أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92551
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92551 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الآثار الكاملة ٦

أصول الفلسفة

والمنهج الواقعي

تأليف

السيد محمّد حسين الطباطبائي

المجلّد الثاني

تقديم وتعليق: مرتضى مطهري

ترجمة: عمّار أبو رغيف

مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر

١

شعار المؤسّسة

مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر

كافة حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤسّسة

***

مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر

اسم الكتاب: أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

تأليف: السيد محمّد حسين الطباطبائي

تقديم وتعليق: مرتضى مطهري

ترجمة: السيد عمّار أبو رغيف

الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر

الطبعة الأولى / شوال ١٤٢١هـ الجزء الثاني

لبنان / بيروت / الغبيري ص ـ ب ٢٧٨ / ٢٥

omalqora@mail.com

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

المقالة السابعة: الوجود وواقع الأشياء

٥

٦

المقدّمة

ينصبّ البحث في هذه المقالة على درس الوجود وواقع الأشياء،وبعبارة أخرى: تتناول هذه المقالة بالدرس بحث " الوجود "، الذي يشمل لوناً من القضايا التي تعرف في الفلسفة بـ: أبحاث الوجود، ونظرية الوجود.

يتداول الباحثون في الفلسفة مصطلح الوجود أكثر من تداولهم لأيّ مفهوم ومصطلح آخر ؛ وآية ذلك أَََنَّ الوجود أو الموجود هو موضوع الفلسفة(راجع المقالة الأولى) ؛ ومن هنا أضحت الفلسفة فنّاً مستقلاً عن سائر الفنون التي تحمل مصطلح " العلم "، والتي يطلق على كلٍّ منها اِسم خاص، ومن الواضح أَنَّ الباحث يتعامل في كلّ فنٍّ من الفنون مع موضوع ذلك الفنِّ بشكلٍ أساس. في هذا الضوء أمكننا أن نسمّي الفلسفة " علم الوجود " مقابل علم الأعداد، وعلم المقادير، وعلم النفس، وعلم الحيوان، وعلم المعادن... أي إنَّ الفلسفة تتعلّق بمفهوم متميّز هو مفهوم الوجود أو الموجود، على غرار تعلّق سائر إنتاج الفكر البشري بمفهوم محدّد.

بدءاً علينا أن نُلفت نظر القارئ المحترم إلى أنَّ مصبَّ درس هذه المقالة " أبحاث الوجود " بابٌ فتحه الحكماء المسلمون إِبّان الحقب الأخيرة في الفلسفة، وعكفوا على تمحيص أطراف هذه البحوث بعمقٍ ودقّةٍ. وقد عدَّ هؤلاء الحكماء هذه البحوث أُصولاً أساسية لسائر أبحاث الفلسفة، إذ يعتقد هؤلاء الحكماء أَنَّ مفتاح سائر المشكلات الفلسفية يمكن العثور عليه عبر هذه

٧

البحوث. وعبر التوفّر على هذا المفتاح يمكن النجاح والحصول على نتائج قطعية في سائر أبحاث الفلسفة.

إنَّ البحث في "الوجود " يضرب في عمق التاريخ العقلي، فقد تناولته مدارس الفلسفة اليونانية بالبحث، كلّ حسب منهجه الخاص. وقد ميّز أرسطو في دائرة معارفه قسماً خاص، عُرف فيما بعد بـ " الفلسفة الأولى " أو العلم الأعلى " الميتافيزيقيا "، تناول بالبحث لوناً خاصاً من المشكلات، وتميّز عن سائر الأقسام الأُخرى، التي يبحث كل منها عن موضوع مستقل، ويكمن سبب هذا التمييز في أنَّ هذا القسم الخاص تدور أبحاثه حول محور الوجود.

لقد صرّح أرسطو في ما بعد الطبيعة (كتاب الحروف )، في مقالة الجيم: أنّ أبحاث هذا القسم لا تتلاءم مع الرياضيات أو أيّ علمٍ من العلوم ؛ لأنّ موضوع البحث في هذا القسم أعمّ من مواضيع الطبيعيات والرياضيات وغيره.

جاءت كلمة "هوية " معادلاً لهذا المعنى الأعم في الترجمة العربية لكتاب الحروف، لكنّ الحكماء المسلمين اِستبدلوها بكلمة " الموجودات "، ولعلّ أوّل من استعمل هذه الكلمة الأخيرة هو أبو نصر الفارابي في رسائله. على أيّ حال يقرّ المحقّقون الغربيون والشرقيون بأنَّ الفلسفة الأولى والعلم الكلّي الذي يشمل أعم المسائل ابتكارٌ أرسطي، وأنَّه بحثٌ عن الوجود والموجود، وموضوعه الوجود المطلق. من هنا فالبحث في الوجود يضرب في عمق التاريخ، بل الفلسفة الأولى من حيث الأساس هي بحثٌ عن الوجود.

لكنّ الأبحاث التي جاءت في الفلسفة الإسلامية تحت عنوان " مسائل الوجود " (والتي تحتل فصلاً مستقلاً اختصت به هذه المقالة) تمثّل لوناً خاصاً من المسائل. ففي ضوء تتبّعنا وعلى هدي المعلومات التي انتهينا إليها اتّضح

٨

لنا أَنَّ هذه الأبحاث دخلت حريم الفلسفة الإسلامية بالتدريج، فجلبت انتباه المحقّقين، حتى أضحت أكثر مسائل الفلسفة جديةً وأصالة، ومن ثمَّ مسكت زمام المبادرة في تحديد مصير الفلسفة الإسلامية.

إنَّ هذه الأبحاث انطلقت من نظريات المتكلّمين واتجاهات العُرفاء، وتأثرت بها بدرجة أكبر من ارتباطها بالمصادر اليونانية وغير اليونانية. على أنَّ هذه الأبحاث طُرحت في دائرة المتكلّمين والعُرفاء بشكل مبسّط وابتدائي، مضافاً إلى افتقارها في هذا الإطار إلى التحليل الفلسفي العقلاني السليم. لكنّها بعد أَن دخلت ميدان البحث الفلسفي وضعت تحت مشرط التحليل والتركيب الفلسفي، فتوفّرت على نضجه، حتى أضحت على صورتها النهائية في القرون الأخيرة. وسوف نشير ضمن إيضاح وتحليل هذه الأبحاث في هذه المقالة إلى وضع هذه الأبحاث لدى المتكلّمين والعُرفاء وتطوّرها في الفلسفة. ونشير إشارة تتناسب مع حجم كتابنا، لنضع بيد القارئ المحترم مفتاح هذه الأبحاث.

أمّا لِمَ لم تقع هذه الأبحاث بمفهومها الشرقي موقع اهتمام الفلسفة الأوربية الحديثة، ولم يتعدّ الأمر دائرة الاشتراك اللفظي في بعض الأبحاث نظير " أصالة الوجود " حيث يتباين مفهومها في الفلسفة الإسلامية عن مفهومها الحديث في الغرب ؟ يعود السبب إلى انقطاع الصلة بين الفلسفة الأُوربية والفلسفة الإسلامية في القرون الأخيرة.

إذا كان قارئنا المحترم مطّلعاً على الكتب العلمية إطلاعاً وافياً فإنّه يعرف السّنّة السائدة لدى الأقدمين في تدوين العلوم، حيث يبدؤون بمقدّمة تطرح ثلاثة أبحاث، تتناول موضوع العلم، وتعريفه، وفائدته ويضيفون أحياناً أُموراً أخرى. وهذه السّنّة جارية في كل العلوم والفنون من الفلسفة وغيره.

٩

ويضيفون في مقدّمة البحث عن الفلسفة (العلم الكلّي أو الفلسفة العليا حسب مصطلح المتقدّمين) وأحياناً في كتب المنطق (كما هو الحال في منطق الشفاء) أموراً أُخرى: تقسيمات العلوم، تمايز العلوم، ماهية موضوع العلم... وغيره.

وقف العلماء باستمرار على أَنَّ مقدمة كلّ علم، أي تحديد موضوعه وتعريفه وتحديد فائدته، لا يمكن أن تكون جزءاً من ذلك العلم، وأنَّ تقسيمات العلوم ليست جزءاً من الفلسفة أو المنطق، وسرّ هذا الأمر واضح، وسيتضح بشكلٍ أكبر عبر القادم من البحث. ولكن ليس هناك علم يتكفّل بشكلٍ مستقل درس هذه المواضيع، وما هو مألوف الآن في مقدّمة كلّ علم لم يكن متداولاً في الدراسات القديمة.

لقد خطى العلماء المُحدَثُون خطوة مثمرة ـ ضمن خطواتهم المثمرة العديدة ـ في عالم الفلسفة والمنطق. فاستحدثوا فنّاً مستقلاً تكفّل إيضاح المواضيع المتقدّمة، وأضافوا فقرات مهمة أُخرى، نظير " الأصول المتعارفة " و " الأصول الموضوعة " التي تستخدم في كلّ علم، والمنهج الذي يستخدم في كلّ علم من العلوم بُغية تطوير البحث في ذلك العلم.

والموضوع الأخير أهم المواضيع التي تنبّه إليها هؤلاء الباحثون، أعني بيان اختلاف العلوم من زاوية المنهج، وتحديد الأسلوب الفكري الذي يسلكه كلّ علم للوصول إلى النتائج المطلوبة. وذهب هؤلاء الباحثون إلى أنَّ العلوم فتحت باب التكامل والتطوّر حينما تحدّدت مناهج البحث، وأنَّ علّة ركود العلوم في العصور الماضية ترجع إلى غياب المنهج السليم والمطلوب لكلّ علم، ويتجلّى هذا الغياب في استخدامهم المنهج العقلي البرهاني في الحقول التي يجب أن يستخدم فيها المنهج التجريبي.

١٠

على أيّ حالٍ، تطوّر البحث في هذا الموضوع حتى طغى على سائر المواضيع الأُخرى، وظهر إلى الوجود علمٌ جديد أطلقوا عليه " مناهج البحث ". وقد ذهب هؤلاء الباحثون إلى أَنَّ الفائدة المترتّبة على معرفة مناهج البحث أكبر بكثير من الفائدة التي تترتب على معرفة صورة الاستدلال. ومن هنا قسّموا المنطق إلى حقلين: المنطق الصوري ـ وهو منطق أرسطو ذاته ـ، ومناهج البحث، التي تتكفّل تصنيف العلوم وتعريفها وتحديد موضوعاتها وفوائدها ومناهجها وأُصولها المتعارفة والموضوعة.

بديهي أَنَّ استقصاء البحث في ما يُعرف اليوم بـ " مناهج العلوم " لا علاقة له بالبحوث المطلوبة في مجموعة مقالات هذا الكتاب. إلا أَنَّنا نضطر إلى بيان الموضوعات التي ترتبط مباشرة بالبحث الفلسفي، والتي يؤدي تركها وعدم بيان وجهة نظرنا فيها إلى خلق إشكالات في ذهن القارئ المحترم. خصوصاً وأنّ بعض هذه الموضوعات ـ حسب تتبّعنا ـ لم تدرس حتى الآن.

طرحنا في المقالة الأُولى تعريف الفلسفة وموضوعها وفائدتها، وبحثنا في المقالة الخامسة حول سلامة المنهج العقلي الذي تعتمده الفلسفة. وبحكم أَنَّ المسائل المطروحة في هذه المقالة ـ كما أشرنا ـ تمثل أساس سائر المسائل الفلسفية، وتعد مفتاح البحث الفلسفي، نعكف في المقدّمة على إيضاح سائر الموضوعات الضرورية التي تشمل ما يلي:

١ـ تمايز العلوم.

٢ ـ ماهية الموضوع.

٣ ـ منطلقات مسائل العلوم أو المبادئ التصورية والتصديقية.

١١

٤ ـ منطلقات الفلسفة أو مبادئ الفلسفة.

٥ ـ المنهج في الفلسفة.

٦ ـ اختلاف العلوم من زاوية الأصول المتعارفة والموضوعة والمنهج.

* * *

تمايز العلوم:

يبدأ كلّ علمٍ بمجموعة مسائل بسيطاً محدودا، ثمّ يأخذ بالنمو والاتّساع. وقد سعى الإنسان منذ القدم إلى تصنيف المسائل العلمية، وإطلاق اسمٍ على كلّ صنفٍ منها: طبٌ، هندسة، حساب، منطق، فلسفة...، وكأنّه يجد أفراد كلّ صنفٍ من الأصناف بمثابة أفراد أُسرةٍ واحدة، تنشعّب من أَصلٍ واحدٍ وتعود إلى جذر واحد، وهذه هي جهة تميّزها عن سائر أفراد الأصناف الأُخرى. وتتكاثر هذه الأُسر بالتدريج، أي عبر جهود الباحثين المتواصلة وتنجب أفراداً أُخرى من الجذر الواحد مباشرة.

ونلاحظ أحياناً ترابطاً بين أفراد بعض الأسر وأفراد أُسر أُخرى رغم تمايزها، ترابطاً يبدو أسرياً أيضاً، ممّا يحكي قرابة العِلمين وارتباطهما، نظير الارتباط القائم بين علم الحساب وعلم الهندسة، ونلاحظ أيضاً ارتباطا بين الأُسر يشبه الارتباط العرقي، نظير الارتباط بين العلوم النظرية مع بعضها، مقابل الارتباط بين العلوم العملية.

دفع هذا الارتباط العائلي والعرقي الباحثين إلى تقسيم وتصنيف العلوم. وأوّل تقسيم وتصنيف نضع اليد عليه هو التقسيم الأرسطي المعروف منذ القِدم. وأوضح ابن سينا هذا التصنيف بأفضل صورة، وقام بتطويره. وقد

١٢

اعترض بعض الحكماء، كشيخ الإشراق، باعتراضات على هذا التصنيف، ودافع بعض آخر عن هذا التصنيف أمام اعتراضات شيخ الإشراق. وكل ذلك محرّر في الدراسات المعدّة لهذا الموضوع، ولا داعي للإطالة هنا في بيان ذلك.

إنَّما المهم هنا أن نوضح الأصل الذي يفضي إلى توحيد أفراد العلم الواحد تحت إطار أُسرة واحدة، ويؤدّي إلى خلق رابطة ذاتية بين هذه الأفراد. وأَن نوضح أيضاً سرّ القرابة الأُسرية والعرقية بين الأُسر العلمية. وهل تتفرع كلّ أعراق العلوم حقيقةً وواقعاً من جدٍ أعلى، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو هذا الجدّ وما هي حقيقته ؟

لقد انتهى المنطقيون والفلاسفة بعد مزيد من البحث والتحقيق إلى أَنَّ أيّ علمٍ من العلوم لا يخلو من موضوع، وأنَّ الذي يوحّد بين مسائل كلّ علم هو موضوع ذلك العلم، وأنَّ سر القرابة الأُسرية والعرقية يكمن في القرابة بين موضوعات العلوم. وإذا آمنا بوجود جدٍ أعلى للعلوم فهو يرتبط أيضاً بموضوعات العلوم.

ما هو الموضوع ؟

موضوع كلّ علم عبارة عن ما يُبحث في كلّ علم عن أحواله وعوارضه والقضايا المرتبطة به. إِنَّ التأمل في مسائل أيّ علمٍ وتحليل تلك المسائل يوضح أنَّ جميع تلك المسائل تتكفّل بيان أحكام وآثار وعوارض وحالات شيءٍ خاص، وهذا الشيء الخاص هو الذي يصيّر جميع تلك المسائل أفراداً لأسرة واحدة، ونسمّيه موضوع ذلك العلم.

١٣

وهنا تُطرح أمام الفلاسفة والمنطقيين إشكالية، وهي: بحكم أنَّ موضوعات العلوم لا تتباين من جميع الجهات، بل هناك قرابة بين موضوعات العلوم ـ كما أَشرنا فيما تقدّم ـ وهذه القرابة تفضي إلى قرابة أُسرية وعرقية بين العلوم. فالكم المنفصل الذي هو موضوع علم الحساب والكم المتّصل الذي هو موضوع علم الهندسة بينهما قرابة جنسية، أي إنّهما يرجعان إلى جنسٍ واحدٍ وهو الكم.

هذا من جهة، ومن جهة أًخرى فما يسمّى موضوعاً لعلمٍ له أَنواع وأقسام، وكلّ نوع وقسم يختص بمجموعة أحكام وعوارض وحالات، نظير موضوع الهندسة، حيث قرّروا أَنّه " الكم المتّصل "، الذي ينقسم إلى الخطّ والسطح والحجم، ولكلّ واحد من هذه الأقسام عوارض وأحوال خاصة به. ثمّ أَنَّ " العوارض والأحكام " مصطلح مَرِن، فما يُعد عارضاً على قسم من أقسام الموضوع يعدّ عارضاً على ذات الموضوع أيضاً.

حينئذٍ إمّا أَن نعدّ جميع العلوم علماً واحداً، أيّ نعدُ مسائل جميع العلوم بمثابة أفراد أُسرة واحدة، تتفرع من أصل واحدٍ، وننكر الاختلافات الأُسرية والعرقية بين العلوم، ونعد اختلاف العلوم مع بعضها اختلافاً وضعياً اعتبارياً، وإمّا أن نكثر العلوم تبعاً لتنوّع وانقسام الموضوعات، مثلاً نعتبر الهندسة مجموعة من ثلاثة علوم: علم الخط، علم السطح، علم الحجم. بل أن نقسٍّم هذه الأقسام إلى علوم، بحكم إمكانيتها للانقسام، نظير قسمة الخط إلى منحني ومستقيم.

أضف إلى ذلك أنَّ موضوعات العلوم لا تتباين من جميع الجهات، وبينها وجه اشتراك. فنجد أحياناً أنَّ موضوع العلم الواحد ذاته جامع مشترك

١٤

لموضوع علم آخر مع مجموعة أشياء أُخرى، فمثلاً موضوع علم النبات جامع مشترك لموضوع علم الحيوان ومجموعة من الأشياء، وهكذا...

أجاب المنطقيون والفلاسفة على هذه الإشكالية،وخلاصة الجواب: أنَّ العوارض والأحكام التي تنسب إلى شيءٍ من الأشياء تنقسم إلى قسمين: عوارض أولية أو ذاتية، وعوارض ثانوية أو غريبة. وبصدد تمييز العوارض الذاتية عن العوارض الغريبة هناك تحقيقات جيدة وجليلة، وأخصبها وأفضلها ما قام به ابن سينا في كتبه المنطقية، وخصوصاً في منطق الشفاء، رغم أنَّ بعض المتأخّرين لم يهضموا ما انتهى إليه من ملاحظات ضرورية، وسلكوا مسالك أُخرى، أدّت إلى تشويش واختلافات كثيرة في هذه المسألة، حتى أَدلى بعض الغرباء على المنطق بآراء غريبة هوجاء في هذا الميدان.

اتّضح أَنَّ مسألة تمييز العلوم وتصنيفها مهمّة حساسة من وجهة النظر المنطقية، واتّضح أيضاً أنَّ تمييز العوارض الذاتية عن الغريبة مهمّة حساسة من الزاوية المنطقية. وتمييز هذه الجهة يتطلّب مقدّمات منطقية كثيرة، لا تستوعبها هذه المقدّمة وهذه المقالة، وعلى الراغبين في الاطلاع مراجعة الكتب المنطقية، خصوصاً دراسات ابن سينا.

ولكن ينبغي هنا أن نوضح الملاحظة التالية: بحكم أنَّ العوارض الذاتية لكلّ موضوع إمّا أن يدركها الذهن بداهة ويتعرّف على ارتباطها بالموضوع بشكل مباشر، وبدون إقامة برهان، أو يدركها بواسطة برهان وعبر "الحدّ الأوسط "، فمن المحتّم أَن يكون الارتباط بين كلّ موضوع وبين عوارضه الذاتية ارتباطاً واقعياً وليس اعتبارياً، ومن المحتّم أَن يكون الموضوع كلّياً وليس جزئيا.

١٥

على هذا الأساس فالعلاقة بين موضوعات العلوم الاعتبارية ومحمولاتها علاقة اعتبارية وليست واقعية، نظير علم القانون والفقه وأصول الفقه والنحو والصرف، وكذلك الحال في العلوم التي تتشكّل مسائلها من قضايا شخصية، كاللغة والتاريخ والجغرافية. والعلوم الاعتبارية خارج مقولات المناطقة ؛ إذ الحديث عن تمايز وتصنيف العلوم إنّما يوضح العلاقة الواقعية في مجال العلوم الحقيقية لا العلوم الاعتبارية. مضافاً أَنّ مجال هذا الحديث هو الكلّيات التي يمكن للذهن أَن يستدلّ ويستنتج من خلالها، لا الجزئيات التي هي على حدّ تعبير المنطقيين " لا كاسبة ولا مُكتسَبة ". ومن ثمّ فالحديث ينصب في مجال العلوم التي يجري فيها البرهان بمفهومه المنطقي، نظير جميع العلوم العقلية المحضة والعلوم التجريبية.

أمّا بالنسبة إلى العلوم التجريبية والمختبرية فرغم أنَّ البرهان غير جارٍ فيها بشكل مباشر، لكن يقينية البحث في هذه العلوم وكلّية نتائجها ـ كما تقدم في المقالة الخامسة ـ رهن مجموعة براهين عقلية تتّكئ عليها هذه العلوم ضمنياً.

منطلقات مسائل العلوم " المبادئ التصوّرية والتصديقية ":

اتّضح مقياس معرفة " مسائل العلم " في ضوء ما تقدّم من تعريف موضوع العلم، فالمسألة في كلّ علم عبارة عن القضية التي تكشف عن العلاقة بين موضوع ذلك العلم وأحد عوارضه وأحكامه. ومن هنا فكلّ علم عبارة عن مجموعة مسائل تتضمّن موضوعاً ومحمولاً ونسبة. وتتخّذ المسألة طابع " القانون " حينما تكون كلّية أولاً، وحينما يذعن الذهن اضطراراً بثبوت المحمول للموضوع ثانياً.

١٦

ويحصل هذا الإذعان والتصديق بشرطين:

أوّلاً ـ أَن يكون للذهن تصوّر واضح عن موضوع المسألة ومحمولها ليتعرّف على مورد حكمه.

ثانياً ـ وجود لون من الدليل والحجّة يكون سنداً للحكم، بحيث يُلزم الذهن بالتصديق والإذعان. و " التعريفات " في العلوم تؤدّي دور تحقيق الشرط الأوّل، أمّا الذي يؤدّي تحقيق الشرط الثاني ويستند الذهن إليه في الحكم فهو مجموعة من " الأصول المتعارفة " أو " الأصول الموضوعة " أو ما يتّكئ على هذه الأصول من مسائل.

يطلق على مجموع التعريفات والأصول المتعارفة والأصول الموضوعة في كلّ علم مصطلح " المبادئ "، وتسمّى التعريفات " مبادئ تصوّرية "، والأُصول المتعارفة والموضوعة " مبادئ تصديقية ". وأمر التعريفات واضح نظير ما يستخدم في تعريف الخط والسطح والحجم والدائرة والمربع والمثلث وغيره في الهندسة. ولكن ينبغي هنا إيضاح الفرق بين الأُصول المتعارفة والأُصول الموضوعية:

الأصول المتعارفة عبارة عن أصل أو مجموعة أُصول تقوم على أساسها براهين وأدلة العلم، وهذه الأُصول ذاتها بديهية، ولا يجيز أي ذهن الشك فيها. نظير قانون " الكل أكبر من الجزء " , " المقداران المساويان لمقدار واحد متساويان " في الهندسة، ونظير قانون استحالة التناقض في المنطق والفلسفة.

أمّا الأُصول الموضوعية فهي عبارة عن أصل أو مجموعة أُصول تتّكئ عليها أدلّة العلم، وهذه الأُصول ليست بديهية قطعية، وليس هناك دليل بالفعل على صحتها، لكنّها تؤخذ مصادرات مفروضة الصحة. على أَنّه يمكن

١٧

أن تتَّخذ بعض الأُصول طابعاً فرضياً وضعياً في علم، لكنّها أُصولٌ قام الدليل عليها في علمٍ آخر. نظير القواعد الفلسفية حينما تستخدم في العلوم، أو اتّخاذ قواعد الرياضة والطبيعيات مصادرات في البحث الفلسفي.

إذن؛ تختلف الأُصول المتعارفة عن الأُصول الموضوعة في كون الأصل المتعارف بذاته أصلاً قطعياً ويقينيا، ولا يجيز الذهن خلافه. أمّا الأَصل الموضوع فهو ليس يقينياً بذاته، ويجيز الذهن خلافه، سواء أكان فرضياً بحتاً أم كان مستدلاً عليه في علم آخر غير العلم الذي اُتخذ مصادرةً فيه.

إنَّ معالجة موضوع التعريفات والأُصول الموضوعية والمتعارفة وبيان الفروق بينها، وبيان أقسام الأُصول المتعارفة(العامة والخاصة)، وتحديد الأُصول الموضوعية والمتعارفة في كلّ علمٍ، من أَنفع الأَبحاث التي يجب أن يعالجه المنطق. وقد بذل المناطقة المحدّثون جهوداً جليلة في هذا المجال، و "كَنْت " أحد الحكماء الذين أماطوا اللثام عن الأُصول المتعارفة والأُصول الموضوعة (المبادئ القبلية والمصادرات) لعلوم عصره. يهمّنا هنا أن نشير إلى المبادئ التصورية والتصديقية الفلسفية.

المبادئ الفلسفية:

اتّضح في ضوء ما تقدّم أنَّ المبادئ التصورية والتصديقية لكلّ فنٍّ تمثل نقاط اتكائه، وتعدّ من جهة أُخرى أدواته ووسائله. ومن هنا ينبغي أَن نتعرّف على وضع المبادئ التصورية والتصديقية للفلسفة، أي التعريفات والأُصول المتعارفة والموضوعة للفلسفة.

١٨

إنَّ الفلسفة أَغنى الفنون من زاوية التعريفات؛ لأَنَّ المفاهيم التي تشكّل موضوعات ومحمولات المسائل الفلسفية ( نظير: مفهوم الوجود، العدم، الوحدة، الكثرة، الوجوب، الإمكان، الامتناع، العِلّة، المعلول، المتناهي، اللامتناهي، الحادث القديم، القوة والفعل... ) مفاهيم بسيطة، ومن ثمَّ فهي بديهية التصوّر، وفي غنىً عن التعريف. ولإيضاح بساطة مفاهيم الفلسفة وإثبات عدم تركيبها، وأنَّ المفهوم البسيط مستغنٍ عن التعريف (راجع المقالة الثامنة).

الأُصول الفلسفية المتعارفة : تحديد جميع الأُصول الفلسفية المتعارفة أمر مفيد جداً وهامٌّ أيضا، لكن استقصاء كلّ هذه الأُصول أَمرٌ لا يخلو من الصعوبة. ولم نجد حتى الآن من قام بهذه المهمة. ولعلنا نوفّق في فرصة أُخرى إلى عرض هذه الأصول بعد استقصائها، وتحديد مواضع الإفادة منها.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أَهم أصلين متعارفين في الفلسفة، حيث يعدّان نقطة انطلاق المسيرة الفلسفية. وسيتضح عبر هذه المقالة (التي تتضمّن مباحث الوجود، أي المسائل الأساسية للفلسفة) أنَّ البحث ينطلق من أحد هذين الأصلين، وهما عبارة عن:

الأوّل: امتناع التناقض

لا شكّ في أنَّ هذا الأصل هو أشدّ أُصول الفلسفة إِحكاما. وهو ضرورة قائمة في كلّ العلوم وفي الفلسفة بوجهٍ خاص. وقد تناوله بالبحث أرسطو، وابن سينا في أوائل إلهيات الشفاء، وصدر المتألهين في أبحاث العقل والمعقول، وتناول الفلاسفة الآخرون قديماً وحديثاً البحث حول هذا الأصل الذي أطلقوا عليه " أصل الأُصول " و " أُمّ القضايا ". وقد أَشبعنا البحث حول هذا الأَصل في المقالة الثانية والخامسة، وتناولنا

١٩

شبهات المنكرين بالردّ، وأثبتنا أنَّ استقرار العلم بأيّ حقيقة أمر متعذّر دون الإذعان بهذا الأصل. ولا حاجة بنا للتكرار هنا.

الثاني: إثبات الواقع :

اتّضح في ضوء المقالات السابقة أنَّ السفسطة تقوم على أساس إنكار واقعية الوجود، وأَنّ كلّ شيء خواء في خواء وباطل وكاذب. وقد أقام السوفسطائي اليوناني الشهير "جورجياس " برهاناً لإثبات استحالة الوجود. والسوفسطائي اليوناني الآخر "بروتاجوراس " تنتهي عبارته المشهورة " الإنسان مقياس كلّ شيء " إلى نفس هذه النتيجة. وآخرون انتهوا إلى وهمية جميع الإدراكات على أساس وقوع الخطأ فيها.

واتّضح أيضاً أنّ الحدّ الفاصل بين الواقعية والمثالية أو بين الفلسفة والسفسطة هو الإيمان بواقع الوجود، أي الإذعان بأنّ هناك واقعا. ونحن نصطلح على هذه الحقيقة بـ " أصل إِثبات الواقع ". ولا يستطيع كلّ ذي إحساس وشعور إنكار هذا الأصل الفطري في عمق وجدانه الذهني، وحتى أكثر السوفسطائيين سفسطة وأكثر الشكّاكيين شكّيةً ـ كما تقدّم في المقالة الثانية ـ يتابع عملياً فطرته ويمارس ممارسة واقعية، وعلى حدّ تعبير "باسكال " ليس هناك شكّاك واقعي.

اتّخذت الفلسفة هذا الأصل أصلاً متعارفاً لها، وسيتّضح أنّ أهم مسائل الفلسفة، أي " مسائل الوجود "، وتبعاً لها سائر المسائل الفلسفية الهامة تُستنبط من هذا الأصل.

أمّا أصل امتناع التناقض فهو موضع استفادة كلّ العلوم؛ بحكم كونه القاعدة التحتية لكلّ الأُصول الفكرية البشرية (راجع المقالة الخامسة)، ومن ثمّ فهو من الأصول المتعارفة العامة. لكنّ أصل إثبات الواقع يُتخذ في الفلسفة فحسب كأصل متعارف.

٢٠