أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي18%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98475 / تحميل: 9605
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بنود الصّلح

٢٢١
٢٢٢

واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسنعليه‌السلام بعد ما آل أمره الى الانحلال(1) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد(2) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك(3) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».

__________________

(1) تاريخ ابن خالدون 2 / 186 ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل 3 / 205 قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد 4 / 8.

(2) الارشاد ص 170 ، كشف الغمة ص 154 ، مقاتل الطالبيين ص 26

(3) تذكرة الخواص ص 206 ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص 157 انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه 2 / 192 : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره.

٢٢٣

ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.

فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.

1 ـ ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (ص) ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.

وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :

1 ـ جعله ولي عهده.

2 ـ للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.

3 ـ منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء.

٢٢٤

واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.

ولما انتهى عبد الله الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (ع) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين(1) .

2 ـ وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (ع) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 200.

٢٢٥

الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا »(1) .

وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به »(2) .

وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.

3 ـ وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا

__________________

(1) الكامل 3 / 205 ، الطبري 6 / 93.

(2) تأريخ ابي الفداء 1 / 192.

٢٢٦

أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية »(1) .

وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.

4 ـ وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى الله من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى

__________________

(1) الاستيعاب 1 / 370.

٢٢٧

بالله شهيدا »(1) .

وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :

1 ـ تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب الله ، وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وسيرة الخلفاء الصالحين(3) .

2 ـ ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن(4)

__________________

(1) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145 ، كشف الغمة للإربلي ص 170 البحار 10 / 115 ، فضائل الأصحاب ص 157 ، الصواعق المحرقة ص 81.

(2) ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 / 8.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 159 ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.

(4) الاصابة 1 / 329 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 23 ، حياة الحيوان للدميري 1 / 57 ، تهذيب 2 / 229 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 199 ، ذخائر العقبى ص 139 ، الامامة والسياسة 1 / 171 ، ينابيع المودة ص 293 ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

٢٢٨

فان حدث به حدث فالأمر للحسين(1) .

3 ـ الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة(2) .

4 ـ ان لا يسميه امير المؤمنين(3) .

5 ـ ان لا يقيم عنده الشهادة(4) .

6 ـ ان يترك سب امير المؤمنين(5) وان لا يذكره إلا بخير(6) .

7 ـ ان يوصل الى كل ذي حق حقه(7) .

8 ـ الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه(8) .

9 ـ يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد(9) .

__________________

(1) عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص 52.

(2) الدينوري ص 200 ، مقاتل الطالبيين ص 26.

(3) تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 206.

(4) اعيان الشيعة 4 / 43.

(5) نفس المصدر.

(6) مقاتل الطالبيين ص 26 ، شرح النهج 4 / 15.

(7) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 144 ، ومناقب ابن شهر اشوب 2 / 167.

(8) اعيان الشيعة 4 / 43 ، الطبري 6 / 97 ، علل الشرائع ص 81.

(9) البحار 10 / 101 ، تأريخ دول الإسلام 1 / 52 ، الامامة والسياسة ص 200 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 221 ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد.

٢٢٩

10 ـ ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة(1) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف(2) .

11 ـ ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق(3) .

هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟

مكان الصلح :

اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس(4) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام(5) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.

__________________

(1) تأريخ دول الإسلام 1 / 53.

(2) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص 112.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 160.

(4) تأريخ الخميس 2 / 323 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.

(5) تذكرة الخواص ص 206.

٢٣٠

عام الصلح :

وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة 41 هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام(1) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول(2) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.

وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام ـ الخالد في دنيا الأحزان ـ بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية

__________________

(1) تأريخ أبي الفداء 1 / 193.

(2) تهذيب التهذيب 2 / 299 ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة 41 ه‍ وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في 26 ربيع الثاني سنة 41 ه‍.

٢٣١

الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا »(1) .

لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (ص) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟

دراسة وتحليل :

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها ـ ولو إجمالا ـ لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.

اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه

اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن

__________________

(1) الغدير 10 / 227.

٢٣٢

محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.

وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.

وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي :

1 ـ العمل بكتاب الله :

ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.

٢٣٣

2 ـ ولاية العهد :

وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك.

3 ـ الأمن العام :

وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين.

4 ـ عدم تسميته بأمير المؤمنين :

وفي رفض الامام (ع) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من

٢٣٤

السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم.

5 ـ عدم اقامة الشهادة :

وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ،

6 ـ ترك سب أمير المؤمنين :

وأظهر (ع) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (ع) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد

٢٣٥

كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين.

7 ـ الامن العام للشيعة :

كان الامام (ع) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها ـ أي في المعاهدة ـ بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه »(1) .

إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه.

8 ـ خراج دارابجرد :

واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد(2) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي

__________________

(1) صلح الحسن ص 258.

(2) دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة.

٢٣٦

المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (ص) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (ع) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم.

9 ـ عدم البغى عليهم :

ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (ص) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام ـ كما سنبينه ـ فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين.

٢٣٧

هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :

« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط »(1) .

__________________

(1) صلح الحسن ص 257.

٢٣٨

موقف الإمام الحسين

٢٣٩
٢٤٠

إشكال

المعلول الذي يفرض له وجود بلا نهاية، والذي لم يطرأ عليه العدم، لا في الماضي ولا في المستقبل سوف لا يحتاج إلى علّة إطلاقاً، وبعبارة أُخرى أن فرض الوجود الدائمي يتناقض مع فرض الحاجة.

تصيّر الموجود موجوداً، بل هو تحصيل حاصل. إذن فعلى كلّ حالٍ تأثير العلّة والخالق في إيجاد المخلوق والمعلول أمرٌ محالٌ.

إذا آمنا بهذه النظرية وفق الاستدلال المتقدّم، فسوف لا يتوقّف الأمر على فقدان العلّية لمفهومها، بل سوف يستحيل من حيث الأساس عدم شيءٍ ووجود شيءٍ، ومن هنا يضحي الكون والفساد والحركة والتكامل أموراً لا معنى لها ؛ إذ يلزم على الأقل من هذه الأُمور عدم حالةٍ ووجود حالة أُخرى. لكنّ الماديين في مقام نفي وجود الخالق ومبدأ العالم أبدوا كثيراً من العجلة والخفة، التي حجبت أبصارهم عن الإلتفات إلى هذه التناقضات، ولعلهم أقنعوا أنفسهم بتغيير لفظ الخلق بلفظ العليّة، كما تقدم هذا اللعب اللفظي عند المتكلّمين حينما استبدلوا مصطلح العلّية بمصطلح الفاعلية.

هذا مضافاً إلى أنَّ دليل هذا الفريق على تحديد مناط الحاجة إلى العلّة بالوجود دليل واهن ولا أساس له. فأدلّة وجود المبدأ الأوّل تبطل هذه النظرية بوضوح، خصوصاً برهان الصدّيقين، الذي هو أشرف وأرقى برهان في هذا المجال، والذي يستنتج من التعمّق في حقيقة الوجود. إذ يُستنتج برهان الصدّيقين من أصالة الوجود والتشكيك الوجودي، والفلاسفة الإسلاميون وحدهم تنبّهوا إلى هذا البرهان. وسوف نتناول مقدّمات ونتائج هذا البرهان بالبحث التفصيلي في المقالة الرابعة عشرة.

٢٤١

الجواب

فرض المعلول هو فرض الحاجة ؛ إذن فالوجود الدائمي للمعول وجود دائمي للمحتاج. والوجود الدائمي للمحتاج تكون حاجته أشدّ وأقوى. وأساس الفكرة يقوم على أنّ الممكن يحتاج إلى علّة مرجِّحة، بحكم تساوي نسبة الوجود والعدم فيه، لا بحكم سابقة العدم، التي هي معنىً نسبيّ انتزاعي.

٢ـ نظريّة الحدوث: على أساس هذه النظرية يكون الحدوث هو السمة التي تؤدّي إلى حاجة الشيء إلى العلّة. والقِدم هو السمة التي تؤدّي إلى الاستغناء عن العلّة. إنَّ فهمنا لقانون العلّية العام يهدينا إلى أنَّ الاستفهام عن السبب ( لِم ) يقع في مورد الأشياء التي لم تكن موجودة في وقت من الأوقات ثمّ وجدت، فهذه الأشياء لا بدّ أن تكون لها علّة، لأنَّ وجودها بلا علّة سوف يكون صدفةً، وهو أمر محال. أمّا إذا كان الموجود قديماً فلا يمكن أن نقول إنَّ له علّة، وليس هناك محلّ للاستفهام عن السبب، لأنَّ هذا الموجود لم يكن غير موجودٍ في زمان ثمّ وجد، لكي يمكننا الاستفهام عن سبب وعلّة وجوده. وحيث إنَّ مفهوم العلّية هو أنَّ كل موجود لم يكن موجوداً في وقت ثمّ وجد فلا بدَّ أن تكون له علّة، فلا يمكننا ( على غرار المادّيين ) أن ننفي وجود الموجود القديم على أساس قانون العلّية، ونقول لا يمكن أن يكون موجوداً قديماً، لأنَّ ذلك استثناء في قانون العلّية ؛ إذ إنَّ قانون العلية في نفسه يشمل الموجودات الحادثة فقط، ولا يمكن أن يشمل بأي وجه من الوجوه الموجودات القديمة. ومن الواضح أنَّ هذا ليس استثناءً في قانون العلية. بل يحصل الاستثناء إذا فرضنا وجود موجود حادثٍ بدون علّة.

٢٤٢

إشكال

قانون العلّية العام قانون مستنتج على أساس الاختبارات، التي قمنا بها في عالم الأحداث المادية، وليس هناك أيُّ موردٍ من هذه الموارد غير مسبوق بالعدم، ومن هنا لا يمكن إطلاقاً أن نفترض معلولاً قديماً

هذه النظرية يتبنّاها المتكلّمون وكثير من أدعياء الفلسفة. وعلى أساس هذه النظرية الكلامية يحصر المتكلّمون " القديم " بذات الباري سبحانه، ويقرّرون لكلّ شيء نقطة بدءٍ زمانية. على هذا الأساس من التفكير ينطلق فريق من الإلهيين في البحث عن إثبات وجود المبدأ الأوّل إلى فرض نقطة بدءٍ زمانية لكلّ العالم، كما ينطلق من هذا الأساس أيضاً فريق من الماديين الذين يقفون في النقطة المقابلة لتصوّرات الإلهيين، فيطرحون نظرية عدم تناهي الزمان والزمانيات، ويتّخذون من ذلك دليلاً على عدم وجود المبدأ الأوّل. وقد وقع المؤرّخون وكُتّاب الموسوعات الفلسفية في اضطرابٍ عند هذه النقطة، فمن هنا عدّوا الفلاسفة الذين يؤمنون بلا نهاية الزمان أو قدم المادة فلاسفةً ماديين، ولا اقل من عدهم فلاسفةً ثنوية، وهذا الأمر أضحى منشأً لكثير من الأخطاء الكبرى. ولعلنا نوفق في المقالة الحادية عشرة إلى التذكير ببعض الأفكار حول هذا الموضوع.

٣ـ نظريّة الماهية: على أساس هذه النظرية تكون علّة الحاجة إلى العلة هي توفّر الشيء على الماهية، فكلّ شيءٍ ذو ماهية ووجود، وذاته، أي ماهيته، غير وجوده وواقعه، فهو بحاجة إلى علّة، سواء أكان هذا الموجود حادثاً أم قديماً. أمّا الموجود الذي تكون ذاته عين وجوده وواقعه، وحقيقته غير مؤلفةٍ من ماهية ووجود فهو غني عن العلة. ( راجع هوامش

٢٤٣

زمانياً وبحاجة إلى العلّة ؛ لعدم صحّة تعميم الحكم التجريبي إلى أوسع من دائرة الشروط الخاصة للاختبار، ما لم نعثر على موردٍ أو عدّة موارد يصدق عليها الحكم التجريبي مع عدم توفّر الشروط المشار إليها. ولا يمكن إطلاقاً اعتماد مجرّد القياس العقلي في استنتاج الحكم.

المقالة السابعة في الفرق بين الماهية الوجود ). وحيث إنَّ هذا الموجود تكون موجوديته عين ذاته , ونسبته إلى الموجودية نسبة الضرورة لا الإمكان، فسوف يستحيل عليه العدم، وحيث يستحيل عليه العدم فهو أزليّ وأبديّ وعلى أساس هذه النظرية يكون الموجود المستغني عن العلّة، الذي نسمّيه واجب الوجود قديماً، لكن كلّ قديم غير مستغن عن العلّة، وليس هناك إشكال في أن يكون هناك موجود قديم وهو بحسب ذاته ممكن الوجود، وإنَّما يُصبح أزلياً وأبدياً بواسطة فيض واجب الوجود.

يتبنّى هذه النظرية عموم الحكماء الذين يؤمنون بأصالة الماهية أو الذين أغفلوا البحث في أصالة الماهية وأصالة الوجود. وحتى فلاسفة أصالة الوجود يتابعون هذه النظرية أيضاً. وهذه النظرية هي إحدى مواضع الخلاف الكبرى بين الفلاسفة الإلهيين وعلماء الكلام. الفلاسفة لا يحصرون ممكن الوجود وفق نظريتهم في الحوادث، ولا يحصرون القديم بذات الباري تعالى، خلافاً للمتكلّمين الذين يقررّون أنَّ الممكن يساوي الحادث، والقديم يساوي الواجب.

دليل هذا الفريق لإثبات أنَّ مناط الحاجة إلى العلّة هو توفّر الشيء على الماهية دليل مؤلّف من مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى: كلّ ماهية نظير ماهية الإنسان والشجرة والحجر والخط والحجم وغيرها تتساوى نسبتها إلى الوجود والعدم بحسب ذاتها،

٢٤٤

الجواب

الحكم التجريبي هو عين ما تقرّر في الإشكال، لكن نقّادَّنا نسوا وجود الزمان ذاته، وهو واقعة مادية وإمكانية، وحقيقته أنَّه مقياس الحركة، ومعلول للحركة العامة للمادة، ولا يمكن إطلاقاً افتراض سابقة عدم زماني لهذه الحقيقة، فلا يمكن القول حصل زمان ولم يكن ثمَّ أصبح زماناً، أو أنّ

ويصح أن تكون موجودة أو معدومة. فالماهية بذاتها لا تقتضي الوجود ولا تقتضي العدم. يعني أنَّ الماهية لا يمكن أن تقتضي الوجود أو تقتضي العدم. وقد اصطلح الحكماء على هذه اللاقتضائية والتساوي نسبة ( الإمكان )، فقالوا إنَّ الماهية في ذاتها ممكنة أو أنَّ الإمكان من لوازم الماهية.

المقدّمة الثانية : كلّ شيءٍ تتساوى نسبته إلى شيئين يستحيل عقلاً بدون عامل مرجح أن يلبس رداء أحد الطرفين. فامتناع أن يلبس ثوب أحد الطرفين بدون مرجح متساوٍ بالنسبة إلى كلا الطرفين، وهذه هي القاعدة العقلية المعروفة بامتناع الترجيح بلا مرجح. وامتناع الترجيح بلا مرجح إحدى بديهيات العقل الأولية، وكلّ شخصٍ تصوّر هذه المقولة فسوف يصدّق سواء أراد أم أبى، وبُغية تصور هذه القاعدة العقلية يمكننا الاستئناس بالأمثلة التالية:

افترض جسماً يسير على خط مستقيم، فيصطدم خلال حركته بمانع يحول دون استمرار الحركة في جهتها المعينة، وافترض أنَّ الأمر يدور بين أن يميل الجسم إلى جهة اليمين أو إلى جهة اليسار، وليس هناك أي عامل مؤثر في الواقع يدفع الجسم إلى إحدى الجهتين. فهل يمكن في هذه الحالة أن يختار الجسم بذاته طرفاً معيناً، دون أن يكون هناك أي مرجح في

٢٤٥

يوماً قد حصل ولم يكن يوماً ثمَّ أصبح يوماً. نعم، إنَّ هؤلاء الباحثين بحكم عدم تحقيقهم العلمي في حقيقة الزمان ارتكبوا مجموعة أخطاءٍ وإغفالاتٍ في كلّ بحث فلسفي يرتبط بسمات الزمان النظرية، ولم ينحصر الأمر في هذا البحث.

البين ؟ من الواضح أنَّ الإجابة بالنفي. افترض ميزاناً متعادل الكفتين. فإذا أردنا أن تَرجح إحدى الكفّتين على الأُخرى يلزمنا أن نقوم بعملٍ ما، فنزيد في وزن هذه الكفّة أو نقلل من ثقل الكفّة الأُخرى. فلو افترضنا في هذه الحالة أنَّنا لم نقم بأي عمل يزيد في وزن هذه الكفة أو يقلل من وزن الكفة الأُخرى، وليس هناك أي عامل منظور أو غير منظور يؤثّر على إحدى الكفّتين. وتكون ظروف الكفّتين متساوية، فهل يمكن عقلاً أن تميل إحدى الكفتين بذاتها ؟

إنَّ قانون امتناع الترجح بلا مرجح قانون عقلي ولا يصح أن يكون تجريبياً بأدلّة سوف لا تخفى على القارئ، لكنه يُستخدم في العلوم التجريبية. ومن هنا فحينما يواجه الباحث التجريبي أمثلة مشابه للمثالين المتقدّمين، وتكون الظروف متساوية حسب اعتقاد الباحث، لكنه يلاحظ ميلاً لطرف دون طرفٍ آخر، فمن المحتم حينئذٍ أن يعتقد بعدم تساوي الشروط، ووجود عامل خفي، ومن ثم يأخذ بالبحث عن هذا العامل المرجح، ويمكننا العثور على شواهد من هذا القبيل في تأريخ العلم.

على كل حال فالترجيح بلا مرجح أمر محال عقلاً، وكذلك الترجيح بلا مرجح أي أن يتساوى أمام الفاعل أحد فعلين، ودون أن يحدث أي تغيير في وضع الفاعل يختار أحد الفعلين دون الآخر فهذا أمر محال عقلاً أيضاً. نعم

٢٤٦

على كلّ حالٍ، فالزمان من جملة الظواهر التي لم تُسبق بالعدم الزماني وهو يحتاج إلى العلّة، وكذلك الحركة العامة والمادة التي هي موضوع الحركة تتسم بهذه السمة أيضاً، كما سيأتي في موضعه الخاص إن شاء الله تعالى.

أنَّ أؤلئك الذين لم يتعمّقوا في هذه الأبحاث بشكل وافٍ طرحوا مجموعة أمثلة ساذجة كشواهد على نقض قانون الترجيح بلا مرجح، وإنَّه ليس محالاً. نظير قولهم: إذا وضعنا كأسين من ماء أمام عطشان، وهذان الكأسان متساويان من جميع الجهات، فمن المحتم أنَّ العطشان سوف يتناول أحد هذين الكأسين، في حين ليس هناك أي ميزة لأحد هذين الكأسين على الآخر بالنسبة إلى العطشان. ونظير الشخص الذي يقف عند مفترق طريق، وكلا الطريقين المنشعبين من هذا المفترق يوصلان إلى الهدف، بدون أي مزيةٍ لأحدهما على الآخر، ونظير الشخص الذي يريد أن يشتري طعاماً من السوق وهذا الطعام متوفّر بنفس المواصفات وبنفس الشروط لدى مجموعة أفراد، فمن المحتم أنّه سوف يختار أحدهما لا على التعيين.

الحق إنَّنا في هذه الأمثلة المذكورة أعلاه لا نعرف علة الترجيح، أي إنَّنا لا نعرف الشيء الذي تميل الإرادة بسببه إلى طرف معين، لا أنَّ المرجح غير موجود في البين. إنَّ أولئك الذين ضربوا الأمثلة المتقدّمة حسبوا أنَّ الإنسان يستطيع على الدوام أن يحدد العلل التي ترجح أحد الإطراف على الآخر، بينما يؤكّد علم النفس على أنَّ هناك آلاف العوامل النفسية الخافية على مرحلة الشعور، وهذه العوامل اللاشعورية تتدخّل في ترجيح الإرادة، ونحن على جهل كامل بها. إذن فالأمثلة المذكورة لا يمكن أن تكون دليلاً على وقوع الترجيح بلا مرجّح.

٢٤٧

وبغضّ النظر عمّا تقدّم فإنَّ الجملة الأخيرة من الإشكال ( لا يمكن إطلاقاً الاعتماد على مجرّد القياس العقلي ) قد أجبنا عليها في المقالة الخامسة.

بعد هاتين المقدّمتين ( تساوي نسبة الماهية والوجود والعدم، وامتناع الترجّح بلا مرجّح ) يمكننا أن نفهم دعوى الحكماء بشأن علّة الحاجة إلى العلّة. فالحكماء يقولون إنَّ كل ماهية نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية ( المقدّمة الأُولى )، وكل شيء تكون نسبته إلى أمرين على حد سواء، يحتاج إلى مرجّح لكي يميل إلى أحد هذين الأمرين ( المقدّمة الثانية )، فنستنتج: أنَّ الماهية في وجودها وعدمها تحتاج إلى مرجّح، ونطلق على مرجح وجود أو عدم ماهية ( العلّة ). إذن فوجود الماهية وعدمها مرهون على الدوام بالعلّة. إنّما هناك فرق بين الوجود والعدم، وهو أنَّ وجود الماهية رهن وجود العلة، أمّا عدم الماهية فهو رهن عدم العلّة، أي أنَّ وجود العلّة مرجح لوجود الماهية، وعدم العلّة مرجّح لعدم الماهية. وعلى أساس هذه النظرية يستنتج قانون العلّية العام من قانون الترجّح بلا مرجّح، ويكون الاستفهام بـ " لِمَ " ناشئاً من هذا القانون، أي امتناع الترجّح بلا مرجّح. أي أنَّ الذهن الإنساني يتساءل بـ ( لِمَ ) حينما يكون السؤال عن العلّة أمراً وارداً، وذلك حينما يكون الشيء نسبته إلى الطرفين متساوية، ثمّ يميل إلى طرف دون آخر.

وعلى أساس هذه النظرية أيضا يكون قانون امتناع الصدفة فرعاً من فروع قانون امتناع الترجّح بلا مرجّح ؛ لأنَّ العقل يقول إنَّ هذا الشيء الذي لم يكن في وقت ثمّ حصل بعد ذلك، إما أن يكون ذاتاً مقتضياً للوجود فيلزم

٢٤٨

٦ ـ حيث إنَّ المعلول يحتاج إلى العلة في وجوده فلا يمكن أن يكون المعلول علّةً لعلّةِ ذاته. هذا اللون من العلّية ـ سواء أكان بواسطة أم بلا واسطة ـ محالٌ ؛ لأنَّ علّة الشيء علّة لذات الشيء، ولا يمكن أن يكون الشيء علّة لذاته. وهذه هي مسألة بطلان الدور.

أن يكون موجوداً من قبل، وحيث إنَّه لم يكن موجوداً من قبل يتّضح أنَّه ممكن الوجود والعدم، أي أنَّ نسبته إلى الوجود والعدم متساوية، إذن فهذا الشيء إذا وجد بلا علّة يستلزم الترجّح بلا مرجح، إذن يمتنع أن يوجد الشيء الذي لم يكن ثمّ كان دون علّة.

يعتقد الحكماء: أنَّ الذين ذهبوا إلى اعتبار الحدوث مناطاً للحاجة إلى العلّة، لم يتعمّقوا في حكم العقل، وحسبوا أنَّ سبب الامتناع هو أنَّ الشيء لم يكن في زمان ثمّ حصل بلا علّة، أي مجرّد أنَّه لم يكن في زمان ثمّ حصل بعد ذلك ؛ بينا لا علاقة لهذه الخصوصية أي مسبوقية الوجود بالعدم ( الحدوث ) في حكم العقل بالحاجة إلى العلّة، ومناط حكم العقل هو إمكان الماهية، أي تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم، وبضم حكم العقل بامتناع الترجّح بلا مرجّح، نحصل على النتيجة وهي الحاجة إلى العلّة. إذن فمناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان لا الحدوث، ويمكن القول أيضاً إنَّ علّة الحاجة إلى العلّة هي الماهية ؛ لأنَّ الماهية علّة ومناط الإمكان، والإمكان علّة ومناط الحاجة إلى العلّة.

يقول الحكماء إنَّ الماهية ـ بحكم العقل ـ تتقدّم على الإمكان، والإمكان مقدّم على الحاجة، والحاجة مقدّمة على إيجاب وإيجاد العلّة، وإيجاب وإيجاد العلّة مقدم على وجوب ووجود المعلول، ووجود المعلول مقدّم على

٢٤٩

٧ ـ وجود العلة التامة أقوى من وجود المعلول ؛ لأن كلَّ واقع المعلول ووجوده من آثار وجود العلة، ومتكئ على وجودها. على أنَّه لا يجوز هنا التشبث ببعض النقوض الساذجة، نظير الأب والابن، والمعمار والمبنى، والحجري والحجر، ومشعل النار والنار، وأمثال هذه النماذج ؛ إذ

حدوث المعلول. ومن هنا فحينما نقول وجود المعلول مقدّم على حدوث المعلول لأنَّ الحدوث هو عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم، وهو وصف للوجود، ومن الواضح أنَّ الموصوف مقدم عقلاً على الوصف. على أن نذكر بأنَّ التقدّم المذكور في الأمثلة أعلاه هو تقدّم رُتبي وعقلي وليس زمانياً.

على كل حال، انطلاقا من نظرية الحدوث ينبغي أنّ نصوّر إدراك الذهن لقانون العلية والمعلولية على النحو التالي: ( كلّ حادثة يعني كلّ موجود لم يكن موجوداً في وقت ما ثمّ وجد لا بد أن تكون له علّة ) أمّا وفق نظرية الماهية فينبغي أن نصوّر إدراك الذهن لقانون العلّية على النحو التالي: ( كلّ ممكن محتاج إلى علّة في وجوده بالضرورة ).

الطريقان اللذان طرحهما المتن في مقام بيان العلّية، أحدهما طريق الحدوث، والآخر طريق الماهية.

٤ ـ نظرية الفقر الوجودي : يتوقّف الطرح الكامل لهذه النظرية على مناقشة بعض الأفكار حول الإمكان والوجوب ( حقيقة الوجود ) بشكل أكبر ممّا طرح في المقالة الثامنة. فقد أوكلنا هذه المهمة إلى المقالة الرابعة عشرة، ونحن لا نشك أنَّ الموضوع من زاوية فلسفية محضة، من أعمق الموضوعات التي غار في عمقها البشر حتى الآن، ولكن بغية أن يطلع القارئ المحترم بشكل إجمالي حول هذا الموضوع، وبما يتناسب مع هذه

٢٥٠

ذكرنا في المقالة الثامنة أنَّ العلّة الفاعلية في هذه النماذج بالنسبة إلى معلولها الحقيقي أقوى على الدوام دون شكٍ، كما هو الحال في مثال الأب بالنسبة إلى فعالياته التناسلية.

المقالة سوف نقوم بشيء من الإيضاح.

إنَّ النظرية الحسّية ـ وهي إحدى النظريات الثلاث التي طرحناها حتى الآن ـ لا تتضمّن فكرة مهمّة بشأن مناط الحاجة إلى العلّة ؛ لأنَّ غاية استدلال هذه النظرية هي: حيث إنَّ ما شاهدناه ورأيناه حتى الآن هو أنَّ هناك سلسلة من القضايا يتابع بعضها بعضاً، وكلّما حصلت مجموعة من القضايا يحصل بعدها قضايا أُخرى، وكلّما ذهبت تلك المجموعة ذهبت المجموعة التي جاءت بعدها، إذن نفهم أنَّ هناك قضايا تكون علّة لقضايا أُخرى على الدوام، ومن ثمّ نعمّم، ونقيس الغائب على الشاهد ونقول ( كل موجود يحتاج إلى علّة، ووجود الموجود الذي لا يستند إلى علّة أمر محال ). وهن هذا الاستدلال يرجع إلى أمرين:

أوّلاً: إذا اكتفينا بالإحساس فقط فنحن لا نشاهد إلاّ التعاقب والتقارن، ولا يمكننا أن نقول إنَّ بعض القضايا علّة وبعضها معلولاً، لأنَّ العلية لا يمكن إدراكها بالإحساس ؛ راجع بهذا الشأن المقالة الثالثة.

ثانياً: إنَّ ما يمكننا أن نستنتجه في ضوء الحسّ والتجربة لا يمكن أن يكون قانوناً شاملاً لجميع الموجودات، حتى تلك الموجودات التي لا تشابه الموجودات المجرّبة.

والمثير للسخرية أن يدّعي هؤلاء أنَّ الوجود القائم بالذات وغير المتكئ على العلّة استثناء في قانون العليّة ! إنَّ الاستثناء يأتي حينما نتعرّف على مناط العلية والمعلولية والحاجة إلى العلّة، ثمّ نفرض موجوداً لا يتوفّر على

٢٥١

ومن هنا فالعلة متقدّمة على المعلول، والمعلول متأخّر عن العلّة ؛ إذ ما لم توجد العلّة لا يكون للمعول وجود. وفي الحال ذاته لا بَّد أن يجتمعا معاً في زمانٍ واحدٍ، ومن هنا يتّضح أنَّ التقدّم والتأخّر ليس زمانياً، كما سيأتي.

هذا المناط، بينا نحن في أوّل الكلام، وهذا مصادرة على المطلوب. إذن استناداً إلى امتناع الاستثناء في قانون العلّية لا يمكننا أن ندّعي أنَّ كل موجود بحاجة إلى علّة.

تبقى أمامنا النظرية الثانية والنظرية الثالثة. والحق أنَّ اعتراض الحكماء على نظرية المتكلّمين اعتراض وارد. والحدوث لا يمكن أن يكون مناط الحاجة إلى العلّة. لكنّ نظرية الحكماء في أنَّ الماهية وإمكان الماهية مناط الحاجة إلى العلة أمر لا يمكن قبوله أيضاً. إنَّ القاعدة الكلية التي تقرّب امتناع الترجح بلا مرجح قاعدة صحيحة، ولا مناقشة فيها، لكن اتّخاذ موضوع تساوي نسبة الماهية للوجود والعدم مصداقاً لهذه القاعدة، وصغرى لهذا الكبرى الكلّية أمر لا يخلو من الإشكال. على كل حال فهذا النسق من الاستدلال استخدمه الحكماء منذ سالف الأزمنة، وهو سليم على أساس نظرية أصالة الماهية فقط، حيث تعتبر الماهية قابلة للوجود والعدم والمعلولية الواقعية، وأنَّ كلاً من مفهومي الوجود والعدم مفهومان اعتباريان، ينتزعان من حالتين مختلفتين للماهية. أما بناءً على أصالة الوجود في التحقق والمعلولية فالماهية خارجة عن حريم العلاقة بالعلّة. فلا وجود العلّة يرجح الماهية، ولا عدم العلّة يجعل الماهية على حد سواء بالنسبة للوجود والعدم.

نعم حينما يكون الذهن ملزماً بالحكم بأنَّ ماهية الإنسان موجودة مثلاً،

٢٥٢

وفي ضوء مجموع ما تقدّم ينبغي أن نستنتج: " أنَّ استقلال المعلول ووجوده التام عين استقلال العلّة ووجودها التام " ؛ لأنَّ المعلول في وجوده الضروري ( حيث يلبس بواسطته ثوب الواقعية وينزع رداء اللاواقعية ) متكئ على العلّة، أي على استقلال الوجود الضروري للعلة. إذن فالمعلول

فحالة التساوي تزول مجازاً لا حقيقة. ورغم أنَّ هذا الزوال المجازي ناشئ من حقيقة، لكن هذه الحقيقة هي وجود وواقع ذات الماهية، لا وجود العلّة الخارجية، والماهية في الحاجة إلى العلّة وعدم الحاجة إليها تابعة للوجود والواقع، وليس لديها بذاتها أصالة، أي إذا كان ذلك الوجود محتاجاً ومعلولاً فالماهية تابعة له ومجازاً محتاجة ومعلولة، وإذا كان ذلك الوجود مستغنياً وغير معلولٍ تكون الماهية بالتبع مستغنية وغير معلولة.

قلنا في مقدمة المقالة الثامنة إنَّ مفهوم إمكان الماهية بناءً على أصالة الوجود يختلف عن المفهوم الذي يقوم على أساس أصالة الماهية أو بناءً على إغفال نظرية أصالة الوجود وأصالة الماهية ( راجع مقدمة المقالة الثامنة ). ومن هنا لا يمكننا عن طريق الماهية واستناداً إلى قاعدة امتناع الترجيح بلا مرجح إثبات الحاجة إلى العلة. فبناءً على أصالة الوجود في التحقق وفي المعلولية تتغير صورة المسألة تغيّراً أساسياً.

فقد بحث الحكماء والمتكلّمون حتى الآن عن علّة الحاجة إلى العلّة، وكلا الفريقين فرض أنَّ المعلول أمرٌ، وحاجة المعلول أمر آخر، وعلّة الحاجة أمر ثالث، نأتي الآن لنرى هل الأمر كما يقولون أم ليس كذلك ؟

قدّمنا في المقالة الثامنة تحليلاً وأقمنا برهاناً على أنَّ علاقة العلية والمعولية في العالم لا يمكن أن نجزئها إلى ثلاثة أجزاء، ونفترض المعلول

٢٥٣

مستقل باستقلال العلّة، لا باستقلال آخر، أي أنَّ العلّة والمعلول ليسا وحدتين مستقلّتين، بل هما مستقلّتان باستقلالٍ واحد. وهذه النظرية وفق البيان المطروح في الحكمة المتعالية واضحة جداً، على أنَّ البحث في أطراف هذه النظرية لا ترقى إلى مستواه بحوثنا في هذه الأُصول التمهيدية.

أمراً، والمعطي إلى المعلول أمراً آخراً، وتأثير العلّة في المعلول أمراً ثالثاً، لقد أثبتنا هناك أنَّ الوجود والموجود والإيجاد في المعلولات أمر واحد، أي أنَّ هوية المعلول عين هوية الوجود وعين هوية الإيجاد. وقد اتّضح في ضوء ذلك التحليل أنَّ رابطة المعلول بالعلة وحاجة المعلول إلى العلّة عين هوية المعلول، أي أنها هوية واحدة، نطلق عليها الوجود والموجود والإيجاد، وكذلك الرابط والرابطة والمرتبط والنسبة والمنتسب والمحتاج والحاجة باعتبارات مختلفة. وهذه الكثرة من حيث الأساس صناعة الذهن البشري، وإلاّ فليست هناك في عالم الخارج كثرة من هذه الناحية، ويستحيل أن يتكثّر الشيء بهذه الطريقة.

على أساس ما تقدّم فإذا كانت هناك علّة ومعلول في العالم لا تكون واقعية المعلول أمراً، وحاجة المعلول إلى علّة أمراً آخر، ومناط الحاجة إلى العلة أمراً ثالثاً، لكي يصل الدور إلى الاستفهام عن علّة ومناط حاجة المعلول إلى العلة. فهذا الاستفهام يشبه أن نقول: ما هي علّة حاجة الشيء إلى العلّة، الشيء الذي هويته عين الحاجة إلى العلّة ؟ وبالضبط كما لو استفهمنا ما هي علّة أن يكون العدد أربعة عدد أربعة، أو علّة أن يكون الخط خطاً ؟... نعم يمكن أن نغيّر شكل السؤال، ونغض النظر عن المعلول الواقعي الذي هو ذات الوجود، وأن نتّخذ من الماهية التي هي معلول بالمجاز وفق عادة الذهن

٢٥٤

وبغية الإمساك بخيط هذه النظرية علينا التمييز ـ كما تقدّم في المقالة السابعة ـ بين الماهية والوجود، وينصبّ نظرنا على الوجود، ثمَّ نرد البحث. أمّا الذي يحسب الوجود معادلاً للمادة، ومن ثمَّ يمضي في طريق بحثه الفلسفي متعثّراً في خطاه، مختنقاً ومتنفّساً في كل لحظة، مقدّماً

مورداً للاستفهام، فنتساءل ما هو مناط حاجة الماهية إلى العلّة ؟ وفي جواب هذا الاستفهام يمكن القول إنَّ علّة حاجة الماهية ( على نحو الحاجة المجازية ) هو الفقر الوجودي. أي أنَّ علّة أن تكون الماهية في موجوديّتها ومعدوميّتها المجازية تابعة لعلة خارجية هي نسق وجود الماهية، وهو نسق إيجادي تعلّقي وارتباطي. يصحّ هذا السؤال في مورد الماهية بحكم أنَّنا ميّزنا بلون من التسامح الذهني بين المحتاج والحاجة وعلّة الحاجة، لكن هذا الاستفهام في مورد الوجود ليس بسليم ؛ لأنَّ هذا التفكيك والتمييز في الوجود غير ميسّر.

إذا عرفنا المعلول بأنَّه ما تكون هويته عين الإيجاد وعين الحاجة وعين الارتهان فسوف نستنتج نتيجتين مهمّتين:

الأُولى ـ سوف نثبت وجود العلّة بالذات وواجب الوجود، يعني ما تكون هويته ليست هوية تعلقية وارتباطية وإيجادي، بل هويّته عين الغنى والاستقلال والقيام بالذات، نثبت ذلك دون الحاجة إلى براهين امتناع تسلسل العلل. وسوف تكون الفرضية الحسية المادية، التي تقرّر أنَّ كل موجود معلول باطلة بأسهل وأوضح الطرق. وتفصيل هذا الموضوع ستلاحظه في المقالة الرابعة عشرة. الثانية: إنَّ الارتباط والتلاحم بين الموجودات في ضوء النظريات الثلاث السابقة، على أحسن تقدير، يمكن أن نتصوّره على النحو التالي، إنّ جميع موجودات الكون بمثابة حلقات سلسلة واحدة، وأدوات معمل واحد متّصلة ومرتبطة مع

٢٥٥

العذر تلوَ الآخر في البحث عن أيّ صفة عامة نظير الوحدة والكثرة والتقدّم والتأخّر والقوّة والفعلية وأمثالها، أو يكابر المكابرة تلوَ الأُخرى في هذه الأبحاث، فلا يحقّ له أن يطرح وجهة نظرٍ في هذه الميادين.

بعضها. أمّا وفق هذه النظرية الأخيرة يكون الارتباط عين هوية الموجودات، وينبغي لنا أن نتصوّر العالم بمثابة خط متّصل واحد، أو بمثابة حقيقة واحدة متموّجة، والاختلاف الوحيد الذي يفرض بين أجزائه هو الاختلاف في الشدّة والضعف والكمال والنقص. وهذه الفكرة سوف نزيدها إيضاحاً في موضع آخر إن شاء الله.

إنّ نظرية الفقر الوجودي التي جاءت في عرض النظريات الثلاث المتقدّمة يقينية لأصول ( الحكمة المتعالية )، وهي ترتبط قبل كلّ شيء بنظرية أصالة الوجود والتشكيك الوجودي. وعلى أساس نظرية أصالة الوجود في التحقّق وفي المجعولية ينبغي رفع اليد إلى الأبد عن النظرية الماهوية، التي تبنّاها أغلب الحكماء المتقدّمين. لكن الأمر المثير للدهشة هو أنَّ أنصار الحكمة المتعالية والحكماء الذين تبنّوا نظرية أصالة الوجود اعتمدوا في نصوصهم واستدلالاتهم على النظرية الماهوية المتقدّمة. واتخذوها مسلّمة، ولم نر حتى الآن اعتراضاً صدر على هذه النظرية. ولعل هذا الاعتماد يرجع إلى أنَّ نتيجة استدلالهم تتطابق مع نتيجة استدلال نظرية الفقر الوجودي، فكما أنَّ حدوث الموجودات دليل على الإمكان الماهوي وكاشف عن عدم وجوبها الذاتي، وفق نظرية الماهية، فحدوث الموجودات وفق نظرية الفقر الوجودي دليل على حاجتها الوجودية وارتهانها بشروط ومقدّمات خاصة، كما أنَّ القدم الزماني لا يتنافى مع النظرية

٢٥٦

٨ ـ إنَّ سلسلة العلّة التامة لمعلول من المعلولات ـ كما ذكرنا في المقالة الثامنة ـ لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، ولا تتوقّف عند نقطةٍ معينة. وقد طرحنا هذه النظرية في بحوث الفلسفة المتعالية ببيانٍ واضحٍ، يقوم على أساس حاجة المعلول الوجودية واستقلال العلّة.

الماهوية، كما هو الحال في هذه النظرية أيضاً. وفق النظرية الماهوية يكون التوفّر على الماهية مؤشّراً على تساوي نسبة ذات الشيء إلى العدم والوجود ( الإمكان )، وهذا التساوي دليل على الحاجة إلى العلّة والمرجح، وطبق ووفق هذه النظرية ( في ضوء الإيضاح الذي سيأتي في المقالة الرابعة عشرة ) يكون التوفّر على الماهية دليلاً على الفقر الوجودي.

من هنا يتّضح أنَّ نتيجة التحليل واحدة وفق النظريّتين، فرغم أنَّ أُصول النظرية الماهوية خاطئة، لكنّها تعطي في المحصّلة نفس النتيجة التي تمنحها نظرية الفقر الوجودي. مضافاً إلى سهولة التحليل في النظرية الماهوية، ومن هنا لا مانع من استخدام النظرية الماهوية كتمهيد وإيضاح بالنسبة لدارسي الفلسفة. كما هو الحال مثلاً في تدريس أُصول وأُسس النظرية الفلكيّة، فنحن نعرف أنَّ أُصول وأُسس نظرية بطليموس خاطئة وأُصول كوبرنيك صحيحة، ولكن ليس هناك مانع من أن نفيد من قياس بعض حركات الأجرام السماوية والتنبؤ بالخسوف والكسوف على أساس نظرية بطليموس، بحكم أنَّ نتيجة الحساب في كثير من المواضع واحدة، ومن الممكن في بعض الأحيان أن يكون الحساب وفق أُصول نظرية بطليموس الخاطئة أكثر سهولة.

على أنّني مدرك لصعوبة بيان علاقة العلّية ومناط الحاجة إلى العلّة،

٢٥٧

٩ ـ إنَّ العلّتين المستقلّتين المنفصلتين لا يمكن (٣) أن يؤثّرا معاً في معلولٍ واحدٍ، كما أنَّ العلّة الواحدة بتأثيرٍ وعلّيةٍ واحدة لا يمكن أن تؤثّر في معلولين.

وفق أُصول الحكمة المتعالية، وليس من السهل أن يهضم كلّ فرد ما قلناه من أنَّ المعلول عين الحاجة، ولعل أولئك الذين لم يمارسوا تمريناً كبيراً في العلوم العقلية، خصوصاً ذوي الاتجاهات الحسية، لا يجدون فيما نقول سوى لعبة لفظية. ونحن لا نتوقّع بهذا البيان المختصر إيصال هذه الفكرة الرفيعة، التي تعدّ من الإنجازات الفكرية الباهرة في تاريخ الفكر البشري. ولكن ينبغي للقارئ المحترم أن يعرف أنَّ هذه النظرية جزء من مجموعة النظريات الفلسفية التي هي أكثر يقينية من القضايا الرياضية بالنسبة للذين يعرفون أُصول ومبادئ البحث الفلسفي. على أنّني أُريد أن أُكرر المقولة، التي أوردناها في المقالتين المتقدّمتين: ( ما لم نتعرّف على الذهن لا يمكننا أن نتوفّر على فلسفة )، أكرّرها لأولئك الذين وصلوا إلى محصلة من حديثنا المتقدّم، ووقفوا على النهج العقلاني الذي يؤدّي إلى هذه المحصلة، هذا النهج الذي يمثل ثمرة تحليل الذهن لركام الأفكار المضلّلة.

٣ ـ قلنا في الهوامش السابقة أنَّ قانون العلّية العام يتفرّع إلى فروع كثيرة، وفرعان من هذه الفروع ما لم يثبتا لا يمكننا إثبات أنَّ العالم نظام يقيني وحتمي. وهما قانون السنخية وقانون الحتمية. وقد أوضحنا هذه الفكرة فيما تقدّم. وتناولنا بالبحث قانون العلية العام في هوامش المقالة الراهنة، وتناولنا بالبحث موضوع الضرورة والحتمية العلّية في المقالة الثامنة. وقد أشار في المتن إلى قانون السنخية إشارة مختصرة، وبحكم أهمية هذا البحث،

٢٥٨

لأنّ السنخية والعلاقة الوجودية للعلّة والمعلول تقتضي أن يكون وجود المعلول مرتبة ضعيفة من وجود العلّة، ومن هنا فالتباين الوجودي للعلّتين المتباينتين يجعل المعلول في مرتبتين ضعيفتين متباينتين، كما أنَّ

وبحكم الإشكاليات التي أثارها المتكلّمون، وبعض نظريات علماء الفيزياء الحديثة، حيث يبدو أنَّ الدراسات في علم الذرة تثبت خلاف هذا القانون، بحكم مجموع هذه الدوافع نحاول تفصيل البحث حول هذا القانون المهم.

إذا أردنا تعريف قانون السنخية بشكلٍ بسيط نقول: ( عن علّة معينة يصدر معلول معيّن، ويصح المعلول المعيّن عن علّة معيّنة ). ويضع الحكماء هذا القانون في الصيغة التالية: ( يستحيل صدور الواحد عن الكثير وصدور الكثير عن الواحد )، أي إنَّ العلّة الواحدة ترتبط بمعلول واحد والمعلول الواحد يرتهن بعلّة واحدة. وإذا تصوّرنا أحياناً في بعض المواضع علّة واحدة لمعلولاتٍ كثيرة أو معلولاً واحداً لعللٍ متعدّدة فهذه العلة الواحدة والمعلول الواحد المفترضين ليسا واحداً، بل مجموعة من الآحاد.

ينصب اهتمام الحكماء من حيث الأساس في تحرير قاعدة السنخية على الواحد الشخصي. لكن هذه القاعدة تصدق بحدود معينة على الواحد النوعي، أي الأفراد المتعدّدين الذين ينطوون تحت نوع واحد ومن ثمّ فالأفراد المختلفون ستزداد درجة تشابه آثارهم وخصوصياتهم بحجم تشابههم النوعي. ومن هنا ـ بناءً على تعميم الواحد إلى الواحد الشخصي والواحد النوعي ـ سوف يكون معنى القاعدة أنَّ كل واحد حقيقي علّة مرتبطة بواحد حقيقي من المعلومات وكل مجموعة من الأفراد متّحدين بالنوع مرتبطين بمجموعة من الآثار المتّحدة بالنوع.

٢٥٩

التباين الوجودي للمعولين المتباينين يستلزم علّتين متباينتين.

وعلينا أن نعلم أنَّ النظرة السطحية تطرح نقوضاً كثيرة على هاتين

نستنتج من الشق الأوّل أنّ صدور الموجودات من المبدأ الأوّل وخالق العالم ( الذي هو بحكم البرهان بسيط وواحد من جميع الجهات ) يتمّ وفق نظام معيّن، أي أنّ صدور الموجودات ترتّبي، قدم المعلول الأوّل ( المقصود الأوّلية الترتيبية لا الزمانية ) والمباشر، ثمّ يأتي دور معلول المعلول الأوّل وهكذا. والنظرية الأشعرية التي تذهب إلى أن إرادة ذات الباري تتدخّل في جميع الأمور بلا واسطة غير صحيحة.

ونستنتج من الشق الثاني أنّ الطبيعة تمضي باستمرار على نسق واحد، أي إنّ الطبيعة تعطي من الظروف المتساوية تماماً متساوية على الدوام. وحينما نحسب في بعض المواضع تطابق الشروط والظروف، ونجد في نفس الوقت اختلاف النتائج فعلينا أن نفهم حينئذٍ أن الشروط والظروف ليستا متساوية في الواقع، بل هناك اختلاف بينها، غاية ما الأمر إننا لم نتعرّف على هذا الاختلاف.

بغية إثبات قانون السنخية يمكننا إقامة لونين من الدليل: الدليل الحسي والاستقرائي، والدليل العقلي والقياسي.

الدليل الحسي والاستقرائي:

كلما تنوّعت معلومات الإنسان الاستقرائية يلاحظ أنّ الأشياء ذات خواص معيّنة ثابتة، وأن الظروف والمقدّمات والعلل المعيّنة تنتج معلولات معيّنة باستمرار، ولا يشاهد خرقاً لهذه القاعدة، ومن هنا يحصل اليقين لديه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303