضل أن أؤمن بذلك الاله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلا من أن أتبنى مثل هذ الخزعبلات(٣) ».

___________________

(١) رئيس أكاديمية العلوم الأميركية بنيويورك (سابقا) - المترجم.

(٢) Man Does not Stand Alone, p. ٨٧.

(٣) The Evidence of God , p. ٧١.

٧٩

الباب الخامس : دليل الآخرة

من أهم الحقائق التي يدعونا الدين إلى الايمان بها: فكرة الآخرة. والمراد بها: أن هناك عالما آخر غير عالمنا الحاضر؛ وسوف نعيش في ذلك العالم خالدين؛ وأن عالمنا هذا هو مكان للاختبار والابتلاء، وجد فيه الانسان لأجل معلوم؛ وأن الله سوف ينهي هذا العالم حين يحين أجله، لبناء العالم الآخر، على طراز جديد وأن الناس سوف يبعثون مرة أخرى؛ وسوف تعرض أعمالهم - خيرا أو شرا - على محكمة الله، الذي يجزي كل انسان بما عمل في الحياة الدنيا.

أهذه النظرية صحيحة؟ أم باطلة؟ وهل هناك امكان لهذه الآخرة؟ سوف نعرض هنا بعض جوانب القضية.

***

أولا: امكان الآخرة

ليكن الجانب الأول من هذا العرض، هو البحث عن «امكان» وقوع الآخرة. فهل هنالك وقائع واشارات تصدق هذه الدعوى؟.

ان فكرة (الآخرة) تقتضي - أول ما تقتضي - ألا يكون الانسان والكون، في شكلهما الحالي أبديين، وقد علمنا في الصفحات الماضية - بما لايدع مجالا للشك - أن ابدية الكون والانسان مستحيلة، وأيقنا، يقينا لايتزعزع، بأن الانسان يموت، وأن الكون سينتهي طبقا لقانون «الطاقة المتاحة». ولست أدري اذا ما كان هنا طريق للنجاة من هذه النهاية المروعة.

***

أ - مسألة الموت:

ان الذين لايؤمنون بالعالم الثاني - الآخرة - يحاولون بدافع الغريزة أن يجعلوا من هذا الكون عالما أبديا لأفراحهم، ولذلك بحثوا كثيرا عن أسباب «الموت»، حتى يتمكنوا من الحيلولة دون وقوع هذه الاسباب، من أجل تخليد الحياة، ولكنهم أخفقوا اخفاقا

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في مالك الآخر بنحو شرط النتيجة فلا بأس به، وكونه معلّقاً غير مضرّ إمّا مطلقاً، أو في باب الشروط خاصّته.

وعلى أيّ حالٍ سواء كان هذا الوجه منطبقاً على القواعد أم لا، فهو خلاف ظاهر الرواية ؛ لأنّ مقتضاه فيما لو لم يحصل من مال الشركة إلاّ دون رأسمال الشريك الأوّل أنّه لا يستحقّ الرجوع على شريكه في الباقي، مع أنّ ظاهر قوله في الرواية: (وعليك التَّوى) أنّ التَّوى بتمامه عليه، وهو يلازم استحقاق القائل للرجوع عليه فيما إذا نقص مال الشركة عن رأسماله، وإلاّ لَما كان التَّوى على الآخر وحده، بل عليهما معاً.

ومنها: ما هو المقصود في المقام، وهو أن يكون محصّل القرار المذكور في الرواية تصدّي أحد الشريكين لضمان قيمة مال شريكه وتعهّده بخسارته، فمال الشركة باقٍ على ملكية الشريكين معاً دون أن ينتقل ملك أحدهما إلى الذمّة أو إلى الكلّي، غير أنّ أحد الشريكين يضمن للآخر مالية مالِه ويجعل على نفسه تدارك الخسارة، وفي مقابل ذلك يُملِّكه الآخر بنحو شرط النتيجة ما ينتقل إليه من الربح، فينحلّ القرار بحسب الحقيقة إلى ضمانٍ بالمعنى المقصود من قِبل أحد الشريكين لمالية حصّة شريكه، واشتراطٍ من قِبله على الآخر بنحو شرط النتيجة، بأن يكون مالكاً لِما زاد من ثمن مال الشركة على أصل المال، لا بأن تنتقل إليه الزيادة ابتداءً، فإنّه خلاف قانون المعاوضة، بل في طول الانتقال إلى شريكه.

وهذا التصوير يحقِّق معنى العبارة في الرواية تماماً ؛ إذ يصدق حينئذٍ أنّ لهذا رأس المال، وذلك له الربح وعليه التَّوى، خلافاً للوجهين السابقين.

وبذلك تكون هذه الرواية دالّةً على مشروعية ضمان مال الغير من الخسارة، أي ضمان ماليته، فيصحّ إنشاؤه في عقد الصلح أو بشرط في ضمن

٢٢١

العقد(١) .

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً: روايات الجارية، كرواية رفاعة قال: سألت أبا الحسن عن رجلٍ شارك في جاريةٍ له وقال: إن ربحنا فيها نصف الربح، وإن كان وضيعة فليس عليك شيء فقال: (لا أرى بهذا بأساً إذا طابت نفس صاحب الجارية)(٢) .

____________________

(١) يمكن أن يقال: إنّ التزام أحد الشريكين للآخر برأس ماله على كلّ تقدير إنّما يمكن حمله على الضمان بالمعنى الذي نقصده، أي التعهّد بالمال وماليته فيما لو كان هذا الالتزام قد صدر من الشريك في بداية الشركة، أي حالة احتفاظ مال الشريك الآخر بماليته، مع أنّ ظاهر الرواية كون المقاولة بين الشريكين قد وقعت حين إرادة فسخ الشركة، أي بعد وقوع ما يترقّب من ربح أو خسران، وفي هذا الظرف لا معنى لأن يضمن أحد الشريكين مالية شريكه بذلك المعنى من الضمان ؛ إذ هو فرع وجود المال المضمون خارجاً، مع أنّ من المحتمل أن يكون قد وقع فيه الخسارة أو التلف، فلا بدّ إذن من إرجاع المقاولة إلى المصالحة، بأن يصالح أحد الشريكين الآخر عما يستحقّه في مجموع مال الشركة من أعيانٍ وديونٍ بمقدار رأس ماله من الأعيان الموجودة، ويكون حينئذٍ أجنبياً عن الضمان بالمعنى المقصود.

ولا يرد على تطبيق الرواية على هذا الوجه من الصلح ما أوردناه على الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في المتن ؛ لأنّ المصالحة بالنحو الذي تصورناه الآن لا تشتمل على نقل حصّة الشريك إلى الأمة ليكون خلاف ظاهر قوله: (أعطني رأس المال).

ولكنّ الإنصاف أنّ ظاهر الاشتراط في قول الإمامعليه‌السلام : (لا بأس إذا اشترطا) هو الاشتراط بالمعنى الحقيقي، أي كون مضمون المقاولة مشترطاً في ضمن العقد ؛ فيرجع محصّلة إلى أنّه لا بأس به إذا اشترط الشريكان هذا في المضمون في عقد الشركة، وهذا معناه التزام أحد الشريكين للآخر بمالية ماله في أول الأمر، وينطبق هذا الالتزام على الضمان بالمعنى المقصود.(المؤلّف قدس‌سره ).

(٢) وسائل الشيعة ١٩: ٦، الباب الأوّل من أبواب الشركة، الحديث ٨.

٢٢٢

فإنّ الظاهر من الرواية أيضاً أنّ أحد الشريكين ضَمِن مالية شريكه وجعل خسارته في عهدته مع بقاء الشركة وملكية الشريكين على حالها ن ولهذا فرض المناصفة في الربح، كما هو مقتضى ملكية الشريكين، فالاحتمال الثالث الذي استظهرناه في الرواية السابقة يكون هنا أوضح.

فاتّضح من كلّ ما تقدّم أنّ مقتضى القواعد هو جواز جعل الضمان على عامل المضاربة بالمعنى الذي عرفته من التعهّد وأخذ المال في العهدة، سواء كان ذلك بعقدٍ مستقلّ أو بشرطٍ في ضمن عقدٍ بنحو شرط النتيجة، وكذلك الحال في سائر الأمناء الآخرين.

ولكن في خصوص عامل المضاربة وردت روايات خاصّة تدلّ على أنّ فرض الضمان عليه يستوجب حرمان المالك من الربح.

ففي خبر محمد بن قيس، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: (من اتّجر مالاً واشترط نصف الربح فليس عليه ضمان). وقال: (من ضمَّن تاجراً فليس له إلاّ رأسماله، وليس له من الربح شيء)(١) .

والظاهر من هذه الرواية هو أنَّ فرض شيءٍ من الربح لمالك المال مع فرض الضمان على العامل لا يجتمعان في الشريعة.

وقد يحمل قوله: (من ضمَّن تاجراً) على الإقراض، حيث إنّ الإقراض هو التمليك على وجه الضمان، فيدلّ حينئذٍ على أنّ الإقراض يوجب عدم استحقاق المقرِض لشيء ؛ إذ يكون الشيء رباً حينئذٍ، لا أنّ فرض الضمان بأيِّ وجهٍ يوجب ذلك.

ولكنّ هذا الحمل وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنّه خلاف ظاهر الرواية، فإنّ

____________________

(١) تهذيب الأحكام ٧: ١٩٠، الحديث ٨٣٩.

٢٢٣

مقتضى إطلاقها أنّ كلّ ما يصدق عليه أنّه تضمين للمال عرفاً لا يجتمع مع استحقاق المالك لشيءٍ من الربح شرعاً، فيشمل التضمين بغير الإقراض، أي التضمين بالشرط، بل قد يدّعى شموله لموارد اشتراط التدارك بنحو شرط الفعل، لا شرط النتيجة أيضاً ؛ لأنّه وإن لم يكن تضميناً بالمعنى الدقيق إلاّ أنّه ممّا يشمله العنوان عرفاً، فيقال عن المالك الذي اشترط على عامل المضاربة أن يدفع من ماله ما يساوي الخسارة إذا وقعت: إنّه ضمنّه.

كما أنّ الرواية قد تُحمل على أنّها في مقام بيان المراد الحقيقي للمتعاملَين - المالك والعامل - واستكشاف أنّ مرادهما في الواقع هو الإقراض في فرض التضمين، ومرادهما في الواقع هو المضاربة في فرض اشتراط نصف الربح للتاجر فقط ؛ ولهذا حكم على كلّ من الفرضين بالحكم المناسب لواقع مرادهما المستكشف بالنحو المذكور.

ولكنّ هذا الحمل وإن كان ممكناً أيضاً ولكن قد لا ينسجم مع ظاهر النصّ الذي يتبادر إلى الذهن منه كون التضمين بعنوانه منشأ شرعاً لعدم استحقاق المالك لشيءٍ من الربح وكون استحقاقه من الربح بعنوانه منشأ شرعاً لعدم الضمان على العامل، ومعناه التنافي بين الأمرين شرعاً.

فرض الضمان على غير عامل المضاربة:

وبناءً على أنّ فرض الضمان على عامل المضاربة لا ينسجم مع مشاركته في الربح من قبل المالك قلنا في الأطروحة: إنّ الضمان يتحمّله شخص ثالث غير العامل والمالك، وهو البنك، وتحمّله له إمّا بإنشائه بعقدٍ خاصّ، أو باشتراطه بنحو شرط النتيجة في عقدٍ آخر.

والبنك بنفسه وإن كان أميناً بالمعنى الأعمِّ على الودائع التي يأخذها من

٢٢٤

أصحابها ويتوكّل عنهم في المضاربة عليها مع التجّار ولكنّا قد بيّنّا أنّ قرض الضمان بالمعنى الذي حقّقناه على الأمين صحيح على مقتضى القاعدة، واشتراطه بنحو شرط النتيجة نافذ. وإنّما فصّلنا الكلام في حكم اشتراط الضمان على مقتضى القواعد لينفعنا ذلك في المقام

ولو فرض البناء على عدم تعقل الضمان بالمعنى الذي حقّقناه، وعدم صحة اشتراط الضمان على الأمين بمقتضى القواعد، وإنّما يقتصر في الصحة على الموارد المنصوصة، للاشتراط كما في العارية لو فرض البناء على ذلك، فيمكن في المقام تصوير الاشتراط على البنك بنحو شرط الفعل في ضمن عقد، وذلك بأن يشترط عليه المودع في ضمن عقدٍ أن يدفع إليه مقداراً من المال مساوياً للخسارة التي تقع في وديعته عند المضاربة بها.

٢٢٥

الملحق (٣)

[ التخريج الفقهي لأرباح البنك من المضاربة ]

حوّلنا في الأطروحة أخذ البنك للودائع الثابتة وإقراضها إلى مضاربة يكون المالك فيها هو المودع والعامل هو التاجر الذي يقترض، والبنك وسيط في هذه المضاربة ووكيل عن المالك في إنجازها والإشراف عليها. وقد فرضنا على هذا الأساس أنّ للبنك حصّةً من الربح، وفي هذا الملحق ندرس التخريج الفقهي لهذه الحصّة التي تُفرض للبنك بالرغم من عدم كونه العامل ولا المالك.

إنّ الحصّة المحدّدة بنسبةٍ مئويةٍ من الربح التي فرضناها للبنك اللاربوي لا يمكن أن تكون بمقتضى عقد المضاربة ؛ لأنّ عقد المضاربة لا يقتضي إلاّ فرض حصّته من الربح للعامل من مجموع الربح الذي هو ملك لمالك المال بمقتضى طبعه الأوّلي، والبنك في المقام ليس هو عامل المضاربة، بل العامل هو التاجر الذي يأخذ مالاً من البنك.

ولا يمكن فرض مضاربتين: إحداهما بين المودع والبنك، والاُخرى بين البنك والتاجر، بناءً على أنّ عامل المضاربة يمكنه أن يضارب بدوره عاملاً آخر.

٢٢٦

وتكون الحصّة التي يأخذها البنك قائمةً على أساس كونه عاملاً في المضاربة الأولى.

والوجه في عدم إمكان افتراض مضاربتين كذلك هو أنّ لازم جعل البنك عاملاً في المضاربة مع المالك عدم إمكان تحميله ضمان المال، بناءً على ما تقدّم من أنّ عامل المضاربة لا يضمن، فلا بدّ من جعل البنك شخصاً أجنبياً عن المضاربة لكي يمكن أن يتحمّل ضمان المال، ويكون دوره في العقد دور الوسيط فحسب.

كما أنّ الحصّة المذكورة لا يمكن أن تكون أجرة للبنك من قبل المودع في عقد إجارة ؛ بمعنى أنّ المودع استأجر البنك على إنجاز المضاربة والإشراف عليها بأُجرةٍ هي نسبة مئوية من الربح، وذلك:

أولاً : لأنّ الأجرة مجهولة، ويشترط في الإجارة معلومية الأجرة، ولا أُريد بأنّ الأجرة مجهولة أنّها مشكوكة ؛ لأنّ الربح قد لا يحصل، حيث إنّنا ذكرنا في الأطروحة أنّ الغالب عادةً كون مطلق الربح متيقّناً، وشرحنا الوجه في ذلك. بل أُريد أنّ الأجرة مجهولة من حيث القدر، فتبطل الإجارة.

ثانياً : لأنّ الأجير يملك الأجرة بنفس عقد الإجارة، فلا بدّ أن تكون قابلةً لذلك حين العقد، إمّا بأن تكون شيئاً خارجياً مملوكاً للمستأجر بالفعل فيملكه الأجير بالعقد، وإمّا بأن تكون شيئاً ثابتاً في ذمّة المستأجر للأجير.

وفي المقام النسبة المئوية من الربح المفروض في المستقبل لا هي شيء خارجي مملوك بالفعل للمودع حتّى يملّكه للبنك بعقد الإجارة، ولا شيء يفرض في ذمّته، بل هي شيء سوف يملكه في المستقبل، فلا تعقل الإجارة.

وما يمكن أن نُخرّج على أساسه تلك الحصّة التي يستحقّها البنك من الربح أحد وجوه:

٢٢٧

منها: الجُعالة، بأن تكون تلك الحصّة جُعلاً يجعله المودع للبنك إذا أنجز المضاربة وواصل الإشراف عليها إلى حين انتهاء مدّتها، ولا يرد حينئذٍ كلا الإشكالين المتقدمين في تصوير الإجارة:

أما الأوّل، وهو أنّ الحصّة مجهولة القدر، فهذا مضرّ في الإجارة وغير مضرّ في الجُعالة.

وأمّا الثاني، وهو أنّ الحصّة لا هي أمر في ذمّة المودع، ولا أمر خارجيّ مملوك للمودع بالفعل لكي يجعله أجرة للبنك، فهذا أيضاً لا يرد على الجُعالة ؛ لأنّ المجعول له لا يملك الجُعل بنفس إنشاء الجُعالة من الجاعل، بل بعد إنجاز العمل المفروض، فلابدّ أن يكون الجُعل قابلاً للتمليك من الجاعل في هذا الظرف. والمفروض في المقام أنّ المودع يجعل للبنك حصّةً من الربح إذا أنجز المضاربة وواصل الإشراف عليها إلى نهايتها، وفي هذا الظرف تكون تلك الحصّة من الربح مالاً خارجياً مثلاً مملوكاً للجاعل وقابلاً للتمليك من ناحيته. ويكفي هذا في صحة الجُعالة.

وقد جاء نظير ذلك في الأخبار، ففي رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال في رجلٍ قال لرجل: بعْ ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك، قالعليه‌السلام : (ليس به بأس)(١) .

ورواية زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ما تقول في رجلٍ يُعطي المتاع فيقول: ما ازددت على كذا وكذا فهو لك ؟ فقالعليه‌السلام : (لا بأس)(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٥٦، الباب ١٠ من أبواب أحكام العقود، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر السابق: ٥٨، الحديث ٤.

٢٢٨

ومثلهما غيرها من الروايات(١) التي فرض فيها الجعل جزءاً من الثمن على تقدير زيادته، وهو شيء غير مملوكٍ بالفعل للجاعل، وإنّما يكون مملوكاً له في ظرف إنجاز العمل، كالحصّة التي يجعلها المودع للبنك في المقام.

ومنها : تخريج ذلك على أساس الشرط في ضمن العقد.

والشرط: إمّا أن نتصوّره بنحو شرط النتيجة، بأن يشترط البنك على المودِع في عقدٍ ما أن يكون مالكاً لحصّةٍ معيَّنةٍ من الربح على تقدير ظهوره. ولا مانع من التعليق في الشرط، كما أنّ كون المودع غير مالكٍ بالفعل للربح غير مانعٍ عن نفوذ تمليكه المُنشَأ شرطاً ؛ لأنّ تمليكه معلّق على ظهور الربح ودخوله في ملكه، والمعتبر في نفوذ التمليك من شخصٍ أن يكون مالكاً لِما يملكه بلحاظ ظرف الجعل وإنشاء الملكية، ولهذا التزم المحقّق النائينيقدس‌سره (٢) بصحة تقدير ظهوره، مع عدم كون الآخر مالكاً بالفعل - حين الاشتراط - للربح، وليس ذلك إلاّ لعدم قيام دليلٍ على اشتراط ذلك.

وإمّا أن نتصوّر الشرط بنحو شرط الفعل، أي شرط التمليك، لا شرط أن يكون مالكاً، ولا إشكال فيه.

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٥٤، الباب ٩ من أبواب أحكام العقود.

(٢) اُنظر منية الطالب ٢: ٢١٩ وما بعدها.

٢٢٩

الملحق (٤)

[ التخريج الفقهي لبقاء رأس المال وحدّ أدنى من الربح لدى المستثمر ]

قلنا في الأطروحة: إنّ عامل المضاربة قد يتلاعب على البنك فيَدّعي تلف المال أو عدم الربح كذباً، ولهذا اقترحنا أن يسير البنك معه بموجب أصلٍ عامّ يقرّر أنّ المفروض بقاء رأس المال وحدّ أدنى من الربح ما لم يثبت الخلاف بالقرائن المعيّنة، ونريد في هذا الملحق أن نشير إلى التخريج الفقهي لهذا الأصل.

إنّ هذا الأصل على خلاف قاعدة قبول قول الأمين في ما جعله المالك تحت يده من مالٍ وأذنَ له بالاتّجار به. وعلى هذا الأساس لا بدّ أن نخرِّج هذا الأصل إمّا بنحو شرط الفعل في ضمن عقدٍ يشترط فيه البنك على العامل أن يدفع من المال ما يعادل المقدار الذي يدّعي خسارته في حالة عدم إقامة القرائن المحدّدة من قبل البنك على الخسارة، وإمّا بنحو الجعالة ؛ وذلك بأن يجعل العامل للبنك جُعلاً على تحصيل رأسمالٍ له للمضاربة عليه، والجُعل عبارة عن مقدارٍ يساوي قيمة رأس المال مع الحدّ الأدنى من ربحه المفروض، ومع زيادةٍ تمثّل الأجر الثابت الذي فرضناه في الأطروحة، ناقصاً قيمة ما سوف يعترف العامل بوجوده من رأس المال وربحه الأدنى، أو يقيم القرائن المحدّدة على خسارته.

٢٣٠

٢٣١

الملحق (٥)

[ فوائد الودائع الثابتة ]

إنّ الودائع التي تتسلّمها البنوك الربوية اليوم من أصحاب الأموال وتعطي عليها فوائد تسمّى بالودائع لأجَل، أو الودائع الثابتة، وهي ليست ودائع في الحقيقة، بل قروضاً ربوية كما بيّنا ذلك في الأطروحة. ونريد أن نبحث في هذا الملحق أنّه هل يمكن نظرياً من ناحية الصناعة الفقهية تصوير كونها ودائع مع ما عليه البنك من التصرّف بها ؛ لكي تخرج الفوائد المدفوعة على تلك الودائع للمودعين عن كونها فوائد ربويةً على القرض ؟

إنّ الودائع التي تحصل عليها البنوك الربوية ليست في الحقيقة ودائع بالمعنى الفقهي، لا تامّةً ولا ناقصة، وإنّما هي قروض، ولذا تصبح المبالغ التي يتقاضاها المودعين فوائد ربويةً على القرض.

ولكنّ هذا لا يعني استحالة تصوير كونها ودائع فقهياً بحيث تخرج الفوائد عن كونها فوائد ربويةً على القرض، بل إنّ هذا التصوير ممكن وإن كان مجرّد تصويرٍ نظري.

ومن هنا يتّضح أنّنا لا نتّفق مع وجهة نظر بعض الأعلام (دامت بركاته)(١) ،

____________________

(١) اُنظر: بحوث فقهية، تقرير بحوث الشيخ حسين الحلّيقدس‌سره : ١٠٢.

٢٣٢

إذ أفاد في المقام ما ملخّصه: أنّ الوادائع المصرفية لا يمكن تصوير كونها ودائع حقيقيةً بحيث تخرج فوائدها عن كونها فوائد ربويةً على القرض ؛ لأنّ الودائع المصرفية يأذن المالك للبنك بالتصرّف بها، ولا يراد بهذا الإذن السماح للبنك بالتصرّف مع بقاء الوديعة على ملك صاحبها ؛ إذ يلزم حينئذٍ عود الثمن والربح إلى المالك بحكم قانون المعاوضة، لا إلى البنك، بل يراد بالإذن المذكور السماح للبنك بتملّك الوديعة على وجه الضمان، وهو معنى القرض، فتكون الفوائد التي يدفعها البنك إلى المودع فوائد ربويةً على القرض.

والتحقيق: أنّ تصوير هذه الودائع بنحوٍ تكون ودائع حقيقيةً وتخرج فوائدها عن الربوية يتمّ بعدّة وجوه:

منها : أن نفرض كون الوديعة باقيةً على ملك صاحبها، وأنّ الإذن بالتصرّف فيها إنّما هو مع احتفاظ المودع بملكيته للوديعة، ومع هذا نصوّر في المقام الأمور الثلاثة التي يقوم على أساسها تعامل البنك في الودائع الثابتة، وهي ضمان الوديعة، والاستئثار بأرباحها، ودفع مقدارٍ محدّدٍ إلى المودع.

أمّا ضمان الوديعة فهو متصوّر لا بالقرض لكي يجيء محذور الربا، بل بعقد الضمان بمعناه الذي فصّلنا الكلام فيه في الملحق الثاني، إذ ذكرنا أنّ الضمان العقدي له سنخ معنىً لا يختصّ بالديون، بل يشمل الأموال الخارجية أيضاً، وهو غير المعنى الآخر للضمان الذي يختصّ بباب الديون ويعبّر عنه بالنقل من ذمّةٍ إلى ذمة، فبإنشاء البنك للضمان وتعاقده مع المودع على ذلك تصبح الوديعة في عهدة البنك مع بقائها على ملك المودع. وبذلك ثبت الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو استئثار البنك بالأرباح فيمكن تتميمه عن طريق الشرط في ضمن عقد الضمان، أو عقد الشركة، أو أيّ عقدٍ آخر بين البنك والمودع ؛ إذ يشترط البنك فيه على المودع أن يكون الثمن ملكاً له بنحو الشرط

٢٣٣

النتيجة، لا بان ينتقل إليه ابتداءً، فإنّه يكون حينئذٍ شرطاً على خلاف قانون المعاوضة شرعاً، بل بأن ينتقل إليه الثمن في طول انتقاله إلى المودع. وقد ذهب المحقق النائينيقدس‌سره في بحث الشروط إلى صحة مثل هذا الشرط، وقد تقدّم الكلام عنه سابقاً.

وأمّا الأمر الثالث وهو دفع البنك مبلغاً محدّداً للمودع فيمكن تفسيره على أساس أنّه استثناء من شرط النتيجة المتقدّم، بمعنى أنّ البنك يشترط أن يكون مالكاً لما يزيد على المقدار الذي يدفعه إلى المودع من الربح ؛ لأنّ البنك يعلم أنّ الزيادة في الثمن التي تعبّر عن الربح هي أكثر عادةً من المقدار الذي يدفعه إلى المودعين، فهو يشترط بنحو شرط النتيجة أن يملك ما زاد على ذلك المقدار من الربح.

ويمكن التوصّل في المقام إلى فكرة الضمان عن طريقٍ آخر، وهو أن يتّفق البنك والمودع على تحويل المبلغ الشخصي الذي يملكه المودع إلى الكلّي في المعيّن، فمودع الألف دينارٍ يحوِّل مملوكه من هذه الألف الشخصية إلى ألفٍ كلّيةٍ في مجموع الأموال التي يملكها البنك(١) ، وهذا نظير ما تقدّم من صاحب الجواهرقدس‌سره في الملحق الثاني عند توجيهه للرواية الدالّة على اصطلاح الشريكين على أن يكون لأحدهما رأس المال والآخر له الربح وعليه التوى، فإنّهقدس‌سره ذكر في توجيه ذلك: أنّ أحد الشريكين يحوّل مملوكه إلى كلّي في المعيّن. ومحصّل ذلك: أنّه كما يمكن تحويل الكلّي في المعيّن إلى عينٍ شخصيةٍ، كذلك يمكن تحويل العين الشخصية إلى الكلّي في المعيّن إمّا بإرجاع ذلك إلى تمليك

____________________

(١) نقصد بالأموال التي يملكها البنك: أمواله الأصلية مع الودائع المتحرّكة التي لا يدفع عنها فوائد، فإنّ هذه الودائع تعتبر قروضاً دون لزوم محذور الربا ؛ لعدم دفع فوائد عنها. والودائع الثابتة التي يدفع البنك عنها فوائد تتحوّل إلى كلِّي في مجموع تلك الأموال. (المؤلّف قدس‌سره ).

٢٣٤

الخصوصية مع التحفّظ على أصل الكلّي، أو إلى نحوٍ من المبادلة.

وأثر هذا الاتّفاق على تحويل الوديعة إلى الكلّي في المعيّن: أن لا يتحمّل المودع شيئاً من التلف مادام يوجد في الباقي من أموال البنك ما يكون بإزاء ذلك الكلّي، كما تقتضيه قواعد ملكية الكلّي في المعيّن.

ويشترط المودع على البنك في اتّفاقهما الحفاظ على مالية الوديعة التي أصبحت كلّياً في المعيّن، بمعنى أنّ البنك يلتزم متى أراد إجراء المعاوضة على شيءٍ من الأموال التي في حوزته، والتي يملك المودع منها كلّياً في المعيّن، أن يقصد وقوع جزءٍ من الثمن بإزاء ذلك الكلّي لا يقلّ عن مالية ذلك الكلّي. فلو فرض أنّ البنك باع عشرة آلاف دينارٍ بخمسة آلافٍ بيعاً خاسراً، وكان للمودع كلّي ألف دينارٍ في المجموع، فمقتضى طبع التقسيط وإن كان هو شمول النقص له، ولكن بالإمكان إلزام البنك بالشرط بأن يقصد بيع كلّي ألف دينارٍ في العشرة بكلّي ألف دينارٍ في الخمسة، وبيع أشخاص المال في العشرة آلاف بأشخاص المال في الخمسة آلاف، وبذلك يبقى ملك المودع محفوظ المالية حتى مع وقوع الخسارة على البنك.

كما أنّ المودع يكون له على هذا الأساس حصّة من الربح ؛ لكونه مالكاً للكلّي في المعيّن من المال، ويمكن للبنك حينئذٍ أن يشترط عليه بنحو شرط النتيجة أن يكون مالكاً لِمَا زاد عن المقدار المقرّر إلى المودع من أرباح ذلك الكلّي في المعين.

ولا نريد بشرط النتيجة هذا - كما عرفت - أن ينتقل الثمن الواقع بإزاء الكلّي ابتداءً إلى البنك، بل ينتقل إليه في طول انتقاله إلى البنك.

وبهذا أمكن تصوير بقاء الودائع على ملك أصحابها وإخراجها عن كونها قروضاً. وبذلك تخرج الفوائد المدفوعة إلى المودعين عن كونها فوائد ربويةً على القرض.

٢٣٥

المحلق (٦)

[ التخريج الفقهي لتحصيل قيمة الشيك ]

يشرح هذا الملحق التخريجات الفقهية المتصوّرة لتحصيل قيمة الشيك (الصكّ) من غير البنك المسحوب عليه: أنّ شخصاً قد يكتب لدائنه شيكاً على بنكٍ فيأخذه الدائن ويذهب إلى بنكٍ آخر فيحصل منه على قيمته.إنّ المستفيد من الشيك الذي يتقدّم إلى بنكٍ غير البنك المسحوب عليه يعتبر مالكاً لقيمة الشيك في ذمّة البنك المسحوب عليه بموجب إحالة محرّر الشيك له على ذلك البنك. فحين يختار المستفيد أن يذهب إلى بنكٍ آخر لتحصيل قيمة الشيك بدلاً عن الذهاب إلى البنك المدين له المسحوب عليه الشيك ابتداء يمكن أن يفسّر ذلك فقهياً بعدّة وجوه:

منها: أن يكون طلبه من البنك تحصيل قيمة الشيك، بمعنى أنّه يطلب منه الاتّصال بالبنك المسحوب عليه الشيك وتكليفه بأن يحوّل عليه الدين الذي يملكه المستفيد في ذمّته، فتكون هناك حوالتان:

إحداهما: الحوالة التي يمثّلها الشيك، وهي حوالة ساحب الشيك على

٢٣٦

البنك المسحوب عليه.

والأخرى: حوالة البنك المسحوب عليه دائنه (أي المستفيد) على البنك المحصّل.

والبنك المحصّل يجوز له أن يأخذ عمولةً في هذا الفرض لقاء قبوله بالاتّصال بالبنك المسحوب عليه وتكليفه بالتحويل عليه.

ومنها: أن يكون طلب المستفيد من البنك تحصيل قيمة الشيك المسحوب على بنكٍ آخر، بمعنى أنّه يبيع الدين الذي يملكه بموجب الشيك في ذمّة البنك الآخر، والبنك المحصّل يشتري منه هذا الدين بقيمته نقداً، ويصبح هو بدوره دائناً للبنك المسحوب عليه الشيك بمقدار قيمته.

وفي هذا الفرض قد يقال: إنّ البنك المحصّل ليس له أن يأخذ من المستفيد بالشيك أجرة على تحصيل قيمة الشيك من البنك المسحوب عليه ذلك الشيك ؛ لأنّه بعد أن يشتري الدين من المستفيد يصبح هو المالك للدين، فيُحصِّله لنفسه لا للمستفيد، ولا معنى عندئذٍ لمطالبة المستفيد (أي بائع الدين) باُجرةٍ على ذلك.

وقد تصحّح العمولة في هذا الفرض بعد إرجاعه إلى بيع الدين، بإنقاص مقدار العمولة من الثمن الذي يبيع المستفيد دينه به، أو بإضافة هذا المقدار إلى الثمن الذي يبيعه، بمعنى أنّه يبيع من البنك المحصّل دينه ومقدار العمولة بثمنٍ قدره قيمة الشيك.

ولكنّ ذلك يتوقّف على جواز بيع الدين بأقلّ منه، ولا يصحّ بناءً على عدم الجواز. غير أنّه مع البناء على عدم جواز بيع الدين بأقلّ منه يمكن تصحيح العمولة من دون إرجاع البيع المفروض إلى بيع بأقلّ منه ؛ وذلك بأن يفرض أنّ البنك المشتري للدين من صاحب الشيك يشترط عليه في عقد البيع أن يحصّل له الدين من البنك المسحوب عليه، وهذا لا يجعل شراءه للدين من شراء الدين

٢٣٧

بأقلّ منه. ونظراً إلى أنّ بائع الدين الذي بيده الشيك لا يريد أن يحصّل الدين بنفسه (أي قيمة الشيك) من البنك المسحوب عليه، وإلاّ لذهب إليه ابتداءً، فله أن يطالب البنك المشتري للدين منه بأن يرفع يده عن المطالبة بالشرط المذكور لقاء مالٍ معيَّن.

ومنها : أن يكون طلب المستفيد بالشيك من البنك تحصيل قيمة الشيك المسحوب على بنكٍ آخر مجرّد توكيلٍ له في قبض الدين الذي يملكه المستفيد من الشيك في ذمّة البنك المسحوب عليه. وفي هذا الفرض يجوز للبنك قبول هذا التوكيل في القبض لقاء أجرة معيّنة، ولا يصبح البنك المطالب بتحصيل الشيك مديناً للمستفيد كما هو الحال في الوجه الأوّل، ولا دائناً للبنك المسحوب عليه كما هو الحال في الوجه الثاني، بل يبقى الدائن والمدين (وهما المستفيد من الشيك والبنك المسحوب عليه) على حالهما، ويقوم البنك المحصّل بدور الوسيط بينهما لتسلّم المبلغ نقداً من المدين.

وإذا كان المستفيد قد تسلّم مبلغاً يساوي قيمة الشيك من البنك المحصّل قبل أن يحصل هذا البنك على قيمة الشيك فيمكن أن يعتبر هذا المبلغ إقراضاً من البنك المحصّل للمستفيد، ويستوفي البنك المحصّل دينه هذا من قيمة الشيك التي يحصل عليه من البنك المسحوب عليه، ولا يعتبر أخذ البنك المحصّل للعمولة فائدةً على ذلك القرض لكي يصبح ربوياً، وإنمّا هي أجرة على تحصيل الدين لصاحب الشيك، كما عرفت.

وهذا التخريج الفقهي يجعل عملية التحصيل مرتبطةً بتسلّم المبلغ نقداً من البنك المسحوب عليه ؛ لأنّ البنك المحصّل ليس إلاّ وكيلاً في القبض، وهو خلاف ما يجري غالباً في واقع الأمر.

ومنها : أن يفترض تكوّن عملية التحصيل من إقراضِ وحوالة، بمعنى أنّ

٢٣٨

المستفيد من الشيك يتّصل ببنكٍ غير البنك المسحوب عليه ذلك الشيك، فيقترض منه ما يساوي قيمة الشيك ويصبح المستفيد بذلك مديناً بهذه القيمة للبنك الذي اتّصل به، فيحوّله حوالةً على البنك المسحوب عليه، فيكون من حوالة المدين دائنه على مدينه، وهي حوالة صحيحة شرعاً. وأخذ البنك للعمولة في هذا الفرض جائز ؛ لأنّه بإقراضه لصاحب الشيك أصبح دائناً له، وصاحب الشيك يريد أن يُحيله على البنك المسحوب عليه، وهو (أي البنك المقرِض) بوصفه دائناً غير ملزمٍ بقبول هذه الحوالة، بل له أن يطالب صاحب الشيك بالوفاء نقداً، فيمكن والحالة هذه أن يجعل صاحب الشيك له عمولةً ومبلغاً خاصّاً لقاء تنازله عن المطالبة بالوفاء النقدي وقبوله بالتحويل، وليس هذا من قبيل ما يأخذه الدائن بإزاء إبقاء الدين وتأجيله ليكون رباً، فإنّا نفرض أنّ الدائن في المقام لا يطالب بمالٍ بإزاء بقاء الدين في ذمّة المدين، وإنمّا يطالب بمالٍ لكي يقبل بانتقال هذا الدين من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخرى بالحوالة.

وهكذا يتّضح ممّا حقّقناه أنّ عملية تحصيل الشيك من بنكٍ غير البنك المسحوب عليه ذلك الشيك يمكن تفسيرها فقهياً بأحد هذه الوجوه الأربعة، وعلى جميع هذه الوجوه يمكن للبنك من الناحية الفقهية أخذ العمولة.

وبما حقّقناه ظهر حال ما أفاده بعض الأعلام(١) من أنّ تحصيل الشيك في محلّ الكلام فرع من فروع الحوالة ؛ لأنّ حامل الصكّ يحوّل من يشتريه (أي يحوّل البنك المحصّل) بتسلّم المبلغ المذكور من البنك المسحوب عليه فتجري على ذلك أحكام الحوالة. وقد أختار في الحوالة أنّ البنك لا يجوز له أن يأخذ عمولةً في حالة أخذ شخصٍ منه مالاً وتحويله له على جهةٍ أخرى لتسلّم المبلغ

____________________

(١) بحوث فقهية: ١١٦.

٢٣٩

منه ؛ لأنّ البنك في هذه الحالة يكون دائناً فيصبح أخذه عمولةً من الزيادة الربوية.

ولا يعلم ما هو نوع التخريج الفقهي الذي كان يتصوّره لعملية تحصيل الشيك حين افتراض أنّ البنك المحصّل يشتري الشيك من صاحبه وأنّ صاحب الشيك يحوّله على البنك المسحوب عليه.

فإن كان يتصوّر أنّ صاحب الشيك يبيع الشيك فهذا معناه أنّه يبيع الدين الذي يملكه في ذمّة البنك المسحوب عليه ؛ لأنّ الشيك بما هو ليس له قيمة مالية. وحينئذٍ فيملك البنك بموجب عقد البيع هذا الدين الذي كان صاحب الشيك يملكه في ذمّة البنك المسحوب عليه. ولا مجال لافتراض الحوالة على هذا التقدير ؛ لأنّ الدين الثابت في ذمّة البنك المسحوب عليه يملكه البنك المحصّل بالشراء، لا بالحوالة، فما معنى افتراض الحوالة بعد افتراض الشراء ؟

وإن كان يتصوّر أنّ صاحب الشيك يقترض من البنك مالاً ثمّ يحوّله على البنك المسحوب عليه الشيك، فليس هناك شراء للشيك، بل إقراض من البنك ثمّ تحويله من المقترض.

وكيف ما كان التخريج الفقهي لعملية التحصيل فقد عرفت أنّ أخذ البنك للعمولة من صاحب الشيك يمكن تبريره من الناحية الفقهية على جميع التخريجات المتقدّمة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273