أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92553
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92553 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نسبتنا المبنى إلى فعل معمار البناء، ونسبتنا الوليد إلى فعل الوالدين، لكن عمل المعمار في الحقيقة هو حركات يده، التي تزول بمجرد إقلاعه عن العمل، وإلاّ فالمبنى لا يقوم بمعمار البناء، وكذلك الحال في سائر الأمثلة. إذن نحن نعرف: أوّلاً ـ أنَّ مادة الفعل وصورته لا تقوم بهذا الفاعل ( معمار البناء في المثال ). ثانياً ـ أنَّ حركات يد الفاعل المختلفة تقوم به، وتنعدم بمجرّد تركه للعمل. ثالثاً ـ أنَّنا أطلقنا على هذه الحركات اسم الفعل، لوجود حركة، وهي قائمة بمحرّكها. وإلاّ فتناول الحجر ووضع بعضه على بعض، وقيام المبنى لا علاقة له بالتسمية. وفي هذه الحالة فكل حركة ( فعل ) تتطلّب محركاً ( فاعل ) تقوم به، وتذهب بذهابه. رابعاً ـ أنَّ كلّ موجود من موجودات العالم يتطلّب مادة للحركة، ومحرّكاً موجوداً بمعّيتها.

هذه أفكار، إذا اعترى أيّا منها أدنى شك وتردّد فسوف يتلاشى هرم العلية والمعلولية وجهاز التكامل والتطوّر ؛ ومن هنا نحكم بأنَّ فاعل الفعل نظير مادة وصورة الفعل، يجب أن يبقى موجوداً بمعية الفعل ذاته.

نعم ؛ من الممكن أن يشترك أكثر من فاعل في وجود الفعل، متواليين عليه، وكلّ واحد بعد إنجاز الفعل يسلّمه إلى شريكه اللاحق، أي أنَّ الفاعل اللاحق متّصل وجودياً بالفاعل السابق، ومن ثمّ يحتل موقعه، وفي هذه الصورة يمكن أن يبقى الفعل قائماً بعد زوال الفاعل الأوّل. وكل موارد بقاء الفعل بعد زوال الفاعل من هذا القبيل.

في ضوء ما تقدم اتضح أنَّ الفلسفة الميتافيزيقية تتّخذ في نظريّتها قانون العلّية والحركة العام أساساً. والعلم المعاصر أيضاً يؤيد ـ رغم ألوان التشبثات ـ نظرية التكامل والتطوّر ( الحركة العامة ). والمدهش هنا أنَّ

١٦١

المادية الديالكتيكية أغفلت التطوّر والتكامل الذي تقوم على أساسه حركة عالم المادة، فأخذت الوجودات المطلقة بدون تقييد أساساً لنظريّتها، والأغرب من ذلك أنَّ الماديين الديالكتيكيين يتّهمون الميتافيزيقيا بعدم فهمها لقانون العلّية.

إشكال

إنَّ الحديث المتقدّم يتنافى مع نظرية نيوتن الفيزيائية، التي قامت على أساس تجارب لا يمكن ردّها (٧) ، والتي تقرّر: " كل جسم يبقى على حالته، فإن كان ساكناً يبقى على سكونه، وإن كان متحرّكاً يستمر في حركته، ما لم تتدخّل قوى تغيّر حالة السكون أو الحركة " ؛ إذ من البديهي أنَّ المحرّك الأوّل في الحركة الدائمة قد زال، ورغم ذلك تبقى الحركة قائمة.

٧ ـ في الإجابة على آخر إشكال تقدّم انتهى بنا الحديث إلى بعض الشواهد والأمثلة نظير البَنّاء والمبنى والابن والأب والساعة وصانعها، حيث استخدموا التسامح العرفي بدل النظر العقلي الدقيق، واتكأوا على النظرة العرفية للعلّة والمعلول وللفعل والفاعل. من الواضح أنَّ العرف بالتسامح يطلق على المبنى أنَّه فعل البَنّاء، وعلى الساعة فعل صانع الساعة وعلى الابن فعل الأب، لكن أياً من هذه الظواهر ليست أفعال هؤلاء من زاوية النظر العقلي الدقيق ؛ لأنَّ المواد التي تشكل وجود الابن أو المبنى أو الساعة والخصوصيات الفيزيائية أو الكيميائية أو العضوية التي تتوفّر عليها هذه الظواهر ليست من فعل الأب أو البَنّاء أو صانع الساعة. إنَّما يمارس هؤلاء بعض الأعمال في مواد العالم الموجودة عبر مجموعة حركات منظمة، ثمّ تفضي

١٦٢

الجواب

بغض النظر عن أنَّ نظرية نيوتن نظرية حدسية وقائمة على أساس التأمّل النظري في تنوّع الحركات بتنوّع المعوّقات، وأنّها نظرية غير

هذه الحركات المنظّمة في ظل عوامل فيزيائية وكيميائية وعضوية يتوفّر عليها هذا الكون العظيم، تفضي إلى جهاز آلي أو مركب كيميائي أو موجود عضوي. إذن فما يسمّى بالنظر العرفي فاعل للابن أو المبنى أو الساعة هو في الحقيقة فاعل لمجموعة حركات تقومُ بهم. على أنَّهم علل لهذه الأفعال الواقعية، التي تقع بهم، والقاعدة العقلية الفلسفية التي تقرّر حاجة المعلول إلى العلة حدوثا وبقاءً تجري في هذا المورد أيضاً ؛ إذ يستحيل أن تظهر حركة وفاعلها المباشر معدوم وتستطيع هذه الحركة أن تستمر بوجودها.

وحينما انتهى الحديث إلى هذا الموقع يطرح إشكال جديد، وهو آخر إشكال يطرحه المتن.

إيضاح الإشكال: ثبت وفق الأدلة العلمية والتجريبية في الفيزياء الحديثة أنَّ دوام الحركة لا يستلزم دوام المحرِّك، ومن ثمَّ أضحت نظرية أرسطو في حاجة الحركة إلى محرّكٍ دائمٍ متعارضة تماماً مع التجارب العلمية الدقيقة، التي تلاحقت خلال ثلاثة قرون. وعلم الميكانيك الحديث يقوم على أساس قانون الحتمية، الذي طرحه غاليلو ونيوتن، هذا القانون الذي يقف في النقطة المناقضة لنقطة أرسطو. ومن البديهي حينما يتناقض حكم العقل مع التجارب، وينتهي العلم إلى نتيجة مخالفة للنتيجة الفلسفية يلزم إزاحة فتوى الفلسفة والعقل وتبني نظريّة العلم والتجربة.

جاء في كتاب (خلاصة فلسفية لنظرية إنشتاين ) ترجمة السيد أحمد آرام ما يلي: ( إنَّ موضوع الحركة من المواضيع التي بقيت آلاف السنين

١٦٣

تجريبية ؛ إذ الحركة بدون معوّق لا مجال لحصولها ؛ لأنَّ فرضية جسم واحد في عالم الوجود، وفرضية الحركة المكانية التي يكون التحوّل التدريجي للجسم في عالم الخارج ناشئاً من ذات الجسم فرضيّتان لا يمكن اجتماعهما.

خفية، نتيجة عمقها وغموضها. إذا أخذنا بنظر الاعتبار جسماً ساكناً في محل، وبغية تغيير وضع هذا الجسم ينبغي توفير مؤثر خارجي يُسلط على هذا الجسم قوته ليدفعه إلى الأمام أو ليرفعه.

إنَّنا نفهم الحركة ـ وفق تصوراتنا الغريزية ـ مرهونة بفعاليات نظير الدفع والرفع والسحب. إنَّ تكرار التجربة يوحي لنا أنَّنا لو أردنا أن نسرع بحركة جسم من الأجسام فعلينا أن ندفعه بشدة لأنَّ العامل المؤثّر في الحركة كلّما كان أشد كلّما كانت الحركة أسرع... إنَّ هذا اللون من التصوّر الغريزي للحركة تصوّر خاطئ، وقد أدى هذا التصور إلى خطأ فهمنا لموضوع الحركة قروناً كثيرة. ولعلّ شخصية أرسطو التي هيمنت على العلم في أُوربا قروناً طويلة هي العلة الأساسية لبروز هذا التصوّر الخاطئ. فقد جاء في كتاب الميكانيك المنسوب لأرسطو والذي مضى على عمره ألفا عامٍ ما يلي: ( إنَّ الجسم المتحرّك يقف حينما لا تستطيع القوّة المحرّكة له بالاستمرار في تأثيرها عليه ودفعه ) إنَّ اكتشاف المنهج العلمي بوضوح واستخدامه من قِبل غاليلو يعد أكبر تقدّم أحرزه الفكر البشري، وينبغي أن نعد هذه المرحلة البداية الحقيقية لعلم الفيزياء... نأتي الآن لنرى هل النداء الداخلي هو الذي أوقعنا في الخطأ بصدد موضوع الحركة ؟ افترض شخصا يدفع عربةً على طريق معبّد، ثم يسحب يده منها بشكل مفاجئ، نلاحظ أنَّ العربة تطوي مسافة قبل أن تتوقّف، وهنا نساءل أنفسنا كيف أمكن أن تمضي العربة هذه المسافة

١٦٤

بغض النظر عمّا تقدّم فإنَّ نظرية نيوتن ذاتها، التي تفترض الفاعل الأوّل للحركة، ساكتة عن فاعل بقاء الحركة، وإنّما تؤكّد بقاء الحركة فقط. وفي هذه الحالة فإذا فرضنا بقاء الحركة فلا بد من افتراض فاعل آخر لبقائها، وفق البيان المتقدّم.

الإضافية ؟ لهذه الظاهرة عدّة أسباب من ضمنها تزييت إطارات العربة وتعبيد الطريق، وكلّما كان تزييت الإطارات أفضل والطريق أجود تعبيداً كانت المسافة بعد سحب اليد أطول. حسناً جداً نتساءل ما هو الأثر الذي يتركه تزييت الإطارات وتعبيد الطريق ؟

إنَّ الأثر الذي تقوم به هذه العوامل ينحصر في تقليص حجم التأثيرات الخارجية، أي الاحتكاك داخل الإطارات نفسها والإطارات والطريق. وهذا تفسير احتمالي ونظري للظاهرة التي شاهدناها، نتقدّم خطوة إلى الإمام لنمسك بالمفتاح الحقيقي للمشكلة. افترض طريقاً معبّداً تعبيداً كاملاً وإطارات ليس فيها أي احتكاك وأي تعقيد، ففي هذه الصورة ليس هناك أي عامل للتوقّف، وسوف تستمر العربة بالحركة إلى ما لانهاية. هذه صورة خيالية عن الموضوع: الذي لا يمكن أن يتحقّق عملياً، لعدم وجود إطار أو طريق بهذه المواصفات. لكن هذه التجربة الخيالية تضع بأيدينا مفتاحاً سحريا يفتح أمامنا الطريق لجميع قوانين ميكانيك الحركة. حينما نقارن التصوّرين المطروحين بشأن الحركة يمكننا القول إنَّ محصّلة التصوّر الغريزي هي: كلّما كان المؤثّر أقوى كانت السرعة أكثر، ومن هنا يمكن أن نستنبط في ضوء السرعة وجود قوى خارجية مؤثرة في السرعة أو عدم وجود هذه القوى. أما في ضوء مفتاحغاليلو تصبح النتيجة على النحو التالي: إنَّ الجسم

١٦٥

نستنتج في ضوء مجموع ما تقدّم ما يلي:

١ ـ إنَّ كلّ ظاهرة خارجية لا توجد ما لم تتوفّر على الضرورة.

٢ ـ إنَّ كلّ موجود خارجي متّصف بالضرورة حال وجوده.

٣ ـ إنَّ ضرورة وجود كلّ معلول تترشح له عن طريق ضرورة علّته.

إذا لم يدفع أو يرفع أو يسحب ولم تؤثر عليه قوى أخرى، وبعبارة أوضح حيث تفقد القوة الخارجية المؤثرة على الجسم تصبح حركته على منوال واحد، أي يسير بسرعة ثابتة على خط مستقيم، أي أنَّ السرعة لا تكشف عن وجود قوى خارجية مؤثرة على الجسم أو عدم وجود هذه القوى. لقد صاغ نيوتن نهج غاليلو بعد جيل، صاغه على شكل قانونه الحتمي " يبقى كلّ جسم على حالته من سكون أو حركة. " نلاحظ أنَّ هذا القانون لا يمكن أن يكون نتيجة مباشرة للتجربة، بل التأمّل العلمي المنسجم مع الملاحظات التجريبية أدى إلى صياغة هذا القانون. لا يمكننا بالفعل أن نتوفّر عملياً على تجربة تجسد هذا التصوّر، لكنّ التجربة الخيالية أداة لفهم الواقع التجريبي بشكل كامل... بعد هذه المقدّمات تطرح بشأن الحركة قضية أخرى، فإذا لم تكن السرعة علامة على وجود قوى خارجية مؤثرة في الجسم، فماذا تعني السرعة إذن ؟ لقد حصلغاليلو على الجواب الأساسي لهذا الاستفهام وأكملهنيوتن أيضاً، وهذا الجواب أيضاً مفتاح ومؤشر لنا أمام بحوثنا واستطلاعاتنا. وبغية التوفر على الجواب السليم ينبغي التأمل العميق في مثال العربة التي تسير على الطريق بشكل دائم، ففي التصوّر الخيالي كانت الحركة المستمرة نتيجة لفقدان القوى الخارجية. فإذا فرضنا أنَّنا وجهنا دفعاً جديداً للعربة

١٦٦

ويصحّ أن نستنتج في ضوء هذه النظرية أنَّ ضرورة وجود كلّ معلول، وهي ضرورة بالغير، تنتهي إلى ضرورة العلّة ؛ وحيث إنَّنا إذا فرضنا تصاعد هذه الضرورات، دون أن تتوقف عند نقطة معينة، فسوف لا

المتحركة باستمرار فماذا يحصل حينئذ ؟ من الواضح أنَّ سرعة العربة سوف تزداد، وإذا كان الدفع موجهاً من الجهة المعاكسة فسوف تنخفض سرعة حركة العربة، ففي الحالة الأُولى تزداد سرعة العربة بينما تقل في الحالة الثانية. ومن هنا نحصل على القاعدة التالية " إنَّ نتيجة تأثير القوى الخارجية هي تغيير السرعة " ومن هنا يصبح تغيير السرعة ـ لا ذات السرعة ـ ناشئاً جرّاء دفع أو سحب العربة لا ذات السرعة. فالعلاقة بين القوة وتغيير السرعة ( خلافاً للتصوّر الغريزي الذي يربط بين القوة وذات السرعة ) هي أساس الميكانيك الذي حرّره نيوتن ".

في ضوء النصّ المتقدّم تكون درجة ما للجسم من سرعة، أي درجة الحركة، غير مرتبطة بالقوّة الخارجية المؤثرة. وإنّما تكمن في الحتم الذاتي أي تكمن في قدرة الجسم على الاحتفاظ بأيّ حالة يحصل عليها، ما لم تحصل علة خارجية تسلب هذه الحالة من الجسم. من هنا فإذا كانت درجة سرعة الجسم صفراً أي السكون، فهذه الحالة تحفظ بالحتم إلى حين توفّر عاملٍ يعطي الجسم درجة من درجات السرعة. أمّا إذا كانت حالة الجسم هي السرعة والحركة فتحفظ بالحتم أيضاً، إلى أن يتوفّر عامل يقلّل أو يزيد من هذه السرعة. إذن فتأثير القوة ينحصر في تغيير السرعة لا في ذات السرعة، وبعد تغيير السرعة لا تحتاج السرعة إلى عامل خارجي، ما لم نفترض أنَّ التغيير يطرأ على السرعة لحظة لحظة، وفي هذه الحالة فقط يشترط دوام

١٦٧

نحصل على الضرورة الأُولى، التي هي ضرورة المعلول الأول، فمن المحتّم أن تنتهي كلّ هذه الضرورات الغيرية إلى ضرورة بالذات. إذن نحصل على النتيجة التالية:

أوّلاً: كل ضرورة بالغير تنتهي إلى ضرورة بالذات، أي أنَّ الوجود الممكن ينتهي إلى واجب الوجود.

المؤثر الخارجي.

نستنتج في ضوء مجموع ما تقدم أنَّ العلم يخالف الفلسفة بشكلٍ صريح في موضوع الحركة. وقانونغاليلو ونيوتن ، الموسوم بقانون الحتمية ينقض القاعدة الفلسفية " حاجة المعلول إلى العلة في البقاء ".

لكن الحق أنَّنا لو نظرنا من زاوية فيزيائية بحتة فسوف نجد أنَّ صحة قانون الحتمية النيوتني لا ينقض القاعدة الفلسفية المتقدّمة ولا ينقض أي قاعدة فلسفية أخرى. بل الشواهد الفلسفية تؤيّد ذلك القانون. ينشأ توهّم التناقض، كما يحصل في مواقع أخرى أحياناً، جراء استنتاجات نظرية غير منطقية، فتختلط بالنظرية الفيزيائية، وتنشأ هذه الأوهام.

إنَّ هذه النظرية تنتقض القاعدة الفلسفية " إنَّ بقاء المعلول يرتهن ببقاء العلة " فيما إذا أثبتت دوام الحركة بدون محرّك مباشر ؛ بينما إذا نظرنا من زاوية فيزيائية محضة واستبعدنا الاستنتاجات الشخصية غير المنطقية نلاحظ أنَّ القانون يبين علاقة حالة الجسم بالقوى الخارجية، يعني يبين العلاقة بين سرعة الجسم وبين القوّة الخارجية التي تتسلّط عليه، فيقول إنَّ تأثير القوة الخارجية ينحصر في تغيير سرعة الجسم لا في ذات السرعة. والقانون لا يبيّن العلّة المباشرة للسرعة، وبعبارة أُخرى القانون ساكت عن بيان القوّة المباشرة للحركة، بل هذا القانون

١٦٨

ثانياً: أنَّ سلسلة العلل التي يتوقّف عليها وجود المعلول تنتهي إلى علّة، ليست بمعلول، إذن فلسلسة العلل لا بد أن تكون متناهية.

إيضاح وتَذكير

اتّضح في ضوء البيان المتقدّم، إنَّنا نصل إلى هدفٍ واحدٍ من خلال

لا يمكنه أن يحدّد العلّة المباشرة لتغيير السرعة أيضاً. فهل العلّة المباشرة لتغيير السرعة هي القوى الخارجية أم أنَّ تأثير القوّة الخارجية في تغيير السرعة يتمّ بطريق غير مباشر، وبعبارة أخرى أنَّ هذا القانون تنحصر مهمّته ببيان علة إدامة الحركة، وهو ساكت عن بيان العلة المباشرة لحدوث الحركة.

إنَّ الأمر الذي يثير دهشة كاتب هذه السطور، ولم يجد له تفسيراً حتى الآن هو أنَّ النصّ الذي نقلناه فيما تقدّم قرر أنَّ الفكر البشري طبقاً للقاعدة الأرسطية يرى أنَّ الجسم يسكن جراء عجز القوة الخارجية التي تحرّكه عن التأثير واستمرار هذا التصوّر حتى مجيءغاليلو . بينما نحن نعرف أنَّ نهج التفكير الفلسفي في هذه المسألة، أي في بيان العلاقة بين حركة الجسم والقوّة الخارجية يختلف عمّا تقدّم في هذا النصّ. إنَّ ابن سينا في مبحث الخلاء يقرر أنَّ الجسم إذا تحرك جراء قوة خارجية فسوف يستمر على الدوام بعد قطع علاقة الجسم بالقوة الخارجية، ما لم تحصل هناك عوائق وموانع عن الحركة. ومن الواضح أنَّ هذا النصّ مطابق لقانون الحتمية النيوتني، مضافاً إلى أنَّ علماء الفيزياء يطرحون هذا القانون على الصورة التالية: ليس هناك دليل على أنَّ الجسم يفقد الحالة التي اكتسبها، وحتى الفلاسفة يقيمون الأدلة أحياناً على أنَّ حالة الجسم تبقى محفوظة في

١٦٩

طريقين. فمن خلال طريق دراسة سمات الوجود الخارجي، وعبر طريق البحث في قانون العلية أيضاً، نصل إلى أنَّ كل ظاهرة موجودة وواقعية ذات ضرورة وجودية. أي أنَّ وجودها مع حفظ الشروط والقيود الخارجية لا

فرض عدم العوائق والموانع.

نعم ينظر الفلاسفة إلى موضوع البحث من زاوية أخرى، وبأدلّة خاصة لا يرون أنَّ القوة الخارجية هي العلة المباشرة لحركة الجسم، بل إنَّ المحرّك المباشر للجسم هو طبيعة الجسم، أيّ القوّة المتّحدة مع ذات الجسم، سواء أكانت الحركة حركة طبيعية أم حركةً قسرية. من هنا فالفاعل المباشر لحركة الجسم هو القوّة المتّحدة بذات الجسم لا القوّة الخارجية. إنّما ينحصر التأثير المباشر للقوّة الخارجية في إعداد تلك القوة المتّحدة مع الجسم والمسمّاة اصطلاحاً بـ " الطبيعة "، وهذه القوّة المباشرة لحركة الجسم أي طبيعة الجسم ترافقه حدوثاً وبقاءً، وهذا معنى أنَّ علّة الحركة موجودة مع الحركة حدوثاً وبقاء.

على أن نشير إلى أنَّ إثبات الفاعل المباشر للحركة لا يمكن أن يكون خارج الجسم، وإثبات وجود القوى المتّحدة مع الأجسام، التي يسمّيها الفلاسفة " الطبائع " أمر خارج عن دائرة البحث فيه وفق قواعد الفلسفة. وسوف نعكف في المقالة العاشرة على دراسة هذا الموضوع.

نحن هنا لا نريد أن ندّعي أنَّ النظرية التي تقرّر علاقة الجسم بالقوّة الخارجية وفق ما نقلناه عن ابن سينا، والنظرية التي تقرّر أنَّ الفاعل

١٧٠

يقبل أن يكون غير ما هو واقع. وهذه النسبة ( الضرورة ) تمنحها العلّة له. وهذه النظرية لا تقبل التشكيك والتردّد، على أن نأخذ بنظر اعتبارنا الملاحظتين التاليتين:

المباشر للحركة لا يمكن أن يكون القوة الخارجية أمر متّفق عليه بين جميع الفلاسفة، لكنّنا يمكننا أن ندّعي هنا أنَّ هاتين النظريتين لهما تأريخ واضح بين المحقّقين من الفلاسفة.

ليس لدي بالفعل إطلاع واضح عن نظرية أرسطو الشخصية في هذا الموضوع، ولم أتوفّر على مجالٍ لمراجعة كتب أرسطو بشكلٍ مباشر، لكنّني أعرف أنَّ الفلاسفة الإسلاميين لم ينسبوا لأرسطو الفكرة التي تقول: إنَّ الجسم يستمر بإدامة الحركة ما دامت هناك قوّة خارجية مؤثّرة عليه. ومن البعيد جداً أن يكون لأرسطو مثل هذا النظرية. فهل يمكن أن يغفل أرسطو أنَّ الحجر إذا قذف في الهواء سيستمر في الحركة إلى مدّة على الأقل بعد انفصاله عن القوّة الدافعة له ؟! وإذا حملنا نصّ أرسطو الذي نقلناه عن كتاب خلاصة فلسفية لنظريةإنشتاين على أنَّ مقصود أرسطو من القوّة التي تحرك الجسم من وجهة نظر فلسفية هي طبيعة الجسم الداخلية لا القوة الخارجية من وجهة نظر فيزيائية، فسوف لا يكون هذا الحمل والتأويل بعيداً.

نأتي هنا لنضيف ملاحظة أخرى: لنفرض أنَّ قانون الحتمية النيوتني مغاير للقاعدة الفلسفية التي تقرّر بقاء العلّة مع المعلول ؛ لكن قانون نيوتن ليس قانونا تجريبياً ثابتا، لأنّّ هذا القانون لم يخضع للتجربة كما صرح في نص الدراسة الفلسفية لنظريةإنشتاين . بل كانت التجربة في موضوع هذا القانون لون من ألوان الخيال العلمي لا التجربة الواقعية. ومن هنا يجب أن

١٧١

الملاحظة الأُولى

المقصود من الظاهرة والحادثة، التي يطلق عليها ظاهرة وحادثة ضرورية حسب الاصطلاح الفلسفي، هي الظاهرة التي تمثّل وحدة حقيقية،

نتلقّى هذا القانون بوصفه فرضية علمية وليس قانوناً علمياً.

ثمّ إذا كانت إدامة الحركة لا تستلزم وجود محرّك يلزم أن تكون الحركة حدوثاً غنية عن العلّة أيضاً، وبتعبير آخر يلزم أن يكون تغيير السرعة أمراً ذاتياً ولا علاقة له بالقوة الخارجية ؛ كأنَّ للحركة حالة خاصة معيّنة وبواسطة هذه الحالة الخاصة كما تستغني عن العلّة ابتداءً تستغني عن العلّة بقاءً أيضاً. والحالة الخاصة هي أنَّ حقيقة الحركة عبارة عن الحدوث التدريجي، وبعبارة أخرى: الحركة وجود مستمر وجود مستمر ودوام الحركة عين دوام واستمرار الحدوث. فالحركة ليست أمراً يحدث في لحظة ويسكن في لحظات أخرى، بل كلّ جزء من الحركة يوجد في لحظة ويعدم في لحظة أخرى وفي اللحظة الأخرى يحصل جزء آخر من الحركة وهكذا... بقاء الحركة عبارة عن الاستمرار الاتصالي لهذه الحدوثات، وإذا كانت الحركة مستغنية في لحظة عن المحرّك والفاعل المباشر يلزم أن يكون الشيء مستغنياً عن العلّة في الحدوث. ومن البديهي إذا كان الشيء مستغنياً عن العلّة في الحدوث في مورد خاص يلزم أن يكون مستغنياً في جميع الموارد. وبعبارة أخرى إذا سمحنا للصدفة والاتّفاق في مورد خاص يلزم أن نجوّزها في سائر الموارد، وفي هذه الحالة يلزم إلغاء قانون العلية العام، وسوف لا يكون أي شيءٍ شرطاً لأي شيء، وليست هناك أية علاقة بين الأشياء. أي أن ننكر العلم والفلسفة والنظام والقانون دفعة واحدة. نكتفي هنا بهذا المقدار من الحديث،

١٧٢

ولا وحدة عرفية ؛ فنحن قد اعتدنا بالنسبة إلى مجموعة أمور متنوّعة ذات وحدات كثيرة أن ننظر إليها نظرة الظاهرة الواحدة بحكم تحقيقها لغرض واحد، ونفترض لها ضرورة واحدة، ونحسب أنَّ لها علّة واحدة. نظير

ونوكل البحث التفصيلي في أطراف هذا الموضوع حينما نتناول في المقالة العاشرة البحث حول موضوع الحركة.

في ختام هذا البحث، وبغية إيضاح قيمة الفكر المادي في هذا المجال نشير إلى فكرة: افرض أنَّنا لا نشترط بقاء العلّة مع بقاء المعلول، فهل بقاء العلّة لحظة حدوث المعلول شرط، أم أنَّ ذلك ليس شرطاً أيضاً، بل العلّة معدومة باستمرار زمان حدوث المعلول، نعم زمان العلّة فقط متصل بزمان المعلول، ولحظة حدوث المعلول هي لحظة موت وعدم العلّة ؟ إنَّ التصوّر المادي عن العلّة والمعلول ينحصر في أنَّ زمان العلّة متصلٌ بزمان المعلول وليست هناك فاصلة زمانية بينهما، وفي لحظة حدوث المعلول تفنى العلّة وتزول.

يقول الدكتورأراني في كتيبه "المادية الديالكتيكية " ( ص ٥٤ ) ما يلي: " ينبغي أن نلتفت إلى أنَّنا لا يصحّ أن نفترض العلّة والمعلول أمرين متزامنين. لقد ذهب فلاسفة القرون الوسطى إلى وحدة زمان العلّة والمعلول لأنّهم لم يعتبروا للآن الزماني وجوداً خارجياً. وخطأ هذه السفسطة أمرٌ واضح ؛ إذ ليس هناك أي فاصل زماني بينهما، لكن بداية أحدهما نهاية للآخر على كلّ حال. كما لو كان لدينا خطّان منفصلان أحدهما خلف الآخر فاتّصلا فلا يمكننا أن نقول إنَّ ما بين بداية أحدهما ونهاية الآخر فاصلة مكانية، ومع ذلك لا يمكننا أن نقول أنَّ كلا الخطين أشغلا مكانا واحداً. لقد اضطر فلاسفة

١٧٣

الإقامة في المدينة الواحدة، والسكن في الدار الواحدة، وتناول الفطور الواحد، وشرب كأس الماء الواحد، ونظير الفطور الواحد، البيت الواحد، المدينة الواحدة، الدولة الواحدة و... بينما لا يصحّ من وجهة النظر

القرون الوسطى إلى هذه السفسطة، لأنَّهم يواجهون في هذا الموضوع إشكالاً يرتبط ببداية الطبيعة ".

أنا لا أدري على أي شيء استند الدكتورأراني في ربط نظرية بقاء العلّة مع المعلول بنفي الوجود الخارجي للآن ؟ نحن لا ندافع عن فلاسفة القرون الوسطى، ومن الممكن أن يكون أمراً من هذا القبيل قد جاء على لسانهم في أُوربا. لكن القارئ المحترم تعرّف على نهج وطريقة استدلالنا الخاصّين في هذا الموضوع. لكنّ المؤكّد أنَّ دعوى الدكتورأراني في موضوع عدم بقاء العلّة في لحظة حدوث المعلول أضعف كثيراً من استدلال الاتجاه المدرسي في العصر الوسيط. لقد اضطرّ الدكتور أراني أن يطرح هذه النظرية ؛ لأنَّ مجرد إذعانه بأنَّ وجود العلّة ( ولو في لحظة حدوث المعلول ) أمر ضروري، يلزم أن يقرّ بوجود عالمٍ آخر باقٍ ودائم. وسوف يتّضح هذا الأمر بالتدريج.

ينبغي هنا أن نتابع المتن في طرح مسألة أُخرى، مستنتجة في ضوء الأبحاث السابقة، وهي عبارة عن " بطلان تسلسل العلل " وهي قضية تطرح في جميع العلوم وخصوصا في الفلسفة.

اتضح حتى الآن أنَّ نظام الموجودات نظام وجوبي وضروري، وهذه الضرورة والوجوب تنشأ جرّاء أنَّ هذا النظام نظام وجودات وليس نظام ماهيات، والوجود يساوق الضرورة، ومن هنا فهذا النظام نظام عِلّيّ

١٧٤

الفلسفية أن نعتبر أيّ مثالٍ من هذه الأمثلة ظاهرة واحدة ذات ضرورة واحدة وتستند إلى علّة واحدة، إذ لكلّ مثال من هذه الأمثلة وحدات كثيرة.

ومعلولي، والعلّة تمنح المعلولَ الوجودَ كما تمنحه الضرورة أيضاً، أي أنَّ المعلول يكسب وجوده وضرورته من قبل العلّة، وما لم تتوفّر العلّة على الوجود والضرورة لا يمكن أن تكون معطية للوجود والضرورة إلى المعلول، واتضح ضمناً أنَّ المعلول يكسب وجوده وضرورته حدوثاً وبقاءً من قبل العلّة.

نستنتج أنَّ الموجودات القائمة في العالم والتي ندركها بشكلٍ مباشر ذات ضرورة وجودية، وتكتسب ضرورتها ووجودها من قبل العلل الموجودة والضرورية إلى جانبها.

وهنا يطرح سؤالان:السؤال الأوّل : هل هذه العلل لم تكسب وجودها وضرورتها من الخارج، أي أنَّها هويات قائمة بذاتها، أم أنَّ هذه العلل تكسب وجودها وضرورتها أيضا من علل خارجية، وعلى الفرض الثاني هل سلسلة هذه العلل متناهية أم غير متناهية ؟

السؤال الثاني : سواء أكانت سلسلة العلل متناهية أم غير متناهية فهل تنتهي جميع سلاسل العلل إلى سلسلة غير متناهية، أو تنتهي إلى ذات لها هوية قائمة بالذات ومستقلّة، أم أنَّها تنتهي إلى سلاسل غير متناهية، أو هويات مستقلّة قائمة بالذات ؟

السؤال الأوّل هو السؤال الذي يطرح إشكالية تسلسل العلل. وقد أقام الحكماء براهين كثيرة على بطلان تسلسل العلل. وقد طرحت منذ العصر اليوناني براهين على بطلان التسلسل. وقد أقام الحكماء الإسلاميون نظير ابن

١٧٥

حينما نتناول كأساً من الماء فقط، فهو عمل واحد حسب الظاهر، لكنّنا في الواقع نمارس حركات مختلفة وكثيرة، ولكلّ واحدٍ منها وجود وضرورة وعلّة.

سينا والفارابي ونصير الدين الطوسي والميرداماد وصدر المتألهين كلّ واحد منهم برهاناً على بطلان تسلسل العلل، أو على الأقل رمموا أو أكملوا البراهين التي أقامها الآخرون. وقد طرحت إشكالات وانتقادات حول هذه البراهين، ولا داعي للورود إلى هذا الميدان هنا. إنَّما نكتفي هنا بذكر برهان يرتبط بأفكار هذا المقالة ارتباطاً كبيراً، وهو أفضل برهان ـ من زاوية وجهة نظرنا ـ أقيم على بطلان تسلسل العلل.

أفضل برهان على امتناع تسلسل العلل هو البرهان الذي ينطلق من قاعدة ضرورة نظام الموجودات. وهذا البرهان طرحه لأوّل مرّة الفيلسوف نصير الدين الطوسي، وفتح الطريق أمام الآخرين، وقد أشار المتن إلى هذا البرهان. ونحاول هنا أن نوضح هذا البرهان بشكل بسيط ما وسعنا الإيضاح:

نظام الموجودات نظام علّيّ وضروري، وكلّ معلول يكسب ضرورته من قبل علّته. فهل هذا النظام الضروري العلّي في الواقع يتألّف من ضرورات بالغير، يعني سلسلة علل ومعلولات غير متناهية، وكلّ علّة بدورها معلولة لعلّة أُخرى وهكذا... أم أنَّ هذا النظام يتألّف من ضرورات بالغير وضرورة بالذات، أي أنَّ جميع الوجودات والضرورات تنتهي إلى موجود قائم بالذات وكامل بالذات وضروري بالذات، وهو غير متناهٍ شدّة وكمالاً، وهو أَساس جميع الوجودات، ومنبع جميع الضرورات والوجودات بنظامٍ وترتيبٍ معين ؟

١٧٦

إنَّ هذا النسق يقتضيه البحث في علّة وضرورة كلّ ظاهرة، رغم أنَّ سياقا آخر من البحث ( كما سيأتي تفصيلاً ـ إن شاء الله ـ في المقالة العاشرة ) يقرّر أنَّ عالَم المادة وحدة واحدة لا غير، ومن هنا يلزم القول: إنَّ له ضرورة

لا يمكن تفسير هذا النظام على أساس الفرض الأوّل ؛ لأنا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أي معلول خاص وأردنا أن نعرف: لِم توفّر هذا الشيء على الضرورة والوجود ؟ فمن الممكن أن نفترض ابتداءً في الإجابة: لأنَّ علّته كانت موجودة وضرورية، ومع افتراض وجود العلّة يكون وجود هذا الشيء ضرورياً، ولا يقبل التخلّف. ولكن يطرح لدينا مرةً أُخرى سؤال: لِم توفرت علّته على الوجود، أي لماذا لم يعدم المعلول ( الذي هو علّة لما بعده ) بعدم علّته ؟ من الممكن أيضاً أن نقول: لأنَّ علّة هذه العلّة كانت موجودة، ومع فرض وجود علّة هذه العلّة يكون وجود هذه العلّة ضرورياً، ولا يقبل الانفكاك.

يطرح للمرة الثالثة السؤال التالي: لِم لم يكن المعلول ( الذي أخذناه بنظر الاعتبار ) معدوماً عن طريق عدم علّته ؟ رغم أنَّ هذا الاستفهام سيجاب عليه بجوابٍ مشابه للأجوبة المتقدمة، لكننا إذا استفتينا العقل وسألناه: لماذا لم يكن هذا المعلول الخاص معدوماً بعدم جميع هذه السلسلة اللامتناهية، ولِم لم يحل العدم المحض محل هذه السلسلة ؟ عندئذٍ لا يجد العقل جواباً. وبعبارة أُخرى: إنَّ المعلول المقصود يتوفّر على الوجود حينما يتوفّر على ضرورة الوجود، ويتوفّر على ضرورة الوجود حينما تفقد جميع إمكانات عدمه، ومن هذه الإمكانات عدمه بواسطة عدم جميع هذه السلسلة.

نعم ؛ إذا كانت هذه السلسلة مؤلّفة من الضرورة الذاتية والضرورة

١٧٧

واحدة ويستند إلى علّة واحدة. نشير إلى هذه الفكرة الأخيرة إشارة، وإيضاحها الكافي ينبغي تلمّسه عبر المقالات القادمة.

الملاحظة الثانية

النظريّتان المتقدّمتان:

ـ كلّ ظاهرة معلولة لا تتوفّر على الوجود ما لم تتوفّر على الضرورة.

الغيرية يصبح عدم هذه السلسلة أمراً محالاً، أي أنَّ المعلول المقصود لا يمكن أن يعدم عن طريق عدم جميع هذه السلسة ؛ لأنَّ عدم هذه السلسلة يستلزم عدم واقع ضروري بالذات، وممتنع العدم بالذات، وليس لهذا الواقع بأي وجه من الوجوه إمكانية العدم، وحيث إنَّ هذا الواقع موجود يلزم من وجوده وضرورته وجود وضرورة جميع آحاد السلسلة بترتيب ونظام معين. أمّا إذا فرضنا أنَّ هذه السلسلة مؤلّفة من ضرورات بالغير فلا يستحيل عدم هذه السلسلة عن طريق عدم جميع آحادها ؛ إذن فعدم المعلول المقصود ليس محالاً أيضاً ؛ إذن فهذا المعلول غير ضروري ؛ إذن لا يمكن أن يكون موجوداً.

وبتعبير آخر: نظام الموجودات نظام متحقّق، وحيث تحقّق فهو ضروري، ولا يمكن عدمه، أي يستحيل أن لا يكون هذا النظام موجوداً من الأساس، ويحلّ محلّه العدم المحض. بعد أن تبين أنَّ هذا النظام نظام متحقّق وضروري، فإذا توفّر على ضرورة بالذات أمكن تبرير وتفسير تحقّق هذا النظام وضرورته ؛ لأنَّ علّة وجود وضرورة هذا النظام هي وجود واقع فيه يستحيل عليه العدم بالذات، ومن ثمَّ يترشّح من هذا الواقع الضروري الذي

١٧٨

ـ العلّة هي التي تعطي الضرورة للمعلول.

يعطيان النتيجة التالية: لكلّ معلول بالنسبة إلى علّته ضرورة نسبية. أي إذا قِسنا المعلول إلى علّته فسوف يتوفّر على نسبة الضرورة، وهذه النسبة أي الضرورة بالقياس، تنحصر بين المعلول وعلّته التامة، ولا تحصل

يستحيل عليه العدم بالذات ( الذي نسمّيه علّة العلل ) امتناع العدم والضرورة على سائر الأشياء التي لا يستحيل عليها العدم بالذات. أمّا إذا لم تكن هناك ضرورة بالذات في هذا النظام فلا يمكن تبرير وتفسير تحقّق هذا النظام وضرورته ؛ لأنَّ نسبة هذا النظام إلى الوجود وعدم الوجود متساوية، وبعبارة أُخرى: إنَّ كل واحد من آحاد هذا النظام بلا استثناء تكون نسبته إلى الوجود ( عن طريق وجود سلسلة العلل اللامتناهية ) وإلى العدم ( عن طريق عدم جميع السلسلة ) متساوية ؛ إذن ليس هناك منشأ لتحقّق وضرورة هذا النظام.

على هذا الأساس يلزم قطعاً وجزماً أن يتكئ عالم العلّة والمعلول على علّة بالذات أو علل بالذات. ولكن هل تنتهي الأُسس العلية والمعلولية إلى علّة واحدة بالذات وواجب الوجود بالذات، أم ليس هناك مانع من تعدد العلّة بالذات والواجب بالذات ؟ وبعبارة أخرى: هل منبع ومنشأ ومبدأ الكل واحد أم لا مانع من تعدّده ؟ وعلى أساس كلا الفرضين فهل هذه العلّة أو العلل بالذات من سنخ المادة أم مجردة عن المادة ؟ الأفكار التي تشكل جواب هذا الاستفهام تستدعي بحثاً تفصيلياً وطويلاً، وقد تكفّلتها المقالة عشرة التي تبحث في الإلهيات.

نذكّر في الختام بأنَّ بحثنا هنا في تسلسل العلل ينصب على العلّة الفاعلية، أمّا هل يمتنع التسلسل في العلل الغائية أو العلل الصورية والعلل

١٧٩

بين المعلول وأجزاء العلّة، ولا بين المعلول وما هو خارج عن العلّة، بل تنحصر في العلّة التامة ؛ لأنَّها هي التي تعطي الضرورة. أمّا إذا قسنا الشيء إلى غير علّته التامة فسوف تكون له نسبة أخرى، مغايرة لنسبة الضرورة، ويطلق عليها نسبة الإمكان بالقياس.

مثلاً: إذا قسنا الماء إلى تركيب الهيدروجين والأُكسجين مع توفر سائر الشروط الزمانية والمكانية، فسوف نقول: إنَّ حصول ظاهرة الماء أمر ضروري. لكنّنا إذا قسنا الماء إلى الأُوكسجين فقط فسوف لا تكون هناك ضرورة وجودٍ للماء، لأنَّ الأُوكسجين وحده لا ينتج الماء، ولكن ليديه ( إمكان )، أي إذا انضمّت سائر أجزاء علّة وجود الماء وسائر الشروط لديه ( إمكان )، أي إذا انضمّت سائر أجزاء علّة وجود الماء وسائر الشروط إلى الأُوكسجين وإلاَّ فلا. إذن، فيمكن للأُوكسجين أن يصبح ماءً ( مع وجود سائر الأجزاء والشروط )، ويمكن أن لا يصير ماء ( مع عدم بقية الأجزاء

المادية أم لا يمتنع ؟ فهذا بحث آخر خارج عن موضوع بحثنا الحاضر. ومن نافلة القول التذكير بأنَّ الشروط والمعدّات، أيّ مراحل وجود الشيء، التي يصطلح عليها أحياناً " العلل الإعدادية " خارجة عن موضوع البحث وعن إشكالية تسلسل العلل خروجاً كاملاً ؛ إذ لاحظنا أنَّ براهين بطلان تسلسل العلل تنصب على العلل الواجبة الموجودة بصحبة وجود المعلول. أمّا الشروط والمعدّات التي تقع في طريق وجود الشيء، وليست عللاً معطية للوجود فلا ضرروة لوجودها بصحبة المعلول، بل يجب أن تتقدّم زماناً على وجوده. من هنا لا يصح التوهم بأنَّ بطلان تسلسل العلل يلزم منه تناهي سلسلة الشروط والمعدات، أي أنَّ الحوادث الزمانية التي تتدخّل في وجود الشيء متناهية، ومن ثمَّ يتناهى الزمان والحوداث الزمانية.

١٨٠