أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92524
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92524 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

.....................................................................................................................................................................................

" الحتمية " كثيراً، لكنّهم يفهمون من أقسام الضرورات والحتميات التي أشرنا إليها في المقدّمة الحتمية العلية فقط، وهي عبارة عن الضرورة بالغير فلسفياً، أمّا الضرورة الذاتية الفلسفية والضرورة الذاتية المنطقية فلا يعرفون مفهومهما. وعدم معرفة الضرورة الذاتية الفلسفية أدى بهؤلاء إلى تصوّرات طفولية ووهمية بشأن ذات الباري تعالى، ومن ثمَّ انتهى الأمر بهم إلى النفي. وسوف نعكف في هوامش هذه المقالة على طرح نصوص الماديين، التي تعكس تصوراتهم الطفولية والوهمية بشأن ذات الباري، لكي يقف القارئ المحترم بشكلٍ مباشر على هذه التصوّرات المادية الطفولية في هذا الموضوع الفلسفي المهم.

إنَّ عدم وقوف الماديين على مفهوم الضرورة الذاتية المنطقية أدى بهم إلى أخطاء غريبة. فالمادّيون المحدثون يدّعون أنَّ منطقهم الديالكتيكي منطق ديناميكي، بينما يسمّون المنطق الإلهي بالمنطق الإستاتيكي ؛ ومن هنا فحينما يقفون في نصوص المنطقيين على مصطلح الضرورة الذاتية يحسبون أنَّ مفهوم الضرورة الذاتية هو أنَّ كل ذات ( كالإنسان مثلاً ) تبقى على حالة واحدة دائمية ولا يعتريها التغيير، ومن هنا يستنتجون أنَّ المنطق القديم منطق جامد.

يقول الدكتور( أراني ) في كتيّبه المادية الديالكتيكية: " يصل المنطق الإستاتيكي إلى نتائج خاطئة خصوصاً جرّاء إيمانه بالحتمية والدوام، فالمنطق الجامد يرى مثلا: أنَّ نسبة البياض للثلج ضرورية ودائمية، ونحن نعرف أنَّ لون الثلج ليس أبيضاً بالضرورة وعلى نحو الدوام. فبياض الجسم ينشأ جراء

١٤١

....................................................................................................................................................................................

انعكاس الضوء بشكل تام من الأجسام. ففي جو مظلم تماماً لا يكون الثلج أبيضاً، أي أنَّ البياض ليس ضرورياً ودائمياً للثلج، ومن هنا ليست هناك أيةُ حقيقة دائمية الوجود، لكن الإشراقيين، نظير شهاب الدين، بالغ في الأمر، حتى عدَّ جميع الصفات ضرورية ودائمية، وهذا هو الجمود المطلق ".

إنَّ الذين يعرفون أسلوب عقد القضايا الضرورية والدائمية يعرفون حجم خواء هذا النص وحجم جهل صاحبه، خصوصاً حينما ينسبُ الأمر إلى شهاب الدين السهروردي المشهور بشيخ الإشراق، ويعكس أنَّ الرجل بنى نصه على أساس السماع الشفاهي من أنَّ شيخ الإشراق أرجع جميع القضايا الموجهة إلى قضية ضرورية، فتخيّل أنَّ مقصوده هو أنَّ نسبة كل محمول إلى كل موضوع نسبة ضرورية وأزلية وأبدية. بينا لو رجع الدكتور( أراني ) إلى فرد مطّلع إطّلاعاً إجماليا على المنطق لما ارتكب هذه الفضيحة. إنَّ مثال الثلج والبياض من مخترعات الدكتور أراني، والأمثلة التي يذكرها المنطقيون للضرورة تنحصر بنسبة الذات إلى الماهية ( الإنسان إنسان، المثلث مثلث ) وفي نسبة أجزاء ذات الماهية إلى الماهية ( الإنسان حيوان، المثلث شكل ) وفي لوازم الماهية الذاتية بالنسبة للماهية ( كلّ إنسان يشغل حيزاً، مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين ). ومن الواضح أنَّ مفهوم هذه القضايا لا يعني أنَّ الإنسان إنسان على الدوام وباق على حالة واحدة، وأنَّ المثلث كذلك. بل تعني الضرورة هنا أنَّ كلّ شيء ما دام إنساناً فهو إنسان ويستحيل ألا يكون إنساناً ( سلب الشيء عن نفسه محال )، ويستحيل أن يكون لا حيوان أو غير شاغلٍ لمكان، وكذلك الحال في مثال المثلث.

١٤٢

مثلاً: إذا قلنا إنَّ كل واقعة خارجية ضرورية، فهذا يعني أنَّ الواقع لا يمكن سلبه عن ذاتها، وإذا قلنا الإنسان ممكن فهذا يعني أنَّ ماهية الإنسان يتساوى أمرها بالنسبة للوجود والعدم، رغم أنَّ الماهية بالنسبة إلى وجودها ذاتها ليست كذلك. ( على أنَّ للإمكان معانيَ أخرى في الاستخدامات الفلسفية، ومنها القوة مقابل الفعلية. وتستخدم الضرورة أحيانا بمعنى وجوب العدم، فتكون مرادفة للامتناع والاستحالة، نظير قولنا: سلب الواقع عن ذاته ضروري العدم وممتنع ومحال ).

بيان آخر

من البديهيات التي لا يعتريها أدنى شكّ لدينا، ونعدها أكثر أسلحتنا العلمية فعالية، هي " قانون العلية والمعلولية " (٣) ، ( لكلّ حادثة علّة ).

٣ ـ عرفّنا قانون العلية والمعلولية في مقدّمة هذه المقالة، وقلنا على أساس هذا القانون إنَّ كل حادثة لها علة ويستحيل وقوعها صدفة واتفاقاً.

وإذا أنكرنا وجود علاقة العليّة بين الأشياء، سواء على أساس الصدفة والاتفاق، أو على أساس أنَّ جميع الموجودات واجبة بالذات مستغنية عن العلّة، فسوف تعدم أيُّ علاقة بين أي موجود وأي موجود آخر، وتكون جميع الموجودات أجنبية بعضها عن بعض وغير مترابطة. وعندئذٍ سوف لا يكون هناك أيّ قانون وناموس في عالم الخارج ؛ لأنَّ جميع القوانين والنواميس التي تحكم الطبيعة هي صور عن قانون العلية العام. وفي هذه الحالة سوف لا يكون للعلم معنى أيضاً ؛ لأنَّ العلم عبارة عن بيان القوانين والنواميس والعلاقات الواقعية التي تحكم بين الأشياء، وإذا لم يكن هناك أي علاقة بين

١٤٣

كل ظاهرة تتحقّق فلها علّة، وإذا لم تكن هذه العلّة فلا وجود أيضاً لتلك الظاهرة.

إذا ضغطنا على باب فلم يُفتح، نعود فنبحث في زواياه، أي نحاول أن نفهم العيب والنقص الحاصل في الباب حيث لم يعد يُفتح، إذ لو لم يكن هناك عيب أو نقص فإنّ ضغط اليد مع توفر الشروط الأخرى يفتح الباب حتماً (٤) .

الأشياء فسوف لا يكون هناك أيّ علمٍ. إذن فقانون العلية أساس العلم. وأولئك الذين يريدون إنكار قانون العلية ويسعون في نفس الوقت إلى الحفاظ على المعرفة العلمية، يسيرون في طريق عابث.

إنَّ قانون العلية أهم القوانين التي تفيد منها الفلسفة الإلهية، وسوف نشير في هذه المقالة إلى أنَّ هذا القانون ذاته والقوانين المتفرعة منه تفضي بنا إلى الإيمان بأنَّ جميع الأسس العليّة تنتهي إلى ذات كاملة وغير معلولة، وأنَّ جميع النظم تنطوي تحت نظام واحد، فتقوم بذات واحدة.

٤ ـ أحد القوانين التي تتفرّع على قانون العلية العام هو قانون الحتمية، أي أنَّ العلة تمنح المعلول الضرورة، وأنَّ كل معلول وخصوصياته الوجودية يحصل بالضرورة التي لا يمكن تخلّفها. وقد أوضحنا في مقدّمة هذه المقالة النظريات المختلفة التي طُرحت حول هذا القانون، وأقمنا برهاناً بسيطاً على صحة هذا القانون أيضاً.

المثير للدهشة أنَّ هذا القانون حينما يُطرح كقانونٍ كلي وعام على الأذهان يثير صعوباتٍ، ويتطلب الإذعان به نشاطاً ذهنياً وممارسة برهانية كبيرة، لكي ترتفع الأوهام، لكنّه في نفس الوقت مورد قبول كلّ شخص في حسه الباطني، ووفق فطرته وإرادته يتابع هذا القانون. والنص

١٤٤

والأمر كذلك إذا لاحظ ميكانيكي العجلات توقف العجلة التي قام بترميمها وتصليحها وتشغيلها. فإنَّه يندفع مباشرة إلى البحث في محركها وسائر أجزائها، أي أنَّه يبتغي تحديد الشرط المفقود من الشروط العليّة لحركة العجلة، إذ لو لم يُفقد أحد الشروط لا تتوقّف العجلة عن الحركة إطلاقاً، أي إذا كانت العلّة التامة للحركة موجودة فالحركة ضرورية.

إذن ؛ فمن المحتم أنَّ العلّة التامة لكل معلول تعطي معلولها الضرورةَ، ويوجد معلولها على أثر هذه الضرورة.

بديهي أنّه إذا كان مجرّد الوجود الخارجي للعلة في زمان ( وإن لم يكن بمعية المعلول ) كافٍ لكي يستمر المعلول بذاته في الحياة (٥) ، فسوف لا يحصل إطلاقاً ذلك الفحص والتفتيش والبحث.

الذي جاء في المتن ( إذا ضغطنا على باب... إلى قوله: إذن فالعلة التامة تمنح كلّ معلول من معلولاتها الضرورة ) يوضح الإذعان والتصديق الفطري والعملي بهذا القانون.

٥ ـ يُطرح هنا قانون آخر من القوانين المتفرّعة على قانون العلية العام، وهو ( حاجة المعلول إلى العلة حدوثاً وبقاء ). وقد قدّمنا وعدا في مقدّمة هذه المقالة بتفصيل البحث حول هذا الموضوع في المقالة التاسعة، لكنّنا نجد من الأنسب أن نفي بهذا الوعد هنا ومن خلال هذا الهامش.

يبدو للوهلة الأُولى عدم وجود مانع من استغناء المعلول عن العلة في البقاء ؛ لأنَّ علاقة المعلول بالعلة تنشأ جراء كون العلة موجَدة للمعلول، وبمجرد وجود المعلول تنقطع علاقته بالعلة، ولا معنى لبقاء هذه العلاقة، ومن المحتم أن يتمكن المعلول بعد حدوثه بواسطة العلة من الإستمرار ببقائه وإدامة

١٤٥

إشكال

من الممكن أن يقال إنَّنا في مثال المركبة لم نفتش حقيقةً عن علّة وجود الحركة. بل نبحث عن علّة توقف المركبة. وبتعبير أوضح نقول: نحن

حياته، ما لم توجد علّة أو علل تفنيه، ويصير ذلك الملعول عدماً.

يذكر أنصار نظرية استغناء المعلول عن العلة في البقاء أمثلةً وشواهد لإثبات نظريتهم، نظير: بقاء الابن بعد أبيه، وبقاء الساعة بعد صانعها، وبقاء البناء بعد البنّاء، وبقاء حركة الحجر بعد انفصال القوة الدافعة عن الحجر، بل يدعى أيضاً أنَّ علم الميكانيك من الفيزياء الحديثة يؤكد أنَّ الجسم في حالات الحركة والسكون يتطلّب القوة الخارجية فقط حينما يراد تغيير حالته، فحينما تكون درجة حركته صفراً ( السكون ) فيتحرّك، أو يتحرّك بدرجة أكبر من درجة حركته. وإذا تحرّك الجسم بواسطة القوّة الخارجية فسوف يستمر بهذه الحركة ما لم يحصل عامل خارجي يوقف أو يقللُ هذه الحركة دون أن يحتاج إلى علة لإدامة هذه الحركة. وإذا توقّف الجسم نتيجة عاملٍ خارجي فسوف يستمر بهذا التوقّف، ما لم تحصل علّة خارجية تحركه بدرجة من الدرجات، وأيّ درجة من درجات الحركة نفترضها للجسم فإنّه يحتاج إلى علّة في الحدوث الأولي لهذه الحركة فقط، وليس بحاجة إلى علّة وعامل في إدامة هذه الحركة.

سوف نغض النظر فعلاً عن الأمثلة المتقدّمة ومناقشتها، ونغض النظر أيضاً عن تفسير النظرية الفيزيائية فلسفياً، ونكتفي بتحليل عقلي عام حول علاقة العلّة بالمعلول، لنرى فتوى العقل والفلسفة في هذا الموضوع. وسوف

١٤٦

لا نعتقد أنَّ علة الحركة تبقى مع الحركة إلى آخر لحظات وجود الحركة، وتمنحها ضرورة الوجود، لكي نبحث عن النقص في علّة الحركة عند ظهور خللٍ في المركبة. بل مع وجود علّة الحركة ينبغي أن تمضي المركبة

نتابع الأمثلة والنظرية الفيزيائية في الهوامش اللاحقة تبعاَ للمتن، لنرى هناك تناقض هذه الأمثلة مع حكم العقل أو عدم تناقضها، وأنَّ تصور التناقض والمخالفة ينشأ جرّاء سوء فهم واستنباط.

هناك تصوّر مشترك لقانون العلية لدى كل إنسان ( العلة تمنح الملعول الوجود ) فكلّ شخص يُذعن لهذا القانون العام مادام يؤمن بعلاقة العلية بين الموجودات، سواء أكان حكيماً أم متكلّماً، إليهاً أم مادياً، عالماً أم فيلسوفاً، ونحن هنا نأخذ هذه المقولة اليقينية أساساً لتحليلنا فنقول: حينما نلاحظ في حياتنا اليومية الأمثلة التي يتم فيها إعطاء شيء من قبل شيء إلى شيء آخر، كما لو أعطى إنسان إلى إنسان آخر شيئاً، نجد في هذه الظاهرة أربعة أركان:

١ ـ المُعطِي.

٢ ـ المستقبل.

٣ ـ الإعطاء، أي العمل الذي يقوم به المُعطِي.

على أنَّ الأركان في بعض الموارد يمكن أن تكون خمسة، والركن الخامس عبارة عن الأخذ، أي العمل الذي يتم من ناحية المستقبَل. على كلّ حال فنحن نواجه في هذه الأمثلة أربعة أركان على الأقل. نأتي الآن لنرى في مورد العلّة والمعلول هل هناك أربعة أركان:

١٤٧

في حركتها، وتستمر في الحركة حتى مع زوال علة الحركة، كما هو الحال لو مات المعمار فإنَّ المبنى لا يزول، أو لو مات الأب فإنّ الابن يبقى ولا يفنى. أمّا في المثال المتقدّم فحيث إنَّ الحركة زالت ووقع السكون والتوقّف فسوف نبحث عن علّة السكون والتوقّف.

١ ـ المعطي ( العلة ).

٢ ـ المستقبل ( ذات المعلول ).

٣ ـ المعطى ( الوجود الواقعي ).

٤ ـ الإعطاء ( الإيجاد ).

وبعبارة أخرى هل هناك موجد وإيجاد ووجود وموجود في مورد العلية والمعلولية، أي جاعل وجعل ومجعول ومجعول له، معطي وإعطاء ومُعطى له، أم أنَّ الأمر ليس كذلك، وإذا كان الأمر ليس كذلك فما هي طبيعته في هذا المورد ؟

نأتي أوّلاً لنرى هل هناك أمران في مورد العلّة والمعلول أي هناك أمران واقعيان خارجيان في مورد العلّة والمعلول وهما المعطى له والمعطي أو المستقبِل والمعطي ؟ نلاحَظ أنَّ المستقبِل أي ذات المعلول إذا كان له واقع بغض النظر عمّا اكتسبه من العلّة يلزم أن يكون ذلك المعلول ليس معلولاً، أي يلزم الخلف ؛ لأنَّنا حسب التعريف الأولي عرّفنا العلة بوصفها معطي الواقعَ إلى المعلول، أي أنَّ المعلول يكسب واقعيته من العلة، وإذا كان المعلول أمراً واقعياً يختلف عن الواقع الذي يكسبه من العلة فسوف يكون المعلول غير متلقٍ لواقعه من العلّة، أي أنَّ المعلول بحسب الواقع ليس

١٤٨

الجواب

نفوّض وجدان طارح الإشكال، لكي يجيب على هذا النقض ؛ ونتساءل هل يفتش الميكانيكي ـ في المثال المتقدّم ـ عن أجزاء علة الحركة، أم يبدأ بحثا جديدا عن علّة التوقّف ؟

معلولاً: إذن ففي مورد العلّة والمعلول يكون واقع المعطى عين واقع المعُطى له، إنَّما يعتبر ذهننا هذا الواقع العيني الواحد مفهومين مختلفين ( مستقبل ومعطى ).

نأتي في المرحلة الثانية لنعكف على الاستفهام التالي: هل الإيجادُ له واقع مستقل عن واقع المعطى أم لا ؟ فإذا فرضنا أنَّ واقع الإيجاد يختلف عن واقع المعطى يلزم أن نفترض وجود ( المعطى له ) بغض النظر عن الإيجاد واقعاً مستقلاً، وينحصر عمل العلة بالارتباط بهذا الواقع المستقل والإضافة إليه، وتمنح هذه العلاقة والإضافة إلى المعلول. وهذا الفرض يستلزم أن نفترض واقعاً مستقلاً للمستقبِل أيضاً يختلف عن واقع المعطى، بينا وجدنا ذلك محالاً كما تقدّم. إذن فلا يعني منح العلة الواقع للمعلول وتوفّر المعلول على الواقع من قبل العلة أنَّ الواقع أمر قائم في الخارج وعمل العلة أن يأتي فيمنح الملعول هذا الواقع، بل المفهوم الحقيقي لإعطاء الواقع للمعلول هو أنّ واقع المعلول عين إعطاء العلة وإفاضتها، أي أنَّ هناك أمرا واحداً ـ كما هو الحال في مورد المستقبل والمعطى ـ وهو الإعطاء أو المعلول، أي أنَّ المعلول عين الإعطاء وعين إفاضة العِلّة وليس أمراً آخر، أي ليس هناك فيض يحصل بواسطة واقع آخر اسمه الإفاضة من قبل العِلّة.

١٤٩

إنّ طارح الإشكال إذا راجع وجدانه وفطرته فسوف يرى أنَّ السكون عدم الحركة، وعلة عدم المعلول هي عدم العلة. إذن ففي كلّ حادثة سلبية، أي عندما تعدم حادثة إيجابية، فنحن نبحث دائماً علة وأجزاء

نأتي في المرحلة الثالثة لنرى واقع ( المعطي )، نلاحظ هنا أنَّ واقع المعطي يجب أن يكون واقعا مستقلاً عن المستقبل والمعطى والإيجاد ؛ لأنَّه واقع آخر غير واقع الشيء الذي ينشأ عنه، هو منشأ هذا الواقع الآخر، ومن المستحيل أن يكون الشيء ينشأ عنه، هو منشأ هذا الواقع الآخر، ومن المستحيل أن يكون الشيء منشأً لذاته، لأنَّ ذلك يستلزم الصدفة وتقدّم الشيء على نفسه، ومن ثمَّ التناقض.

في هذا الضوء تعرف أنَّ التصوّر الأولي للأركان الأربعة ليس سليماً في مورد العلة والملعول، بل في هذا المورد ليس هناك في عالم الخارج إلاّ واقعان، وليس هما إلاّ واقع العلة وواقع المعلول، الذي هو عين إيجاد العلة. وبعبارة أخرى أدركنا بعد التحليل الكامل أنَّ واقع الإيجاد والموجود والوجود في مورد المعلولات أمر واحد، إنَّما يقوم ذهننا بتحليل هذا الواقع الواحد إلى مفاهيم ثلاثة، وهذا التحليل الذهني أفضى إلى ذلك الوهم الأولي.

والحقّ أنَّ المنشأ الرئيسي لهذا اللون من التفكير الابتدائي الخاطئ، الذي وقع فيه أغلب أدعياء الفلسفة، هو لون من القياس الخاطئ ؛ فقد لاحظوا بحسب العادة أنَّ شخصاً حينما يمنح شخصاً آخر مالاً أو يهدي إليه وردة مثلاً، فهذه العملية تتطلّب أربعة أركان واقعية، ولاحظوا أنَّ المعطي يغاير عملية الإعطاء، فمثلاً حينما يأخذ شخصٌ مالاً أو وردة من شخص آخر فهو يحتاج في اللحظة الأُولى إلى أحد ذلك الشيء من المعطي، لكنّه في اللحظات

١٥٠

علّة الحادثة السابقة، نعم حينما تقع حادثة إيجابية لا نرجع إلى علّة الحادثة السابقة، لكن استدلالنا لا يعتمد على هذا الفرض.

ثمّ مع غض النظر عمّا تقدّم، فإنَّ وجود علّة السكون والتوقّف بمعيّة

اللاحقة سوف يكون ذاته صاحب ذلك الشيء، ولا حاجة له في اللحظات اللاحقة إلى المعطي، ومن هنا تخيّلوا أنَّ الإيجاد يناظر إعطاء المال أو إهداء الوردة، فواقع الوردة والمال غير عملية إعطاء الوردة والمال، وغير المستقبل أيضاً، ولاحظوا ثانياً أنَّ المستقبل يستطيع التوفّر على المال والوردة في اللحظة اللاحقة للحظة استقباله وأخذه لهما، ولا حاجة له بالمعطي، ومن هنا استنتجوا أنَّ المعلول لا حاجة به إلى العلة في البقاء.

بعد أن آمنا على أساس القاعدة الكلّية الثابتة أنَّ علاقة العلة والمعلول علاقة منح الوجود والتوفّر عليه، وبعد أن تعرّفنا في ضوء ما تقدّم على أنَّ هذه العلاقة، يعني الإيجاد والتوفّر على الوجود، ليست أموراً واقعية مغايرة لذات وجود المعلول ومستقلّة عنه، أي أنَّ واقع المعلول وعلاقة المعلول بالعلّة أمر واحد ؛ إذن يتّضح أنّ واقع المعلول لا يمكن فرضه منفكّاً عن علاقة المعلول بالعلّة، إي مع قطع النظر عن علاقة المعلول بالعلة يستحيل حفظ وبقاء المعلول. ومن هنا نستنتج أنَّ المعلول يحتاج إلى العلّة ويتكئ عليها حدوثاً وبقاءً. ويستحيل لمعلولٍ أن يستمر في إدامة حياته مع قطع علاقة بعلّته.

أمامنا من وجهة نظر فلسفية طريقان، فأمّا أن نضع قانون العلية جانباً، ومن ثمَّ نؤمن بمذهب السفسطة والصدفة والاتفاق، وإمّا أن نؤمن بحاجة المعلول إلى العلة بقاءً. أما تفسير وتبين الأمثلة والشواهد التي ذُكرت لعدم

١٥١

التوقّف أمرٌ لا لزوم له ـ من وجهة نظر طارح الإشكال ـ ؛ ومن هنا ليس هناك مبرّر وتفسير للبحث في هذه الحالة عن شيء من الممكن أن يكون معدوماً.

حاجة المعلول إلى العلّة في البقاء فسوف نأتي عليها لاحقا. وهنا نحاول التذكير بالأفكار التالية:

أ ـ قلنا مراراً أنَّ المهمة الأُولى لكلّ فيلسوف هي أن يتفحّص أفكاره، ويتعرّف على أُسلوب صناعة الذهن لها. وهذا النشاط المعرفي اصطلحنا عليه علم النفس الفلسفي. ونحن هنا كما اطّلع القارئ المحترم قمنا بتحليل أفكارنا الذهنية حول العلة والمعلول، اعتماداً على قاعدتين فلسفيتين ( مسلّمتين )، وأثبتنا أنَّ الكثرة في مجال بحثنا هنا كثرة مفهومية وذهنية، وهذه الكثرة الذهنية أضحت منشأ لأكبر الأوهام في الفلسفة. لذا نكرّر مرةً بعد مرّة ما قلناه: ما لم نتعرّف على الذهن لا يمكننا أن نتوفّر على فلسفة.

ب ـ البرهان الذي استخدمناه لإثبات الفكرة هنا برهان عقلي خالص. حيث إنَّ هذه المسألة كما تقدّمت الإشارة في مقدّمة المقالة السابعة من المسائل الفلسفية الخالصة، لا تعتمد على أي عنصر تجريبي خارج إطار العقل المحض. بل الإلتفات الدقيق لطبيعة هذه المسألة يوضح أنَّ هذه المسألة من المسائل التي لا يتيسر درسها إلاّ عن طريق البرهان العقلي الذي تقدّم. وهذا يؤكّد مدى مبالغة المدرسة الحسّية والتجريبية، وخطل دعواها بأنَّ قضايا الفلسفة يلزم أن تُدرَس في ضوء الحس والتجربة.

ج ـ يناصر المادّيون نظرية عدم حاجة المعلول إلى العلّة بقاءً، وسوف ننقل أفكارهم وننقدها في محلّها المناسب. وقد ذهب إلى هذه النظرية

١٥٢

إشكال

صحيح أنَّ التفتيش عن المعدوم غير مبرّر، لكنّ العلّة في هذه الموارد علّة مركبة ذات أجزاء متّصلة، بعضها موجود، وبعضها معدوم.

وعبر الوقوف على الأجزاء الموجودة فعلاً نقف على الأجزاء الأخرى، إلاّ إذا فرضنا أنَّ العلّة كلّ مركب ينعدم بانعدام بعض أجزائه. إذن؛

بعض المتكلّمين أيضاً، لكن المحقّقين من الحكماء عامة يناصرون نظرية حاجة المعلول إلى العلة بقاء، وقد أقام كلّ اتجاه من اتّجاهات هؤلاء الفلاسفة برهاناً أو براهين لإثبات ذلك. وبعض هذه البراهين رغم اعتماد أنصار أصالة الوجود عليها، لكنّها تتنفّس في إطار أصالة الماهية، ونحن بغية عدم إطالة البحث نغضّ النظر عن تحليل ونقد هذه البراهين. ونحسب أنَّ البرهان الذي تقدّم أعلاه هو أفضل وأسهل الطرق لإثبات الموضوع. على كلّ حال فهذا الموضوع من أهم المسائل التي سوف يفيد منها الباحث في مباحث الإلهيات التي ستأتي في المقالة الرابعة عشر.

د ـ تُعرف العلة في كلمات الفلاسفة بأنّها ( معطي الوجود ). وتُعرّف أحياناً بمعنى أعم، لتشمل جميع الأشياء التي يحتاجها الشيء في حصوله على الوجود. وإذا أخذنا العلّة بمعناها الأعم فسوف تشمل المعدّات والشروط أيضاً، وإذا كان المعلول مركّباً سوف تشمل أجزاءه التي يتشكّل واقعه منها أيضاً، وإذا كنّا نؤمن بالعلّة الغائية فسوف يشملها أيضاً ؛ لأنَّ جميع الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء يصدق عليها تعريف العلّة، الذي هو عبارة عن كلّ ما يحتاجه الشيء في وجوده.

١٥٣

فوجود العلّة بتمام أجزائها في معيّة وجود المعلول لا لزوم له إطلاقاً. كما هو الحال في الوليد، فهو يحتاج إلى والديه في الولادة فقط، وبعد الولادة لا تبقى هناك حاجة في البين.

الجواب

لقد أُُخذ في مفهوم العلّة في الإشكال ـ كما هو واضح ـ وجود كلّ جزء من أجزاء العِلّة بشكلٍ مطلقٍ، وهذا الأمر نفسه خطأ كبير،

لكنّ التعريف الأوّلي ( معطي الوجود ) لا يصدق على الشروط والمعدّات، ولا يصدق أيضاً على الغاية وعلى أجزاء المركب الواقعية. بل يصدق فقط على ما يصطلح عليه (العلّة الفاعلية ). والمقولة التي تقدّمت، والتي تقرّر أنَّ المعلول يحتاج إلى العلّة حدوثاً وبقاءً تعني العلّة الفاعلية، والبرهان الذي تقدّمت إقامته ـ كما هو واضح ـ يشمل العلّة الفاعلية فقط، ولا يشمل هذا البرهان الشروط والمعدّات والغاية وأجزاء المركّب. بالنسبة إلى مورد الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء ( المركّب الحقيقي الذي يتألّف من مادّة وصورة ) ينبغي عن طريق آخر إثبات أنَّ هوية المعلول تحتاج إلى العلّة حدوثاً وبقاء، وهذه الفكرة واضحة جداً وغنية عن الاستدلال، إذ لا يحتمل أن يكون هناك شخص يشكّك في حقيقة أنَّ بقاء المركّب متوقّف على بقاء جميع أجزائه، وأنَّ انتفاء أيّ جزء من أجزائه كافٍ لانتفاء المركّب. ويبدو أنَّه لم يوجد حتى الآن من يدّعي خلاف هذه الفكرة.

١٥٤

خصوصاً وهو يصدر عن الأفراد الذين يرفعون لواء التحوّل والتكامل (٦) . ممّا يثير الدهشة المذهلة.

إذ ليس لدينا في عالم المادة موجود مطلق، يروغ على قانون الحركة والتكامل. إنَّ كل ظاهرة تقع فهي مرتبطة بالأجزاء المكانية والزمانية التي هي جزء وجودها. ومن هنا فالعلّة المركّبة تعني سلسلة أحداث مترابطة

٦ ـ بحكم أهمية وصعوبة الأفكار نضطر هنا إلى إيضاحها عن طريق وضع نظريات المتن ثمّ الاعتراض عليها بصورة إشكال ثمّ الإجابة عليها، بُغية أن يفيد القرّاء المحترمين من هذا التحليل:

النظرية: معطي الضرورة للمعلول حدوثاً وبقاءً هو علّته، وبقاء العلّة شرط في وجود وفي ضرورة المعلول معاً. مثلاً إذاً لاحظ الميكانيكي خللا في حركة السيارة، فسوف يعكف على فحص الخلل، ويرجع ذلك إلى أنَّه بحسب فطرته يؤمن بأنَّ الحركة موجودة بالضرورة ما دامت العلّة التامة للحركة موجودة، وإذا لوحظ خلل في لحظة من اللحظات فهذا يكشف عن حصول نقصٍ في علّة الحركة، أي أنَّه يذعن بالفطرة أنَّ مجرّد الوجود الخارجي لعلّة الحركة في زمان ما ليس ضامنا لبقاء الحركة، بل بقاء العلة التامة للحركة هو الذي يضمن بقاء الحركة.

إشكال: إنَّ نظائر هذا الفحص ليست دليلاً على الإذعان الفطري بالنظرية المتقدّمة ؛ إذ من الممكن أن يقال إنَّ الميكانيكي لم يأتِ ليكشف عن نقطة نقصان علّة الحركة، بل جاء للكشف عن التغيير الذي طرأ على الحركة فصيّرها سريعة أو بطيئة أو متوقّفة. أي أنَّ حدثاً جديداً قد وقع وأنَّ الميكانيكي بصدد البحث عن علّة حدوث هذا الحدث الجديد، وليس بصدد

١٥٥

لحصول ظاهرة مادية مفترضة. والحقيقة أنَّ المادة التي فرضناها قد ركبت طريق الحركة، وسارت بشكلٍ تكامليٍّ في ظل مجموعة حالات وشروط. على أنَّ كلّ واحدة من هذه الشروط والحالات مرتهنة بوضعها الخاص فقط، إذن فالعلّة المفروضة في الحقيقة لم تنفصل عن معلولها بأجزائها التدريجية، ومجموع العلّة لمعلولٍ معين لم تفقد أي جزء من أجزائها، إذ كلّ جزء من الأجزاء محفوظ في موضعه الخاص بالبداهة.

الكشف عن منشأ عدم بقاء الحادثة الأُولى. إذن يمكن أن يقال إنَّ الميكانيكي بحسب فطرته يذعن بخلاف مدعى النظرية المتقدّمة أي أنَّه يعلم أنَّ بقاء علة الحركة ليس شرطاً في بقاء الحركة، بل إذا حصل خلل في الحركة فهذا يكشف عن علّة جديدة قد حصلت، وألغت دور العلّة السابقة.

الجواب:

أولاً: السكون ليس أمراً وجودياً لكي يتطلّب علة وجودية، بل هو أمر عدمي، لأن السكون عدم الحركة، ومن هنا فعلّة السكون أو عدم الحركة هي عدم علّة الحركة، ومن هنا فالبحث عن علة السكون عين البحث عن عدم البقاء والبحث عن النقص في علّة الحركة.

ثانياً: سلّمنا أنَّ بقاء علّة الحادثة ليس شرطاً في بقاء الحادثة، فإذا فرضنا أنَّ السكون واقعة وجودية فسوف يكون البحث عن علّة السكون لا معنى له ؛ لأنَّ علّة السكون حسب الفرض المتقدّم ليس شرطاً في بقاء السكون فمن الممكن أن يكون معدوماً، والبحث عن المعدوم لا معنى له.

إشكال : نسلّم أنَّ البحث عن السكون لا معنى له، لكن هذا الأمر يَصدق في العلّة البسيطة. بينا ليست هناك علل بسيطة في عالم الكون على هذا

١٥٦

مثلاً: الوليد الإنساني، فالعملية التناسلية وتلقيح البويضة أحد أجزاء العلّة، مضافاً إلى شروط وحالات أُخرى تتكامل عبر تسعة أشهر. وفي هذه السلسة يكون لكلّ واحد من الشروط والحالات دور مفيد، ولكن ليس بشكل مطلق، أي أنَّ العملية الجنسية يجب أن تقع قبل تسعة أشهر من الولادة، لا في أي وقت، ولا في حين الولادة...

النحو. بل علّة كل شيء مجموعة من الحوادث المتعدّدة التي تقع على طول الزمان، وهذه الحوادث التي تشكّل أجزاء علل الشيء ليست شرطاً في بقاء المعلول. بل من الممكن أن يبقى بعضها مع المعلول ولا يبقى البعض الآخر. على أنَّ الحصول على أجزاء العلل الموجودة يُمكننا من الوقوف على سائر الأجزاء الأخرى، وهذا دليل على أنَّ بقاء العِلّة التامة ( كلّ أجزاء العِلّة ) ليس شرطا في بقاء المعلول.

الجواب: إنَّ هذا اللون من الحوادث الطولية الزمانية، التي يكون وجود المعلول مشروطا بوجودها السابق، يُستحسن أن نُطلق عليها مصطلح الشروط والمعدات لا العلّة. مثلاً الحجر الذي يتحرّك ويطوي مسافة، فما لم يمر بجميع النقاط الوسطية يستحيل أن يصل إلى النقطة الأخيرة، وكذلك أي نقطة افترضناها يستحيل أن يصل إليها قبل الوصول إلى النقطة التي هي قبلها. أي أنَّ طيّ بعض أقسام المسافة شرط للوصول ولطي البعض الآخر من أقسام المسافة. ولكن لا يمكن أن نعتبر طيّ أو الوصول إلى جزء من المسافة علّة محركة للجسم في الجزء الآخر، بل العلّة المحركة في كلّ الأحوال تصاحب الحركة وهي القوّة التي تقوم في الجسم وتوجهه في مسيرة

١٥٧

ومن الواضح جداً أنَّ جميع هذه الحالات والشروط ليست مرتبطة بدون واسطة وبشكل مباشر بالوليد ( المعلول ـ الظاهرة الجديدة ـ ). بل يختلف أمرها، فبعضها شرطٌ لشرطٍ، وبعضها شرطٌ لشرطِ الشرط، كما هو الحال في العملية الجنسية فهي ترتبط مباشرة بقذف المادة المنوية في الرحم لا بولادة الوليد.

معينة ؛ انطلاقاً من قانون التكامل الجوهري والذاتي لموجودات الطبيعة، أنَّ كلّ موجود من موجودات الطبيعة في مراحله الوجودية يشبه حالة الحجر باستمرار. فهو حينما يطوي مسافة يكون العبور من مرحلة سابقة شرط العبور في المرحلة اللاحقة، وفي نفس الوقت فالقوّة التي تلازمه في مسيرة تكامل الموجودات قوة باقية ولا تزال. من هنا فهذه الشروط والمعدات بمثابة منازل ومراحل لعبور الشيء، وتسمّى أحيانا ( علل )، ويكون وجودها شرط وجود المعلول، ولكن لا بنحو مطلق بل بنحو نسبي ؛ أي أنَّ وجود كلّ واحد من هذه الشروط شرط لوجود المعلول في مرحلة معينة وفي لحظة معينة من الزمان لا مطلقاً. ونحن قلنا إنَّ بقاء العلة شرط في بقاء المعلول، وكنا ننظر إلى العلّة الفاعلية وكذلك العلة المادية والصورية ( الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء، لا مطلق العلل التي تشمل الشروط والمعدات أيضاً ).

إشكال: إنَّ الأمثلة والشواهد الحسية تنقض جميع هذه الاستدلالات العقلية. فنحن نجد آلاف الأعمال في العالم يذهب فاعلوها ويبقى الفعل قائماً بذاته. فالبَنّاء يشيّد المبنى ويبقى المبنى قائماً بعد وفاة البَنّاء. الساعتي يصنع الساعة وتستمر الساعة في عملها سنيناً دون أن تحتاج إلى صانعها. الأب ينجب الابن ثمّ يموت، لكن الإبن يستمر في حياته، وهكذا آلاف الأمثلة

١٥٨

من بين أجزاء العلّة التي لا يكون للمعلول وجود بعدمها تلك الأجزاء التي ترتبط بشكل مباشر بالمعلول. كما لو فرضنا عدم المادة التي يوجد بها الوليد، أو الصورة الإنسانية التي يأتي على هيئتها، أو عدم فاعل التركيب، فسوف لا يكون هناك وليد في البين. فالوليد الإنساني دون مادة ليس له مفهوم، والمادة التي لا تتوفّر على الصورة الإنسانية لا تكون وليداً إنسانياً، وكذلك الفاعل لعملية التركيب، فحيثما يسحب نفسه من إنجاز العملية يتوقّف العمل ويبقى ناقصاً. إذن ؛ فوجود العلّة بمعيّة المعلول أمر ضروري على كلّ حال.

الأخر... وأفضل دليل على الإمكان هو الوقوع، ووقوع هذه الحوادث دليل على إمكان بقاء المعلول بدون علّة.

الجواب: إنَّ هذه الأمثلة الحسية لا تنقض حكم العقل، لأنَّ استخدام العلّة وإطلاقها من باب التسامح في التعبير. فالبَنّاء علّة لحركاته التي يقوم بها وليس علّة للمبنى، الذي هو مجموعة من مواد مع خصوصيات معيّنة، والذي يضمن بقاء المبنى هو هذه الخصوصيات المعينة. والبَنّاء ليست له أي علاقة عليّة مع هذه المواد والخواص، بل تنحصر علّيته بالنسبة إلى الحركات التي قام بها شخصياً، ومن البديهي عند عدم البَنّاء تعدم هذه الحركات المعينة، وكذلك الحال في مثال الساعة والأب، فليس لدينا سوى عليّة للحركات التي يقومون بها في لحظات معينة بشكل مباشر. على أنَّ بقاء هذه الحركات مشروط ببقاء فاعليها، الذين هم علل وجودية لهذه الحركات. ومن هنا يمكن أن نستنتج على أساس قانون الحركة والتكامل الذاتي للأشياء، وأنَّ وجود كلّ موجود من موجودات الطبيعة وجود سيّال ومتغيّر ومتحرّك، وأن الحركة هي التي تعطي لهذه الموجودات هويتها وعلى أساس ما تقدم من أنَّ

١٥٩

إشكال

البيان المتقدّم سليم إلاّ في مورد الفاعل، واعتراضنا في الحقيقة ينصبّ على العلّة الفاعلية.

نحن لا نقول بأنَّ الإنسان بلا مادة يبقى إنساناً، أو أنَّ المادة دون الصورة الإنسانية إنسان. ولكن يمكننا القول: إنَّ الفعل بعد فناء الفاعل يبقى موجوداً. فنحن نجد آلاف الأعمال في العالم قد فنى فاعلها، لكنّ الفعل لا زال قائماً على قدميه، وعندئذ كيف يمكن القول إنَّ الفاعل حينما يسحب يده عن العمل يفنى العمل ويزول.

الجواب

إنَّ منشأ الإشكال يرجع إلى تزلزل فهم الحقائق، والتساهل في هذا الأمر. أو يرجع إلى عدم الوقوف على حقيقة الفعل والفاعل. فنحن رغم

الحركة حادثة تطلب محرّكاً وفاعلاً مباشراً كما تتطلّب شروطاً ومعدّات ومراحل نفهم في ضوء ما تقدّم ضرورةَ التصديق بوجود محرّك مباشر دائم وباقٍ، ومباشر وواحد ( وتفصيل هذا الموضوع سيأتي في المقالة العاشرة، حيث تتناول بحث الحركة والزمان بشكلٍ مباشر ).

إشكال: نظرية نيوتن الفيزيائية أثبتت بتجارب لا يمكن إنكارها وهي تناقض الاستدلالات العقلية المتقدّمة، ومن البديهي أنَّ أي قاعدة عقلية حينما تتعارض مع التجارب الدقيقة تفقد اعتبارها وقيمتها.

الإجابة على هذا الإشكال في الهامش اللاحق وسنوضحها.

١٦٠