أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي18%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98531 / تحميل: 9621
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

.....................................................................................................................................................................................

" الحتمية " كثيراً، لكنّهم يفهمون من أقسام الضرورات والحتميات التي أشرنا إليها في المقدّمة الحتمية العلية فقط، وهي عبارة عن الضرورة بالغير فلسفياً، أمّا الضرورة الذاتية الفلسفية والضرورة الذاتية المنطقية فلا يعرفون مفهومهما. وعدم معرفة الضرورة الذاتية الفلسفية أدى بهؤلاء إلى تصوّرات طفولية ووهمية بشأن ذات الباري تعالى، ومن ثمَّ انتهى الأمر بهم إلى النفي. وسوف نعكف في هوامش هذه المقالة على طرح نصوص الماديين، التي تعكس تصوراتهم الطفولية والوهمية بشأن ذات الباري، لكي يقف القارئ المحترم بشكلٍ مباشر على هذه التصوّرات المادية الطفولية في هذا الموضوع الفلسفي المهم.

إنَّ عدم وقوف الماديين على مفهوم الضرورة الذاتية المنطقية أدى بهم إلى أخطاء غريبة. فالمادّيون المحدثون يدّعون أنَّ منطقهم الديالكتيكي منطق ديناميكي، بينما يسمّون المنطق الإلهي بالمنطق الإستاتيكي ؛ ومن هنا فحينما يقفون في نصوص المنطقيين على مصطلح الضرورة الذاتية يحسبون أنَّ مفهوم الضرورة الذاتية هو أنَّ كل ذات ( كالإنسان مثلاً ) تبقى على حالة واحدة دائمية ولا يعتريها التغيير، ومن هنا يستنتجون أنَّ المنطق القديم منطق جامد.

يقول الدكتور( أراني ) في كتيّبه المادية الديالكتيكية: " يصل المنطق الإستاتيكي إلى نتائج خاطئة خصوصاً جرّاء إيمانه بالحتمية والدوام، فالمنطق الجامد يرى مثلا: أنَّ نسبة البياض للثلج ضرورية ودائمية، ونحن نعرف أنَّ لون الثلج ليس أبيضاً بالضرورة وعلى نحو الدوام. فبياض الجسم ينشأ جراء

١٤١

....................................................................................................................................................................................

انعكاس الضوء بشكل تام من الأجسام. ففي جو مظلم تماماً لا يكون الثلج أبيضاً، أي أنَّ البياض ليس ضرورياً ودائمياً للثلج، ومن هنا ليست هناك أيةُ حقيقة دائمية الوجود، لكن الإشراقيين، نظير شهاب الدين، بالغ في الأمر، حتى عدَّ جميع الصفات ضرورية ودائمية، وهذا هو الجمود المطلق ".

إنَّ الذين يعرفون أسلوب عقد القضايا الضرورية والدائمية يعرفون حجم خواء هذا النص وحجم جهل صاحبه، خصوصاً حينما ينسبُ الأمر إلى شهاب الدين السهروردي المشهور بشيخ الإشراق، ويعكس أنَّ الرجل بنى نصه على أساس السماع الشفاهي من أنَّ شيخ الإشراق أرجع جميع القضايا الموجهة إلى قضية ضرورية، فتخيّل أنَّ مقصوده هو أنَّ نسبة كل محمول إلى كل موضوع نسبة ضرورية وأزلية وأبدية. بينا لو رجع الدكتور( أراني ) إلى فرد مطّلع إطّلاعاً إجماليا على المنطق لما ارتكب هذه الفضيحة. إنَّ مثال الثلج والبياض من مخترعات الدكتور أراني، والأمثلة التي يذكرها المنطقيون للضرورة تنحصر بنسبة الذات إلى الماهية ( الإنسان إنسان، المثلث مثلث ) وفي نسبة أجزاء ذات الماهية إلى الماهية ( الإنسان حيوان، المثلث شكل ) وفي لوازم الماهية الذاتية بالنسبة للماهية ( كلّ إنسان يشغل حيزاً، مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين ). ومن الواضح أنَّ مفهوم هذه القضايا لا يعني أنَّ الإنسان إنسان على الدوام وباق على حالة واحدة، وأنَّ المثلث كذلك. بل تعني الضرورة هنا أنَّ كلّ شيء ما دام إنساناً فهو إنسان ويستحيل ألا يكون إنساناً ( سلب الشيء عن نفسه محال )، ويستحيل أن يكون لا حيوان أو غير شاغلٍ لمكان، وكذلك الحال في مثال المثلث.

١٤٢

مثلاً: إذا قلنا إنَّ كل واقعة خارجية ضرورية، فهذا يعني أنَّ الواقع لا يمكن سلبه عن ذاتها، وإذا قلنا الإنسان ممكن فهذا يعني أنَّ ماهية الإنسان يتساوى أمرها بالنسبة للوجود والعدم، رغم أنَّ الماهية بالنسبة إلى وجودها ذاتها ليست كذلك. ( على أنَّ للإمكان معانيَ أخرى في الاستخدامات الفلسفية، ومنها القوة مقابل الفعلية. وتستخدم الضرورة أحيانا بمعنى وجوب العدم، فتكون مرادفة للامتناع والاستحالة، نظير قولنا: سلب الواقع عن ذاته ضروري العدم وممتنع ومحال ).

بيان آخر

من البديهيات التي لا يعتريها أدنى شكّ لدينا، ونعدها أكثر أسلحتنا العلمية فعالية، هي " قانون العلية والمعلولية " (٣) ، ( لكلّ حادثة علّة ).

٣ ـ عرفّنا قانون العلية والمعلولية في مقدّمة هذه المقالة، وقلنا على أساس هذا القانون إنَّ كل حادثة لها علة ويستحيل وقوعها صدفة واتفاقاً.

وإذا أنكرنا وجود علاقة العليّة بين الأشياء، سواء على أساس الصدفة والاتفاق، أو على أساس أنَّ جميع الموجودات واجبة بالذات مستغنية عن العلّة، فسوف تعدم أيُّ علاقة بين أي موجود وأي موجود آخر، وتكون جميع الموجودات أجنبية بعضها عن بعض وغير مترابطة. وعندئذٍ سوف لا يكون هناك أيّ قانون وناموس في عالم الخارج ؛ لأنَّ جميع القوانين والنواميس التي تحكم الطبيعة هي صور عن قانون العلية العام. وفي هذه الحالة سوف لا يكون للعلم معنى أيضاً ؛ لأنَّ العلم عبارة عن بيان القوانين والنواميس والعلاقات الواقعية التي تحكم بين الأشياء، وإذا لم يكن هناك أي علاقة بين

١٤٣

كل ظاهرة تتحقّق فلها علّة، وإذا لم تكن هذه العلّة فلا وجود أيضاً لتلك الظاهرة.

إذا ضغطنا على باب فلم يُفتح، نعود فنبحث في زواياه، أي نحاول أن نفهم العيب والنقص الحاصل في الباب حيث لم يعد يُفتح، إذ لو لم يكن هناك عيب أو نقص فإنّ ضغط اليد مع توفر الشروط الأخرى يفتح الباب حتماً (٤) .

الأشياء فسوف لا يكون هناك أيّ علمٍ. إذن فقانون العلية أساس العلم. وأولئك الذين يريدون إنكار قانون العلية ويسعون في نفس الوقت إلى الحفاظ على المعرفة العلمية، يسيرون في طريق عابث.

إنَّ قانون العلية أهم القوانين التي تفيد منها الفلسفة الإلهية، وسوف نشير في هذه المقالة إلى أنَّ هذا القانون ذاته والقوانين المتفرعة منه تفضي بنا إلى الإيمان بأنَّ جميع الأسس العليّة تنتهي إلى ذات كاملة وغير معلولة، وأنَّ جميع النظم تنطوي تحت نظام واحد، فتقوم بذات واحدة.

٤ ـ أحد القوانين التي تتفرّع على قانون العلية العام هو قانون الحتمية، أي أنَّ العلة تمنح المعلول الضرورة، وأنَّ كل معلول وخصوصياته الوجودية يحصل بالضرورة التي لا يمكن تخلّفها. وقد أوضحنا في مقدّمة هذه المقالة النظريات المختلفة التي طُرحت حول هذا القانون، وأقمنا برهاناً بسيطاً على صحة هذا القانون أيضاً.

المثير للدهشة أنَّ هذا القانون حينما يُطرح كقانونٍ كلي وعام على الأذهان يثير صعوباتٍ، ويتطلب الإذعان به نشاطاً ذهنياً وممارسة برهانية كبيرة، لكي ترتفع الأوهام، لكنّه في نفس الوقت مورد قبول كلّ شخص في حسه الباطني، ووفق فطرته وإرادته يتابع هذا القانون. والنص

١٤٤

والأمر كذلك إذا لاحظ ميكانيكي العجلات توقف العجلة التي قام بترميمها وتصليحها وتشغيلها. فإنَّه يندفع مباشرة إلى البحث في محركها وسائر أجزائها، أي أنَّه يبتغي تحديد الشرط المفقود من الشروط العليّة لحركة العجلة، إذ لو لم يُفقد أحد الشروط لا تتوقّف العجلة عن الحركة إطلاقاً، أي إذا كانت العلّة التامة للحركة موجودة فالحركة ضرورية.

إذن ؛ فمن المحتم أنَّ العلّة التامة لكل معلول تعطي معلولها الضرورةَ، ويوجد معلولها على أثر هذه الضرورة.

بديهي أنّه إذا كان مجرّد الوجود الخارجي للعلة في زمان ( وإن لم يكن بمعية المعلول ) كافٍ لكي يستمر المعلول بذاته في الحياة (٥) ، فسوف لا يحصل إطلاقاً ذلك الفحص والتفتيش والبحث.

الذي جاء في المتن ( إذا ضغطنا على باب... إلى قوله: إذن فالعلة التامة تمنح كلّ معلول من معلولاتها الضرورة ) يوضح الإذعان والتصديق الفطري والعملي بهذا القانون.

٥ ـ يُطرح هنا قانون آخر من القوانين المتفرّعة على قانون العلية العام، وهو ( حاجة المعلول إلى العلة حدوثاً وبقاء ). وقد قدّمنا وعدا في مقدّمة هذه المقالة بتفصيل البحث حول هذا الموضوع في المقالة التاسعة، لكنّنا نجد من الأنسب أن نفي بهذا الوعد هنا ومن خلال هذا الهامش.

يبدو للوهلة الأُولى عدم وجود مانع من استغناء المعلول عن العلة في البقاء ؛ لأنَّ علاقة المعلول بالعلة تنشأ جراء كون العلة موجَدة للمعلول، وبمجرد وجود المعلول تنقطع علاقته بالعلة، ولا معنى لبقاء هذه العلاقة، ومن المحتم أن يتمكن المعلول بعد حدوثه بواسطة العلة من الإستمرار ببقائه وإدامة

١٤٥

إشكال

من الممكن أن يقال إنَّنا في مثال المركبة لم نفتش حقيقةً عن علّة وجود الحركة. بل نبحث عن علّة توقف المركبة. وبتعبير أوضح نقول: نحن

حياته، ما لم توجد علّة أو علل تفنيه، ويصير ذلك الملعول عدماً.

يذكر أنصار نظرية استغناء المعلول عن العلة في البقاء أمثلةً وشواهد لإثبات نظريتهم، نظير: بقاء الابن بعد أبيه، وبقاء الساعة بعد صانعها، وبقاء البناء بعد البنّاء، وبقاء حركة الحجر بعد انفصال القوة الدافعة عن الحجر، بل يدعى أيضاً أنَّ علم الميكانيك من الفيزياء الحديثة يؤكد أنَّ الجسم في حالات الحركة والسكون يتطلّب القوة الخارجية فقط حينما يراد تغيير حالته، فحينما تكون درجة حركته صفراً ( السكون ) فيتحرّك، أو يتحرّك بدرجة أكبر من درجة حركته. وإذا تحرّك الجسم بواسطة القوّة الخارجية فسوف يستمر بهذه الحركة ما لم يحصل عامل خارجي يوقف أو يقللُ هذه الحركة دون أن يحتاج إلى علة لإدامة هذه الحركة. وإذا توقّف الجسم نتيجة عاملٍ خارجي فسوف يستمر بهذا التوقّف، ما لم تحصل علّة خارجية تحركه بدرجة من الدرجات، وأيّ درجة من درجات الحركة نفترضها للجسم فإنّه يحتاج إلى علّة في الحدوث الأولي لهذه الحركة فقط، وليس بحاجة إلى علّة وعامل في إدامة هذه الحركة.

سوف نغض النظر فعلاً عن الأمثلة المتقدّمة ومناقشتها، ونغض النظر أيضاً عن تفسير النظرية الفيزيائية فلسفياً، ونكتفي بتحليل عقلي عام حول علاقة العلّة بالمعلول، لنرى فتوى العقل والفلسفة في هذا الموضوع. وسوف

١٤٦

لا نعتقد أنَّ علة الحركة تبقى مع الحركة إلى آخر لحظات وجود الحركة، وتمنحها ضرورة الوجود، لكي نبحث عن النقص في علّة الحركة عند ظهور خللٍ في المركبة. بل مع وجود علّة الحركة ينبغي أن تمضي المركبة

نتابع الأمثلة والنظرية الفيزيائية في الهوامش اللاحقة تبعاَ للمتن، لنرى هناك تناقض هذه الأمثلة مع حكم العقل أو عدم تناقضها، وأنَّ تصور التناقض والمخالفة ينشأ جرّاء سوء فهم واستنباط.

هناك تصوّر مشترك لقانون العلية لدى كل إنسان ( العلة تمنح الملعول الوجود ) فكلّ شخص يُذعن لهذا القانون العام مادام يؤمن بعلاقة العلية بين الموجودات، سواء أكان حكيماً أم متكلّماً، إليهاً أم مادياً، عالماً أم فيلسوفاً، ونحن هنا نأخذ هذه المقولة اليقينية أساساً لتحليلنا فنقول: حينما نلاحظ في حياتنا اليومية الأمثلة التي يتم فيها إعطاء شيء من قبل شيء إلى شيء آخر، كما لو أعطى إنسان إلى إنسان آخر شيئاً، نجد في هذه الظاهرة أربعة أركان:

١ ـ المُعطِي.

٢ ـ المستقبل.

٣ ـ الإعطاء، أي العمل الذي يقوم به المُعطِي.

على أنَّ الأركان في بعض الموارد يمكن أن تكون خمسة، والركن الخامس عبارة عن الأخذ، أي العمل الذي يتم من ناحية المستقبَل. على كلّ حال فنحن نواجه في هذه الأمثلة أربعة أركان على الأقل. نأتي الآن لنرى في مورد العلّة والمعلول هل هناك أربعة أركان:

١٤٧

في حركتها، وتستمر في الحركة حتى مع زوال علة الحركة، كما هو الحال لو مات المعمار فإنَّ المبنى لا يزول، أو لو مات الأب فإنّ الابن يبقى ولا يفنى. أمّا في المثال المتقدّم فحيث إنَّ الحركة زالت ووقع السكون والتوقّف فسوف نبحث عن علّة السكون والتوقّف.

١ ـ المعطي ( العلة ).

٢ ـ المستقبل ( ذات المعلول ).

٣ ـ المعطى ( الوجود الواقعي ).

٤ ـ الإعطاء ( الإيجاد ).

وبعبارة أخرى هل هناك موجد وإيجاد ووجود وموجود في مورد العلية والمعلولية، أي جاعل وجعل ومجعول ومجعول له، معطي وإعطاء ومُعطى له، أم أنَّ الأمر ليس كذلك، وإذا كان الأمر ليس كذلك فما هي طبيعته في هذا المورد ؟

نأتي أوّلاً لنرى هل هناك أمران في مورد العلّة والمعلول أي هناك أمران واقعيان خارجيان في مورد العلّة والمعلول وهما المعطى له والمعطي أو المستقبِل والمعطي ؟ نلاحَظ أنَّ المستقبِل أي ذات المعلول إذا كان له واقع بغض النظر عمّا اكتسبه من العلّة يلزم أن يكون ذلك المعلول ليس معلولاً، أي يلزم الخلف ؛ لأنَّنا حسب التعريف الأولي عرّفنا العلة بوصفها معطي الواقعَ إلى المعلول، أي أنَّ المعلول يكسب واقعيته من العلة، وإذا كان المعلول أمراً واقعياً يختلف عن الواقع الذي يكسبه من العلة فسوف يكون المعلول غير متلقٍ لواقعه من العلّة، أي أنَّ المعلول بحسب الواقع ليس

١٤٨

الجواب

نفوّض وجدان طارح الإشكال، لكي يجيب على هذا النقض ؛ ونتساءل هل يفتش الميكانيكي ـ في المثال المتقدّم ـ عن أجزاء علة الحركة، أم يبدأ بحثا جديدا عن علّة التوقّف ؟

معلولاً: إذن ففي مورد العلّة والمعلول يكون واقع المعطى عين واقع المعُطى له، إنَّما يعتبر ذهننا هذا الواقع العيني الواحد مفهومين مختلفين ( مستقبل ومعطى ).

نأتي في المرحلة الثانية لنعكف على الاستفهام التالي: هل الإيجادُ له واقع مستقل عن واقع المعطى أم لا ؟ فإذا فرضنا أنَّ واقع الإيجاد يختلف عن واقع المعطى يلزم أن نفترض وجود ( المعطى له ) بغض النظر عن الإيجاد واقعاً مستقلاً، وينحصر عمل العلة بالارتباط بهذا الواقع المستقل والإضافة إليه، وتمنح هذه العلاقة والإضافة إلى المعلول. وهذا الفرض يستلزم أن نفترض واقعاً مستقلاً للمستقبِل أيضاً يختلف عن واقع المعطى، بينا وجدنا ذلك محالاً كما تقدّم. إذن فلا يعني منح العلة الواقع للمعلول وتوفّر المعلول على الواقع من قبل العلة أنَّ الواقع أمر قائم في الخارج وعمل العلة أن يأتي فيمنح الملعول هذا الواقع، بل المفهوم الحقيقي لإعطاء الواقع للمعلول هو أنّ واقع المعلول عين إعطاء العلة وإفاضتها، أي أنَّ هناك أمرا واحداً ـ كما هو الحال في مورد المستقبل والمعطى ـ وهو الإعطاء أو المعلول، أي أنَّ المعلول عين الإعطاء وعين إفاضة العِلّة وليس أمراً آخر، أي ليس هناك فيض يحصل بواسطة واقع آخر اسمه الإفاضة من قبل العِلّة.

١٤٩

إنّ طارح الإشكال إذا راجع وجدانه وفطرته فسوف يرى أنَّ السكون عدم الحركة، وعلة عدم المعلول هي عدم العلة. إذن ففي كلّ حادثة سلبية، أي عندما تعدم حادثة إيجابية، فنحن نبحث دائماً علة وأجزاء

نأتي في المرحلة الثالثة لنرى واقع ( المعطي )، نلاحظ هنا أنَّ واقع المعطي يجب أن يكون واقعا مستقلاً عن المستقبل والمعطى والإيجاد ؛ لأنَّه واقع آخر غير واقع الشيء الذي ينشأ عنه، هو منشأ هذا الواقع الآخر، ومن المستحيل أن يكون الشيء ينشأ عنه، هو منشأ هذا الواقع الآخر، ومن المستحيل أن يكون الشيء منشأً لذاته، لأنَّ ذلك يستلزم الصدفة وتقدّم الشيء على نفسه، ومن ثمَّ التناقض.

في هذا الضوء تعرف أنَّ التصوّر الأولي للأركان الأربعة ليس سليماً في مورد العلة والملعول، بل في هذا المورد ليس هناك في عالم الخارج إلاّ واقعان، وليس هما إلاّ واقع العلة وواقع المعلول، الذي هو عين إيجاد العلة. وبعبارة أخرى أدركنا بعد التحليل الكامل أنَّ واقع الإيجاد والموجود والوجود في مورد المعلولات أمر واحد، إنَّما يقوم ذهننا بتحليل هذا الواقع الواحد إلى مفاهيم ثلاثة، وهذا التحليل الذهني أفضى إلى ذلك الوهم الأولي.

والحقّ أنَّ المنشأ الرئيسي لهذا اللون من التفكير الابتدائي الخاطئ، الذي وقع فيه أغلب أدعياء الفلسفة، هو لون من القياس الخاطئ ؛ فقد لاحظوا بحسب العادة أنَّ شخصاً حينما يمنح شخصاً آخر مالاً أو يهدي إليه وردة مثلاً، فهذه العملية تتطلّب أربعة أركان واقعية، ولاحظوا أنَّ المعطي يغاير عملية الإعطاء، فمثلاً حينما يأخذ شخصٌ مالاً أو وردة من شخص آخر فهو يحتاج في اللحظة الأُولى إلى أحد ذلك الشيء من المعطي، لكنّه في اللحظات

١٥٠

علّة الحادثة السابقة، نعم حينما تقع حادثة إيجابية لا نرجع إلى علّة الحادثة السابقة، لكن استدلالنا لا يعتمد على هذا الفرض.

ثمّ مع غض النظر عمّا تقدّم، فإنَّ وجود علّة السكون والتوقّف بمعيّة

اللاحقة سوف يكون ذاته صاحب ذلك الشيء، ولا حاجة له في اللحظات اللاحقة إلى المعطي، ومن هنا تخيّلوا أنَّ الإيجاد يناظر إعطاء المال أو إهداء الوردة، فواقع الوردة والمال غير عملية إعطاء الوردة والمال، وغير المستقبل أيضاً، ولاحظوا ثانياً أنَّ المستقبل يستطيع التوفّر على المال والوردة في اللحظة اللاحقة للحظة استقباله وأخذه لهما، ولا حاجة له بالمعطي، ومن هنا استنتجوا أنَّ المعلول لا حاجة به إلى العلة في البقاء.

بعد أن آمنا على أساس القاعدة الكلّية الثابتة أنَّ علاقة العلة والمعلول علاقة منح الوجود والتوفّر عليه، وبعد أن تعرّفنا في ضوء ما تقدّم على أنَّ هذه العلاقة، يعني الإيجاد والتوفّر على الوجود، ليست أموراً واقعية مغايرة لذات وجود المعلول ومستقلّة عنه، أي أنَّ واقع المعلول وعلاقة المعلول بالعلّة أمر واحد ؛ إذن يتّضح أنّ واقع المعلول لا يمكن فرضه منفكّاً عن علاقة المعلول بالعلّة، إي مع قطع النظر عن علاقة المعلول بالعلة يستحيل حفظ وبقاء المعلول. ومن هنا نستنتج أنَّ المعلول يحتاج إلى العلّة ويتكئ عليها حدوثاً وبقاءً. ويستحيل لمعلولٍ أن يستمر في إدامة حياته مع قطع علاقة بعلّته.

أمامنا من وجهة نظر فلسفية طريقان، فأمّا أن نضع قانون العلية جانباً، ومن ثمَّ نؤمن بمذهب السفسطة والصدفة والاتفاق، وإمّا أن نؤمن بحاجة المعلول إلى العلة بقاءً. أما تفسير وتبين الأمثلة والشواهد التي ذُكرت لعدم

١٥١

التوقّف أمرٌ لا لزوم له ـ من وجهة نظر طارح الإشكال ـ ؛ ومن هنا ليس هناك مبرّر وتفسير للبحث في هذه الحالة عن شيء من الممكن أن يكون معدوماً.

حاجة المعلول إلى العلّة في البقاء فسوف نأتي عليها لاحقا. وهنا نحاول التذكير بالأفكار التالية:

أ ـ قلنا مراراً أنَّ المهمة الأُولى لكلّ فيلسوف هي أن يتفحّص أفكاره، ويتعرّف على أُسلوب صناعة الذهن لها. وهذا النشاط المعرفي اصطلحنا عليه علم النفس الفلسفي. ونحن هنا كما اطّلع القارئ المحترم قمنا بتحليل أفكارنا الذهنية حول العلة والمعلول، اعتماداً على قاعدتين فلسفيتين ( مسلّمتين )، وأثبتنا أنَّ الكثرة في مجال بحثنا هنا كثرة مفهومية وذهنية، وهذه الكثرة الذهنية أضحت منشأ لأكبر الأوهام في الفلسفة. لذا نكرّر مرةً بعد مرّة ما قلناه: ما لم نتعرّف على الذهن لا يمكننا أن نتوفّر على فلسفة.

ب ـ البرهان الذي استخدمناه لإثبات الفكرة هنا برهان عقلي خالص. حيث إنَّ هذه المسألة كما تقدّمت الإشارة في مقدّمة المقالة السابعة من المسائل الفلسفية الخالصة، لا تعتمد على أي عنصر تجريبي خارج إطار العقل المحض. بل الإلتفات الدقيق لطبيعة هذه المسألة يوضح أنَّ هذه المسألة من المسائل التي لا يتيسر درسها إلاّ عن طريق البرهان العقلي الذي تقدّم. وهذا يؤكّد مدى مبالغة المدرسة الحسّية والتجريبية، وخطل دعواها بأنَّ قضايا الفلسفة يلزم أن تُدرَس في ضوء الحس والتجربة.

ج ـ يناصر المادّيون نظرية عدم حاجة المعلول إلى العلّة بقاءً، وسوف ننقل أفكارهم وننقدها في محلّها المناسب. وقد ذهب إلى هذه النظرية

١٥٢

إشكال

صحيح أنَّ التفتيش عن المعدوم غير مبرّر، لكنّ العلّة في هذه الموارد علّة مركبة ذات أجزاء متّصلة، بعضها موجود، وبعضها معدوم.

وعبر الوقوف على الأجزاء الموجودة فعلاً نقف على الأجزاء الأخرى، إلاّ إذا فرضنا أنَّ العلّة كلّ مركب ينعدم بانعدام بعض أجزائه. إذن؛

بعض المتكلّمين أيضاً، لكن المحقّقين من الحكماء عامة يناصرون نظرية حاجة المعلول إلى العلة بقاء، وقد أقام كلّ اتجاه من اتّجاهات هؤلاء الفلاسفة برهاناً أو براهين لإثبات ذلك. وبعض هذه البراهين رغم اعتماد أنصار أصالة الوجود عليها، لكنّها تتنفّس في إطار أصالة الماهية، ونحن بغية عدم إطالة البحث نغضّ النظر عن تحليل ونقد هذه البراهين. ونحسب أنَّ البرهان الذي تقدّم أعلاه هو أفضل وأسهل الطرق لإثبات الموضوع. على كلّ حال فهذا الموضوع من أهم المسائل التي سوف يفيد منها الباحث في مباحث الإلهيات التي ستأتي في المقالة الرابعة عشر.

د ـ تُعرف العلة في كلمات الفلاسفة بأنّها ( معطي الوجود ). وتُعرّف أحياناً بمعنى أعم، لتشمل جميع الأشياء التي يحتاجها الشيء في حصوله على الوجود. وإذا أخذنا العلّة بمعناها الأعم فسوف تشمل المعدّات والشروط أيضاً، وإذا كان المعلول مركّباً سوف تشمل أجزاءه التي يتشكّل واقعه منها أيضاً، وإذا كنّا نؤمن بالعلّة الغائية فسوف يشملها أيضاً ؛ لأنَّ جميع الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء يصدق عليها تعريف العلّة، الذي هو عبارة عن كلّ ما يحتاجه الشيء في وجوده.

١٥٣

فوجود العلّة بتمام أجزائها في معيّة وجود المعلول لا لزوم له إطلاقاً. كما هو الحال في الوليد، فهو يحتاج إلى والديه في الولادة فقط، وبعد الولادة لا تبقى هناك حاجة في البين.

الجواب

لقد أُُخذ في مفهوم العلّة في الإشكال ـ كما هو واضح ـ وجود كلّ جزء من أجزاء العِلّة بشكلٍ مطلقٍ، وهذا الأمر نفسه خطأ كبير،

لكنّ التعريف الأوّلي ( معطي الوجود ) لا يصدق على الشروط والمعدّات، ولا يصدق أيضاً على الغاية وعلى أجزاء المركب الواقعية. بل يصدق فقط على ما يصطلح عليه (العلّة الفاعلية ). والمقولة التي تقدّمت، والتي تقرّر أنَّ المعلول يحتاج إلى العلّة حدوثاً وبقاءً تعني العلّة الفاعلية، والبرهان الذي تقدّمت إقامته ـ كما هو واضح ـ يشمل العلّة الفاعلية فقط، ولا يشمل هذا البرهان الشروط والمعدّات والغاية وأجزاء المركّب. بالنسبة إلى مورد الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء ( المركّب الحقيقي الذي يتألّف من مادّة وصورة ) ينبغي عن طريق آخر إثبات أنَّ هوية المعلول تحتاج إلى العلّة حدوثاً وبقاء، وهذه الفكرة واضحة جداً وغنية عن الاستدلال، إذ لا يحتمل أن يكون هناك شخص يشكّك في حقيقة أنَّ بقاء المركّب متوقّف على بقاء جميع أجزائه، وأنَّ انتفاء أيّ جزء من أجزائه كافٍ لانتفاء المركّب. ويبدو أنَّه لم يوجد حتى الآن من يدّعي خلاف هذه الفكرة.

١٥٤

خصوصاً وهو يصدر عن الأفراد الذين يرفعون لواء التحوّل والتكامل (٦) . ممّا يثير الدهشة المذهلة.

إذ ليس لدينا في عالم المادة موجود مطلق، يروغ على قانون الحركة والتكامل. إنَّ كل ظاهرة تقع فهي مرتبطة بالأجزاء المكانية والزمانية التي هي جزء وجودها. ومن هنا فالعلّة المركّبة تعني سلسلة أحداث مترابطة

٦ ـ بحكم أهمية وصعوبة الأفكار نضطر هنا إلى إيضاحها عن طريق وضع نظريات المتن ثمّ الاعتراض عليها بصورة إشكال ثمّ الإجابة عليها، بُغية أن يفيد القرّاء المحترمين من هذا التحليل:

النظرية: معطي الضرورة للمعلول حدوثاً وبقاءً هو علّته، وبقاء العلّة شرط في وجود وفي ضرورة المعلول معاً. مثلاً إذاً لاحظ الميكانيكي خللا في حركة السيارة، فسوف يعكف على فحص الخلل، ويرجع ذلك إلى أنَّه بحسب فطرته يؤمن بأنَّ الحركة موجودة بالضرورة ما دامت العلّة التامة للحركة موجودة، وإذا لوحظ خلل في لحظة من اللحظات فهذا يكشف عن حصول نقصٍ في علّة الحركة، أي أنَّه يذعن بالفطرة أنَّ مجرّد الوجود الخارجي لعلّة الحركة في زمان ما ليس ضامنا لبقاء الحركة، بل بقاء العلة التامة للحركة هو الذي يضمن بقاء الحركة.

إشكال: إنَّ نظائر هذا الفحص ليست دليلاً على الإذعان الفطري بالنظرية المتقدّمة ؛ إذ من الممكن أن يقال إنَّ الميكانيكي لم يأتِ ليكشف عن نقطة نقصان علّة الحركة، بل جاء للكشف عن التغيير الذي طرأ على الحركة فصيّرها سريعة أو بطيئة أو متوقّفة. أي أنَّ حدثاً جديداً قد وقع وأنَّ الميكانيكي بصدد البحث عن علّة حدوث هذا الحدث الجديد، وليس بصدد

١٥٥

لحصول ظاهرة مادية مفترضة. والحقيقة أنَّ المادة التي فرضناها قد ركبت طريق الحركة، وسارت بشكلٍ تكامليٍّ في ظل مجموعة حالات وشروط. على أنَّ كلّ واحدة من هذه الشروط والحالات مرتهنة بوضعها الخاص فقط، إذن فالعلّة المفروضة في الحقيقة لم تنفصل عن معلولها بأجزائها التدريجية، ومجموع العلّة لمعلولٍ معين لم تفقد أي جزء من أجزائها، إذ كلّ جزء من الأجزاء محفوظ في موضعه الخاص بالبداهة.

الكشف عن منشأ عدم بقاء الحادثة الأُولى. إذن يمكن أن يقال إنَّ الميكانيكي بحسب فطرته يذعن بخلاف مدعى النظرية المتقدّمة أي أنَّه يعلم أنَّ بقاء علة الحركة ليس شرطاً في بقاء الحركة، بل إذا حصل خلل في الحركة فهذا يكشف عن علّة جديدة قد حصلت، وألغت دور العلّة السابقة.

الجواب:

أولاً: السكون ليس أمراً وجودياً لكي يتطلّب علة وجودية، بل هو أمر عدمي، لأن السكون عدم الحركة، ومن هنا فعلّة السكون أو عدم الحركة هي عدم علّة الحركة، ومن هنا فالبحث عن علة السكون عين البحث عن عدم البقاء والبحث عن النقص في علّة الحركة.

ثانياً: سلّمنا أنَّ بقاء علّة الحادثة ليس شرطاً في بقاء الحادثة، فإذا فرضنا أنَّ السكون واقعة وجودية فسوف يكون البحث عن علّة السكون لا معنى له ؛ لأنَّ علّة السكون حسب الفرض المتقدّم ليس شرطاً في بقاء السكون فمن الممكن أن يكون معدوماً، والبحث عن المعدوم لا معنى له.

إشكال : نسلّم أنَّ البحث عن السكون لا معنى له، لكن هذا الأمر يَصدق في العلّة البسيطة. بينا ليست هناك علل بسيطة في عالم الكون على هذا

١٥٦

مثلاً: الوليد الإنساني، فالعملية التناسلية وتلقيح البويضة أحد أجزاء العلّة، مضافاً إلى شروط وحالات أُخرى تتكامل عبر تسعة أشهر. وفي هذه السلسة يكون لكلّ واحد من الشروط والحالات دور مفيد، ولكن ليس بشكل مطلق، أي أنَّ العملية الجنسية يجب أن تقع قبل تسعة أشهر من الولادة، لا في أي وقت، ولا في حين الولادة...

النحو. بل علّة كل شيء مجموعة من الحوادث المتعدّدة التي تقع على طول الزمان، وهذه الحوادث التي تشكّل أجزاء علل الشيء ليست شرطاً في بقاء المعلول. بل من الممكن أن يبقى بعضها مع المعلول ولا يبقى البعض الآخر. على أنَّ الحصول على أجزاء العلل الموجودة يُمكننا من الوقوف على سائر الأجزاء الأخرى، وهذا دليل على أنَّ بقاء العِلّة التامة ( كلّ أجزاء العِلّة ) ليس شرطا في بقاء المعلول.

الجواب: إنَّ هذا اللون من الحوادث الطولية الزمانية، التي يكون وجود المعلول مشروطا بوجودها السابق، يُستحسن أن نُطلق عليها مصطلح الشروط والمعدات لا العلّة. مثلاً الحجر الذي يتحرّك ويطوي مسافة، فما لم يمر بجميع النقاط الوسطية يستحيل أن يصل إلى النقطة الأخيرة، وكذلك أي نقطة افترضناها يستحيل أن يصل إليها قبل الوصول إلى النقطة التي هي قبلها. أي أنَّ طيّ بعض أقسام المسافة شرط للوصول ولطي البعض الآخر من أقسام المسافة. ولكن لا يمكن أن نعتبر طيّ أو الوصول إلى جزء من المسافة علّة محركة للجسم في الجزء الآخر، بل العلّة المحركة في كلّ الأحوال تصاحب الحركة وهي القوّة التي تقوم في الجسم وتوجهه في مسيرة

١٥٧

ومن الواضح جداً أنَّ جميع هذه الحالات والشروط ليست مرتبطة بدون واسطة وبشكل مباشر بالوليد ( المعلول ـ الظاهرة الجديدة ـ ). بل يختلف أمرها، فبعضها شرطٌ لشرطٍ، وبعضها شرطٌ لشرطِ الشرط، كما هو الحال في العملية الجنسية فهي ترتبط مباشرة بقذف المادة المنوية في الرحم لا بولادة الوليد.

معينة ؛ انطلاقاً من قانون التكامل الجوهري والذاتي لموجودات الطبيعة، أنَّ كلّ موجود من موجودات الطبيعة في مراحله الوجودية يشبه حالة الحجر باستمرار. فهو حينما يطوي مسافة يكون العبور من مرحلة سابقة شرط العبور في المرحلة اللاحقة، وفي نفس الوقت فالقوّة التي تلازمه في مسيرة تكامل الموجودات قوة باقية ولا تزال. من هنا فهذه الشروط والمعدات بمثابة منازل ومراحل لعبور الشيء، وتسمّى أحيانا ( علل )، ويكون وجودها شرط وجود المعلول، ولكن لا بنحو مطلق بل بنحو نسبي ؛ أي أنَّ وجود كلّ واحد من هذه الشروط شرط لوجود المعلول في مرحلة معينة وفي لحظة معينة من الزمان لا مطلقاً. ونحن قلنا إنَّ بقاء العلة شرط في بقاء المعلول، وكنا ننظر إلى العلّة الفاعلية وكذلك العلة المادية والصورية ( الأجزاء التي تشكّل واقع الشيء، لا مطلق العلل التي تشمل الشروط والمعدات أيضاً ).

إشكال: إنَّ الأمثلة والشواهد الحسية تنقض جميع هذه الاستدلالات العقلية. فنحن نجد آلاف الأعمال في العالم يذهب فاعلوها ويبقى الفعل قائماً بذاته. فالبَنّاء يشيّد المبنى ويبقى المبنى قائماً بعد وفاة البَنّاء. الساعتي يصنع الساعة وتستمر الساعة في عملها سنيناً دون أن تحتاج إلى صانعها. الأب ينجب الابن ثمّ يموت، لكن الإبن يستمر في حياته، وهكذا آلاف الأمثلة

١٥٨

من بين أجزاء العلّة التي لا يكون للمعلول وجود بعدمها تلك الأجزاء التي ترتبط بشكل مباشر بالمعلول. كما لو فرضنا عدم المادة التي يوجد بها الوليد، أو الصورة الإنسانية التي يأتي على هيئتها، أو عدم فاعل التركيب، فسوف لا يكون هناك وليد في البين. فالوليد الإنساني دون مادة ليس له مفهوم، والمادة التي لا تتوفّر على الصورة الإنسانية لا تكون وليداً إنسانياً، وكذلك الفاعل لعملية التركيب، فحيثما يسحب نفسه من إنجاز العملية يتوقّف العمل ويبقى ناقصاً. إذن ؛ فوجود العلّة بمعيّة المعلول أمر ضروري على كلّ حال.

الأخر... وأفضل دليل على الإمكان هو الوقوع، ووقوع هذه الحوادث دليل على إمكان بقاء المعلول بدون علّة.

الجواب: إنَّ هذه الأمثلة الحسية لا تنقض حكم العقل، لأنَّ استخدام العلّة وإطلاقها من باب التسامح في التعبير. فالبَنّاء علّة لحركاته التي يقوم بها وليس علّة للمبنى، الذي هو مجموعة من مواد مع خصوصيات معيّنة، والذي يضمن بقاء المبنى هو هذه الخصوصيات المعينة. والبَنّاء ليست له أي علاقة عليّة مع هذه المواد والخواص، بل تنحصر علّيته بالنسبة إلى الحركات التي قام بها شخصياً، ومن البديهي عند عدم البَنّاء تعدم هذه الحركات المعينة، وكذلك الحال في مثال الساعة والأب، فليس لدينا سوى عليّة للحركات التي يقومون بها في لحظات معينة بشكل مباشر. على أنَّ بقاء هذه الحركات مشروط ببقاء فاعليها، الذين هم علل وجودية لهذه الحركات. ومن هنا يمكن أن نستنتج على أساس قانون الحركة والتكامل الذاتي للأشياء، وأنَّ وجود كلّ موجود من موجودات الطبيعة وجود سيّال ومتغيّر ومتحرّك، وأن الحركة هي التي تعطي لهذه الموجودات هويتها وعلى أساس ما تقدم من أنَّ

١٥٩

إشكال

البيان المتقدّم سليم إلاّ في مورد الفاعل، واعتراضنا في الحقيقة ينصبّ على العلّة الفاعلية.

نحن لا نقول بأنَّ الإنسان بلا مادة يبقى إنساناً، أو أنَّ المادة دون الصورة الإنسانية إنسان. ولكن يمكننا القول: إنَّ الفعل بعد فناء الفاعل يبقى موجوداً. فنحن نجد آلاف الأعمال في العالم قد فنى فاعلها، لكنّ الفعل لا زال قائماً على قدميه، وعندئذ كيف يمكن القول إنَّ الفاعل حينما يسحب يده عن العمل يفنى العمل ويزول.

الجواب

إنَّ منشأ الإشكال يرجع إلى تزلزل فهم الحقائق، والتساهل في هذا الأمر. أو يرجع إلى عدم الوقوف على حقيقة الفعل والفاعل. فنحن رغم

الحركة حادثة تطلب محرّكاً وفاعلاً مباشراً كما تتطلّب شروطاً ومعدّات ومراحل نفهم في ضوء ما تقدّم ضرورةَ التصديق بوجود محرّك مباشر دائم وباقٍ، ومباشر وواحد ( وتفصيل هذا الموضوع سيأتي في المقالة العاشرة، حيث تتناول بحث الحركة والزمان بشكلٍ مباشر ).

إشكال: نظرية نيوتن الفيزيائية أثبتت بتجارب لا يمكن إنكارها وهي تناقض الاستدلالات العقلية المتقدّمة، ومن البديهي أنَّ أي قاعدة عقلية حينما تتعارض مع التجارب الدقيقة تفقد اعتبارها وقيمتها.

الإجابة على هذا الإشكال في الهامش اللاحق وسنوضحها.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في قوله:(الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قال: الصافنات الخيل إذا أصفنّ قياماً، عقرها: قطع أعناقها وسوقها، وقوله:(أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخيْرِ...) يقول: الخير المال، والخيل من المال، يقول: فشغلته الخيل عن الصلاة.(1)

تفسير الطبريّ

« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

قال: وفي هذا الكلام محذوفٌ استغني بدلالة الظاهر عليه من ذِكره، فَلَهِيَ عن الصلاة حتّى فاتته فقال: إنّي أحببتُ حبَّ الخير! ويعني بقوله:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) : أي أحببتُ حبّاً للخير، ثمّ أضيف الحبّ إلى الخير، وعَنِي بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمّي الخيل الخير، والمال أيضاً يسمّونه الخير. فعن قتادة« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ » أي المال والخيل، أو الخير والمال.(2)

وبسنده عن سفيان، عن السُّدِّيّ« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) قال: الخيل. وأيضاً عن السُّدِّيّ، قال: المال. (3)

وقوله:« عَن ذِكْرِ رَبّي » يقول: إنّي أحببت حبَّ الخير حتّى سهوتُ عن ذكر ربّي وأداء فريضة. وقيل: إنّ ذلك كان صلاة العصر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال

____________________

(1) تفسير عبد الرزّاق الصنانيّ (ت 211 هـ) 2: 133 / الحديث 2588، وأيضاً تفسير عبد الرزّاق 2: 85،(وَعَشِيّاً) الروم: 18 -: العصر.

(2) تفسير الطبريّ 23: 182.

(3) نفسه.

٢٢١

أهل التأويل. عن قتادة، وعن السدّيّ«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عن صلاة العصر.(1)

وأخرج بسنده عن أبي صخر، أنّه سمع أبا معاوية الجبليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصّهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.(2)

وقوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » يقول: حتّى توارت الشمس بالحجاب، يعني تغيّبت في مغيبها. ذُكِر ذلك عن ابن مسعود وعن السّدّيّ.(3)

وفي قوله:« فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالْأَعْنَاقِ » : عن قتادة قال: قال الحسن: قال: لا واللهِ لا تشغليني عن عبادة ربيّ آخر ما عليك.

قال قولهما - يعني قتادة والحسن - فيه: فكسف عراقيبها، وضرب أعناقها.(4)

وعن السّدّيّ: فضرب سُوقَها وأعناقها.(5)

الفخر الرازيّ: ذكر وجوهاً لحبّ داود للخيل، منها: أنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر الله وأمره، لا عن الشهوة والهوى، وهذا الوجه أظهر الوجوه.(6)

____________________

(1) تفسير الطبريّ 23: 182.

(2) نفسه 23: 183.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

(5) نفسه.

(6) التفسير الكبير، للفخر الرازيّ 26: 204.

٢٢٢

قال: والضمير في قوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » وفي قوله:«رُدُّوهَا» يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما عائداً إلى الشمس؛ لأنّه جرى ذكر ما له تعلّقٌ بها، وهو العشيّ.(1)

تفسير السّلميّ: قال أبو سعيد القرشيّ: من غار للهِ وتحرّك له؛ فإنّ الله يشكر له ذلك، ألا ترى سليمان لمّا شغلته الأفراس عن الصلوات حتّى توارت الشمس بالحجاب، قال: ردّوها عَلَيّ فطفق مسحاً بالسّوق والأعناق.

فشكر اللهله صنيعه فقال:« فَسَخّرْنَا لهُ الرّيحَ » ، أبدلَه مركباً أهنى منهم وأنعم.(2)

ابن عطية الأندلسي: ذكر في تفسيره بشأن الآيات فقال: اختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إنّ سليمانعليه‌السلام عرضت عليه آلافٌ من الخيل تركها له أبوه، فأجريت بين يديه عشاءً، فتشاغل بجنسها وجريها ومحبّتها حتّى فاتته صلاة العشاء.(3)

قال: قال قتادة: صلاة العصر، ونحوه عن عليّ بن أبي طالب، فأسف لذلك وقال: رُدّوا علَيّ الخيل. قال الحسن: فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف؛

____________________

(1) نفسه.

(2) تفسير السّلمي محمّد بن الحسين الأزديّ السّلميّ (ت 412 هـ) 2: 186.

(3) إنّ قوله: فاتته صلاة العشاء، غير دقيق، إذ الذي في الآية:(العَشِيَّ) وهو ما بعد الزوال، كما في المعاجم والتفاسير على ما مرّو ما سيأتي. ونسبة قولَه إلى الجمهور! ليس صحيحاً، فقد ذكرنا بعض أقوالهم وسنذكر أخرى وكلّها تقول، «العصر». وقد وجدناه بعد قوله: فاتته صلاة العشاء، يذكر قول قتادة أنّها صلاة العصر! ومثله نسبه إلى الإمام عليّعليه‌السلام .

٢٢٣

عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها.

قال: والضمير في (توارت) للشّمس، وإن كان لم يَجْرِ لها ذكر صريح لأنّ المعنى يقتضيها وأيضاً فذِكْرُ العشيّ يقتضي لها ذكراً ويتضمّنها، لأنّ العشيّ إنّما هو مقدّرٌ متوهّمٌ بها.(1)

وفي تفسير ابن العربيّ:( بِالْعَشِيِّ ) : من زوال الشّمس إلى الغروب، كما أنّ الغداة من طلوع الشمس إلى الزوال.(2)

الجياد: هي الخيل، وكلّ شيء ليس برديء يقال له جيّد، عرضت الخيل على سليمانعليه‌السلام ، فشغلته عن صلاة العشيّ.

قال المفسّرون: هي العصر.(3)

قال: وكان له ميدان مستدير يسابِقُ بينها فيه، فنظر فيها حتّى غابت الشمس خلف الحجاب، وهو ما كان يحجب بينه وبينها.(4)

وفي قول مَن قال: إنّ الشمس لم يجر لها ذِكر، قال: وهذا فاسد، بل تقدّم عليها دليل، وهو قوله:«بِالْعَشِيِّ» ، كما تقول: سِرتُ بعد العصر حتّى غابت، يعني الشمس، وتركها لدلالة السامع لها عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها وتعلّق بذكرها؛

____________________

(1) المحرّر الوجيز: لعبد الحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسيّ (ت 546 هـ).

(2) أحكام القرآن لأبي بكر محمّد بن عبد الله المعروف بابن العربي 4: 50.

(3) نفسه: 51.

(4) نفسه.

٢٢٤

والغداةُ والعشيُّ أمرٌ مرتبط بمسير الشمس، فذُكره ذِكْرٌ لها.(1)

نظم الدّرر:« عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » ، أي فيما بعد زوال الشمس،«الصَّافِنَاتُ» أي الخيول العربيّة الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض؛ اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمّتها، وإظهاراً لقوّتها ورشاقتها وخفّتها...«الْجِيَادُ) ، التي تجود في جريها بأعظم ممّا تقدر عليه، جمع جواد، فلم تزل تُعرَض عليه حتّى فاتته صلاة آخر النّهار، وكان المفروض على من تقدّمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.

ولمّا كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزّته مع زيادة أوْبته، لتحصل التأسِية به في حسن ائتماره وانتهائه بقوله: فَقَالَ ولمّا كان اللاّئق بحاله والمعروف من فعاله أنّه لا يُؤثّر على ذكر الله شيئاً، فلا يكاد أحد ممّن شاهد ذلك يظنّ به ذلك - أي التسلية واللّهو - بل يوجّهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محاملَ تَليق بما يعرفونه من حالٍ من الإقبال على الله والغنا عمّا سواه، أكد قوله تواضعاً للهِ تعالى، ليعتقدوا أنّه بشر يجوز عليهم لو لا عصمةُ الله: إِنِّي، ولمّا كان الحبّ أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلاّ بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحبّ، فهو غيرُ دالٍّ عليه إلاّ بقرائن، قال اعترافاً أَحْبَبْتُ أي: أوجدت وأظهرت بما ظهر منّي من الاشتغال بالخيل، مقروناً بذلك بأدلّة الودّ حُبَّ الخيْرِ وهو المال، بل خلاصة المال وسبب كلّ خيرٍ دنيويّ وأخرويّ «الخيلُ معقودٌ

____________________

(1) أحكام القرآن 4: 51.

٢٢٥

بنواصيها الخير».(1)

أظهرتُ ذلك بغاية الرّغبة، غافلاً«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» المحسن إليّ، بهذه الخيل التي شغلتني، فلم أذكره بالصّلاة التي كانت وظيفة الوقت؛ وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي«حَتَّى تَوَارَتْ» أي الشمس المفهومة من «العَشِيّ»،«بِالْحِجَابِ» وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها، فصارت وراءها حقيقةً.(2)

ولما اشتدّ تشّوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأوّاب، بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل...، فَطَفِقَ أي: أخذ يفعل ظافراً بمراده، لازماً له مصمّماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدوّ، لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل، مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذّكر، مُعْرِضاً عمّا يمكن أن يتعلّق به القلب، متقرّباً به إلى الله تعالى كما يتُقرّب في هذه الملّة - أي ملّة الإسلام - بالضحايا.

مَسْحاً: أي يوقع المسح فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً.(3)

المفردات: العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح والعشاء: من صلاة المغرب

____________________

(1) أخرجه البخاريّ برقم 2849 و 3624، ومسلم 1871، والنّسائيّ 221، والبيهقيّ 6: 329، والبغويّ 2644.

(2) نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور: لإبراهيم بن عمر البقاعيّ (ت 885 هـ) 6: 383.

(3) نفسه 6: 384.

٢٢٦

إلى العتمة.(1)

تاريخ دمشق: قال الحسن:« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » كانت خيلاً بلقاً جياداً، وكانت أحبّ الخيل إليه البلق فعرضت عليه، فجعل ينظر إليها« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، فغفل عن صلاة العصر.

وعن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أنّه سئل عن صلاة الوسطى فقال: هي التي غفل عنها نبيّ الله سليمان بن داود حتّى تورات بالحجاب. يعني العصر.(2)

الكشّاف: ذكر الزمخشري في تفسيره القصّة، نختصرها:

إنّ سليمان قعد يوماً - بعدما صلّى الأولى - على كرسيّه واستعرضها، فلم نزل تُعرَض عليه حتّى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن وردٍ من الذكر كان له وقتَ العشيّ، وتهيّبوه فلم يُعلموه، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها عقرها ومُقرّباً للهِ. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره.(3)

قال: والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك، أو المخبأة بحجابها. والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشيّ، ولابدّ للمضمر من جري ذكرٍ أو دليل ذكر.(4)

____________________

(1) المفردات في غريب القرآن للحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهانيّ (ت 502 هـ): 338.

(2) مختصر تاريخ دمشق 10: 125.

(3) تفسير الكشّاف لمحمود بن عمر الزمخشريّ (ت 538 هـ) 91: 4 - 92.

(4) نفسه 4: 93.

٢٢٧

ابن كثير: ذكر غير واحد من السّلف والمفسّرين أنّه اشتغل بعرضها حتّى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنّه لم يتركها عمداً بل نسياناً، كما شُغِل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة العصر يوم الخَنْدق حتّى صلاّها بعد الغروب.

ويُحتمل أنّه كان سائغاً في ملّتهم تأخير الصلاة لضرر الغزو والقتال، والخيل تُراد للقتال.(1)

النهاية(2) : في حديث الصلاة «حين توارت بالحجاب» الحجاب هاهنا: الأفق، يريد حين غابت الشمس في الأفق واستترت به. ومنه قوله تعالى:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

الثعالبيّ: ذكر الثعالبيّ في تفسيره، قال: اختلف المتأوّلون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمانعليه‌السلام ؛ فقال الجمهور: إنّ سليمان عُرضت عليه آلاف الخيل تركها له أبوه... فتشاغل بجريها ومحبّتها حتّى فاته وقتُ صلاة العشيّ، فأسف لذلك... فطفق يمسحُ سوقها وأعناقها بالسيف. قال الثعالبيّ وغيره: وجعل ينحرها تقرّباً إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك مباحاً لهم كما أبيح لنا بهيمةُ الأنعام؛ فرُوي أنّ الله تعالى أبدله منها أسرع منها، وهي الريح.

والضمير في«تَوَارَتْ» للشمس، وإن كان لم يتقدّم لها ذكر؛ لأنّ المعنى

____________________

(1) تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت 774 هـ) 7: 56.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزريّ (ت 606 هـ) 1: 340.

٢٢٨

يقتضيها، وأيضاً فذكر العشيّ يتضمّنها.(1)

ابن وَهبْ: قال عبد الله بن وهب: سألت اللّيث عن قول الله:« بِالْغُدُوّ والآصَالِ » (2) ، فقال: الآصالُ العشيّ. (3)

ولا يخفى: أنّ الأصيل هو الوقت بين العصر والمغرب، فهو العشيّ.

هود الهُوّاريّ: ذكر في تفسيره:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) أي: حبّ المال، يعني الخيل، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود «حب الخيل»،« عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي غابت، يعني الشمس« بِالْحِجَابِ) ففاتته صلاة العصر.(4)

القرطبيّ:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، كنايةً عن غير مذكور، وتركُها لدلالة السامع عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها.(5)

مجمع البحرين:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر، والعرب تقول ذلك إذا كان في الكلام ما يدلّ على المـُضمر. (6)

الجصّاص: ذكر الآيات ثمّ قال عن ابن مسعود: حتى توارت الشمس

____________________

(1) تفسير الثعالبيّ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» لعبد الرحمان بن محمّد الثعالبيّ المالكيّ (ت 875 هـ) 5: 66.

(2) الأعراف: 205، الرعد: 15، النور: 36.

(3) الجامع: عبد الله بن وَهْب المصريّ (ت 197 هـ) 2: 165.

(4) تفسير كتاب الله العزيز: هود بن مُحَكَّم الهوّاريّ (ت منتصف القرن الثالث الهجريّ) 4: 16.

(5) الجامع لأحكام القرآن لمحمّد بن أحمد القرطبيّ الأنصاريّ 15: 195.

(6) مجمع البحرين لفخر الدين الطريحيّ (ت 1085 هـ) ج 1: ص 434.

٢٢٩

بالحجاب.(1)

الصدوق: ذكر روايةً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، هي: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عُرِض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارث الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عَلَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها. فرَدُّوها، فقام فمسح ساقيه وعنقه، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قال فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم. وذلك قول الله عزّ وجلّ:« وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ ...» (2) .

الطّبرسيّ: «المراد بالخير الخيل هنا، فإنّ العرب تُسمّي الخيل الخير ن عن قتادة والسدّيّ. فالمعنى آثرتُ حبَّ الخيل عن ذكر ربّي، وقيل: إنّ هذه الخيل كانت شَغَلَتْه عن صلاة العصر حتّى فات وقتها. عن عليّعليه‌السلام ، وقتادة والسدّي. وفي روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت».(3)

وقوله تعالى:« رُدّوهَا عَلَيّ) ، قال: قيل: معناه أنّه سأل اللهَ تعالى أن يَرُدّ الشمس عليه، فردّها عليه حتّى صلّى العصر. فالهاء في ردّوها كناية عن الشمس. عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .(4)

____________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص أحمد بن عليّ الرازيّ (ت 370)، 3: 502.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القميّ (ت 381 هـ 1: 129).

(3) مجمع البيان للفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت 548 هـ) 8: 740.

(4) مجمع البيان 8: 741.

٢٣٠

وفي رواية عن ابن عبّاس: سألتُ عليّاًعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعتُ كعباً يقول: اشتغل سليمانُ بعرض الأفراس حتى فاتته الصّلاة، فقال ردّوها علَيَّ، يعني الأفراس، كانت أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها وأعناقها، فقتلها، فسلبه الله مُلكه أربعة عشر يوماً؛ لأنّه ظلم الخيل بقتلها!

فقال عليّعليه‌السلام : كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم؛ لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله تعالى للملائكة الموكّلين بالشمس: رُدّوها علَيِّ فرُدّت، فصلّى العصر في وقتها، وإنّ أنبياء الله لا يَظلمون ولا يأمرون بالظّلم؛ لأنّهم معصومون مطهّرون».(1)

ابن شهر آشوب: ذكر في مناقبه: عن ابن عبّاس بطرق كثيرة أنّه لم تُردَّ الشمس إلاّ لسليمان وصيّ داود وليوشع وصيّ موسى، ولعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.(2)

الكلينيّ: بسنده عن أبي جعفر «الباقر»عليه‌السلام في قول عزّ وجلّ:« إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً » (3) قال: يعني مفروضاً. وليس يعني وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها، فلم تكن صلاته هذه مؤدّاةً، ولو كان ذلك كذلك

____________________

(1) مجمع البيان 8: 741. وانظر: تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ 4: 299، والميزان للطباطبائي 17: 206، وكنز الدقائق للمشهديّ 11: 233.

(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب محمّد بن عليّ المازندرانيّ (ت 588 هـ) المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 2: 146. وانظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 29، رواية 9 - 12.

(3) النساء: 103.

٢٣١

لهلك سليمان بن داودعليهما‌السلام حين صلاّها لغير وقتها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها.(1)

القمّيّ: ذكر في تفسيره: أنّ سليمانعليه‌السلام كان يحبّ الخيل ويستعرضها، فعرضت عليه يوماً، إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر، فاغتمّ من ذلك غمّاً شديداً، فدعا الله أنّ يردّ عليه الشمس حتّى يصلّي العصر...».(2)

ابن أبي جامع العامليّ: ذكر في تفسيره:«رُدُّوهَا» أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها. طلب منهم ردّها بأمر الله إيّاه بذلك، فردّت، فصلّى. كما ردّت ليوشع وعليّعليه‌السلام .(3)

السيّد عبد الله شبّر: حَتَّى«تَوَارَتْ» أي الشمس، بدلالة العشيّ عليها، بِالْحِجَابِ بحجاب الأفق، أي غربت، أو حتّى غابت الخيل عن بصره حين أجريت رُدُّوهَا أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها، فردّت فصلّى، كما ردت ليوشع وعليّ عليهما‌السلام . (4)

العلاّمة الطباطبائيّ: «إنّي شغلني حبّ الخيل، حين عُرض علَيّ، عن الصلاة حتّى فات وقتها بغروب الشمس. وإنّما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيّأ به للجهاد في سبيل الله، فكان الحضور للعرض عبادةً منه، فشغلته عبادةٌ عن عبادة، غير

____________________

(1) الكافي لمحمد بن يعقوب الكلينيّ الرازيّ (ت 328 هـ) 3: 294.

(2) تفسير القمّيّ لعلي بن إبراهيم القمّيّ (القرن الثالث والرابع الهجريّ) 2: 234.

(3) الوجيز في تفسير القرآن العزيز لعليّ بن الحسين بن أبي جامع العامليّ (1070 - 1135 هـ) 3: 101.

(4) تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبّر (ت 1242 هـ): 429.

٢٣٢

أنّه يعدّ الصلاة أهمّ».(1)

ثمّ ذكر الرواية التي ذكرها الطّبرسيّ في دعاء سليمانعليه‌السلام واستجابة الله تعالى له، فردّ عليه الشمس حتّى صلّى.

الفيض الكاشانيّ:«رُدُّوهَا عَلَيَّ) الضمير للشمس... في «الفقيه» عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب. فقال للملائكة: ردّوا الشمس علَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها...، تمام الرواية التي ذكرها الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(2)

ظهور الضمير في الشمس

إضافة إلي ما ذكرنا من مصادر معتبرةٍ مُعتدّ بها، قد ذَكَرت أنّ الضمير في تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ عائد إلى الشمس.

نذكر مصادر أخرى ذكرت ذلك، على نحو الإيجاز:

تنزيه الأنبياء: ذكر الشريف المرتضى عن الجبائيّ: أنّها الشمس... وفاتته صلاةٌ مستحبّة.(3)

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائيّ (1321 - 1402 هـ) 17: 203.

(2) تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ (ت 1091 هـ) 4: 298.

(3) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: 135.

٢٣٣

غريب الحديث: تَوَارَتْ الشمس.(1)

وابن عساكر: عن الحسن: يعني الشمس. وأيضا: قول جمهور أهل العلم: الشمس. (تاريخ مدينة دمشق 22: 241، 42: 506). وكذلك في: «عصمة الأنبياء؛ للفخر الرازيّ: 83، زاد المعاد لابن الجوزيّ 6: 335. تأويل الآيات لعليّ الحسينيّ (ت 965 هـ) 2: 552. لسان العرب لابن منظور 1: 299. البرهان في علوم القرآن لمحمّد بن عبد الله الزركشيّ (ت 794 هـ) 4: 26.

النتيجة:

1 - أنّ الشمس ردّت ليوشع وسليمان وعليّعليهم‌السلام .

2 - بطل الإشكال الذي ذكره ابن تيميه في أنّ الشمس لو ردت حقيقة لعليّ، لم تكن له فضيلة! لأنّه يكون قد أدّى صلاته في غير وقتها! فهو إمّا مقصّر والمقصّر عليه أن يتوب؛ وإمّا غير مقصّر فلا ذنب عليه ولا حاجة لردّ الشمس.

وجوابه: لقد أدّاهاعليه‌السلام في وقتها بدليل رجوع الشمس إلى وقت العصر. ولو لم يكن لرجوعها فضيلة، لما دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستجاب الله تعالى له فردّها، ولما دعا سليمانعليه‌السلام فردّها سبحانه عليه.

وليس تقصير في البين، لا من سليمان النبيّ، ولا من عليّ الوصيّعليهما‌السلام فكلاهما كان في عبادة شغلته عن عبادة، مع الموقع المهمّ للصلاة في العبادات.

____________________

(1) غريب الحديث لابن سلام (ت 224) 3: 79.

٢٣٤

كرامات أعظم من ردّ الشمس

كبر على ابن الجوزيّ ردّ الشمس زيادةً في إعجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة لوليّه عليه السلام، فيها ذكر كرامات لغيرهما تبزّ عين الشمس، ويكون ردّ الشمس لا شيء إزاءها! فشايعه ابن تيميه على الأولى ولم ينكر عليه الثانية.

وقبل ذكر أمثلة من تلك الكرامات العظيمة، نقول: أثبتنا قوّة ووثاقة سند حديث ردّ الشمس؛ فيما جرّد أبو الفرج أخباره تلك من الأسانيد وألقى كثيراً منها على لسان رجل مجهولٍ أو امرأة نكِرة، وكثير منها أحلامٌ ومنامات. وآن الأوان لأن نجول في تلك الأخبار ونقتطف بعضاً من بحرها!

الله عزّ وجلّ يزور أحمد

روى ابن الجوزيّ، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربيّ وكان شيخاً صالحاً، قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام، فنمتُ ليلة فيرمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار سافٍ أو سافَين فقلتُ: إنّما تمّم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقام عزّ وجلّ: يا أحمد! لأنّك نصرت

٢٣٥

كلامي فهو يُنشَر ويتلى في المحاريب.(1)

فأيّ شأن يبقى لردّ الشمس، والله - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - يزور أحمد في قبره؟! إلاّ أنّ البعض يثير إشكالاً على أبي الفرج! فيقول: مَن هو هذا الرجل الصالح الذي روى لك منامَه هذا فجعلتهَ حقيقةً في مناقب أحمد، وهل يرقى إلى رواة وسند حديث ردّ الشمس؟!

وكيف سمع أحمد كلام هذا الرجل وهو في قبره، وأنت تروي في مناقبه أنّه قد رُفع إلى الجنّة متوّجاً يُدخِل مَن يشاء ويمنع من يشاء - سيأتي - وإنّ نزول الله - جلّ وعزّ عن ذلك - يعني أنّه سبحانه في جهةٍ ممّا يعني تحديده وتبعيضه، ممّا هو صفة الحوادث المخلوقة.

تتويج أحمد

وذكر أبو الفرج من أحوال أحمد قال: قال زكريّاء بن يحيى السّمسار(2) :

رأيت أحمد بن حنبل في المنام على رأسه تاج مرصّع بالجوهر، وفي رجلَيه نعلان وهو يخطر بهما. فقلت: أبا عبد الله، ماذا فعل الله بك؟ قال: غفرلي، وأدناني من نفسه، وتوّجني بيده هذا التّاج، وقال لي: هذا بقولك: القرآن كلام الله

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزيّ: 454.

(2) لم أجد له ترجمة في الكتب المعتمدة، وذكره ابن حجر في لسان الميزان 2: 483 / 1945: (زكريا) بن يحيى البديّ، عن عكرمة، قال ابن معين: ليس بثقة، قال ابن المدينيّ عنه: هالك. قال الدوريّ ليس بثقة. قال النسائيّ: ليس بثقة. قال ابن حبّان: يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم.

٢٣٦

غير مخلوق. قلت: فما هذه الخَطْرة الّتي لم أعرفها لك في دار الدّنيا؟! قال: هذه مِشْية الخُدّام في دار السلام.(1)

لا اعتراض على دخول أحمد الجنّة، ولكنّ الأمر متعلّق بتتويج الله تعالى بيده لأحمد، وتكليمه له؛ ممّا يعني: أنذ له جلّ ثناؤه أبعاضاً، وأنّه يتكلّم بحرفٍ وصوت؛ وهو ما يوافق عقيدة ابن تيميه التي أُدين بها وحُوقق لأجلها.

أحمد قسيم الجنّة

ووفاقاً لمنهجه في ذكر أعظم الكرامات التي مستند أعمّها المنامات، قال قال عليّ بن الموفّق(2) : رأيت كأنّي أدخِلت الجنّة، فإذا أنا بثلاثة نفر: رجل قاعد على مائدة قد وكّل الله به ملكين، فملك يطعمه وملك يسقيه وآخر واقف على باب الجنّة ينظر إلى وجوه قومٍ فيدخلهم الجنّة. وآخر واقف في وسط الجنّة، شاخص ببصره إلى العرش ينظر إلى الربّ. فجئت إلى رضوان فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أمّا الأوّل فبُشْرُ الحافي، وأمّا الواقف في وسط الجنّة فمعروف الكرخي، وأمّا الواقف على باب الجنّة فأحمد بن حنبل قد أمره الجبّار أن ينظر إلى وجوه أهل السّنّة، فيأخذ بأيديهم فيُدخلهم الجنّة.(3)

وليس لنا أن نبخس الناس أشياءهم وإن كنت مستندةً إلى منامات، إلاّ

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل، لأبي الفرج: 436.

(2) لم أجد له ترجمة.

(3) مناقب أحمد، لأبي الفرج: 443.

٢٣٧

أنّه تعترضنا أمور: هل يشقّ على بِشْر أن يأكل ويشرب بنفسه من دون أن يُعنّي الملَكَين؟! وأين صار عالم البرزخ فتجاوزه هؤلاء ودلفوا الجنّة؟ وأليس كون الربّ - سبحانه وتعالى - على عرش بذاته ينظر إليه في علوّه، من صفات الحوادث إذ هو صريح في حلوله جلّ وعزّ، في مكان يحتويه؟!

وأظنّ صاحب الرؤيا أخطأ في تشخيص الرجل الواقف على باب الجنّة! ذلك أنّ قسيم الجنّة كما يرد في الأحاديث هو عليّ بن أبي طالب كما قرّره أحمد بن حنبل نفسه!

قال القاضي ابن أبي يعلى الحنفيّ: سمعت محمّد بن منصور(1) يقول: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليّاً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من ذا - وفي لفظ: من هذا الحديث؟ - أليس رَوينا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2) ؟ قلنا: بلى، قال فأين المؤمن؟ قلنا في الجنّة، قال: وأين

____________________

(1) محمّد بن منصوربن داود الطّوسي، نزيل بغداد. يروي عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عُلَيّة... وغيرهما. توفّي سنة ستّ وخمسين ومئتين. تهذيب الكمال للمزّيّ 26: 501 / 5631.

(2) ووفق منهجه، فقد كذبه ابن تيميه - سنأتي عليه في محلّه - ويرد الحديث بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، وأسانيده موثّقة ومصادره في منته العلوّ والوثاقة.

الأعمش - سليمان بن مهران الأعمش الكوفيّ أبو محمّد. رأى أنس بن مالك وروى عنه. ذكره ابن حبّان في الثّقات 2: 184 / 1421 - في التّابعين -، وذكره العجليّ قال: ثقة، كوفيّ، يقال: إنّه ظهر له أربعة آلاف حديث. وكان عالماً بالقرآن رأساً فيه، وكان فصيحاً لا يلحن حرفاً، وكان عالماً بالفرائض، ولم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه. وكان فيه تشيّع تاريخ الثقات للعجلي 204 =

٢٣٨

____________________

= / 619. وذكره الطوسيّ في أصحاب الصادقعليه‌السلام رجال الطوسيّ: 206 - عن عديّ بن ثابت - عدي بن ثابت الأنصاريّ، عداده في أهل الكوفة، يروي عن البراء بن عازب الثّقات لابن حبّان 2: 417 / 392. وهو عالم الشيعة وصادقهم (الجرح والتعديل للرازي 7: 5، تهذيب التهذيب لابن حجر 7: 165). وذكره ابن شاهين فقال: ثقة، إلاّ أنّه كان يتشيّع (تاريخ أسماء الثّقات 254 / 1016). وقال العجليّ عنه: ثقة ثبت، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولم يدركه سفيان الثّوريّ، وكان شيخاً عالماً في عداد الشيوخ، روى عن عبد الله بن يزيد الخطميّ من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثّقات للعجليّ: 330 / 1115) - عن زرّ - زرّ بن حبيش الأسديّ الكوفيّ أبو مريم ز مات سنة ثنتين وثمانين وكان من أعرب الناس و كان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربيّة. روى عن: عمر وعليّ وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان (تاريخ ابن معين 2: 172، الجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817، الاستيعاب 1: 212، الثّقات لابن حبّان وفي (تاريخ الثقات للعجلي 165 / 458): زرّ بن حبيش، من أصحاب عبد الله وعليّ، ثقة. وذكره الطوسيّ في أصحاب عليّعليه‌السلام وقال: وكان فاضلاً (رجال الطوسيّ: 42) - عن عليّ قال: إنّه لعهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ أنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق.

أخرجه: الترمذيّ في (الجامع الصحيح، في المناقب / ح 3737)، والنسائي في (الإيمان 8 / 117)، و (مسند أحمد 1: 84 و 95، وتاريخ الإسلام للذهبيّ 3: 634، وأنساب الأشراف 225 و 226 والشفا للقاضي عياض: 31، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي: 137 / الرقم 225 و 226 و أسد الغابة 4: 105.

وأخرجه ابن ماجة في (سننه 1: 42 / 114 بنفس السند ولفظه: «عهد إليّ النبيّ الأمّيّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

وبنفس السند أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف 7: 494 ومسلم في صحيحه 2: 64 ولفظه: عن عليّ بن أبي طالب قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، أنّه لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق. =

٢٣٩

____________________

= وأخرج ابن مردويه بسده عن أبي موسى الأشعريّ، قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ، ولكن مالت الدنيا بأهلها! ولقد سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (يا عليّ، أنت مع الحقّ والحقّ بعدي معك، لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق) وإنّا لنحبّه، ولكنّ الدنيا تغرّ بأهلها (فضائل عليّ لابن مردويه: 115 / الحديث 138، والأربعون حديثاً لابن بابويه الرازيّ: 42.

وبسند عن مساور الحِمْيَريّ، عن أمّه، عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا يبغض عليّاً مؤمن، ولا يحبّه منافق) (المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503).

شريك - مضت ترجمته - عن قيس بن مسلم: (قيس بن مسلم، كوفيّ، ثقة روى عن مرّة الهمدانيّ، وكان يميل مع عليّ بعض الميل، وقد شهد مع عليّ تلك المشاهد (تاريخ الثقات للعجلي 394 / 1401) عن أبي عبد الله الجدليّ: (أبو عبد الله الجدليّ الكوفيّ، اسمه: عبد بن عبد، وقيل: عبد الرحمان بن عبد. روى عن خزيمة بن ثابت، وسلمان الفارسيّ، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأمّ سلمة، وعائشة... وغيرهم. روى عنه: إبراهيم النخعيّ وعامر الشّعبي، وعطاء بن السائب، وأبو إسحاق السبيعيّ وغيرهم. روى له: أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائي في الخصائص، وابن ماجة في السنن قيل لأحمد بن حنبل: أبو عبد الله الجدليّ معروف؟ قال: نعم، ووثّقه. روى له: أبو داود، والترمذيّ، والنّسائي في الخصائص وابن ماجة في السنن. ووثّقه يحيى بن معين (تهذيب الكامل للمزّيّ 34 / 2460). عن أبي ذرّ قال: ماكنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللهَ ورسولَه، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعليّ بن أبي طالب (المستدرك على الصحيحين 3: 139 / 4643).

وبسند عن جعفر بن سليمان: (جعفر بن سليمان الضبعيّ، بصريّ ثقة، وكان يتشيّع (تاريخ الثقات للعجلي 97 / 212)، اتّفقوا على أنّه صدوق، ولم يطعن فيه أحد في الحديث، وقالوا: ثقة (تاريخ البخاريّ الكبير 1: 2: 192). قال ابن معين: ثقة (تاريخ ابن معين 2: 104 / 3533). عن أبي هارون العبديّ: (أبو هارون العبدي، اسمه: عمارة بن جُوَين العبديّ البصريّ. روى عن: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأبي سعيد الخدريّ. روى عنه جعفر بن سليمان الضبعيّ، وسفيان الثّوريّ، =

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303