أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92508
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92508 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يطرح أمامنا هنا موضوعان جديدان:

أ ـ إنَّ المعلولات وفق أصالة الوجود من سنخ الوجود، وذات وجوب غيري، ولا بدّ أن يكون لها نحو من الإمكان الذاتي ؛ لأنَّ لازم الوجوب الغيري هو الإمكان الذاتي. ولكن الإمكان الذاتي شأن من شؤون الماهية والضرورة شأن من شؤون الوجود كما تقدّم، فكيف يمكن تصور الإمكان الذاتي للوجودات ؟

للوجودات إمكان ذاتي وحاجة بالنسبة إلى عللها، لكنّ هذا الإمكان الذاتي يختلف عن الإمكان الذي يفرض للماهيات ؛ لأنَّ الإمكان الذاتي للماهيات يعني لا اقتضائية الماهية بالنسبة للوجود والعدم، أو بمعنى تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم، وقد لاحظنا أنَّ هذا المفهوم بالنسبة إلى الوجودات خاطئ. فالإمكان الذاتي للوجودات يعني أنَّ حقيقة ذات هذه الوجودات عين المعلولية وعين الحاجة والتعلّق بالعلة، وليس لها حيثية سوى حيثية الإيجاد وحيثية كونها فعلاً، وارتباطها بعللها عين ذاتها.

إنَّ المعلولات وجودات وليست ماهيّات، والحقيقة الوجودية للمعلول عين الملعولية، والحاجة والارتباط بالعلّة عين ذاتها، هذه الأفكار من أعمق الأفكار البشرية في باب العلة والمعلول. وهي أفكار تنبثق من نظرية أصالة الوجود والتشكيك الوجودي، وقد أثبتت ببراهين منطقية متقنة. وسوف نتناول هذا الموضوع بشكلٍ واضحٍ، عبر البحث المشبع حول حاجة المعلول إلى العلة بقاءً في المقالة التاسعة. وإمكان الوجودات بالمعنى المتقدّم هو عين ما اصطلح عليه لأوّل مرة صدر المتألهين " الإمكان الفقري ".

ب ـ انطلاقا من نظرية أصالة الوجود ( وإنَّ الموجودية والعلية والمعلولية جميعها من شئون الوجود، والماهية خارجة عن إطار الموجودية

١٢١

وحريم العلية والمعلولية الحقيقية، وليس لها صلاحية الموجودية والعلية والمعلولية إلاّ مجازاً واعتباراً ) سوف يختلف حتماً مفهوم الإمكان الذاتي للماهية عمّا افترضه السلف من الحكماء على أساس أصالة الماهية أو مع عدم الإلتفات إلى أصالتها.

لقد قامت فرضية السلف من الحكماء على أنَّ للماهية واقعاً وحقيقة صلاحية أن تكون موجوداً في الخارج، لكن نسبة ذات الماهية إلى وجودها في الواقع أو عدم وجودها نسبة " اللاإقتضاء ". أي أنَّ الماهية لا يمكنها بذاتها أن تكون موجودة أو معدومة، بل وجود أو عدم الماهية واقعاً وحقيقة تابع لعلة خارجية، وهي العلة التي توجدها أو تعدمها، ومن هنا فالماهوية تلازم المعلولية، والماهية بحسب ذاتها لا تقتضي الوجود أو العدم، وإنّما توجد أو تعدم تبعاً للعلّة، وهذا أمر حقيقي وواقعي، ولا يرتبط باعتبار الأذهان وعدم اعتبارها.

أمّا على أساس أصالة الوجود واعتبارية الماهية فينبغي سحب اليد عن الفرضية المتقدّمة، إذ ليس للماهية صلاحية الموجودية والمعلولية ـ بناء على أصالة الوجود ـ لا بذاتها، ولا تبعاً للعلة. بل الوجود وحده له صلاحية الموجودية والمعلولية الحقيقية. وإذا وسمنا الماهية بالموجودية والمعلولية فإنّما يكون ذلك مجازاً واعتباراً، والماهية في هذه الموجودية والمعلولية فإنّما يكون ذلك مجازاً واعتباراً، والماهية في هذه الموجودية والمعلولية المجازية تابعة للوجود، الذي تنتزع منه، وليست تابعة لأمر خارجي ( علّة ). ومن هنا فالماهية موجودة، بالتبع، أي تبع ذلك الوجود الذي تنتزع منه، ومعلولة بتبع معلولية ذلك الوجود، أي أنَّ صفة الموجودية والمعلولية المجازية والاعتبارية يصح إطلاقها على الماهية من زاوية الوجود، الذي يتّصف بهذه الصفات حقيقةً، وبغض النظر عن أي اعتبار. فإذا فرضنا أنَّ

١٢٢

ذلك الوجود الذي هو منشأ انتزاع الماهية ليس معلولاً، فالماهية بتبعه لا معلولية لها أيضاً. وعلى أساس أصالة الوجود تكون الماهية أمراً ذهنياً، وموجوديتها اعتبار ذهني أيضاً، ومن ثمَّ يكون إمكان موجوديّتها ومعدوميّتها مرتبطاً بمرحلة الذهن ( لا الواقع )، وهذا الإمكان يعني أنَّ الماهية بذاتها ومع قطع النظر عن اعتبار الذهن ليس لها صلاحية الاتّصاف بالموجودية والمعدومية.

إذن فعلى أساس نظرية القدماء وعلى أساس نظرية أصالة الوجود يعني الإمكان الذاتي للماهية " لا اقتضائية " ذات الماهية بالنسبة للموجودية والمعدومية، وأنَّ الماهية بذاتها لا تمتلك صلاحية الموجودية. إنَّما يفترق اتجاه القدماء بإصراره على النظر إلى الواقع، ويقصدون من أنَّ الماهية بذاتها لا يمكن أن تكون موجودة أنَّها لا يمكن أن تتوفّر على الوجود في الواقع بقطع النظر عن العلة الخارجية، لكنّها مع فرض العلّة الخارجية ستكون موجودة في الواقع ؛ أما على أساس أصالة الوجود فالنظر إلى الاعتبار الذهني، فمعنى أنَّ الماهية بذاتها لا يمكن أن تكون موجودة، أنَّها مع غض النظر عن اعتبار الذهن لا يمكن أن تكون موجودة، وأنَّها توجد في اعتبار الذهن. ومن هنا فالإمكان الذاتي للماهية بحسب نظرية السلف من الحكماء يلازم معلولية الماهية، لكنه لا يلازمها بناءً على أصالة الوجود. وبعبارة أخرى أنَّ نظرية القدماء في الإمكان الذاتي للماهية تنصب على حاجة الماهية إلى حيثية تعليلية وواسطة في الثبوت، لكن الإمكان الذاتي للماهية على أساس أصالة الوجود يقوم على أساس الحاجة إلى حيثية تقييدية وواسطة في العروض. ومع غض النظر عن الحيثية التقييدية والواسطة في العروض للماهية ـ بناءً على أصالة الوجود ـ لا معنى للحديث عن

١٢٣

الموجودية أو المعدومية أو الحاجة إلى حيثية تعليلية أو عدم الحاجة لها، أمّا مع أخذ الحيثية التقييدية والواسطة في العروض بنظر الاعتبار يصبح موضوع حاجة الماهية إلى الحيثية التعليلية وعدم الحاجة إليها تابع لتلك الواسطة، التي هي الوجود، أي إذا كان الوجود معللاً فالماهية معللة بالعرض، وإذا كان الوجود غير معلل فالماهية أيضاً غير معللة بالعرض، والماهية بذاتها ليست معللة، وليست مستغنية عن العلة.

من هنا يتّضح حجم تأثير نظرية أصالة الوجود على مصير البحث في الضرورة والإمكان ؛ إذ اتّضح في ضوء ما تقدّم أنَّ الضرورة لا ترتبط بالماهية بأي معنى من المعاني ( لا بالذات ولا بالغير )، وهي خالصة للوجود. واتّضح أيضاً أنَّ هناك لوناً من الإمكان الذاتي في الوجودات يختلف عن الإمكان الذاتي للماهيات. واتضح أنَّ الإمكان الذاتي للماهية لا معنى له على أساس فرضية السلف من الحكماء. واتّضح أيضاً خطأ أساس نظرية السلف في باب منشأ الضرورة والإمكان والامتناع، حيث ذهبوا إلى أنَّ كل واحدة من هذه المفاهيم الثلاثة تختص ببعض الماهيات ؛ حيث اتّضح أنَّ الضرورة شأن الوجود والإمكان شأن الماهية والامتناع شأن العدم.

إنَّ فكرة رجوع الضرورة الذاتية إلى الوجود طرحت قبل نظرية أصالة الوجود في موضوع نفي الماهية عن ذات واجب الوجود. لكن فكرة ارتباط الوجوب الغيري بالوجود وأنَّه شأن من شؤون الوجود، وإنَّ الوجودات ذات إمكان فقري فهذه الأفكار طرحت انطلاقاً من نظرية أصالة الوجود، واُستلهمت من نصوص صدر المتألهين.

أثبات خطأ نظرية السلف في الإمكان الذاتي للماهيات وطرح المفهوم السليم لفكرة الإمكان الذاتي، وإنَّ الوجوب والإمكان والامتناع صفات

١٢٤

للوجود والماهية والعدم على الترتيب، فهذه الأفكار تطرح لأوّل مرة في هذا الكتاب، وهي مستنبطة من نظرية أصالة الوجود.

بينا يتغير مفهوم الإمكان الذاتي للماهية على أساس أصالة الوجود عن المفهوم الذي فرضه السلف، فتطرح فكرة رفيعة يتغير في ضوئها نهج الاستدلال في كثير من القضايا، وهذه الفكرة بقيت غامضة على فارس نظرية أصالة الوجود " صدر المتألهين " أيضاً، ومن هنا وقع في كتبه، خصوصاً كتاب الأسفار، في إشكاليات عويصة حينما عالج الإمكان الذاتي، وبقيت إشكالات بدون علاج، وقد أدى إغفال هذه الفكرة إلى متابعة بعض الأفكار الخاطئة، وإلى اعترافه في مواضع أخرى بخطئه، وطرح في بعض المجالات الأخرى وجهة نظره بنحو آخر، ولا أريد هنا الإطالة، ونكتفي بهذه الإشارة.

هل يُعدم الموجود ؟

على أساس ما تقدّم في هذه المقالة من أنَّ الضرورة سمة الوجود، جاء الاستدلال في متن هذه المقالة على الصورة التالية: " لا يمكن إطلاقاً أن يقبل واقع الوجود ما يقابله، أي زوال واقعه، ويصبح الواقع لا واقعاً. أي لا يمكن أن يسلب الواقع عن ذاته، رغم جواز وقوع السلب عليه بالنسبة إلى غير مورد ذاته ". وهذه الفكرة تقدّمت في المقالة السابعة في النص التالي: " إنَّ واقع الوجود لا يقبل ما يقابله، أي العدم بالذات، ولا يتّصف به إطلاقاً، أي أنَّ الوجود لا يصبح عدما ". يطرح هنا استفهامان مهمّان لا يمكن إغفالهما، والإجابة على هذين الاستفهامين تتطلّب عمقاً خاصاً في مجموعة قضايا منطقية وفلسفية. والسؤالان على النحو التالي:

١٢٥

السؤال الأوّل: لما كانت الموجودية خصوصية ذاتية للوجود، ولا تسلب عنه، يلزم أن تكون جميع الوجودات أزليةً وأبدية ؛ لأنَّ الفرض هو أنَّ العدم لا يطرأ على الوجود، وحينما لا يطرأ العدم على شيء يلزم أن يكون دائمياً وأبدياً. إذن يلزم أن لا يعدم أي وجود، ويكون كل وجود أبديا. ويلزم من كون الوجودات أبدية ودائمية أن تكون الماهيات أبدية ودائمية أيضاً ؛ لأنَّ الماهية تابعة للوجود، والشيء الذي يكون وجوده باقياً يلزم أن تكون ماهيته باقية أيضاً، إذن يلزم أن لا يعدم أي موجود وكل شيء يكون أبدياً، ويلزم من ذلك نفي الحركة والكون والفساد، وغير خفي أنَّ هذه النتيجة تصطدم بالعقل والحس وتخالفهما.

الإجابة على هذه الإشكالية تتطلّب البحث في أطراف الموضوع الذي وعدنا في المقالة السابعة ببحثه وإيضاحه بشكل أفضل وهو الإجابة على هذا الاستفهام: هل يمكن أن يكون الموجود معدوماً أو المعدوم موجوداً ؟!

هناك طريقان للاستدلال على أنَّ أي شيء موجود لا يعدم، وإنَّ أي شيء معدوم لا يوجد: الطريق العلمي والتجريبي، والطريق الفلسفي والعقلي. الطريق العلمي والتجريبي هو الطريق الذي سلكه في القرن الثامن عشر عالم الكيمياء الفرنسي الشهيرلافوازييه . لقد وصل عبر تجاربه وتحقيقاته الكيميائية إلى أن مجموع مواد هذا العالم، التي تشكّل المادة الأولية لبناء هرم الوجود ثابتة لا تتغيّر وجميع ما يبدو لنا من وجود وعدم وحدوث وفناء ليس وجوداً وعدماً واقعياً وحدوثاً وفناء حقيقياً، بل هي صور وكيفيات مختلفة لتحليل وتركيب الأنواع المختلفة ومن الارتباطات التي تحكم المواد الأساسية للعالم، إذن ( ليس هناك معدوم يوجد في هذه الدنيا وليس هناك موجود يعدم ).

١٢٦

أمّا الطريق الفلسفي العقلي فيقول: إذا عُدِم الموجود أو وجد المعدوم يلزم تبديل الوجود بالعدم أو العدم بالوجود، وهو محال لاستلزامه التناقض. لكن السؤال طرح إشكالية الموضوع الفلسفية بطراز آخر في ضوء معطيات البحث المتقدّمة.

من الواضح أنَّ كلا الطريقين يصل إلى قانون واحد ونتيجة واحدة، وهي أنَّ الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد، وإنَّ كل شيء أزلي وأبدي.

أمّا الطريق الأوّل الذي طرح لأوّل مرّة من قبللافوازييه فقد توجّه إليه النقد من زاويتين، الزاوية الأولى حيث زلزلت التجارب وقراءات العلماء اللاحقة أساس بقاء المادة، وأثبتت أنَّ فرضية عدم فناء الأجسام والمواد لا صحّة لها، وإذا فرضنا أنَّنا مضطرون للقول بوجود ( هيولى أولى ) لموجودات العالم، وأطلقنا عليها مصطلح مادة المواد فهي على درجات أكثر بساطة من الأجرام والمواد التي فرضهالافوازييه ، وفرض هذه الهيولى " ومادة المواد لا يتنافى مع وجود وعدم وحدوث وفناء الأشياء حقيقة وواقعاً. وسوف نتناول في المقالة العاشرة التطوّر التاريخي لنظرية الهيولى الأُولى ( مادة المواد )، وسنتناول هنا البحث حول قانونلافوازييه في ضوء معطيات العلم المعاصر.

ثمّ لو فرضنا أنَّنا آمنا بأنَّ الأجرام والمواد التي يفترضهالافوازييه ثابتة وأبدية فلا يمكننا مع ذلك التسليم بدعواه، حيث إنّها أعم من الدليل ؛ لأنَّ دليله التجريبي يثبت في أحسن الحالات أنَّ مواد وأجرام العالم ثابتة وأبدية، بينا يدعيلافوازييه ما هو أعمّ من المواد والأجرام، ويشمل كلّ شيء أي أنَّلافوازييه بدل أن يقول إنَّ أجرام هذا العالم ثابتة ولا تتغيّر قال إنَّ كل شيء ثابت ولا يتغيّر، وبدل أن يطرح قانوناً علمياً في الكيمياء طرح أصلاً فلسفياً.

١٢٧

أمّا الطريق الثاني فرغم بساطة وسهولة الإجابة المطروحة للوهلة الأولى، لكنّ العثور على إجابة دقيقة وعارية من الخلل أمر مقرون بمصاعب كثيرة. والجواب الإجمالي الذي ينبغي توجيهه للإشكال هو: نعم، إنَّ الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد، ولكن لا يلزم من ذلك أزلية وأبدية الأشياء ونفي الحركة والتغيير والكون والفساد، بل صحّة هذا القانون من زاوية النظر الفلسفي لا تتنافى مع صحة نظرية التغييرات الذاتية والجوهرية للأشياء، وأنَّ كل شيء في عالم الطبيعة في حالة تغير دائم، وإنَّ ذات أي شيء لا تبقى في لحظتين من الزمان على حال واحد. من هنا فالعدم نسبي دائماً، وكل شيء يوجد في لحظة من اللحظات ويعدم في لحظة أخرى لا يعني أنَّ عدمه يتم واقعاً في اللحظة اللاحقة، أي إنّ العدم في اللحظات اللاحقة لا يطرأ بحسب الواقع على الشخصية الواقعية لذلك الشيء.

أمّا الجواب التفصيلي على الاستفهام المتقدم فيستدعي بيان حكم آخر من أحكام الوجود، وهو ( مرتبة كلّ وجود مقومة لذلك الوجود ). إيضاح ذلك: الوجودات علل ومعلولات، والعلّة لها تقدّم ذاتي على المعلول، وبعض الوجودات متقدّمة زماناً على بعضها الآخر أو مقارنة أو متأخرة عن بعضها الآخر، ومن ثمّ فكلّ وجود يشغل مرتبة من المراتب الطولية للعِلّيّة أو الزمانية. نريد أن نرى هنا ما هي نسبة كلّ وجود إلى المرتبة التي هو فيها ؟ فالوجود الذي في مرتبة العلية أو المعلولية ما هي نسبته للمرتبة التي هو فيها، فهل هذه المرتبة خارجة عن حقيقة ذلك الوجود أم لا ؟ أي إذا فرضنا أنَّ ذلك الوجود لا يشغل تلك المرتبة فهل يبقى هو ذاته ولم يسلب منه إلاّ أمر خارجي، أم سوف لا يبقى هو هو، وهوية ذلك الوجود عين مرتبته ؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى المراتب الزمانية، فالحادثة (س) تقع في زمن معين، ما

١٢٨

هي نسبة هذه الحادثة إلى المرتبة الزمانية التي تقع فيها ؟ فإذا فرضنا أنَّ هذه الحادثة وقعت في زمان الحادثة التي قبلها، أو في زمان الحادثة التي وقعت بعدها، فهل يسلب منها أحد عوارضها، وهو وقوعها في زمان معين، أم سوف لا تبقى هي هي، وإنَّ الزمان ليس خارجاً عن هوية الحوادث التي تقع فيه، أي أنَّ زمان كل وجود مقوم لذات ذلك الوجود.

إِنَّ إحدى أهم النتائج التي تستنتج من نظرية ( أصالة الوجود ) وأصالة ( التشكيك الوجودي ) هي: إنَّ مرتبة كل وجود من الوجودات مقوّمة لذاته، وحتى بالنسبة إلى مراتب الزمان أيضاً، فالزمان ليس خارجاً عن واقع هوية وتشخّص الموجودات.

وعادة يحسبون الزمان بمثابة إناء لحقيقة وجود الموجودات الزمانية، أي يفترضون أنَّ الزمان موجود مستقل والزمانيات موجودات أخرى، فيحسبون أنَّ كل موجودٍ زماني في مقطع من مقاطع الزمان يلازمهُ موجود آخر هو الزمان. وهذا الافتراض يشبه افتراض الأشياء في صندوق أو في غرفة، مع فارقٍ هو أنَّ إناء الزمان يحتوي على موجوداته بشكل طولي، بينا الصندوق والغرفة تحتويها بشكل عرضي. فالموجودات الطولية في الزمان يتبع بعضها بعضاً، نظير حلقات السلسلة التي يتبعُ بعضها بعضاً ؛ وحيث إنَّ الزمانَ موجود والزمانيات موجودات أخرى فلا مانع من أن تقع الحادثةُ الزمانية الواحدة في زمانين مع حفظ هويتها وعينيتها، نظير الكرة التي تقع في الزاوية اليمنى من الصندوق مره وتقع مرةً أخرى في الزاوية اليسرى، أو نظير الحلقة الحمراء في سلسلةٍ من السلاسل، التي تقع في أول السلسة مرة وفي آخر السلسلة مرةً أخرى.

١٢٩

إنَّ هذا اللون من التصور للزمان والزمانيات لون من التصور الساذج، الذي يتوفّر عليه سواد الناس. والحق أنَّ الزمان ليس له هوية مستقلة عن الزمانيات، وبعبارةٍ أخرى أنَّ الزمانيات ليست لها هوية خارج الزمان، وكل موجود من الموجودات الزمانية هو مرتبة من مراتب الحركة والزمان. وفرض موجودٍ في غير تلك المرتبة يطابق تماماً افتراض أنَّ ذلك الموجود مغاير لهذا الموجود. وسوف نتناول هذا الموضوع في المقالة العاشرة، حينما نبحث القوةَ والفعلَ والحركةَ والزمان، وسنطرح النظريات الحديثةَ التي تؤكّد هذه النظرية. ونكتفي هنا بالإيضاح التالي:

لا ينبغي تشبيه مراتب الزمان بحلقات السلسلة المتتابعة أو بالأشياء التي تشغل الصندوق أو الغرفة. إنَّما الذي يشبه الزمان من هذه الزواية هو الأعداد ومراتبها.

إنَّ الأعداد من رغم واحد إلى ما لا نهاية تشكل مراتب، وكلّ عددٍ يشغل مرتبة من هذه المراتب، ومن ثمَّ يتقدم على بعضها ويتأخّر عن البعض الآخر. مثلاً العدد خمسة يشغل مرتبة بين العدد أربعة وستة، والعدد ثمانية يشغل مرتبة بين العدد سبعة وتسعة وهكذا... ونأتي الآن لنرى ما هي النسبة بين كلّ عددٍ وبين المرتبة التي هو فيها ؟ فهل مرتبة كل عددٍ خارجة عن حقيقة ذلك العدد، أم ليست خارجة، بل مرتبة كل عددٍ مقومة لذلك العدد ؟ وبعبارةٍ أخرى إذا فرضنا أنَّ العددَ خمسة يشغل مرتبة العدد ثمانية أو العكس فهل يبقى ذلك العدد هو ذاته، ولن يطرأ التغيير إلاّ على مكانه ومرتبته، أم أنَّ العدد لا يبقى هو هو، أنَّ العدد خمسة ليس هو العدد خمسة حينما يشغل مرتبة العدد ثمانية، والعكس كذلك.

١٣٠

من الواضح أنَّه لا يمكن فرض أي عددٍ في غير مرتبته، مع حفظ هويّته وذاته. والموجودات الزمانية بالنسبة إلى مراتب الزمان تطابق العدد من هذه الزاوية، مثلاً: عاش الشاعر الإيراني سعدي الشيرازي في مقطع من الزمان، ونحن نعيش في مقطع من الزمان اللاحق، يبدو للوهلة الأُولى أن لا مانع من أن يكون سعدي في زماننا أو أن نكون في زمان سعدي ؛ ولكن إذا فهمنا حقيقة أصالة الوجود بشكل جيد، وفهمنا هذه الفكرة ( كلّ مرتبةٍ من الوجود مقومة لذات ذلك الوجود ) وآمنا بأنَّ الزمان ليس خارجاً عن حقيقة ذات الوجودات الزمانية، فسوف نفهم جيداً أنَّ هذا التصوّر يشبه تماماً القول بعدم وجود مانع من أن يكون العدد خمسة محل العدد ثمانية أو العكس، أو عدم وجود المانع من أن يكون الأمس محل اليوم أو العكس، أي أن يكون هذا المقطع الزماني محل ذلك المقطع الزماني أو العكس.

ترجع سهولة التصديق بأنَّ المرتبة مقوّمة في الأعداد، وصعوبة التصديق بذلك في الوجودات، بل غرابة التصديق بها في الوجودات، إلى أن كون المرتبة مقوّمة في الأعداد يرتبط بماهية الأعداد، بينما يرتبط كون المرتبة مقوّمة في الزمان أو العلّة والمعلول إلى وجودات الأشياء وليست إلى ماهية الأشياء، أي أنّ مراتب الزمان أو العلّة والمعلول ليست مقوّمةً لماهية الأشياء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالأذهان تألف الماهيات لا الوجودات، وإنَّما تذعن بأصالة الوجود واعتبارية الماهية بعد آلاف التحليلات الفلسفية، ثمّ تتّضح فكرة أنَّ المرتبة مقومة في الوجودات، وتتّضح كذلك حقيقة الزمان. ومن هنا تكون معرفة مقومات ماهيات الأشياء يسيرة، خلافاً لمعرفة مقوّمات الوجودات.

١٣١

فهنا يثبت مرّة أُخرى أنَّنا ما لم نتعرّف على الذهن واعتباراته وخصوصياته وأسلوب صناعته للأفكار لا يمكننا أن نتوّفر على الفلسفة.

على كلّ حال اتّضحت الإجابة على الاستفهام الأوّل بعد هذه المقدّمة ؛ إذ بعد أن اتّضح أنَّ زمان كلّ وجود مقوم لذلك الوجود يتّضح أنَّ الوجود الذي يشغل مرتبة من مراتب الزمان ليس هو الوجود الذي يشغل مرتبةً أخرى. بل ذلك الوجود بالمرتبة الثانية يطرأ عليه العدم، لأنَّ هوية ذلك الوجود رهن الزمان الذي يشغله، وإذا أردنا أن نفرض ذلك الوجود بمرتبةٍ أخرى من الزمان فليس هو هو، كما أنَّ لذلك الوجود الذي احتل مرتبة من الزمان ابتداءً ووسطاً وانتهاءً، أي أنّه وجود ممتد بامتداد الزمان، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أيَّ جزءٍ مفروض من ذلك الوجود بالنسبة إلى أي جزء مفروضٍ من الزمان الذي يتطابق معه فإن ذلك الجزء من الزمان يقوّم ذلك الجزء من الوجود، ولا يقوّم الجزء القبلي ولا الجزء البعدي. وإذا طرأ العدم على وجودٍ من الوجودات الزمانية فيجب أن يرتفع ذلك الوجود عن زمانه، وهذا أمر محال.

إذن اتّضح أنَّ لازم الموجودية سمةُ ضرورة الوجود، وأن العدم لا يطرأ على الوجود إطلاقاً، أو كما جاء في متن المقالة السابعة ويأتي أيضاً في هذه المقالة: " أنَّ واقع وجودِ ماهيةٍٍ لا يصيرُ لا واقعاً إطلاقاً ". وهذا لا يعني أنَّ الوجود يجب أن يكون أزلياً وأبدياً، وبعبارة أخرى أنَّ قانون ( الموجود لا يعدم إطلاقاً والمعدوم لا يوجد إطلاقاً ) قانون صحيح تماماً، لكن تفسيرَ هذا القانون لا يعني أنَّ كل موجود أزلي الوجود وأبدي الوجود، وكلّ معدوم أزلي العدم وأبدي العدم. بل يلزم منه ـ كما جاء في المقالة السابعة ـ فقط أن نقول في مورد الشجرة مثلاً: إنَّ شجرةَ الصفصاف المعيّنة، التي وجدت

١٣٢

في زمانٍ معيّن وأرضٍ وهواءٍ وماءٍ معين لا يمكن أن نفترض خلوّ وجودها من تلك الفترة الزمانية المعينة على الإطلاق.

السؤال الثاني: انطلاقاً من أنَّ الموجودية سمة ذاتية للوجود ويمتنع سلبها عنه يلزم أن تكون جميع الوجودات واجبة الوجود بالذات، أي لزم أن يكون كل وجود واجبَ الوجود، وبناءً على أصالة الوجود ليس هناك شيء سوى الوجود حقيقةً، والماهيات اعتبارات ذهنية وهي تابعة للوجود والعدم والوجوب الذاتي والغيري والعلية والمعلولية والقدم والحدوث، ومن هنا يلزم أن يكون كلّ موجودٍ واجب الوجود، وهذه النتيجة مضافاً إلى أنّها خلاف إمكان الأشياء، الذي نستنتجه من حدوث الأشياء في عالم الحسّ، وخلاف مقتضى قانون العلّية العام، الذي يربط الموجودات بنظام أساس لكل العلوم، فإنّها خلاف مدّعى هذه المقالة أيضاً، حيث تقول إنَّ جميع الوجودات سوى وجود الباري واجبة بالغير ؛ إذ بناءً على ما تقدم فإِنَّ الموجوديةَ سمةُ ذاتية لكلّ وجودٍ وكلُ وجودٍ موجود بالذات، وله وجوب ذاتي، ولا يمكن أن يكون واجباً بالغير.

هذا الاستفهام أو الإشكالية تختلف عن السؤال الأوّل. كان السؤال الأوّل هو أنَّ لازم عدم طرو العدم على الوجود قدمُ وأزليةُ وأبديةُ الأشياء، أمّا هذه الإشكالية فتُقرر أنَّ لازم عدمَ طروّ العدم على الوجود نفي الإمكان الذاتي للأشياء ووجوبها الذاتي، ولا يخفى على أهل الاختصاص عدم وجود الملازمة بين الأزلية والأبدية والوجوب الذاتي، ورغم أنَّ لازم الوجوب الذاتي الأزلية والأبدية، لكن لازم الأزلية والأبدية ليس الوجوب الذاتي.

إنَّ هذا الاستفهام معضلة وإشكالية مهمّة، رغم أنَّه لم يطرح في كتب الفلسفة بشكلٍ مباشر، لكن البحثَ في الدراسات الفلسفية حينما يصل إلى هذه

١٣٣

الإشكالية يضطرب الفلاسفة اضطراباً شديداً. وهذه الإشكالية هي التي اعتمدها العرفاء لإلزام الفلاسفة من منطلق البرهان العقلي بما يدَّعونه على أساس الكشف والشهود في باب وحدة الوجود ونفي أيٍّ لونٍ من الكثرة، حيث أنَّ الوجود يساوي الوجوب الذاتي والوجوب الذاتي يساوي الوحدة إذن فالوجود يساوي الوحدة. وهذه الإشكالية أيضاً إحدى الجهات التي أدّت بشيخ الإشراق إلى القول باعتبارية الوجود، ودعوى أنَّ الوجود إذا كان واقعاً عينياً يلزم أن يكون واجباً بالذات ويمتنع عليه العدم.

لكن القارئ المحترم إذا أخذ بنظر اعتباره ما تقدّم من بيان الفرق بين الضرورة الذاتي المنطقية والضرورة الذاتي الفلسفية، تتّضح له الإجابةُ على هذه الإشكالية.

إنَّ الضرورة الذاتية التي ننسبها إلى موجودية الوجود هي عين الضرورة التي ننسبها إلى إنسانية أو حيوانية الإنسان، أو إلى مساواة مجموع زوايا المثلث لقائمتين. وهي الضرورة الذاتي في مصطلح المنطقيين، أي أنَّنا إذا افترضنا شيئاً ما إنساناً فالحيوانية تثبتُ لهذا الشيء مع فرض إنسانيته ثبوتاً ضرورياً، أو إذا فرضنا مثلثاً فمجرّد فرضه مثلثاً يثبت بالضرورة أنَّ زواياه تساوي قائمتين، أمّا هل الإنسان أو المثلث حقيقة معلولة وقائمة بالغير، أم أنَّها حقيقة قائمة بالذات وغير معلولةٍ ؟ فهذا بحث خارج عن موضوع القضية التي نحن بصدد إثباتها.

والأمر كذلك حينما نقول إنَّ كل وجودٍ موجود بالضرورة، فإنما نعني أنَّ كل وجود مفروض مع فرض موجوديته فالوجود ثابت له بالضرورة، أمّا هل هذا الوجود حقيقة مستقلة وقائمة بالذات ( واجب الوجود )، أم حقيقة غير

١٣٤

مستقلة ومعلولة وقائمة بالغير ؟ فلا علاقة لهذا الاستفهام بالضرورة الذاتية التي نحن بصددها.

وبتعبير آخر أنَّ الضرورة الذاتي الفلسفية ـ كما تقدّم ـ تقابل الإمكان الفقري. والإمكانُ الفقري بالنسبة للوجود يعني أنَّ ذلك الوجود في نفس الوقت الذي هو وجود وعين الموجودية فهو حقيقة متعلقة بالغير ومحتاجة إلى الغير، بل عينُ التعلق والحاجة للغير، وباقٍ ببقاء الغير ومحفوظة بحفظه، أمّا الوجوب الذاتي هنا فيعني أنَّ الوجود مستقل وغير محتاج وغير متكئ على حقيقةٍ أخرى.

إنَّ القارئ الكريم إذا تأمل بعمقٍ فيما تقدّم من الإجابة على الإشكالين المتقدّمين يتمكّن من رفع كثيرٍ من الإبهامات والشبهات التي طرحت بشأن نفي العلية وعبثية الخلق وبطلان الحدوث وفناء الأشياء. ويتمكّن ضمناً من رفع الشبهة المشهورة التي طرحها الإمام الفخر الرازي في موضوع معلولية الممكنات، وسوف نعالجها في المقالة القادمة بشكل تفصيلي.

شاعَ أخيراً بين أدعياء الفلسفة أنَّ " اللاشيء لا يصير شيئاً، والشيء لا يصير لا شيئاً " فملئوا كتباً بشأن هذه القضية.

إنَّ قانونلافوازييه الكيميائي المعروف، الذي يقول ( الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث ) يشير إلى هذا الموضوع أيضاً. وهذا القانون أقامهلافوازييه على أساس اختبارات وتحقيقات لا يمكن إنكارها.

إنَّ مشكلة الاستدلال بهذا القانون تنشأ جرّاء توسيع دائرة الإفادة منه، فيكون المدعى أعم من الدليل ؛ إذ تُطرح هذه الدعوى بأنَّ كل شيء معدوم أو موجود لا يوجدُ أو لا يعدم، ومن الواضح أنَّنا إذا آمنا بهذه الدعوى يلزم أن

١٣٥

يكونَ كل شيء أزلياً وأبدياً، وأن ننفي كل لون من ألوان التغيير والحركة والتكامل. لكننا إذا رجعنا إلى أدلة هذا القانون نجد أنَّ الأمر لا يشمل كلّ شيء، بل فقط المادة الأولية للمركبات الكيميائية هي التي لا توجدُ أو لا تعدم. ومن الواضح أنَّ كون المادة الأولية لهذا الكون لا تُعدم أخصُ من أنَّ كلَّ مادةٍ لا تعدم، وأنَّها أزلية وأبدية.

لقد أجرى العلماء على قانونلافوازييه تعديلاتٍ، وكلّما تقدّمت أبحاث العلماء تتأيّد نظريّة عدم بقاء المادة الواحدة بعينها، أي تتأيّد نظرية تحول المواد بعضها إلى بعض، أو تحوّل المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة. وتتّجه الأفكار صوب الإقرار بأنَّ المادة الشخصية مع حفظ تشخصها ليس أزليةً وأبدية. على أنَّ نشير إلى أنَّ المقصود من استبدال المادة من وحدة إلى وحدةٍ أخرى لا يعني أنَّ الوحدة الأُولى تعدم مطلقاً، ثمّ توجد الأخرى من رحم العدم ؛ لأنَّ هذه الفكرة وفق الدراسات الفلسفية العميقة ليست صحيحة. بل وفق الأبحاث العميقة التي قام بها الفلاسفة الإلهيون في هذا المجال، ووفق ما أكّده علماء الطبيعة أيضاً، فإنّ كلَّ حادثةٍ تسبق بمادة ومدّة، وكلُ فانٍ يترك المجالَ لحادثٍ جديد. وحينما يصل البحث إلى هذه النقطة يُطرح البحث في مادة المواد، وهو بحث يتطلّب فصلاً مستقلاً، وهو الفصل الذي اختصت به المقالة العاشرة من مجموع هذه المقالات.

على كلّ حال أضحت مقولة " الشيء لا يصير لا شيء، واللاشيء لا يصير شيئاً " مستمسَكاً بيد الماديين لإنكار موضوع الخلق والإبداع، غافلين عن أنَّ هذه الفكرة إذا أخذناها بمفهومها العرفي يلزم إنكار قانون العلّية العام وقانون الحركة والتكامل، بينا يمثل إنكار هذين القانونين إنكار جميع العلوم،

١٣٦

والماديون أنفسهم يتّخذون من هذين القانونين مستمسَكاً. أمّا إذا نظرنا إلى هذه المقولة نظرةً علمية، حيث أشرنا إليها فيما تقدّم، فسوف نجد عدم وجود تنافٍ بينها وبين موضوع العلّية والخلق والإبداع.

على كلّ حال فهذه المقولة إذا أخذناها بمعناها الفلسفي العام فينبغي نفيها أو إثباتها عن طريق البراهين الفلسفية، وينبغي تفسيرها بلغة الفلسفة، وتفسيرها الفلسفي هو التفسير الذي تقدّم في المقالة السابعة، وهو التفسير الذي قدمناه عبر هذه المقدّمة. وهذا التفسير لهذا القانون ـ كما اتّضح ـ لا يستلزم أزَلِيّةَ وأبَدِيةَ الأشياء، ولا يستلزم نفي الخلقةِ والإبداع.

١٣٧

١٣٨

الضرورة والإمكان

أثبتنا في المقالة السابقة أنَّ واقع وجود أي ماهية لا يعدم إطلاقاً ( مع حفظ وحدة الشروط في كلا الحالين )، وبعبارة أخرى: كلّ ماهية رغم أنَّها بالنظر إلى ذاتها يمكن أن تتّصف بالوجود والعدم، مثلا إنسانية الإنسان توجد وتعدم، ولكن واقع وجود ماهية من الماهيات لا يمكن أن تقبل ما يقابل ذاتها، أي زوال واقعها (١) ، ويكون واقعها لا واقعاً، أي لا يمكن سلب أيّ واقع عن ذاته، رغم جواز السلب في غير مورد ذاته.

١ ـ هذه القاعدة تشمل جميع الموجودات من الواجب والممكن والجوهر والعرض، وهي القاعدة التي طُرحت في آخر المقالة السابعة تحت عنوان (الموجود لا يُعدم ). وقد أوضحناها بشكل كافٍ في مقدّمة هذه المقالة. على أن نؤكّد ما أَوضحناه في هذه المقدّمة من أنَّ هذه الضرورة الذاتية للوجودات لا تستلزمُ نفي المخلوقية والمعلولية، ولا تستلزم أبدية وأزلية الموجودات ؛ لأنَّ هذه الضرورة من صنف الضرورة الذاتية المنطقيّة، وهي تجتمع مع الوجوب الذاتي ومع الوجوب الغيري الفلسفي، كما تقدّم شرحه في المقدّمة. وهذا النحو من الضرورة الذاتية في الوجودات يقوم على أساس أصالة الوجود، أمّا على أساس أصالة الماهية فهذا النحو من الضرورة ليس له أيُّ معنىً.

١٣٩

فلا يصح إطلاقا أن نقول: إنَّ الشجرة الموجودة اليوم غير موجودة اليوم، ولكن يصح أن نقول: الشجرة الموجودة اليوم غير موجودة غداً.

نطلق على هذه السمة في بحوثنا مصطلح ( الضرورة )، ونطلق مصطلح ( الإمكان ) على سمة تساوي الوجود والعدم في الماهية.

إذن ؛ فمفهوم الضرورة يعني وجوب ولزوم وعدم قابلية انفكاك الوجود ( الحتمية (٢) ـ حسب اللغة العلمية الحديثة ). ومفهوم الإمكان يعني تساوي الشيء إلى الوجود والعدم.

إنَّ التمييز بين الضرورة الذاتية في الوجود وبين الضرورة الذاتية الفلسفية، والوقوف على أنَّ الضرورة الذاتية في الوجود لا تستلزم أزلية وأبدية الموجودات ولا تستلزم وجوب وجودها، موضوع دقيق وقد غاب عن ذهن أغلب الحكماء والفلاسفة. وقد أقام العرفاء استدلالهم على تساوي الوجود مع الوجوب الذاتي والوجوب الذاتي مع الوحدة، كما تقدّم في المقالة السابعة، أقاموا هذا الاستدلال على ضوء عدم التفكيك بين هاتين الضرورتين، فشيخ الإشراق استدل هناك أيضاً على اعتبارية الوجود، وقد كان عدم التمييز بين هاتين الضرورتين أحد الأسباب التي أدت بشيخ الإشراق إلى الخطأ والتشويش.

٢ ـ الضرورة والوجوب مصطلحان شائعان في الاستخدام الفلسفي والمنطقي منذ القدم، لكن مصطلح الحتمية مصطلح جديد شاع في لغة الفلسفة الحديثة، على أنّ الحتمية والضرورة والوجوب مفاهيم مترادفة، وذات معنى واحد.

المسألة التي ينبغي إيضاحها هنا هي أنَّ الماديين استخدموا مصطلح

١٤٠