أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92514
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92514 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مضافاً إلى أنّ لدينا موارد كثيرة، تكون المادة أو موضوع الأثر متوفّرة على الأثر باستمرار توفّراً ضرورياً دون أن تكون بحاجةٍ إلى علّة

النظرية لم نستنتجها في ضوء التجارب اليومية، لكي تتزلزل أُسسها جراء مواجهة إشكاليات عالم التجربة. لقد استفدنا نظرية ترتيب ونظام الموجودات في ضوء البرهان العقلي، وهذا البرهان من نوع ( البرهان اللّمي )، الذي ينشأ من معرفة علة العلل، لا البرهان الإنّي، وتفصيل البحث في هذا الموضوع يأتي في المقالة الرابعة عشرة.

لم يميّز نصجينز بين قانون العلّية العام، وقانون الحتمية، وقانون السنخية. بل طرحها جميعاً على شكل قانونٍ واحدٍ. ورغم تلازم هذه القوانين الثلاثة ـ كما أثبتنا ذلك سابقاً ـ لا يمكن عدها قانوناً واحداً. ويشفع لهذا الباحث وغيره، أنَّ هؤلاء يعدّون هذا القانون قانوناً تجريبياً، وفي عالم التجربة لا يمكن تصوّر هذه القوانين الثلاثة مجزأة عن بعضها. إنّما يتيسّر التمييز والتجزئة بين هذه القوانين وفق النهج الفلسفي النظري.

والغريب أنَّ هذا الباحث وجمع كثير آخر من الباحثين ألحّوا على موضوع الاختيار، وحسبوا أنَّ الاختيار يتنافى مع العلّية، ومن ثمّ اتخذوا من الإحساس الوجداني للإنسان بالحرية والاختيار دليلاً على نفي قانون العلّية. لكن قليلاً من التأمّل كافٍ لنتعرّف على مفهوم حرّيتنا واختيارنا، التي هي أمر وجداني، يشهد بها الضمير، فهي بمعنى أنّه لم يحدّد لنا في عالم الطبيعة طريق خاص ومسلك معيّن، بل فتح أمامنا الطريق لنختار الفعل الذي نريده، أي نحن أحرار إذا أردنا فعلنا وإذا لم نرد لم نفعل، أي أنَّ إرادتنا هي التي تعيّن لنا نهج سلوكنا. ولا يعني الاختيار أنَّ إرادتنا حرة بذاتها وبدون علّة،

٢٨١

فاعلية ؟ خذ النور مثلاً فهو يتحرّك ما يعادل ثلاثمئة ألف كيلومتر في الثانية تقريباً، وهذه الحركة التي هي معلول لموضوعها لا تتطلّب فاعلاً موجداً.

ولا يعني الاختيار أيضاً أنَّنا أحرار في أن نريد أو لا نريد، والخلاصة أنَّنا أحرار بالنسبة إلى الفعل الخارجي لا بالنسبة إلى مقدّماته النفسية. وما يشهد به الضمير لا يتعدّى هذا الأمر. لقد طرحنا في المقالة الثامنة الأفكار اللازمة حول موضوع الجبر والاختيار. وخصوصاً أوضحنا لأوّل مرّة فكرتنا بشأن حرية الإرادة ونفي الحتمية العلّية، وبينا بطلان ما تشبث به هؤلاء الباحثون والمتكلّمون المسلمون لإثبات حرية واختيار الإنسان في أفعاله. تتلخّص نظريّتنا بصدد قانون العلّية في ما يلي:

أ ـ أنَّ قانون العلية، وجميع القوانين المتفرّعة منه، قوانين واقعية ونفس أمرية ومستقلة عن الذهن وإدراكاتنا.

ب ـ إدراكنا الذهني التصوري للعلّية والمعلولية لا ينشأ من الإحساس الخارجي، بل ينشأ من قراءةٍ داخلية لجوهر النفس والحالات النفسية، وفق التفصيل الذي تقدّم في المقالة الخامسة.

ج ـ إدراكنا الذهني التصديقي لقانون العلّية والمعولية ( مناط الحاجة إلى العلّة ) وما يتفرّع منه ناشئ من حكم العقل ومستقل عن التجربة. وفق التفصيل الذي تقدّم في هذه المقالة.

د ـ قانون العلّية من شؤون الواقع المطلق، ولا يختص بالمادة والعلاقات المادية.

هـ ـ قانون العلّية وما يتفرّع منه قوانين فلسفية، ودراستها خارجة عن إطار العلوم الجزئية.

٢٨٢

وبلغة أكثر وضوحاً نقول: إنَّ الحركة تتطلّب متحرِّكاً لا محرِّكاً. والأمر كذلك في أصل المادة، فقد ثبت أنَّ لها حركة دائمية، وأنَّها في حالة تفاعل داخلي مستمر بواسطة هذه الحركة، دون أن يكون ليدينا دليل على ثبوت الفاعل المحرّك، الذي يوجد هذه الحركة، بل وجود المادة القابلة، والتي هي المتحرّك، كافية في هذا المجال (٤) .

و ـ قانون العلّية وما يتفرّع منه يلزم اتخاذه أصلاً موضوعاً في العلوم الجزئية، وهذه العلوم لا يمكنها الاستغناء تماماً عن هذه القوانين.

ز ـ العلم بالعلة التامة يفضي إلى العلم بالمعلول، ومن هنا يمكن الإذعان بوجود المعلول من خلال وجود العلّة.

ح ـ حوادث العالم ضرورية ضرورة وقتية، أي أنَّ كل حادثة مهيّئة للوقوع في لحظة معينة فقط ولا غير.

ط ـ الظروف والأحوال الزمانية ليست علّة تامة للأحوال اللاحقة، بل تهيئ أرضية الأحوال اللاحقة، والمعرفة الكاملة بهذه الظروف ( وفق أدلة ستأتي ) تفضي إلى التنبؤ اليقيني.

ك ـ لا معنى للتقدير والإرادة ما فوق الطبيعة في عرض العلل الطبيعية ( لا في طولها ).

ل ـ الإنسان حر ومختار في أفعاله، وهذه الحرية والاختيار لا يتنافيان مع العلية.

٤ ـ تقسيم العلل إلى أربعة أقسام ( فاعلية، غائية، مادية، صورية ) تقسيم أرسطي. إذا فرضنا أنَّ الفاعل إنساناً، وأخذنا بنظر الاعتبار مجموعة الأعمال التي يمارسها الإنسان في المادة الخارجية ( لا الأفعال النفسية نظير

٢٨٣

بل ذهب علماء المادة إلى أنَّ النشوء الأولي للكون معلول للتصادم التلقائي لمجموعة الذرّات، السابحة في الفضاء، وبتصادمها مع بعضها حفظت وجودها وتكونت كرات مختلفة التركيبات والسمات والآثار، ولم

التصوّر والتصديق والشوق والإرادة وغيرها ) فسوف يكون هذا التقسيم الأرسطي واضحاً جداً، فالتصرّفات التي يمارسها الإنسان في المادة الخارجية تقوم على أربعة أركان: فاعل، غاية، مادة، صورة. والفاعل هو ذات الإنسان، الذي هو العلّة التي تمنح الفعل الوجود.

أمّا الغاية أو العلة الغائية فهي الشيء الذي يتوخّاه ويستهدفه الإنسان من الفعل، وتُعد الغاية على من زاوية كونها متمّماً ومكمّلاً للعلّة الفاعلية ؛ لأنَّ تصوّر الغاية يحفّز إرادة الإنسان، وينقل الإنسان من درجة الفاعل بالقوة إلى درجة الفاعل بالفعل ؛ إذن فالعلة الغائية تندرج تحت العلّة الفاعلية، والعلّة الفاعلية تندرج تحت العلّة الغائية. أمّا الصورة فهي الحالة والفعلية التي يعطيها الإنسان للمادة الخارجية، وهي المعلول الواقعي للعلّة الفاعلية. والمادة عبارة عن الشيء الذي يقبل الصورة ويلبس رداء الفعلية. إنَّ هذه العلل الأربع جاءت مجتمعة في مثال المتن ( القميص ). يطلق على المادة والصورة مصطلح العلّة ـ كما جاء في المتن ـ لأنَّ حقيقة كل شيء مادي في الخارج مؤلّفة من مجموع المادة والصورة، وهذا المجموع يحتاج في تحقّقه إلى هذين العنصرين، وقد قلنا سابقاً أنَّ هناك استخداماً لمفهوم العلية بمعناها الأعم، فتطلق على الشيئين اللذين يكون أحدهما بحاجة في واقعه إلى الآخر، ومن هنا فكل من المادة والصورة علّة لمجموع المركّب، فيطلق عليهما العلّة المادية والعلّة الصورية. ويعود السبب إلى إطلاق مصطلح العلّة

٢٨٤

تكن هناك علّة سوى المادة حين حصول هذه الصور. وأمّا الموارد التي توفّرت على العلّتين المادية والفاعلية ( موارد الفعل ورد الفعل، فالأمر بحسب الحقيقة يرجع إلى أنَّ كلاً من الفاعل والمنفعل ذو أثر، نظير الأُم والأب فكل منهما مادية، رغم الفرق بينهما في أنَّ كلاً منهما طرف في

على الغاية إلى ما قلناه من أنَّ العلّة الغائية تتمّم وتكمّل العلّة الفاعلية. أمّا إذا لم نتوسّع في مفهوم العلّية، ونحصر مفهوم العلّة بمعطي الوجود والواقع فسوف يكون الشيء الذي يستحقّ مصطلح العلّية هو الفاعل فقط، ومعلول هذه العلة سوف يكون أيضاً الشيء الذي سمّيناه الصورة.

أشرنا إلى أنَّنا إذا افترضنا أنَّ الفاعل ( الإنسان )، وأنَّ الفعل ينصبّ على تحوير المادة الخارجية، فإنَّ تصور وتصديق العلل الأربع يكون في غاية الوضوح ولا يمكن اعتبار أيّ واحدة من العلل الأربع عين الأُخرى. أمّا إذا غيّرنا الفرض واعتبرنا الفاعل شيئاً لا يشبه الإنسان، بل اعتبرنا الطبيعة الجامدة هي الفاعل، فسوف يكون وجود العلّة الغائية موضع شك ( وسيأتي تفصيل هذا البحث )، وكذلك إذا فرضنا أنَّ الفعل ليس نظير تحوير المادة والتصرف فيها، بل فرضنا أنَّ الفعل هو ذات المادة، أو انصب حديثنا على الإبداع الكوني، فسوف لا يكون لوجود العلة المادية مفهوم ومعنى.

من هنا تطرح إشكالية أساسية وهي: حينما يكون الفعل قائماً بالمادة، وبتعبيرٍ آخر تصرّفاً وتحويراً في المادة، فهل هناك ضرورة من حيث الأساس لتكون العلّة الفاعلية مغايرة للعلّة المادية ؟ وعلى هذا الأساس هل هناك ضرورة لوجود فاعل مادّي مغاير لذات المادة، يقوم بالتغييرات والتحوّلات التي تقع داخل المادة على الدوام، أم ليس هناك ضرورة لهذا

٢٨٥

عملية التجاذب ( جاذب ومنجذب ). ويمكن القول أيضاً إنَّ انقسام العلّة إلى علّة فاعلية وعلّة مادية في هذه الموارد حصل بمجرّد الصدفة والاتفاق، نظير التوارث وقابلية البقاء فقد تمّ حصولها تلقائياً.

التمييز، بل العلّة الفاعلية عين العلّة المادية ؟ ثمّ حينما نقول ليس هناك ضرورة للتميز بين العلّتين، فالأمر يدور بين مفهومين، فأمّا أن تكون العلّة المادية وحدها كافية ولا حاجة للعلة الفاعلية، وأما أن يكون الشيء الذي هو علّة مادية عين العلّة الفاعلية.

تكمن في هذه النقطة من البحث إحدى المسائل الحساسة في الجدل الإلهي المادي. ونحن نعرف أنَّ منطلق نظرية أرسطو في الإلهيات تكمن في هذه النقطة أيضاً. لقد قام أرسطو بإثبات المحرك الأوّل بواسطة ثلاث مقدمات:

الأُولى: امتناع أن يكون المتحرّك عين المحرّك، وبعبارة أُخرى امتناع أن تكون العلّة الفاعلية عين العلّة القابلة.

الثانية : ضرورة وجود المحرّك باستمرار في معيّة المتحرّك، أي ما دامت الحركة قائمة يجب أن يبقى عامل الحركة باقياً، وإذا زال هذا العامل تزول الحركة بزواله.

الثالثة: إذا كان المحرّك بدوره متحرّكاً فسوف يحتاج إلى محرّك آخر، وهذا المحرّك الآخر لا يمكن أن يكون عين المتحرّك الأوّل، ولا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. إذن فسلسلة المحرّكات يجب أن تنتهي بمحرّك غير متحرّك، وهو عبارة عن الموجود المجرّد ما وراء الطبيعة.

المقدمة الأرسطية الأُولى هي ذات الموضوع الذي نحن فيه، والمقدّمة

٢٨٦

الجواب

نقف مرّة موقف أولئك الذين يذهبون إلى أنَّ العلّة والمعلول ترتبط بتداعي المعاني، وليست العلية سوى العادة والألفة الذهنية. فنكتفي بالتسمية في مورد العلّة والمعلول، دون إثبات علاقة حقيقية، بل كلّما وجدنا تتابعاً بين موجودين (٥) نسمّي السابق علّة واللاحق معلولاً. وفي هذه الحالة نكون من

الثانية هي الفكرة التي ناجزها غاليلو ونيوتن، وتناولناها بالبحث والنقد في المقالة الثامنة. والمقدّمة الثالثة تقوم على أساس استحالة الدور والتسلسل. وحينما يعترّض المعترض على أي من هذه المقدّمات، كما لو لم يرَ ضرورة كون المحرّك غير متحرّك، أو لم يرَ ضرورة بقاء المحرّك في معيّة المتحرّك، أو لا يرى استحالة الدور والتسلسل، أو يذهب إلى أنَّ ما اعتبره أرسطو دوراً وتسلسلاً ليس مصداقاً للدور والتسلسل، حينئذٍ سوف يكون برهان أرسطو لإثبات المحرك الأوّل معيباً وناقصاً، وسنتناول بالبحث والنقد هذا الموضوع في المقالة الرابعة عشرة حينما نطرح براهين الفلاسفة في إثبات الصانع. وعلى كلّ حال فموضوع وحدة المحرّك والمتحرّك من أهم المسائل الفلسفية، ولا مانع من وجهة نظر الماديين أن يكون المتحرّك عين المحرّك، لكنّه مستحيل من وجهة نظرنا. وقد أشار في المتن إلى الأفكار الضرورية في هذا الموضوع، وحيث إنَّ الدراسة الكاملة لهذا الموضوع تتوقّف على معرفة كاملة للمادة وللحركة، نوكل بحثه إلى المقالة العاشرة، ونكتفي بهذا العرض الموجز تبعاً للمتن.

٥ ـ إنَّ الشرط الأولي للقناعة والتصديق السليم بالقانون والقضية العلمية هو التصوّر السليم لذلك القانون وتلك القضية. وبعد أن نتوفّر على

٢٨٧

منكري قانون العلّية في الواقع، ولا نعطي لهذا القانون قيمة أكبر من التسمية، وحينئذٍ سنشطب على جميع أفكارنا وعلومنا، ونحكم عليها بالبطلان.

ونقف مرة أُخرى موقف المؤمن بالعلاقة الحقيقية بين العلّة والمعلول، أي نقرّر وجود علاقة الحاجة الوجودية. وعندئذٍ ففي المواضع التي يكون فيها الفاعل منفصلاً عن المادة نلاحظ أنَّ علاقة المعلول بالمادة

تصوّر سليم يحق لنا أن نرد مقام النقض أو الإثبات. وهذا الشرط شرط عام في جميع القضايا النظرية ولا يختص بالفلسفة. وكثيراً ما تجد بعض الأفراد يدافعون عن نظريةٍ أو يهاجمونها، ثمّ يتضح بعد التحليل أنَّ هؤلاء المدافعين أو المهاجمين لا يمتلكون تصوّراً سليماً عن الموضوع. ولا نعني بهذا التفكير اختلاف الاصطلاح، إذا كان الاصطلاح محدّداً وواضحاً، إنّما ينصبّ اعتراضنا على أولئك الذين لا يملكون تصوّراً واضحاً عن المفهوم الذي يتبنّونه، فيقعون في خبط عشواء من خلال النفي والإثبات حول هذا المفهوم. وعلى هذا الأساس أصر المناطقة منذ سالف الأزمنة على ضرورة تعريف وتحديد الموضوعات.

إنَّ مسألة العلّية ابتليت بهذا المصير المشئوم، ونجد في أحيان كثيرة مدافعين أو مناجزين للعلّية لا يمتلكون تصوّراً ومفهوماً واضحاً عن المسألة. ومن هنا نلاحظ أنَّ بعض أدعياء الفلسفة وقعوا في تهافتٍ عند تعريف مفهوم العلية، وتذبذبوا بين مفهوم التعاقب والتقارن وبين واقعية العلية. إنَّ علاقة العلّية يمكن تعريفها بأحد تعريفين:

١ ـ العلّية ليست سوى تعاقب حادثتين. فجراء مشاهداتنا التجريبية نرى وقوع حادثةٍ عقب الأُخرى باستمرار، فننتزع من هذا التعاقب مفهوم

٢٨٨

مستقلة عن علاقته بالفاعل، وسوف نفهم أنَّ علاقة المعلول بالمادة هي علاقة التلقّي والتأثّر، ونصل أيضاً إلى أنَّ التلقّي والتأثّر لا يتلائم مع الوجود السابق للأثر. فلا يمكن أن نتصوّر أنَّ الماء الذي درجة حرارته عشرة سوف يقبل مرة أُخرى هذه الدرجة، والإنسان يصير إنساناً، والمادة التي تلبّست صورة التفاح فعلاً سوف تتلقى صورة التفاحة مع وجودها. ومن ثمّ نفهم أنَّ متلقّي الأثر يجب أن يكون فاقداً لهذا الأثر من قبل. وبلغة

العلّية. ومن ثمّ فالعلّية ليست سوى التعاقب، وحينما نقول إنَّ أ علّة لـ ب، فنعني أنَّ "ب" أعقب " أ" باطّراد. والذهن يحكم بتعميم هذا التعاقب على أساس قانون تداعي المعاني، فاقتران التعاقب المطرد بين حادثتين يخلق في الذهن قانون تداعي المعاني، فاقتران التعاقب المطرد بين حادثتين يخلق في الذهن عادة استدعاء تصوّر احدهما عند مشاهدة الأُخرى. إذن فما هو في عالم الواقع لا يتعدّى التعاقب المطّرد بين الحادثتين المشهودتين حسياً، وحكمنا الكلّي بأنَّ " ب " تعقب " أ " باستمرار ينشأ من الاقتران الذهني بين تصوّر الحادثتين، جراء تكرار التعاقب باطراد. وهذا هو مذهب الحسِّيين في تعريف العلة.

ونستطيع أن نضع رداً على هذا المذهب في النقاط التالية:

أوّلاً: إنَّ تصوّرنا للعلّية يختلف عن مفهوم التعاقب، ولهذا التصوّر منشأ سليم، راجع المقالة الخامسة.

ثانياً: إنَّ الذهن يحكم بالضرورة في موارد العلّية بعدم وجود المعلول عند عدم وجود العلّة حكماً يقينياً. وإذا كانت العلية مجرد تعاقب حادثتين فلا معنى لحكم الذهن بزوال إحداهما عند زوال الأُخرى.

ثالثاً: نحكم في بعض المواضع بالعلّية بين الحادثتين المقترنتين زمانياً

٢٨٩

الفلسفة " حيثية القبول هي حيثية الفقدان ". ونثبت نظير هذه الفكرة في مورد علاقة الفاعل بالمعلول، فالفاعل المعطي للأثر يجب أن يكون متوفّراً على الأثر من قَبل، وبلغة الفلسفة " حيثية الفاعلية هي حيثية الوجدان ". وفي ضوء هذا البيان نستنتج بوضوح النتيجة التالية: لا يمكن إطلاقاً أن يكون المتلقي والقابل عين الفاعل للأثر.

( وليس بينهما تعاقب )، مثلاً حينما نحرك العصا التي نمسكها بأيدينا، فنحن نقرّ بأنّ حركة اليد علّة لحركة العصا، والحركتان متزامنتان، إذن فالعلّية تختلف عن التعاقب.

رابعا ً: ندرك في بعض المواضع التعاقب الدائمي بين الحادثتين، ولا نحكم بالعلّية، نظير تعاقب الليل والنهار.

خامساً: أنَّ أساس نظرية الحسِّيين في اعتبار تداعي المعاني أساساً للتصديق والحكم خاطئ، وقد أكّد علماء النفس خطأ هذا الأساس، وقد أوضحنا وجهة نظرنا في هذا المجال، عبر هوامش المقالة الخامسة.

٢ ـ العلّية والمعلولية عبارة عن رابطةٍ واقعيةٍ بين واقعيتين، ترتهن إحداهما بالأُخرى، ومع زوال واقع العلّة يستحيل وجود المعلول. وهذه النظرية هي النظرية التي يتبناها الفلاسفة المتبحّرين في الفلسفة، وقد كرّرنا تعريف علاقة العلّية على هذا الأساس، وقامت تحليلاتنا في مجال إيضاح علاقة المعلول بالعلّة على أساس هذا النهج وهذا التصوّر عن العلّية والمعلولية.

إنَّ هذا النهج في تصوّر العلّية نهج واقعي. ولإثبات واقعية هذا النهج يمكننا ـ في الحد الأدنى ـ أن نقول: إنَّ الموجودات التي لم تكن في زمانٍ

٢٩٠

استناداً إلى النتيجة المتقدّمة نقول: حينما نجد موضوعاً مستقبلاً، تلقّى الأثر بنفسه وتوفّر عليه، فإمّا أن يكون وجوده مؤلّفاً من قابلٍ وفاعلٍ، فيستقل بأحدهما ويعطي بالآخر. وأمّا ( إذا كان بسيطاً ) فسوف يكون قابلاً فقط وفاعل الأثر مستقل عنه.

وبأخذ البيان المتقدّم بنظر الاعتبار في مورد حركة النور السريعة، وفي مورد ذرّات العالم ذات الحركة الدائمة، فإمّا أن تكون ذات صورة وفعلية تمنحها الحركة، وهي ذاتها قابلة للحركة فمن المحتم عندئذٍ أن يكون

ما ثمّ وجدت في زمان لاحق ترتهن واقعيتها بشكل يقيني بواقع آخر، والصدفة مستحيلة وممتنعة.

تطرح هنا شبهة مفادها: من الممكن أن نكذّب نهج إدراكنا الذهني للعلّية، وندَّعي أنَّ ليس هناك أيّ واقعة تستند إلى واقعة أُخرى. وفي نفس الوقت لا ندّعي بأنَّ وجود الحوادث في زمان بعد أن لم تكن موجودة في زمان سابق يحصل صدفة. وذلك لأنّنا حينما نقرّر تطابق وجود الحوادث بلا علّة مع الصدفة فإننا نحسب الحوادث المستقبلية معدوماً مطلقاً.

والحالة أنّه ـ وفق بعض الفرضيات ـ لا الماضي معدوم ولا المستقبل. فكلّ من الماضي والمستقبل مجهول لدينا، لأنَّنا تجاوزنا الماضي، ولم نصل إلى المستقبل بعد. وعلى هذا الأساس فجميع الحوادث موجودة أزلاً وأبداً، ولا تعدم إطلاقاً، بحيث يكون وجودها محتاجاً إلى العلّة، وإذا فرضنا هذه الموجودات بلا علّة فسوف تكون متطابقة مع الصدفة.

تقدّم جزء من الجواب المتعلّق بهذه الشبهة في الهوامش السابقة، والجزء الآخر يتوقّف على بعض الأفكار التي ستأتي في المقالة العاشرة.

٢٩١

وجودها مؤلّفاً من فاعلٍ وقابل. وإمّا أن تكون متحرّكة فقط، وليس لديها أيّ صورة وفعلية، سوى أنَّها تقبل الصور اللاحقة، فمن المحتّم عندئذٍ أن يكون هناك فاعل وراء المادة، تستقبل منه الحركة، ومن هنا يُثبت الفلاسفة الإلهيون وجود فاعل وراء المادة.

وبغض النظر عمّا تقدم فإنَّ المادة الرتيبة ذات حركات متنوّعة، ومن المحتّم أن يكون لكلّ حركة منها علّة خارج المادة ؛ إذن على كل حال فلا مفرَّ من إثبات علّة فاعلية لكلّ معلول.

وأما ما جاء في نهاية الإشكال من أنّ العلّة الفاعلية هي في الواقع علّة مادية، فهو خطأ أيضاً، ويتّضح الجواب عليه من خلال البيان المتقدّم أيضاً.

وأمّا ما طرح في الإشكال من إمكانية ظهور العلّة الفاعلية في بعض الموارد، بمجرد الصدفة والاتفاق، فهو كلام متناقض ؛ إذ سوف يكون مفهومه أنَّ العلّة التي لها علاقة وجودية وواقعية بالمعلول لها واقع بمجرّد الاتفاق وبلا علاقة وجودية.

العلّة المادية

الإيضاح الذي تقدّم بصدد العلّة الفاعلية، كافٍ بالفعل للتعريف بالعلّة المادية. ولمزيد من الإيضاح ينبغي تلمّس تفاصيل المقالة العاشرة. ولكن لا ينبغي هنا إغفال الملاحظتين التاليتين:

أ ـ ميّزنا في بحوثنا بين المادة والعلّة المادية، والفارق بينهما في أنَّ المركب من المادة والصورة يتألّف من جزءٍ مادي هو المادة بالنسبة إلى جزئه الآخر ( الصوري )، المادة التي تقبل الصورة، وهذان الجزءان ( المادة والصورة ) بالنسبة إلى المركب علّة مادية ؛ حيث يحتاج إليهما

٢٩٢

المركب في وجوده، لكنّ الصورة ليست بحاجة إلى المادة في الحالة الأولية، بل المادة لا يمكن أن تتوفّر على الوجود بدون الصورة.

ب ـ نستمر في حوارنا الفلسفي، منطلقين من التسليم بالقاعدة المسلَّمة في العلوم المادية ( الأجسام مركبة من ذرّات صغيرة جداً هي مادة الأجسام )، وبحكم أنَّ العلوم المادية تثبت لهذه المادة العامة نشاطات متعدّدة فإنَّنا مضطرّون أيضاً على أساس قانون العلّية العام ـ كما قلنا في العلّة الفاعلية ـ إلى إثبات مادة أكثر بساطة (٦) من هذه المادة المفترضة، ونطلق عليها مصطلح مادةِ المواد، أو الهيولى.

٦ ـ اتّضح في ضوء ما تقدّم أنَّ المادة في الاصطلاح الفلسفي تطلق على الشيء، الذي لبس رداء الفعلية والصورة. وتطلق في المصطلح العرفي على معنىً مشابه للمصطلح الفلسفي. فالإنسان عادة حينما يشاهد شيئاً مصنوعاً أو طبيعياً، ذا فائدةٍ وامتياز معيّن، يتساءل: ما هي المادة التي صُنع أو يتكوّن منها هذا الشيء ؟ أي: من أي شيء صنع هذا الأمر المفيد، ومن ثمّ جاء على هذه الصورة الماثلة أمامنا ؟ فيتساءل الإنسان مثلاً: ما هي مادة الطعام أو الأسنان أو العظام ؟ أو يتساءل عن المادة التي يصنع منها الورق والبلاستيك والنايلون وغيرها، والمقصود في جميع هذه الأسئلة هو تحديد الشيء أو الأشياء التي جاءت على صورة عظام أو ورق في ظل شروط معينة.

يقتنع الإنسان عادة بالإجابة العرفية على هذه الأسئلة بذكر الأجزاء، التي يتألّف منها الجسم موضع السؤال. فيقول مثلاً إنَّ الملح يتألّف من عنصرين أحدهما الكلور والآخر الصوديوم. ويقتنع السائل بهذا المقدار من الجواب أيضاً. ولكن من الممكن أن تكون الأشياء التي تقع موضع

٢٩٣

العلّة الصورية

العلّة الصورية، في الواقع، عين فعلية الشيء، التي يُستل بواسطتها اسمه النوعي، نظير الإنسان، الخروف، العصفور، شجرة الصفصاف، الأُكسجين، النيتروجين و...

استفهامنا، والتي فرضناها مادية، مركّبة هي بدورها من مادّة وصورة أي أن تكون المادة مركّبة من مجموعة مواد أكثر بساطة، وهي مؤلّفة ـ أي هذه المواد ـ من مادة وصورة، ومن الممكن أيضاً أن تكون هذه المواد بدورها مركبة من مواد أكثر بساطة منها ؛ وحيث لا يمكن أن يمضي هذا الفرق إلى ما لا نهاية، فلا بدّ أن ينتهي إلى شيء لم يركب من اجتماع مجموعة مواد، وهذا الشيء يسمّى في الاصطلاح الفلسفي ( لا العلم ) عنصراً. ولكن هل العنصر بسيط أم مركب ؟ فإذا كان بسيطاً يلزم أن تكون جميع العناصر على نسق واحد، وذات خصوصية واحدة، مع أن الأمر ليس كذلك ؛ إذن يتّضح أنَّ كل عنصرٍ أيضاً مركب من مادة مشتركة وصورة خاصة، حيث تكون الصورة هي منشأ اختلاف أثره عن سائر العناصر. وهذه المادة المشتركة إما أن تكون ذاتها المادة الحقيقية وإمّا أن تكون مركبة من مجموعة المادة والصورة، ومن ثمّ تنتهي إلى المادة الحقيقية. والمادة الحقيقية هي الشيء الذي يكون مادة محضة، أي الشيء الذي تكون فعليته وواقعيته أمراً لا يتعدّى سوى المادة، وليس له صورة. أمّا سائر مراتب المادة فهي ليست مادة حقيقية، بل مادة نسبية، أي أنَّها مادة بالنسبة إلى الأُمور التي تألّفت منها، أمّا هي فمجموعة من المادة والصورة.

إنَّ المسألة التي أشغلت الفكر البشري منذ بداية تاريخ الفلسفة هي

٢٩٤

والفرق بين الصورة والعلّة الصورية هو نظير الفرق بين المادة والعلّة المادية، كما تقدّم إيضاحه.

ولا يخفى أنَّ اختلاف الأشياء وتنوّع سماتها وآثارها يرتهن باختلاف صورها ؛ وحيث إنَّنا تناولنا البحث في أطراف هذا الموضوع في المقالة الخامسة نعزف عن التكرار هنا.

قضية المادة الأُولى، وما هي مادة المواد لهذا العالم ؟ أي ما هو الشيء الذي لعب كل هذه الأدوار ولبس كل هذه الصور والفعليات ؟ إنَّ هذا الاستفهام استفهام عن العلّة المادية للعالم، كما أنَّ السؤال عن وجود واجب الوجود وصانع الكل سؤال عن العلة الفاعلية للعالم. إنَّ الفقرة المتقدّمة التي تناولت بالبحث تطابق العلة الفاعلية والعلة المادية ووحدتهما ترتبط بهذا الموضوع ؛ لأنَّ الغاية الفلسفية من طرح هذه المسألة هي التحقق من أنَّ الشيء الذي لعب كل هذه الأمور، ولبس كل هذه الصور والفعليات هو عينه معطي هذه الصورة والفعاليات والأدوار، أم أنَّ معطي هذه الصور والأدوار أمر آخر غير المتلبّس بها ؟

على كلّ حال أنَّ التحقيق والبحث حول مادة المواد، أي ماهية المادة الأساسية للعالم من أقدم بحوث الفلسفة، وقد طرحت نظريات مختلفة بشأنها. فمنذ العصر اليوناني ( قبل سقراط ) حتى عصرنا الحاضر طرحت نظريات متنوعة، والكثير منها لا تستحق الاهتمام. وسوف نتناول في المقالة العاشرة تاريخ تطوّر موضوع البحث في هذه المسألة، وسوف نشير إلى النظريات التي طرحت قبل سقراط، وسنلاحظ أنَّ النظرية الوحيدة التي لفتت أنظار الفلاسفة المتأخرين هي نظرية ديمقريطس، هذه النظرية التي تعتبر أنَّ المادة

٢٩٥

العلّة الغائية

قلنا إنَّ لدينا غاية وهدفاً في أفعالنا الاختيارية، التي نمارسها بالفكر والروية ؛ بغية إشباع حاجتنا الوجودية، فنتكامل ونرفع نقصنا. نأكل لكي نحلَّ الشبع محل الجوع، وننام لكي نرتاح، ونمشي لكي نصل إلى المقصود و...

الأساسية للعالم هي ذرّات صغيرة وغير محسوسة وغير قابلة للتجزئة والتحليل.

إنَّ نظرية ديمقريطس تشتمل على قسمين، قسم فلسفي وآخر فيزيائي، أمّا القسم الفيزيائي من نظرية ديمقريطس فيقرّر أنَّ ما يبدو لنا من اتّصال في الأجسام لا واقع له، بل هو مجموعة من الأجسام الصغيرة، التي لا ترى بالعين المجرّدة. أمّا الجانب الفلسفي من نظرية ديمقريطس فيقرّر: أنَّ الأجسام الصغيرة، بحكم عدم قابليتها على التجزئة والتحليل، فهي ليست مجموعة من المادة القابلة والصورة الجسمية الامتدادية، بل هي ذاتها المادة، والذرّات هي مادة مواد العالم.

اعترض الحكماء منذ أمدٍ بعيد على نظرية ديمريطس، خصوصاً الجانب الفلسفي منها، حيث رفضوه. وبحكم رفضهم للجانب الفلسفي أغفلوا الجانب العلمي منها ؛ واستمر الحال حتى القرن التاسع عشر، فوجدت نظرية ديمقريطس سنداً في الاكتشافات الحديثة، إذ اتّضح أنَّ الأجسام الحسية ليست وحدة متّصلة، بل هي مجموعة من الذرّات الصغيرة ذات الأبعاد الهندسية، التي يتألف منها الجسم. أفضى إحياء الجانب العلمي من نظرية ديمقريطس إلى ظهور أنصار محدثين لنظريته الفلسفية، ومن ثمّ طرحت فرضيته بأنَّ ذرّات ديمقريطس التي لا تقبل الانقسام هي مادة مواد

٢٩٦

ولكن هل (٧) تتوفّر جميع أفعالنا الاختيارية على هذه السمة، رغم أنَّنا نمارس كثيراً من الأفعال الاختيارية عشوائياً، ولا نجد هدفاً وغاية لهذه الأفعال، نظير الألعاب وحركات الأطفال، ونظير الحركات العبثية بالرأس

العالم. وأطلق ( ماكسول ) على ذرّات ديمقريطس بأنَّها الحجرات الأُولى لعمارة الكون. لكن الأمر لم يدم طويلاً حتى اتّضح أنَّ تلك الذرّات بدورها تتألّف من ذرّات أصغر، والسؤال لا يزال حائراً: ما هي مادة مواد العالم ؟ ولا يزال الاعتقاد لدى بعض الباحثين قائماً في أنَّ الفلسفة وحدها كفيلة بتحديد مادة مواد العالم، وأنَّ هذه المهمة خارجة عن إطار العلم، ويَدّعون أنَّ الجزئيات الذرية ليست مادة المواد والمادة الأُولى، بل مادة المواد أمر آخر.

ومن بين النظريّات المطروحة بشأن مادة المواد نظرية المتكلّمين، وهي بدورها قد لفتت الأنظار إليها. لقد حسب المتكلّمون أنَّ الجسم يتألف من جواهر فَرِدة وأجزاءٍ حقيقية لا تتجزّأ. وذهبوا إلى أنَّ الأجزاء الأولية للجسم تمثل نواةً جوهرية، ليس لها أبعاد، والذهن ذاته لا يمكنه أن يفترض انقسامها، وهي في ذات الوقت تشغل حيزاً من المكان. وتفصيل هذه النظرية يأتي في المقالة العاشرة.

٧ ـ أشرنا إلى أنَّ موضوع تقسيم العلّة إلى العلل الأربع تقسيم طرحه أرسطو لأوّل مرّة، وقلنا إنَّ الفاعل إذا كان إنساناً أو شبيهاً بالإنسان، وكان الفعل من لون التصرّف في المادة الخارجية يصبح التصديق بالعلل الأربع وارداً. وتطرح هنا ثلاثة أسئلة بالنسبة إلى العلة الغائية، أحدها يرتبط بالإنسان ذاته، والآخر يرجع إلى الطبيعة الجامدة، والثالث يعود إلى مبدأ لكل وصانع الكل. أمّا السؤال الأوّل فهو أنَّ الإنسان يمارس إرادياً كثيراً من

٢٩٧

والوجه واليد، التي نمارسها عادة، ونظير الأنفاس التي تستنشقها بدون فكر، وأمثالها ؟ وهل هناك غاية في مورد الأفعال غير الاختيارية، التي تقع في عالم الوجود وتحصل في جوهر الطبيعة، بدون أدنى درجات الإحساس ؟ وهل لإله العالم غاية في خلق العالم ؟ الإجابة على هذه الأسئلة الثلاث بالإيجاب، واليك إيضاح ذلك:

( ١ )

يمكن أن نضع اليد على الغاية والهدف في مورد الأفعال العبثية، من خلال قليل من التأمّل ؛ إذ ليست هناك ضرورة لأن تكون كل غاية غايةً اجتماعية، يحددها عقلاء المجتمع بفكر وروية تفصيلية. فالطفل بحكم طاقته الفائضة يتطلّب حركة كثيرة، ويلتذّ بهذه الحركة، وهذه بنفسها غاية. والأمر كذلك بالنسبة إلى عادتنا، التي نلتذ بممارستها بحكم رسوخ صورتها في خيالنا، وهذه بنفسها غاية. والأمر كذلك في أمثال الاستنشاق ورمشة العين، حيث نجد فيها راحة طبيعية، وهذه بنفسها غاية. على أنَّ

الأعمال العبثية، التي لا غاية من ورائها، نظير اللعب باللحية والأصابع، حيث لا فائدة ولا غاية لهذه الأفعال، إذن فكيف يمكن أن تكون جميع الأفعال الإرادية الإِنسانية مستهدفةً لغاية ؟ أمّا السؤال الثاني فكيف يمكن أن نتصوّر العلّة الغائية في الطبيعة الميّتة، أي التي لا إحساس ولا إدراك لها كما هو الحال في الجمادات والنباتات ؟ والسؤال الثالث فيما يتعلّق بالمبدأ الأوّل وصانع الكون فإنَّ أفعاله ليست من نوع التصرّف في المادة، بل جميع ما سواه من مادة وغير مادة هي فعله، وتسير وفق نظام محفوظٍ ومنسجم وهادف ؟ وقد أجاب المتن على هذه الأسئلة الثلاثة بشكل تفصيلي.

٢٩٨

الأفعال الاختيارية تستلزم إحساساً وإرادة فقط، ولا تتطلّب فكراً تفصيلياً، كما هو الحال حينما نتكلّم، حيث نتكلّم باختيارنا دون أن نفكر في ترتيب الحروف في جملنا. إذن فكل الأفعال الاختيارية ذات غاية.

( ٢ )

كلّ غاية (٨) نتوخّاها من أفعالنا الاختيارية هي شيء نتطلّبه بغية

٨ ـ يرتبط هذا الموضوع بالسؤال الثاني، الذي طرحه المتن سابقاً، وهو: ( أنَّ جميع هذه الأفعال اللامتناهية، التي تقع في عالم الوجود، وتحصل في فلك الطبيعة، والتي لا نعثر على أدنى إحساس فيها، هل تستهدف هذه الأفعال غاية ؟ ) يصطلح على موضوع هذا السؤال قانون الغائية أو العلة الغائية، والسؤال في الواقع محاولة لكي يتعرّف الإنسان على أنَّ الطبيعة الجامدة تتابع في أفعالها هدفاً باستمرار، على غرار أفعاله هو أم لا ؟ إنَّ الجواب على هذا الاستفهام ليس يسيراً ؛ إذ يصعب على الإنسان أن يفسّر فعاليات الطبيعة الجامدة، على أساس الوصول إلى هدف والحصول على غاية هذا من زاوية، ومن زاوية أُخرى يلاحظ الإنسان انسجاما واتّساقاً بين أجزاء الطبيعة، ويرى أنَّ فعاليات الطبيعة تسير على الدوام، وفق نظام وانسجام، ونتيجة هذا الاتساق أهداف خاصة على الدوام، ولا يستطيع الإنسان القناعة بأنَّ هذا الانسجام والاتساق يتمّ دون هدف للطبيعة.

مضافاً إلى أنَّ الإنسان يلاحظ في بعض الموارد، أو في جميع الموارد أنَّ الطبيعة تتّجه في سيرها نحو التكامل، وهذا بذاته دليل على اتّجاه الطبيعة إلى هدف معين، وأنَّ مسيرتها بدءاً وانتهاءً تتجه نحو الوصول إلى هذا

٢٩٩

إشباع حاجتنا الوجودية، فحينما نكون جوعى، نريد أكل الطعام لنشبع، وحينما نكون عطشى نطلب شرب الماء لنروى، وهكذا، أي أنَّنا ناقصون، ونتكامل بغاية أفعالنا، وبتعبير أوضح نقول: إنَّ نسبة الغاية لنا كفاعلين هي نسبة الكمال إلى النقص.

وعلى هذا الأساس، فنحن نطلب كمالنا ـ وفق قانون التكامل العام ـ، وعلى هذا الأساس أيضاً نمارس الأنشطة والفعاليات الوجودية، التي

الهدف.

انقسم الفلاسفة في مقام الإجابة على هذا الاستفهام إلى فريقين، فريق تبنّى الغائية، وفريق آخر أنكر الغائية. وأغلب الحكماء الإلهيين ينتصرون لنظرية الغائية، لكن الماديين عامة ينكرون هذه النظرية.

في ضوء تاريخ الفلسفة يعد ديمقريطس وامبادقليس من منكري العلّة الغائية، فقد ذهب ديمقريطس ـ مضافاً إلى نظريّته الذرية ـ إلى أنَّ العالم المتّسق بالفعل نشأ بشكل عشوائي، وأنَّ ذرّات العالم في حالة حركة تلقائية تجري كيفما اتّفق، وبتصادم الذرّات تكونت دوامات أو زوابع هائلة، ومن هذه الدوامات تكونت العوالم. على أنَّ ديمقريطس لم يكن منكراً للعلة الفاعلية والحتمية العلّية، بل أنكر العلّة الغائية. ولم يؤمن بالتلقائية والاتّفاق ـ كما جاء في نصوص القدماء ـ بشأن النبات والحيوان، بل أقر بالغائية فيهما.

أمّا امبادقليس فيفسّر اللاغائية في العالم بطريقة أُخرى. فقد ذهب إلى أنَّ العالم مكوّن من عناصر أولية بسيطة هي: الماء والهواء والتراب والنار وكل الموجودات تحصل جراء تركيب هذه العناصر الأربعة بشكلٍ تلقائي، أي بدون هدف، وكلّ مركب محكم البناء سوف يبقى، وسيفنى متزلزل البناء.

٣٠٠