أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92576
تحميل: 8419

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92576 / تحميل: 8419
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والشروط ). وكذلك الأكل، الذي هو أحد أفعالنا، فإذا قسناه إلى علّته التامة ( الإنسان، العلم، الإرادة، سلامة الأعضاء الفاعلة، وجود مادة الأكل، وسائر الشروط الأخرى ) يصبح وجوده ضرورياً. أمّا إذا قسناه، مع غضّ النظر عن الأجزاء والشروط الأُخرى، كما لو قسناه على الإنسان فقط، أو على الإنسان والعلم فقط، فسوف لا تكون له نسبة الضرورة، بل سوف يكون ممكناً، أي يمكن أن يصدر من الفاعل ويمكن ألاّ يصدر من الفاعل.

وهذا هو عين الاختيار (٨) ، الذي يثبته الإنسان لنفسه بالفطرة، ويعتبر نفسه مختاراً، أي حرّاً في الفعل والترك، ويعدُّ أفعاله بالنسبة له اختيارية.

٨ ـ يفضي البحث في الوجوب والضرورة وحتمية نظام الوجود إلى طرح إشكالية " الجبر والاختيار "، هذه الإشكالية التي استقطبت اهتمام العلماء والفلاسفة منذ سالف العصور. لقد اهتمّ بمعالجة هذه الإشكالية الفلاسفة وعلماء النفس والأخلاق، وعلماء الكلام والفقهاء ورجال القانون، كلّ من زاوية خاصة ؛ فبما أنَّ البحث يرتبط من زاوية من زواياه بنسق السلوك الإنساني ومناشئ السلوك النفسية فهو يرتبط بالبحث النفسي، وحيث إنَّ الجبر والاختيار ـ في وهم بعض الباحثين ـ عبارة عن ضرورة وإمكان الأفعال الإنسانية في نظام الوجود فالبحث حوله يرتبط بالفلسفة، وبما أنَّه يرتبط بعلاقة العلم والإرادة الإلهية بأفعال الإنسان فهو مرتبط بالبحث في علم الكلام والإلهيات في الفلسفة. وبحكم ارتباط البحث في الجبر والاختيار بموضوع المسئولية والجزاء على الأفعال فهو مرتبط بالبحث الفقهي والقانوني. ومن زاوية ارتباط البحث في الجبر والاختيار بموضوع الفطرة والسلوك الخلقي المحترم فهو يرتبط بعلم الأخلاق.

١٨١

لو كان الإنسان لا يدرك بالفطرة أنَّه مختار فسوف لا يمارس أعماله إطلاقاً على أساس التفكير والتروّي، ولا يقيم مجتمعاً تحكمه الأوامر والنواهي والجزاء والتربية ومستلزماتها. إذ كل ما هو واقع واقع لا محالة،

جراء تعدد الأبحاث وتعدد زواياها في هذا الموضوع نشأ تشويش حول تحديد مفهوم الجبر والاختيار، أي أنَّ هذين المصطلحين لم يتوفّرا على تعريف موحدٍ لدى جميع الباحثين، فكل فريق منهم تناول البحث في الجبر والاختيار على أساس مفهوم خاصٍ لهما. لكن هناك قاسماً مشتركاً بين هذه البحوث وهو: إنَّها سعت جميعها إلى اكتشاف حدود حرية الإنسان العملية، وبعبارة أخرى: إنَّ الجميع سعوا إلى الإجابة على هذين الاستفهامين: هل الإنسان حر في أعماله أم لا ؟ وإذا كان حراً فما هي ماهية هذه الحرية ؟

نسعى في هذا البحث إلى دراسة هذا الموضوع من زاوية فلسفية، أي نحاول إيضاح العلاقة بين موضوع الجبر والاختيار وقضية ضرورة نظام الوجود، وسوف نلقي الضوء ضمن هذه المحاولة على جوانب البحث وزواياه الأخرى.

على أساس قاعدة " ضرورة ووجوب نظام الوجود " ليس هناك وجود لأيِّ حادثة في العالم دون وجوب وضرورة. ومفهوم هذه المقولة ـ في ضوء ما تقدّم ـ يعني أنَّ كل حادثة من الحوادث تتحقّق حتماً وبالضرورة عندما توجد علّتها التامة، ويستحيل أن لا تتحقّق حتماً وبالضرورة عندما توجد علّتها التامة، ويستحيل أن لا تتحقّق. وإذا لم توجد علّتها التامة ـ سواء لنقص في شروطها ومقتضياتها أم لوجود مانع يحول دونها ـ فسوف لا توجد الحادثة بالضرورة، أي يستحيل وجودها في هذا الفرض. إنَّ كل حادثة تقع في العالم تحكي عن وجود علّتها التامة، ومن ثمَّ عن

١٨٢

وكل ما هو غير واقع لا محالة، وليس هناك شيء غير متحقّق يمكن أن يتحقّق، وليس هناك فعل لم نمارسه بالفعل ويمكننا إنجازه.

ضرورتها ووجوبها، وكلّ حادثة ممكنة لا تتحقّق تحكي عن عدم علّتها التامة، ومن ثمَّ عدم ضرورتها، بل ضرورة عدمها.

إنَّ إنكار قانون العلية كناموس لعالم الوجود يعادل ـ كما تقدم ـ الصدفة والاتفّاق وإنكار كل قاعدة ونظام وحقيقة في العالم، كما أنَّ إنكار قانون ضرورة نظام الوجود يعادل الصدفة وإنكار كل قاعدة ونظام. وهذا القانون لا يقبل الاستثناء. أي أنَّ كل ظواهر الوجود تخضع له، دون استثناء.

من هنا تتنفس إشكالية الجبر ؛ إذ لما كان نظام الوجود ضرورياً، وكل حادثة تقع فيه توجد بالحتم والضرورة ويستحيل أن لا توجد، وهذا قانون لا استثناء فيه، فمن المحتم أن يكون شاملاً لأفعال الإنسان وحركاته، التي هي جزء من نظام الوجود، وهذا يعني أنَّ كل فعل يصدر عن الإنسان يصدر عنه بالضرورة شاء أم أبى، وما لا يصدر عنه لا يصدر شاء أم أبى، وليس هناك أي فعل من أفعال الإنسان يمكن أن يصدر ويمكن أن لا يصدر ؛ إذن لا يتمتع الإنسان بأي لون من ألوان الاختيار والحرية في أفعاله، لأنَّ الاختيار إمكان والجبر ضرورة، وقد لاحظنا أنَّ العالم عالم حتمية وضرورة وليس عالم إمكان. وبعبارة أُخرى:

إنَّ وقائع الكواكب والأفلاك من الذرة حتى السيارات الكبرى تجري وفق نواميس وقوانين ضرورية، فالخسوف والكسوف والزلزلة والليل والنهار والمطر وغيرها وقائع تحصل جرّاء عللٍ محددة يقينية ويمكن التنبوء بها. والأمر كذلك بالنسبة لأفعال الإنسان والحوادث التي تقع منه، أي أنَّها

١٨٣

والمحصّلة هي أنَّه لا يصحّ توسيع دائرة سمة الضرورة الثابتة بين الأشياء وعللها التامة، وإثباتها بين كلّ الأشياء، كما توّرط المفكّرون المادّيون بهذا الخطأ ؛ فنفوا الاختيار ( نسبة الإمكان ) من الأساس، بعد إثبات

تجري وفق قوانين ونواميس، وتحصل جرّاء علل محددة يقينية، ومن هنا ليس هناك أي لون من الحرية والاختيار، وكلّ ما هو حاصل جبري ومحدود وضروري. إذن لا يمكن أن نتحمل أي مسئولية إلهية أو بشرية ولا يمكن أن نستحق ثواباً أو عقاباً ؛ لأنَّ التكليف والمسئولية والثواب والعقاب فرع الحرية والاختيار ؛ وحيث إنَّ كل ما هو موجود جبرٌ، فليس لأي من هذه المفاهيم معنى وفعالية.

لا شكّ أنَّ هذه الإشكالية من المعضلات الكبرى التي استحوذت على الفكر الإنساني. ومن النادر أن تجد باحثاً عالج هذه الإشكالية بشمول واستيعاب، وقدم لها معالجة سليمة ناجحة. فأغلب الباحثين الذين وردوا هذا الميدان ( من أَدعياء الفلسفة، أو علماء النفس، أو الأخلاق، أو علماء أُصول الفقه ) سلكوا منذ البدء منهجاً خاطئاً، أو أغفلوا بعض جوانب المشكلة ولم يحيطوا بجميع أطرافها، أو لم يتمكّنوا من هذه الإحاطة وشمولية البحث.

إنَّ هذه الإشكالية مضافاً إلى زاويتها النظرية ذات أهمية عملية أيضاً ؛ لأنَّ نتيجة الجبر رفع المسئولية والتكليف عن عاتق الإنسان، وإلغاء دور التربية والتهذيب الخلقي، ومن ثمّ التحلّل والانحطاط والضياع، والاتجاه الجبري من أخطر الاتجاهات على الأخلاق والسلوك، وهو ذريعة قد يتّخذها البعض لتبرير أعمالهم المشينة. من هنا سنرد هذا البحث بشكلٍ تفصيلي، ونسعى إلى تقديمه للقارئ المحترم بأسلوب بديع لم يعهده سابقاً.

١٨٤

( الضرورة ) في جميع الحوادث والأفعال الاختيارية وغير الاختيارية، فوقعوا في وحل تناقضات غريبة، والأغرب منها طرحهم الذي يقرّر أنَّ إثبات الاختيار يستلزم إنكار العِلّية وتبني نظرية الصدفة والاتفاق، والاعتقاد

يمكننا أن نذكر خلاصة الاتجاهات المطروح في الموقف من إشكالية الجبر والاختيار، عبر الجدول التالي:

صدور الأفعال من الإنسان ضروري وجبري، وليس هناك أي لون من الحرّية والاختيار، ولا يصح تحميل الإنسان أيّ مسئوليةٍ وتكليف.

الجبرية المطلقة، يتبنّاها أفراد يظهرون في فترات مختلفة، وليس لهذا الاتجاه مدرسة محدّدة المعالم.

صدور الأفعال من الإنسان ضروري وجبري، وليس هناك أي لون من الحرّية والاختيار، ولكن يصح تحميل الإنسان مسئوليةً وتكليفاً.

المادّيون المُحدثون.

ليست هناك أي ضرورة ووجوب يحكم وقائع العالم، ومن ثمَّ ليست هناك ضرورة حاكمة على الأفعال الإنسانية، العلّية تنحصر في عالم المادة، أمّا غير المادي، كنفس الإنسان وذات الباري، فنسبتها إلى أفعالها نسبة الفاعل لا العلّة، والعلة نسبتها إلى معلولها هي الضرورة، أمّا الفاعل فنسبته إلى آثاره ليست ضرورية.

منكرو العلّية، نظير بعض علماء الكلام وبعض علماء الفيزياء الحديثة.

بعض المتكلّمين وبعض علماء أُصول الفقه.

ليست هناك أيّ ضرورة ووجوب وحتمية تحكم السلوك الإنساني، لان هذا السلوك توأم الإرادة، والإرادة لا تخضع لقانون العلية العام.

بعض علماء النفس.

نظام الوجود نظام ضروري، ولا يقبل الاستثناء، والإنسان مختار وحرّ في أفعاله، بأعلى صور الحرية، ولا تعارض بين حتمية نظام الوجود وحرية الإنسان.

نظرية المحقّقين من الحكماء المسلمين، وهي نظرية هذه المقالة.

١٨٥

بالحتمية يستلزم إنكار الصانع الواجب، وإنكار الإعجاز ونظائر هذه الأُمور. وكلّ هذه الأوهام نتجت جرّاء تشبث هؤلاء المفكّرين بالحتمية ( النسبة بين المعلول والعلة التامة )، ونسوا الاختيار ( النسبة بين المعلول والعلّة غير التامة ).

واضح في ضوء هذا الجدول أنَّ الاتجاهات المعارضة لاتجاهنا تقع في اتجاهين رئيسيين، أحدهما اتجاه من يؤمن بالضرورة والحتمية العلية، ويذهب إلى اضطرار الإنسان، والاتجاه الآخر ينكر بشكلٍ من الأشكال الحتمية العلية في السلوك الإنساني، ويؤمن بحرية واختيار الإنسان. وفي الواقع يتّفق هذان الاتجاهان على قاسم مشترك وهو وجود ترابط وتلازم بين قانون الحتمية العلية وفقدان الإنسان لحرية اختياره، وتلازم بين اللاحتمية وحرية الإنسان واختياره، غاية ما في الأمر أذعن اتّجاه منهما بالحتمية العلية فأنكر حرية الإنسان، واختار الاتجاه الآخر حرية الإنسان وأنكر الحتمية العلّية في السلوك الإنساني.

تقف نظريتنا في النقطة تماماً للقاسم المشترك بين هذين الاتجاهين، أي أنَّنا لا نرى أي تلازم بين قانون الحتمية العلّي وبين جبرية الفعل الإنساني، ولا نرى أي تلازم بين اللاحتمية العلية وبين اختيار الإنسان. بل ندّعي أنَّ الحتمية العلية في مورد الإنسان ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار المقدمات الخاصة والعلل المباشرة لأفعال وحركات الإنسان ـ تؤيد حرية واختيار الإنسان، وإنكار الحتمية العلية على مستوى أفعال الإنسان يؤدي إلى تحديد وسلب الحرية والاختيار الإنساني.

من هنا يرتدي بحثنا ثوباً جديداً ومثيراً للاستغراب والدهشة، وعلينا

١٨٦

يقولون: إنَّ ما نحسّه وتثبته التجارب العلمية وغير العلمية هو أنَّ كل ظاهرة في عالم الوجود وليدة علّة، تتحقّق بتحقّقها، ويزول المعلول بزوالها. إذن فوجودُ أيِّ موجود حتميّ، ولا يمكن تخلّفه، ومن هنا فجميع

هنا أن نعكف على بحثين، نثبت في الأوّل عدم التلازم بين نفي الحتمية العلية وبين الاختيار والحرية، بل يتعارضان، ونثبت في الثاني أنَّ الحتمية والضرورة العلية على مستوى الأفعال الإنسانية لا تتعارض مع حرية واختيار الإنسان، بل تؤكّدها وتؤيّدها.

البحث الأول:

لنفرض أنَّنا لا نؤمن بالحتمية والضرورة العلية في أفعال الإنسان أو مبادئ أفعاله " كالإرادة "، أي لا نؤمن بوجود علة تامة نسبتها إلى هذه الأفعال نسبة الضرورة والوجوب، فسوف نضطر إلى تفسير هذه الظواهر على أساس الصدفة ( سواء أنكرنا قانون العلية أساساً أم أنكرنا الارتباط الضروري بين المعلول وعلته، لأننا لاحظنا في مقدمة هذه المقالة أنَّ فرضية نفي الحتمية العلية تلازم الصدفة والاتفاق ) ؛ وحينئذٍ يمكن للإنسان أن يتوقّع أي حركة وفعل منه، في ظل كل شرط وكل آن وكل حالة، ولا يمكنه الاطمئنان من عدم وقوع أي فعل منه في ظل أي شروط وأي حالة ؛ إذ لو أنكرنا العلل التامة التي تكون نسبتها لأفعال الإنسان نسبة الضرورة والوجوب فسوف يتحتم علينا أن نعهد بزمام الأفعال إلى الصدفة، ونؤمن بأنَّ الإنسان نفسه لا يمكنه التدخّل بأي وجهٍ من هذه الأفعال. ولا شك أنَّ هذه الفرضية تلازم نفي الحرية والاختيار الإنساني، بل لا معنى للحرية من حيث الأساس على هذا

١٨٧

ظواهر وحوادث العالم ـ سواء أكانت حوادثاً طبيعية أم إنسانية ـ نظير الحوادث الاجتماعية وممارسات الإنسان الفردية، جميع هذه الظواهر تخضع لقانون الطبيعة الكلي ( العلة والمعلول )، ومن ثمّ تحكمها الحتمية والجبر.

الفرض، بل لا يمكن على أساس هذا الفرض أن نعتبر الفعل فعل إنسان خاص، بل فعل أي فاعل.

إذن، فأولئك الذين حاولوا الفرار من الجبرية عن طريق إنكار قانون العلّية العام أو إنكار قانون الحتمية العلية، أو الذين حاولوا الفرار من الجبرية بإدخال الاستثناء على أحد هذين القانونين للوصول إلى الحرية، سلكوا طريقاً لا طائل من ورائه. نعم سلوك هذه الطرق ( على فرض صحتها ) يؤدّي إلى الاعتقاد بأنَّ الإنسان غير مجبر لعلّةٍ خارجية، ولكن سنسلب الحرية وننفي الاختيار عن طريقٍ آخر، أي عن طريق الصدفة والاتفاق، ويفضي الموقف إلى قهر وتقييدٍ مثير. إنَّ خطأ هؤلاء الباحثين يكمن في رؤيتهم للموقف بعين واحدةٍ، أي أنَّهم حاولوا الفرار من مخالب الجبر مقابل العلل الطبيعية وما فوق الطبيعية على أساس فرضية إنكار الضرورة العلّية، لكنهم لم يروا النقطة الأخرى في هذا الموقف، وهي أنَّ هذا الموقف يفضي إلى سلب حرية الإنسان واختياره عن طريق آخر وهو الصدفة الصماء العمياء.

البحث الثاني:

إنَّ ضرورة أفعال وحركات الإنسان في نظام الوجود لا تتنافى مع حرية الإنسان واختياره ؛ لأنَّ كلّ معلول يتوفّر على الضرورة، إنَّما يتوفّر

١٨٨

وإذا كان الإنسان مختاراً في أفعاله الفردية والاجتماعية يلزم غياب قانون العلية والمعلولية. ومن ثمّ نستثني الإنسان في هذه الحالة عن عموم القانون، ونجعله إلهاً في عالمه، والإنسان على أساس هذا الفرض لا يمكن أن يتنبأ أو يتابع شيئاً، وأن ينجز فعلاً ويستهدف هدفاً. إذن ؛ فالاختيار الذي

عليها بواسطة علته التامة. وأفعال الإنسان إنَّما تصبح ضرورية بواسطة علّتها التامة. والعلّة التامة للفعل الإنساني مركبة من مجموع غرائزه وميوله وعواطفه وخلفياته الذهنية وقدرته العقلية على التحليل والموازنة والتقدير وقدرته على التصميم والإرادة. أي أنَّ كل فعل يصدر من الإنسان يلزم أن يشبع حاجة لديه، أي لابد من انسجامه مع أحد ميوله وغرائزه على الأقل.

من هنا فكل فعل يتصوّر الإنسان أداءه، دون أن يشبع حاجة، ودون أن يرضي أي غريزة وميل، وعلى حد تعبير الحكماء ( إنَّ النفس لا تصدق بقائدته ) لا يمكن أن تتجه قوى الإنسان الفعالة صوب إنجازه، وبعد إحراز انسجامه مع إحدى غرائز وميول الإنسان تتدخّل معلومات الإنسان ومخزونه الذهني، لتوازن القوّة العاقلة وتقيّم الفعل من زواياه المختلفة حتى الإمكان، فإذا اكتشفت أنَّ للفعل مضاراً مقبلة، أو تعارضاً مع ميولٍ ورغباتٍ أسمى من إشباعه للميل الآني فسوف تتحرّك الإرادة لكبح جماح الغريزة. وإذا لم يكن هناك مانع وضرر وتعارض، أو كان الضرر والتعارض مرجوحاً فسوف تولد حالة التصميم والإرادة لدى الإنسان، فيقع الفعل.

على أي حال فالإنسان بعد الموازنة والتقويم أمّا أن يرجّح جانب الفعل وأمّا أن يرجّح جانب الترك، وفي كلا الحالين فالذي يمنح الفعل الوجود ويوفّر له الضرورة هو ترجيح واختيار وإرادة الإنسان ذاته. إذن فالحقّ أنَّ

١٨٩

يثبته الإنسان لنفسه ليس له هوية خارج الذهن، وهو مفهوم لا مصداق له، إنَّما المسلم والثابت هو أنَّ لكلّ شيء في عالم الخارج علّة، يتحتّم وجوده بواسطتها. وأما تضحياتنا على طريق أهدافنا أو ممارستنا التربوية والأخلاقية ( الأمر والنهي ) فلا تنطلق من حريّتنا في أفعالنا. بل لأنَّ أفعالنا

كل فعل من أفعال الإنسان يتحقّق على أساس الضرورة والوجوب، وإذا كان تركاً فوفق الضرورة والوجوب يكون تركاً أيضاً ؛ لكنّ العلّة التي تمنح الضرورة للفعل أو الترك هي إرادة الإنسان ذاته، وليس أمراً آخر، ومفهوم الضرورة هنا أنَّ أفعال الإنسان ضرورية بالاختيار، وهذه الضرورة لا تنافي الاختيار، بل تؤكّده وتؤيّده.

وحينما نقول إنَّ بعض أفعال الإنسان ضرورية الوجود، وبعضها ضروري العدم فهذا لا يعني أنَّ أفعال الإنسان لا تتّصف بأيّ وجه من الوجوه بالإمكان، أي أنَّ أي فعل من أفعال الإنسان لا يمكن أن يتّصف بإمكان الوجود وإمكان العدم ؛ إذ حينما نقول ضروري الوجود نعني مع فرض توفّر كلّ الشروط الدخيلة وتمام أجزاء العلّة، وحينما نقول ممتنع، نعني مع فرض عدم توفّر جميع الشروط والمقدّمات، وإلاّ فكلّ فعل في ذاته ممكن أن يوجد ومكن أن لا يوجد، كما أنَّ كل فعل مع الأخذ بنظر الاعتبار بعضَ شروطه ومقدّمات وجوده ممكن أن يوجد وممكن أن لا يوجد. مثلاً إذا أخذنا فعلاً من أفعال الإنسان مع غض النظر عن علم الإنسان وإرادته واختياره فسوف يكون ممكن الصدور عن الإنسان وممكن أن لا يصدر عنه، ولكن إذا نظرنا إلى الفعل وهو توأم علم وإرادة واختيار إنسان للفعل، فالفعل بالنسبة للإنسان في هذه الصورة ضروري الوجود، وليس ممكناً.

١٩٠

تلعب دوراً في تحقيق الأهداف المادية. وإذا لم نمارسها لا نستطيع الحصول على نتيجة الفعل. خلافاً للوقائع الكونية الأُخرى نظير الكسوف والخسوف وحركة الأرض وغيرها، حيث لا أثر لأفعالنا في وجودها وترتهن بعللها وأسبابها فحسب.

وبغية أن نتعرّف بشكل أفضل على مفهوم اختيارية أفعال الإنسان يحسن أن نقوم بمقارنةٍ بين نسق الفعاليات الإنسانية ونسق فعاليات الجماد والنبات والحيوان:

أبرز سمات فعاليات الجماد هي أنَّه ليس على وتيرة واحدة، ونهج واحد محدود. فكلّ جسم جامد ـ بدءاً من الذرة حتى أكبر المنظومات الشمسية ـ يمارس فعاليته على وتيرة واحدة، والجسم الجامد لا يمتلك بذاته إمكانية المروغ والانحراف عن الجهة التي يسير عليها، إلاّ إذا تدخّلت عوامل خارجية فغيّرت المسير، أو إذا أوجدت تغييرات داخل ذلك الجسم، بحيث تؤدّي إلى حدوث تغييراتٍ في سلوك الجسم وآثاره.

أمّا حينما نقرأ فعاليات النبات نلاحظ اختلافات بين هذا اللون من الفعاليات وفعاليات الجماد ؛ فالنبات يتمتّع بخصوصيات تمكّنه من المواقع المطلوبة من تغيير طريقة أدائه حفظاً لبقائه، وحتى في المواقع التي لا تساعد الظروف الخارجية على أداءِ الفعل المطلوب، تجري تغييرات داخل بنية النبات لحصول الأداء المطلوب. إنَّ النباتات تمتاز بسمة " التكييف مع البيئة "، وهذه السمة تستلزم التوفّر على إمكانية تغيير مسار الأداء. فجذر النبات حينما يصطدم بالحجر يغيّر جهة حركته ذاتياً، ونبتة اليقطين حينما تكبر تدريجياً وتزحف سيقانها فسوف تغيّر مسيرها حينما تقترب من حائط،

١٩١

الجواب

يتّضح بجلاء ـ كما هو بيّن من نسق البحث والاستدلال المتقدم ـ أنَّ هؤلاء الباحثين استخدموا " الجبر " بمعنى ضرورة ووجوب الوجود، ومن ثمّ استخدموا " الاختيار " بالمعنى المقابل والمناقض للضرورة والوجوب، أي

وتأخذ بالتسلق إلى الأعلى، وهكذا... إذن يتّضح أنَّ الرتابة والنهج المحدود، الذي يتّسم به الجماد، لا يتّسم به النبات، وبعامة فمجال الفعالية النباتية أوسع من مجال الجمادات. ومن الواضح أنَّ القدرة على التكيف مع المحيط، والتصرّف في الجمادات، والمادة لدى النبات بغية حفظ بقائه، قد اكتسبها من أشعة الحياة الضعيفة التي توفّر عليها.

وحينما نطالع الفعاليات الحيوانية نلاحظ أنَّ الفعاليات الخاصة بالحيوان، أي فعالياته الإرادية غير محدودة وليست رتيبة بأي وجه. فليست هناك قيود على فعاليات الحيوان الإرادية نظير الأكل ولا شرب والمشي، وغيرها. فهي مرتبطة من جهة بإرادة الحيوان، وليست رتيبة وذات إيقاع واحد من جهة أخرى. فالحيوان قادر على تغيير اتجاه حركته بشكل آني، والتحرّك بشكل دائري، على أي حال ليست هناك قيود على حركة الحيوان على غرار القيود التي تحدّد حركة الجمادات. فالجسم الجامد حينما يُراد له أن يتحرّك بشكل متنوّع ( نظير حركة الأجهزة الآلية ) يتحتّم أن تحرّكه قوة خارجية، لكن الحيوان قادر بإرادته وإحساسه أن يتحرّك ألون الحركة. فالطائر يستطيع بميله أن يُحَلّق ألوان التحليقات المتنوعة بشكل متتابع، ومن هنا فالحيوان أكثر قدرة من النبات على تغيير مسيرة حركته، ومجال الحركة مفتوح أمامه بشكلِ أوسع. ومن البديهي أنَّه كلّما ارتفعت القيود والموانع عن

١٩٢

ارتفاع ضرورة الوجود. ومن الواضح عندئذٍ أنَّنا إذا فرضنا ثبوت الاختيار للإنسان ( ارتفاع ضرورة العلية والمعلولية ) يلزمنا القول إنّه ليس هناك وجوب وضرورة. ويلزمنا القول أيضاً إنَّ الإنسان لا يمكنه أن يتنبّأ بأي حادثة متوقعةٍ، ولا يمكنه أن يتنبّأ بالمستقبل إطلاقاً.

الفعالية وكلّما اتسع ميدان الحركة، كانت الحرية والاختيار أوسع نطاقاً. إنَّ نسبة الحيوان للحركة بهذا الاتّجاه أو ذاك على حد سواء، أي أنَّ الحركة ممكنة لديه باتّجاه الطرفين. واختيار الحيوان أي ميله وإرادته هي التي تتيح له حرية الحركة في الطريق، فيختار أحد الاتّجاهات دون الآخر.

نتقدّم خطوة إلى الأمام، لنقرأ عالَم فعاليات الإنسان، حيث نجد حريةً واختياراً على أعلى المستويات الممكنة. فالحيوان رغم حرّيته في الحركة، ورغم أنَّ الطبيعة لم تعيّن للحيوان خطاً ومسيراً محدداً، بل أعطته ميداناً واسعاً للحركة، لكنّ الحيوان في إرادته محدود بطاعة الميول والغرائز الحيوانية، فما يتّفق مع الميول والغرائز الحيوانية يمارسه الحيوان دون توقّف. ويمكننا تشبيه الإرادة لدى الحيوان والإنسان بالقوّة التنفيذية، وهذه القوة التنفيذية لدى الحيوان تابعة بلا قيد أو شرط لأوامر الغرائز والميول، ففي دولة الحيوان رغم حرية واستقلال هذه الدولة لكنّ زمام الأُمور بيد مجموعة من الميول والغرائز، وتحت قيادة هذه الميول والغرائز تحدد القوة التنفيذية علاقتها بالعالم الخارجي. فالجهاز الحيواني مجرّد أن يتصوّر شيئاً موافقاً لميوله وغرائزه يندفع بدون توقّف بأمر هذه الميول والغرائز لتحقيق وتنفيذ هذا الأمر، ما لم يصطدم بمانع خارجي يحول دونه ودون التنفيذ.

لكن هذا الحدّ للحرية والاختيار ليس موجوداً لدى الإنسان، فالإنسان

١٩٣

وحيث لا يمكن التسليم بأي واحدة من هذه المحاولات يلزم القول إنَّ الإنسان مجبور، أمّا ما يحسبه الإنسان من أنَّ أفعاله اختياريه ( دون ضرورة وعلّة )، وأنَّه حرّ في إرادته، فهو أمر وهمي لا يتعدّى الذهن، ولا يتطابق مع عالم الخارج.

مضافاً إلى غناه الغريزي ؛ إذ لا تنحصر ميوله بالأكل والشرب والجنس، بل لديه ميول وغرائز يختص بها أرفع وأسمى، نظير الميول الجمالية والأخلاقية وميله لطلب الحقيقة، فإنَّ الحكومة الدكتاتورية للغرائز غير موجودة في الإنسان أيضاً ؛ إذ هناك اختلاف كبير بين نسق فعالية الإنسان وفعالية الحيوان، يفضي إلى زوال الحكومة الدكتاتورية للميول والغرائز، وتستبدل بحكومة دستورية توائم حرّيته واختياره. وينشأ هذا الاختلاف الكبير جرّاء اختلاف نوع فعالية الحيوان عن فعالية الإنسان، فالأُولى " فعاليات اللذّة "، والثانية " فعاليات التدبير ".

أوضحنا في المقالة السادسة الفرق بين فعاليات اللذة وفعاليات التدبير. وقولنا على سبيل الاحتمال إنَّه بالرغم من عدم تحديد طبيعة الفعاليات الغريزية الحيوانية تحديداً نهائياً حتى الآن، لكن أقرب الاحتمالات هو أنَّ الفعاليات الغريزية الحيوانية حتى أكثرها دقة وغرابة، نظير فعاليات النمل والنحل هي من نوع فعاليات اللذة، لا من نوع فعاليات التدبير.

تقوم الفعاليات الإنسانية على أساس التدبير ؛ لأنَّ مجرّد توافق الفعل مع بعض الميول لا يكفي لتحريك الإرادة ودفع الإنسان نحو إنجاز العمل، بل بعد أن يتصوّر الإنسان العمل المتّفق مع أحد ميوله، يقوم بمقايسة ومقارنة تتدخل فيها قدرته على التنبؤ وخلفياته الفكرية والثقافية، ثم يقيّم جميع النتائج

١٩٤

هذه خلاصة نظرية هؤلاء المفكّرين. وإذا حاولنا تقويم الطرح، عبر قراءة أساس هذا البحث في الفلسفة، وبواسطة ميزان متعادل ومنطق سليم، سوف يتّضح أنَّه مغالطة مؤلّفة من مجموعة مغالطات مختلفة

المنطقية الممكنة لهذا العمل والآثار المفيدة والمضرّة المترتبة عليه، لكي تصل مرحلة الاختيار والانتخاب. فإذا وصل الإنسان في مقارنته إلى أنَّ الضرر أكبر من النفع، أو كانت العواقب السيئة والآلام اللاحقة أكثر من اللذة الراهنة، أو كان العمل رغم انسجامه مع الغرائز الدانية متعارضاً مع بعض الغرائز الرفيعة، فسوف تتحرّك الإرادة في هذه الحالة لتقاوم الميل نحو العمل وتقمعه.

على أنَّنا نؤمن بأنَّ مقياس النفع والضرر هو عين مقياس التزاحم والتعارض مع الميول والغرائز. لكن الدافع الغريزي عند الإنسان عاجز عن تحديد المسار الحياتي للإنسان تحديداً نهائياً ؛ لأنَّ الدافع الغريزي آنيّ على الدوام، أي أنَّ الغريزة تدفع الإنسان والحيوان باتجاه اللذة الراهنة ودفع الألم القائم بالفعل. بينا يجب أن يحدّد مسار حياة الإنسان العلمُ والقانون والواجب والعقل. فبحكم هداية وتوجيه العقل يقلع الإنسان عن الذات الآنية، رغم ميوله الغريزية، فيتناول الدواء المر. ولأجل الآجلة الدائمة النفع يمتنع عن العاجلة المؤقتة النفع، ويضحي بالمنفعة الكبيرة التي تدفعه ميوله إلى استيفائها من أجل الفضيلة الأخلاقية. يتحمل الألم لكي يلتذ أصدقاؤه. وأحيانا يتخلّص بشكل تامٍّ من قيد الخضوع للغرائز الدانية، فيتحرّر ويحلّق في عالم أعلى وأرفع.

١٩٥

المنشأ، وأنَّ هذه المغالطات لا تنتج بمجموعها ولا بآحادها هذه النتيجة السحرية. وأنَّ الفلاسفة لا يجيزون اتّهامهم بالتّهمة التي وجّهها إليهم هؤلاء الباحثون.

تستبد الدوافع الغريزية في دولة الغرائز، فتدفع الحيوان باتّجاه الفعل، ودون أن تتيح له فرصة، تنبعث إرادته نحو إنجاز العمل. أمّا في دولة العقل، فرغم أنَّ الدوافع الغريزية تتّجه بالإنسان صوب العمل، لكنّ الفرصة والحرية متاحة للإنسان لكي يتأمّل ويقيس ويقارن بين المصالح والمفاسد التي ينطوي عليها العمل، ثمّ يقوم بعملية الترجيح بين الفعل أو الترك. أي أنَّ دولة العقل لا تستبد في حكمها الدوافع الغريزية، بل الحكم للأكثرية، أي أكثرية المصالح التي يحدّدها العقل عبر المقايسة والمقارنة. فيتوفّر الإنسان على الحرية الكاملة في ظل نعمة العقل، هذه النعمة التي تُهيؤهُ لكي يتوفّر على التشريع والواجب والقانون والأخلاق، وهي التي هيّأته ليتحمّل مسئولية الأمانة التي لم تستطع السماوات أن تحملها.

يستطيع الإنسان أن يكون ذا " شخصية أخلاقية "، وأخلاقية الإنسان ترتهن بوجود قدرة يقاوم بها الدوافع الغريزية الحيوانية، ويكبحها. وهذه القدرة تنبع من إمكانية ملاحظة الأهداف المعنوية العالية، نظير الخير الأخلاقي والكمال العلمي والقرب لذات الحقّ في ظل الغرائز الرفيعة، هذا من زاوية، ومن زاوية أُخرى يستطيع الإنسان في ظل العقل أن يحسب بشكلٍ منطقي أهمية الهدف والمقتضيات التي تساعد على بلوغه والموانع التي تحول دون الوصول إليه.

اتّضح في ضوء مجموع ما تقدّم:

١٩٦

إنَّ بحث ودراسة الفلاسفة ينصبّ أساساً على موضعين ومسألتين:

١ ـ هل الأشياء التي توجد في العالم توجد بوجوب الوجود ( الضرورة في المصطلح الفلسفي ) الذي تتوفّر عليه من العلّة أم لا ؟ وجواب

أوّلاً: أنَّ الأفعال التي تصدر من الإنسان ممكنة الوجود، أي أنَّها كأيّ ممكن الوجود، يصحّ أن تقع، ويصحّ أن لا تقع، وفي ظلّ عِلل ومقدّمات خاصة تتوفّر على الضرورة والوجوب.

ثانياً: تفترق فعاليات الإنسان والحيوان عن فعاليات الجماد، نظير اشتعال النار والجاذبية والمغناطيسية وغيرها. ففعاليات الجماد لا تتجاوز مساراً حدّدته لها الطبيعة، ومن هنا فهي رتيبة تمضي على منوال محدّد. لكن هذه الرتابة والتقييد ليست قائمة في الفعاليات الحيوانية، بل أتيح لها مجال عملي، وترك تحديد المسار لإرادة واختيار الحيوان نفسه.

ثالثاً: يفترق الإنسان في طريقة الاختيار والانتخاب عن الحيوان، فقد ترك للحيوان أن يمارس إرادته واختياره تحت تأثير الغريزة فقط، وليس للحيوان حرية مقابل محكم الغريزة. لكنّ الإنسان غير مضطر إلى الخضوع للدوافع الغريزية، بل يتمتّع بحريّة تقويم وحساب آثار الدافع الغريزي، ويستطيع أن يقاومه أحياناً ويكبحه.

علينا الآن أن نتناول بالبحث الموضوعات التالية:

١ ـ ما هي طبيعة مقدمات الأفعال الاختيارية ؟

٢ ـ هل مقدّمات الأفعال الاختيارية اختيارية أم غير اختيارية ؟

٣ ـ الجبر والتفويض من زاوية كلامية.

٤ ـ الجبر والاختيار والوجودان.

١٩٧

الفلاسفة على هذا الاستفهام جواب إيجابي، في ضوء القرائن والنصوص التي طرحوها منذ ثلاثة آلاف سنة حتى اليوم. ولم يتركوا معالجة هذه المسألة إلى ظهور أفكار المادّيين التلفيقية. والموقف من اتّجاه المفكّرين

٥ ـ الجبر والاختيار والأخلاق.

٦ ـ الأمر بين الأمرين من زاوية فلسفية وكلامية وأخلاقية.

٧ ـ بحث مع المادّيين.

مقدّمات الأفعال الاختيارية:

لكلّ فعل اختياري ـ على الأقل ـ مقدّمتان إدراكيتان ومقدّمة انفعالية ومقدّمة فعلية. المقدّمتان الإدراكيتان عبارة عن إدراك الفعل وإدراك فائدته. أمّا إدراك الفعل فهو عبارة عن تصوّر الفعل، وإدراك فائدة الفعل عبارة عن التصديق بانسجام النتيجة النهائية مع ميول الفاعل. والمقدمة الانفعالية عبارة عن الإثارة الداخلية رغبةً أو رهبةً أمام النتيجة النهائية للفعل. والمقدّمة الفعلية عبارة عن العزم والإرادة التي هي آخر مقدمات الفعل الاختياري، والتي تنتهي بصدور الفعل خارجاً. على أنَّ هناك مقدمة يختص بها الإنسان، تقع قبل الإرادة، وهي مزية الإنسان على الحيوانات، وهذه المقدمة عبارة عن مرحلة التقويم والمقايسة والتأمل.

ذهب بعض المتكلّمين إلى وجود مرحلة أُخرى مضافاً إلى المراحل السابقة، وهي عبارة عن الهجوم والاندفاع نحو العمل. فقد أطلقوا على هذه المرحلة الطلب أحياناً والاختيار أحياناً أُخرى. لكنّ هذه الفرضية لا تقوم على ملاحظات علمية فنّية، بل هي مجرّد فرض فرضه هؤلاء المتكلّمون للفرار

١٩٨

الذين ذهبوا للاتّفاق والصدفة موقف سلبي، وهم حفنة من الماديين، الذين لم يؤمنوا بوجود علّة لمجموع العالم.

٢ ـ وما هو الموقف بصدد أفعال الإنسان، فهل يلزم القول بالجبر أم

من شبهة الجبر، حسب زعمهم. ومن هنا فلا قيمة لهذا الفرض من زاوية علمية، لكي نرد بحثه ونقده، فالطلب أو الاختيار ليس سوى الإرادة.

هل مقدّمات الأفعال الاختيارية اختيارية أم لا ؟

بعد أن أوضحنا مفهوم حرية واختيار الإنسان في أفعاله يتضح لنا جيداً أنَّ مقدمات وعلل الأفعال الاختيارية ليست اختيارية. ولكن اختيارية الفعل ليست مشروطة باختيارية مقدماته، أي أنَّ الإنسان حرّ ومختار وبالنسبة لكل حركة خارجية وفعل عضلي، فله أن يفعله أو أن لا يفعله. أي إذا أراد فعل، وإن لم يرد لم يفعل. ولكنه ليس حراً بالنسبة لأفعاله النفسية، أي أنَّه لا يستطيع على الدوام إذا أراد أن يتصوّر ويصدق ويريد ويتشوّق وينفعل فسوف يتصوّر ويصدّق ويريد ويتشوّق وينفعل، وإن لم يرد ذلك فلا يقع، وإذا أراد أن يقارن فسوف يقارن ويقيّم، وإن لم يرد فلا، وإذا أراد أن يريد أراد، وإلاّ فلا.

ويعود ذلك إلى:

أوّلاً: إنَّ التصوّر والتصديق والشوق والتأمل والإرادة ليست أفعالاً عضلية لكي يناط حصولها وعدم حصولها بالإرادة وسائر المقدمات.

ثانياً: إذا فرضنا أنَّ مقدمات الأفعال الاختيارية تتحقّق على الدوام بواسطة مقدمات اختيارية فسوف نواجه تسلسلاً وارتدادا إلى ما لا نهاية، وهذا

١٩٩

التفويض أم الأمر بين الأمرين ؟ وبعبارة أُخرى هل تخضع أفعال الإنسان خضوعا تامّاً لتأثير علّة خارجية، وليس لإرادة الإنسان أيّ لون من التأثير في الفعل، وأنَّ الإنسان مجبور ( هذا هو مفهوم الجبر هنا، ولا يعني

محال. مضافاً إلى أنَّنا نحس بالوجدان بحرية اختيارنا بالنسبة إلى الفعل لا بالنسبة إلى مقدّماته ومقدّماتها إلى ما لا نهاية.

علينا أن نوضح هنا أنَّنا لا نعني بقولنا إنَّ الأفعال النفسية غير اختيارية أنَّ أي فعل منها لا يقع تحت إرادة واختيار الإنسان، وإنَّ نسبة الإنسان إلى هذه الأفعال نظير نسبته إلى حركات الكواكب المساوية. بل نعني أنَّ الأُمور النفسية ليست شبيهة بالحركات والأفعال الخارجية للإنسان. إنَّ الأفعال والحركات الخارجية ذات سمتين، الأولى أنَّ كل فعل خارجي تسبقه مقدّمات اختيارية على الدوام، لكنّ الأمور النفسية لا تتّسم بهذه السمة، أي أنَّ الأمور النفسية لا تُسبق على الدوام بمقدّمات اختيارية، وإذا كان الأمر كذلك فسوف نواجه تسلسلاً. على أنَّ نتيجة هذا البرهان ليست إثباتا للسالبة الكلّية، بل نتيجته نفي الموجبة الكلّية، أي أنَّ نتيجة هذا البرهان هي ( ليس كلّ فعلٍ نفسي أمراً اختيارياً )، ولا ينتج ( لا شيء من الأفعال النفسية أمر اختياري ). إنَّ نتيجة هذا البرهان هي: ليس كلّ إرادة تتقدمها إرادة، ولا ينتج لا شيء من الإرادة تسبقه وتتقدّمه إرادة.

تعامل بعض الباحثين مع برهان التسلسل المتقدّم في نصوص الحكماء، واتّخذه دليلاً على نفي اختيارية الأُمور النفسية بشكل مطلق، غافلاً عن أنَّ هذا البرهان ينفي الإيجاب بالكلّي، ولا يثبت السلب الكلّي.

مضافاً إلى أنَّنا إذا آمنا بأنْ ليس هناك أي أمر نفسي اختياري يلزم أن

٢٠٠