أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي18%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98536 / تحميل: 9623
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

من هنا ينبغي أن نستنتج أنَّ تحقّق العدم في الخارج أمر نسبي، أي جراء نسبة وجود متحقّق في ظرف معيّن إلى ظرف آخر يتحقّق العدم. مثلاً لا يمكننا القول: " إنَّ (س) الموجود بالأمس غير موجود أمس "، ولكن يمكننا القول: " إنَّ (س) الموجود بالأمس غير موجود غداً " أو " إنّ (س) الموجود في هذه الغرفة غير موجود في الغرفة الأخرى ".

عالم الذهن، وليس أي منهما جزءاً أو عيناً للآخر، متّحدين في عالم الخارج، وأحدهما عين الآخر ؟

وفي الإجابة على هذا الاستفهام طرح بحث انتزاعية الوجود، وأنَّ الوجود من المعقولات الثانية، وطرحت الأدلّة على أنَّ الوجود مفهوم انتزاعي، وأنَّ المفاهيم الانتزاعية ليس لها ما بإزاء خارجي غير منشأ انتزاعها، وفي هذه المرحلة طرحت قضية انتزاعية الوجود واعتباريته. لقد أقام شيخ الإشراق في حكمة الإشراق أدلة كثيرة على أنَّ الوجود مفهوم اعتباري وانتزاعي. على أنَّ شيخ الإشراق ـ كما تقدّم ـ طرح هذا البحث تحت عنوان زيادة الوجود على الماهية في عالم الخارج، وليس تحت عنوان أصالة الوجود وأصالة الماهية. فالبحث في هذه المرحلة لا يزال دائراً حول أنَّ الوجود في عالم الخارج ليس أمراً مضافاً إلى الماهية ؛ لأنَّه أمر اعتباري.

وكان التصوّر السائد آنذاك هو أنَّ القول بعدم اعتبارية وانتزاعية الوجود يستلزم زيادة الوجود على الماهية في عالم الخارج، أي أنَّ هذه المسألة لم تطرح ولم تفهم آنذاك على أساس دوران الأمر بين أصالة الماهية وأصالة الوجود.

ثمّ اتخذ البحث في مرحلة لاحقة طابعاً أكثر دقّة، وهي مرحلة محمّد

٨١

إيضاح:

للعالِم الشهير لافوازييه فرضية تقول: " الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد ". وهذه الفرضية تختلف مفهوماً عن النظرية التي تقدمت ؛ إذ أفاد لافوازييه فرضيته من الأبحاث المادية، وهو يمارس بحثه في العلوم

باقر الداماد المتوفّى عام ١٠٤٠ هـ.

طرحت الملازمة ـ في مرحلة الداماد ـ بشكل آخر: إذا كان الوجود أمراً حقيقياً وليس اعتبارياً لا يلزم منه زيادة الوجود على الماهية في الخارج، بل يلزم منه أن تكون الماهية أمراً ذهنياً اعتبارياً. وفي هذه المرحلة طرحت إشكالية أصالة الوجود أو الماهية بشكل فنّي، كما هو قائم اليوم. وتبنّى المحقّق الداماد ذاته نظريّته أصالة الماهية، ودافع عن أصالة الماهية في عالم التحقّق والجعل ـ كما يسمّيه ـ. ثمّ جاءت مرحلة تلميذه صدر المتألهين، فتبنّى في مطلع حياته الفكرية نظرية أُستاذه، لكنّه آمن في مرحلة لاحقةٍ بعدم إمكانية قبول نظرية أصالة الماهية. وانتهى إلى أنَّ أصالة الوجود هي النظرية التي يمكن الدفاع عنها وإقامة البراهين عليها، مضافاً إلى معالجة المشكلات الفلسفية الكبرى على أساسها.

أقام صدر المتألهين براهينَ كثيرة على نظرية أصالة الوجود. ثمّ أضحت هذه النظرية مسلّمة يقينية لا تقبل الشك، ولعبت دوراً كبيراً في تغيير مصير الفلسفة، بحكم ما لها من أهمية.

اتّضح ـ إذن ـ أنَّ بحث الاشتراك المعنوي للوجود هو البحث الوحيد الذي طرحه أرسطو في " ما بعد الطبيعة "، ثمّ طرح في القرن الثالث والرابع الهجري مقابل مذاهب المتكلّمين بحث (زيادة الوجود على الماهية )، ثمّ طرح

٨٢

المادية، والمادة موضوع هذه العلوم. ومن ثمّ اعتبر المادة مساوية للوجود. واتّجه لتفسير جميع الاختلافات الخارجية صوب تحليل وتجزئة الأجسام من الزاوية المادية، وبحكم الوحدة النوعية للمادة أشارت تحليلاته العلمية بالضرورة إلى وحدة المادة في جميع موارد الاختلاف. ومن هنا

بعد ذلك البحث حول أنَّ الوجود الذاتي ليس بماهية، أي ليس جزءاً للماهية ( وقد بحث هذا الموضوع ابن سينا ). ثمّ انصبت الأنظار على موضوع عينية ومغايرة الوجود للماهية في عالم الخارج ( وتستفاد هذه الظاهرة عبر كلمات ابن سينا أيضاً ). ثمّ طرح البحث في اعتبارية وانتزاعية الوجود، دون الإلتفات إلى الملازمة بين اعتبارية الوجود وأصالة الماهية، وبين اعتبارية الماهية وأصالة الوجود ( كما يستفاد ذلك من بحوث شيخ الإشراق ). ثمّ طرح بشكلٍ فنّي في مرحلة المحقق الداماد البحث عن أصالة الوجود وأصالة الماهية، وأضحت نظرية أصالة الوجود نظرية يقينية مسلمة بواسطة صدر المتألهين.

لقد اندهش صدر المتألهين اندهاشاً شديداً ممّا طرحه شيخ الإشراق، فهو يذهب إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود من جهة، ومن جهة أُخرى يطرح أفكاراً تحت عنوان "النور " لا علاقة لها مع أصالة الماهية، ولا تنسجم معها. بل ما طرحه حول حقيقة النور من أفكار هي عين ما يمكن لفيلسوف مؤمنٍ بأصالة الوجود أن يطرحه بشأن حقيقة الوجود.

لكنّ الإنصاف هو: أنّ قراءة التحوّلات التي طرأت على البحث في مسائل الوجود، وكيفية تكاملها، يرفع بشكل طبيعي هذه الدهشة والتعجّب، إذ المفهوم الذي قصده شيخ الإشراق من انتزاعية الوجود يختلف عمّا يقصد من

٨٣

أرجع جميع الاختلافات إلى اختلاف تركيبات المادة، فوجد نوعاً واحداً في جميع الموارد " وحدة المادة "، وعلى هذا الأساس أقام فرضيته، إذن ؛ فمفهوم فرضيته سيكون: كلّ مادة أتت بصورة معينة بحكم تركيب خاص سوف تبقى بعد انحلال التركيب.

فإذا قلنا: هذه شجرة الصفصاف الموجودة اليوم لا تعدم. سوف يكون مفهوم هذه المقولة ـ في ضوء فرضية لافوازييه ـ ما يلي: إنَّ مادة معينة

أصالة الماهية، كما أنَّ الأفكار التي طرحها شيخ الإشراق، تبعاً لأسلافه، بشأن حقيقة النور تختلف عما يقصده الفيلسوف المؤمن بأصالة الوجود، وأنَّ الماهيات اعتبارات ذهنية.

على كلٍّ حالٍ فمن المسلّم أنَّ مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، بالشكل القائم اليوم لم تكن مطروحة لدى الحكماء المتقدّمين. فلو أغمضنا النظر عمّا ينسبه المتأخّرون، وحملناه على عدم الالتفات إلى تاريخ تطوّر المعرفة، وراجعنا بأنفسنا متون كتب الحكماء، وقارنا بين دراساتهم عبر مراحلها المختلفة فسوف تّتضح الحقيقة المتقدّمة بجلاء.

ينسب متأخّرو الحكماء بشكلٍ قطعي نظرية أصالة الوجود إلى المشّائين ؛ ولو كان المشاءون قائلين منذ القدم بمثل هذه النظرية فكان على ابن سينا الملقّب برئيس المشّائين أن يصرّح بهذه النظرية، أو ينقلها على الأقل، بينا ينسب كلّ باحثٍ لابن سينا نظريةً في هذا المجال. يقول صاحب المواقف في مسألة زيادة الوجود على الماهية، حيث يطرح فكرة انتزاعية الوجود: " فصرّح ابن سينا في الشفاء أنَّه من المعقولات الثانية، فليس له ما بإزاء في الخارج إلاّ منشأ انتزاعه وهي الماهيات، وهي معقولات أولية ".

٨٤

في ظل شروط معينة اتخذت صورة شجرة الصفصاف، إذن ؛ فبعد انحلال تركيب الشجرة تبقى المادة ولا تعدم. لكن الفيلسوف يفهم هذا المثال كالتالي: " إنّ شجرة الصفصاف بوجودها في ظل شروط معينة احتلت موقعاً من الزمان ( اليوم )، وبعدم الشروط سوف لا تحتل هذا الموقع ".

وهناك نظرية علمية أُخرى تكمل هذه الفرضية، حيث تقرر: " كلّ حادثة تقع في عالم الوجود لا تفنى إطلاقا ". وفي ضوء البيان المتقدّم يصبح مفهوم هذه النظرية هو: حيث إنَّ لكلّ فعل ردّ فعل، ورد الفعل ذاته

ويقول في بحث بداهة الوجود: " والحقّ عند الحكماء اتّصاف الوجود ونقيضه بالعدم وأنّه من المعقولات الثانية، التي لا وجود لها في الخارج، وما لا وجود له فهو معدوم، إذ لا واسطة ".

ولو كان المشاءون قائلين بأصالة الوجود، وقد طرحوا نظريّتهم بشكلٍ فنّي، فلا يمكن أن يستنبط صاحب المواقف أنَّ جميع الحكماء يذهبون إلى انتزاعية الوجود، بل صدر المتألهين نفسه يقول في الأسفار:

" وإني قد كنت شديد الذبّ في اعتبارية الوجود وتأصّل الماهيات حتى أنّ هداني ربّي وانكشف لي انكشافاً بيناً أنّ الأمر بعكس ذلك، وهو أنَّ الوجودات هي الحقائق المتأصّلة الواقعة في العين "

وقد تابع صدر المتألهين بعد ذهابه إلى نظرية أصالة الوجود منهجه السابق في الدفاع بشدّة عن القدماء. وذهب إلى أنّهم جميعاً مؤمنون بأصالة الوجود، ويستشهد ببعض كلماتهم التي يشمّ منها القول بأصالة الوجود. وهذا بذاته دليل واضح على ما قلناه ؛ إذ لو كانت مسألة أصالة الوجود نظير بعض المسائل الأُخرى، التي طرحت لدى القدماء لم يتمكّن صدر المتألهين، وهو

٨٥

فعل، وله رد فعل آخر، وهكذا... فعبر التحويل العكسي يمكن الوصول إلى الحادثة الأولى، أي الحادثة المشابه للحادثة المنصرمة ( لا عينها )، وإلاّ فالشروط الزمانية والمكانية لكلّ حادثة يجب أن تلغى، وفي هذه الحالة يلغى ناموس العلية، وينتهي نظام الخارج والذهن. هذا هو الإيضاح الذي يمكن للفلسفة أن تطرحه فحسب.

يبنى نظريتين متضادتين، من العثور في زمانيين على نظريّتين متضادتين، وينسبهما إلى الحكماء.

على أيّ حال فمن المقطوع به أنَّ مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، ومسألة الوحدة والكثرة، لم تطرحا كمسألتين واضحتين في حدودهما ومقدّماتهما ونتائجهما لدى القدماء. إنَّما هناك بعض عبارات الحكماء، التي يمكن وضع اليد عليها، ككلمات ابن سينا ونصير الدين الطوسي توحي بفكرة أصالة الوجود. لكن ملاحظة سائر نظريّاتهم في المسائل الأُخرى توضح بجلاء أنَّ هؤلاء لم يلتفتوا لجميع المقدّمات والنتائج المترتبة على القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية.

تنبغي الإشارة هنا إلى أنَّ العرفاء على طول تاريخ البحث في الوجود سلكوا طريقاً آخر في بحثهم عن الوجود. فالعرفاء لا ينظرون إلى الوجود كمفهوم اعتباري انتزاعي، بل الوجود هو الحقيقة الوحيدة لديهم. على أنَّ كلام العرفاء يقوم على أُسسٍ أُخرى تنطلق من الكشف والشهود، أي أنَّ العرفاء لم يكن لديهم بحث عقلي تحت عنوان أصالة الوجود أو الماهية، بل كانت لهم كلمات تنسجم مع نظرية أصالة الوجود. إنّما استلهم صدر الدين الشيرازي ( الذاهب إلى نظرية أصالة الوجود، والذي أقام عليها البراهين

٨٦

ولكن اذا كان هناك من يقول إنَّ مادة أي مركب من المادة والصورة تبقى حتى بعد انحلال المركب، وإنّ كل حادثة حصلت تحت ظل شروط مكانية وزمانية معينة تبقى موجودة حتى بعد تغير الشروط، فمثل هذا الشخص عليه أن يقرَّ بأنّ كلّ شيء هو كلّ شيء، وليس للفلسفة كلام مع هذا الطراز من المفكرين، بل تعده أوطأ من السوفسطائي الحقيقي، إذ السوفسطائي يميز بين الأفكار على الأقل، بينا لا يتمتّع هذا الشخص حتى بهذه الصفة. فإذا طلب مثل هذا الشخص ماءً فجوابه ركوب الفرس، وإذا طلب خبزاً فجوابه الهرولة ؛ لأنَّ كل شيء مساوٍ لكل شيء.

الفلسفية والعقلية ) نظريات العرفاء ؛ فهو الذي عثر على أساس عقلي وفلسفي لنظرية العرفاء. كما أسس أُسساً عقلية وفلسفية في كثيرٍ من المواضيعِ تؤيد نظريّات العرفاء.

من هنا فلا يمكن اعتبار صدر المتألهين مبتكر نظرية أصالة الوجود، إنّما هو الشخص الأَوّل الذي أعطى لهذه النظرية طابعاً يقينياً فلسفياً، وعثر على مبادئها، وأفاد من نتائجها في حدود كبيرة.

اتّضح في ضوء مجموع ما تقدّم: أنَّ مسائل الوجود، وخصوصاً المسألتين الأساسيتين " مسألة أصالة الوجود، وتشكيك الوجود " تتكئ على نظرية العرفاء من جهة، ومن جهة أُخرى تتكئ على مقارعة نظريات المتكلّمين، أكثر من اعتمادها على نظريات الفلسفة اليونانية القديمة.

انتهينا حتى الآن من قراءة تأريخية مختصرة لتطوّر أبحاث الوجود. وإذا أردنا لهذه القراءة أن تكون دقيقة وموثقة بأقوال الفلاسفة على مرّ العصور فسوف يكون البحث طويلاً جداً. وأنا عازم على إنجاز دراسة تحت

٨٧

رابعاً ـ في ضوء النتيجة الثالثة يصبح مطلق واقع الوجود ـ على أي فرض ـ لا يقبل العدم، أي أنَّ حقيقة الوجود ضرورية الوجود. على أنَّ التأمل في هذه النظرية يطرح الاستفهام التالي:

هل الضرورة خصوصية ذاتية للوجود أم تأتيه من محل آخر ؟ وللحصول على الإجابة التفصيلية على هذا الاستفهام ينبغي انتظار المقالة القادمة.

النظريات التي ثبتت عبر هذه المقالة:

١ ـ نثبت واقعية الوجود لكلّ الأشياء بمعنى واحد.

عنوان " تطوّر المنطق والفلسفة في الإسلام " لأتُابع فيها أبحاث الفلسفة والمنطق كلاً على انفراد، واحدد ما هو ميراث يوناني، وما جاء إضافة عليه. ضمن تقويم فلسفي للنظريات. وقد أنجزت مقدمات هذا المشروع إلى حدٍ كبير، وانتهيت من تدوين معلومات مفيدة في هذا المجال. وما تقدّم عرضه باختصار حول تطور مسائل الوجود نموذج لما أنوي إنجازه. وأنا على يقين بأنَّ دراسة هذا الموضوع الجديد تكشف عن حقائق كثيرة.

ونشير أخيراً إلى بعض الأفكار المرتبطة بهذا الموضوع، والتي لا مجال لتفصيل البحث حولها هنا. كموضوع نسبة نظرية تشكيك الوجود إلى حكماء إيران القدامى " الفهلويين ". وكنسبة هذه النظرية إلى الأفلاطونية المحدثة، وعلى وجه التحديد إلى إفلوطين بالذات. وكدراسة وتحليل بحث جديد طرح في أُوربا تحت اسم " الوجودية "، حيث يوسم بأصالة الوجود. آملاًّ التوفيق لدراسة هذه المواضيع في مجالٍ آخر.

٨٨

٢ ـ مفهوم الواقع مغاير لمفهوم كل واحد من الموجودات الواقعية.

٣ ـ ننتزع من الواقعيات الخارجية مفهومين مختلفين: الوجود، والماهية.

٤ ـ الأصالة في عالم الخارج حظ الوجود، والماهية اعتبارية ذهنية.

٥ ـ لا نستطيع إدراك حقيقة الوجود، أي بالواسطة.

٦ ـ واقعية الوجود معلومة بالذات.

٧ ـ الوجود حقيقة تشكيكية.

٨ ـ الخواص الذهنية للماهيات لا تصدق على الوجود.

٩ ـ الخواص الخارجية للماهيات ترتد إلى الوجود، لكنها تظهر في عالمه بنحو آخر.

١٠ ـ الموجود لا يعدم على أي حال.

١١ ـ تحقّق العدم في الخارج أمر نسبي.

١٢ ـ مطلق الوجود لا يقبل الزوال والعدم.

٨٩

٩٠

المقالة الثامنة:

الضرورة والإمكان

٩١

٩٢

المقدّمة

يطرحُ الفلاسفة على طول تاريخ الحكمة هذه الإشكالية: هل نظام العالم نظام ضروري ووجوبي ؟ أي: هل ما يوجد في هذا العالم من موجودات يوجد بحكم الضرورة ولا يمكن أن لا يوجد، أم أنَّ ما يوجد في مرتبة وظرف خاص لا مانع من أن لا يوجد، وليست هناك أيُ ضرورة ووجوب في البين ؟ وإذا كان نظام العالم نظاماً وجوبياً وضرورياً فمن أين تنشأ هذه الضرورة ؟

إنَّ البحث في طبيعة نظام الوجود، وهل هو نظام ضروري أو لا ؟ أنتج بحثاً خاصا في الفلسفة يتفرّعُ إلى مجموعة أبحاث تحت عنوان " البحث في المواد العقلية الثلاث " حيث يتناول البحث في أطراف الوجوب والإمكان والامتناع. وقد تناول البحثُ هذه المواد العقلية الثلاث من زوايا مختلفة، وطُرِحتْ في هذا المجال بحوث كثيرة. لكنَّ هناك بحوثاً مفيدة ومهمة لم تطرح في هذا المجال. وسوف نعكف على بيان بعض هذه البحوث المرتبطة بشكل مباشر مع موضوع هذه المقالة، ونغمضُ النظر عمّا سواها.

تناولَ متن هذه المقالة البحثَ في الضرورة والإمكان بطريقة خاصة به، وهذه الطريقة رغم اعتمادها على مسلَّمات تمّ بحثها في المقالة السابعة، وهي موضوع اتفاق كافة أتباع الحكمة المتعالية، لكن نهج هذه المقالة في استنباط أحكام الضرورة والإمكان في ضوء أبحاث الوجود، وخصوصا بحث أصالة الوجود، نهج غير مألوف وتختص به هذه المقالة. مضافاً إلى أنَّ

٩٣

الأفكار المطروحة في هذه المقالة مختزلة جداً ؛ ومن هنا يمكن أن يكون نهج وطريقة البحث في قضايا الضرورة والإمكان في هذه المقالة غريباً، وغير مفهوم حتى لدى المطّلعين على هذه البحوث.

من هنا سوف نتناول في هذه المقدمة مجموعة القضايا والأفكار، التي اتخذتها المقالة مسلّمات، وأشارت إليها باختصار في المتن، مضافاً إلى تناول بعض الأفكار الضرورية الأخرى، وسنشفع ذلك بإيضاحات مختصرة في هوامش المقالة ذاتها، وبهذا سوف تتّضح بجلاء الأفكار المطروحة في متن هذه المقالة.

تشتمل هذه المقدّمة على الفقرات التالية:

١ ـ مفهوم الضرورة والإمكان.

٢ ـ الضرورة والإمكان مفهومان عقليان وليسا حسّيين.

٣ ـ هل ينتمي بحث ضرورة نظام الوجود أو عدم ضرورته إلى حقل الأبحاث العلمية، أم ينتمي إلى حقل الأبحاث الفلسفية ؟

٤ ـ منشأ الضرورة والإمكان.

٥ ـ قانون العلية والمعلولية.

٦ ـ العلّة تعطي المعلول الضرورة " الجبر العلّي ".

٧ ـ حاجة المعلول إلى العلة في البقاء.

٨ ـ الضرورة بالذات وبالغير.

٩ ـ الضرورة الذاتية المنطقية والضرورة الذاتية الفلسفية.

١٠ ـ تفسير نظام الوجود.

١١ ـ أصالة الوجود الضرورة والإمكان.

١٢ ـ الموجود لا يعدم.

٩٤

مفهوم الضرورة والإمكان:

الضرورة والإمكان من المفاهيم التي لا تحتاج إلى تعريف وإيضاح. إذا كان هناك مفهوم مبهم ومجمل علينا أن نتوسل بُغية إيضاحه بتعريفه، أما إذا كان غير مبهم وغير مجمل سوف يكون مستغنياً عن التعريف والإيضاح. إنَّ التعريف يعني التوفّر على معرفة ذات الشيء، ويتمّ ذلك بتحليل مفهوم الشيء إلى عناصره الأولية الذهنية، كما أنّ معرفة أجزاء وعناصر المركبات الخارجية تتم بالتجزئة العلمية والموضوعية. أي أنَّ التعريف هو تحليل وتجزئة مفهوم الشيء عقلانياً ؛ ومن هنا يصدق التعريف في مورد المفاهيم المركبة، أمّا المفاهيم البسيطة التي تشكّل العناصر الأولية للتصوّرات الذهنية فهي لا تقبل التعريف، ومن المحتم أنَّ هذه العناصر بديهية التصور ومتستغنية عن التعريف ؛ لأنَّ الإبهام في المفاهيم الذهنية البسيطة لا معنى له.

إيضاح ذلك: كما تقدّم في المقالة الرابعة والخامسة فإنَّ كلّ صورة ذهنية تتطابق بالذات مع واقعية من الواقعيات تسمى علماً، وتلك الواقعية الخارجية تسمّى معلوماً. والعلم هو انكشاف المعلوم للعالم، ولا طريقَ للإبهام والإجمال في العلم من حيث هو علم. الأمر المطروح هنا هو إذا كان المفهوم والصورة الذهنية مركباً فيجب ـ وفق قواعد المنطق ـ أن يكون مركباً من جزء أعم ( وهو ما به الاشتراك مع أشياء عديدة أخرى ) ومن جزء آخر مساوٍ للمفهوم ومختص به.

يتم تشخيص وتمييز الشيء عن غيره بواسطة الجزء المختص، ويصطلح على هذا التمييز ( المعرفة )، ويطلق أحيانا على العلم الأولي والانطباع الأولي للصورة الذي هو معلول لتعامل الذهن مع الواقع مصطلح

٩٥

( المعرفة الإجمالية ). أمّا تمييز وتشخيص الشيء، الذي يتمّ عبر التحليل الذهني لأجزائه وتشخيص ما به الاشتراك عما به الامتياز، فيصطلح عليه ( المعرفة التفصيلية ). وعلى أيّ حال فالمعرفة هي التعريف والتمييز، على أنَّ المفهوم والصورة الذهنية يتطلّب التعريف حينما يكون له وجه اشتراك مع الأشياء الأخرى، فيكون التوفّر على وجه الاختصاص والامتياز محصّلاً للمعرفة. أمّا إذا كان المفهوم بسيطاً بالذات، يختلف عن سائر المفاهيم الأخرى، ويتميّز بالذات عنها، فالمعرفة به تحصل بالذات حتماً.

من هنا فالعناصر الذهنية البسيطة أمّا أن لا تعرض على الذهن، وليس للذهن أي معرفة بها، وأمّا أَن تعرّض على الذهن، وهي واضحة بديهية عارية عن كلّ إبهام وإجمال.

الضرورة والإمكان وسائر المفاهيم الفلسفية العامة، نظير مفهوم الوجود والعدم والوحدة والكثرة والعلية والمعلولية، مفاهيم بسيطة. ولو كانت مركبة وجب أن تتألّف من جزء أعم ( الجنس ) وجزء مساوٍ ( الفصل )، ومن الواضح أنَّ فرض وجود جزء أعم في هذه المفاهيم يتنافى مع عموميتها. من هنا فمفهوم الضرورة والإمكان لا يقبل التعريف ومستغنٍ عنه بحكم البرهان.

لسنا بحاجة إلى إقامة برهان على إثبات استغناء مفهومي الضرورة والإمكان عن التعريف. فحينما يراجع كل فرد وجدانه يجد صورة واضحة جليلة لهذين المفهومين. لكلّ واحد منا أحكام قطعية ويقينية، فكلّ واحد منّا مثلاً يعرف أنَّ حاصل ضرب العدد خمسة في أربعة يساوي عشرين، فنحن على يقين من هذه النتيجة، ونعتقد أنَّ خلافها محال وممتنع ؛ إذن فنحن نرى أنَّ حاصل ضرب الأربعة في خمسة يساوي عشرين بالضرورة، وما لم يكن

٩٦

الذهن متوفرا على مفهوم وتصور واضح للضرورة لا يمكنه أن يُصدر في هذا المثال حكماً.

إنَّ المفاهيم الفلسفية العامة بديهية التصور جميعا، وهذه المفاهيم تمثل الأدوات الأساسية للفكر البشري. فما لم يكن للبشر تصوّر عن الوجود والعدم والوجوب والإمكان والامتناع والوحدة والكثرة والعلّة والمعلول، لا يمكنه أن يفكّر بطريقة عقلية منطقية في أي موضوع من المواضيع. ولا يمكنه أن يقيم الدليل عليها. إنَّ الأمر خلافا لما يقوله عموم الفلاسفة في أنَّ ( الناطقية ) التي هي ميزة الإنسان عن سائر الحيوانات تنحصر في قوّة التجريد والتعميم الذهنية، بل تشمل التوفّر على هذه المفاهيم الفلسفية العامة التي هي معقولات ثانية ونتاج لنوع خاص من الفعالية الذهنية. على كلّ حال فنحن لا نحتاج إلى التعريف في مقام بيان مفهوم الضرورة والإمكان، ونكتفي في هذه الموارد بتنبيه الذهن وإرجاعه إلى المرتكزات والوجدان.

الضرورة والإمكان مفهومان عقليان وليسا حسّيين:

من أيّ طريق ترد مفاهيم الضرورة والإمكان والامتناع إلى الذهن، وما هي القوة الذهنية المدركة لهذه المفاهيم، وعلى أي نسق ندركها، وكيف نحصل عليها، فهل يمكن تفسير هذه الظواهر على أساس حسّي كما زعم الحسّيون ؟ وما هو الدليل على أنَّ هذه المفاهيم يجب أن تعد مفاهيم فلسفية عامة ومعقولات ثانية ؟ وهل هناك دليل على أنَّ جميع الأذهان تدرك هذه المفاهيم بالضرورة أم لا ؟ الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تطرح في هذه المقالة. لكن نظرة بسيطة تكفينا لنفهم أنَّ أيّاً من هذه المفاهيم ليست حسّية، وإنّما هي معقولة.

٩٧

من البديهي أنَّ الضرورة التي تحكم جميع الموجودات ليست ظاهرة خاصة في عرض الظواهر الكونية الأخرى التي يمكن لمسها والإحساس بها. ونحن نتصوّر مفهوم الضرورة بشكل واضح دون أن نراه، ومن هنا فالعقل يدرك هذه الحقائق بأسلوب آخر. أثبتنا في المقالة الخامسة أنَّ العلية والمعلولية لا يمكن الإحساس بها، وأثبتنا أيضا أنَّ مفهوم الوجود لم يتوفّر الذهن عليه عن طريق الحس، إذن كيف يمكن أن تكون الضرورة التي هي من شؤون العلية، ومن شؤون الوجود بلحاظ آخر محسوسة لنا ؟! إنَّ تحديد هوية الضرورة والإمكان والامتناع، وهل هي حسية أم عقلية، سنفيد منه حينما نعكف على بيان أقسام الضرورة والإمكان، حيث سنوضح هناك أقساما أخرى للضرورة غير الضرورة العلية ؛ وحينما نواجَهُ بالاعتراض القائل بأنّنا لا نحس إلاّ بالضرورة العلية فسوف نجيب على هذا الاعتراض بأنَّنا لا نحس حتى بالضرورة العلية، وأنَّ جميع الضرورات والحتميات نعرفها عن طريق لون من التحليل العقلي.

هل هذا البحث بحث علمي أم فلسفي ؟

من الممكن أن يتوهّم أُولئك الذين لا يعرفون حدود الحس والعقل والعلم والفلسفة أنَّ هذا الموضوع يمكن معالجته عن طريق العلوم، ويطرحون لدعم هذا التوهم الحجة التالية: إنَّ كلّ علم يسير وفق مجموعة قضايا ضرورية وقوانين قطعية، فإذا أخذنا الكيمياء مثلاً فهي تقول لنا إنَّ التركيب " س " ينتج من المعادلة " ص "، فهذا يعني أنَّ هذه النتيجة ضرورية وحتمية. وإذا كشفت الفيزياء لنا عن خواص المادة والقوة وقوانين الحركة فهي توضح ذلك على نحو الضرورة والحتمية، والهندسة كذلك حينما توضح

٩٨

لنا خواص الأشكال، فهي تثبت هذه الخواص إثباتاً ضروريا يستحيل تخلّفهُ، من هنا يمكننا القول وفق معطيات العلوم إنَّ هناك مجموعة قواعد ضرورية ونواميس حتمية يسير عليها كل علم من العلوم، أو يمكننا القول على الأقل إنَّ العلوم تشير إلى وجود مجموعة أنظمة يقينية ونواميس حتمية تحكم الكون.

والجواب على الحجّة:

١ ـ إنَّ القارئ المحترم ـ في ضوء الإلتفات إلى ما طُرِحَ في المقالة الأُولى من التفرقة بين ميدان العلم والفلسفة ـ يعرف أنَّ طبيعة البحث العلمي تفترض دائماً موضوعاً، ثم تعكف على البحث في خواص هذا الموضوع. أما البحث عن وجود الموضوع وعدمه، وتحديد هوية وجوده على فرض وجوده فهو بحث تتعهّد به الفلسفة. ولا يستطيع العلم تناول هذا الموضوع بالبحث، ولو تناوله فسوف تتغير وسائله ونسق أًصوله الموضوعية ومنهجه، وبهذا يتحوّل إلى فنّ آخر وهو ما نسمّيه الفلسفة.

من هنا فنحن مضطرّون إلى استخدام المنهج الفلسفي في دراسة موضوع الضرورة والإمكان، وعلينا اتّخاذ الأُصول الموضوعية والمسلّمات الفلسفية أساساً في هذا البحث.

٢ ـ لو فرضنا أنَّ منهج العلوم الخاص يمكنه الوقوف على ضرورة ووجوب جزء من نظام الوجود سوف يكون محدوداً بحدود دائرة العلوم، التي تحدّد خواص شيءٍ أو أشياء معيّنة، وسوف ينحصر بحثنا في موضوعات محدودة، وهي الموضوعات التي تصل إلى يد العلم. أما دائرة التحقيق الفلسفي فبحكم كونها كلّية وعامة وشاملة فهي تشمل كلّ نظام الوجود، والقدر المتيقن هو أنَّ هذه المسألة إذا أمكن البحث فيها فهو منحصر في المنهج

٩٩

الفلسفي وإن لم يمكن البحث فيها فليس هناك طريق آخر.

٣ ـ صحيح أنَّ كل علم يطرح قواعده بطريقة حتمية وضرورية، لكنّه عاجز عن بيان تفسير هذه الضرورة والحتمية وتحديد منشئها ومنبعها. وهذا العجز واضح في العلوم التجريبية ؛ لأنَّ أقصى ما يمكن أن يقال بشأن الفرضية والنظرية العلمية هو أنَّ الحس والتجربة المكررة تؤيّد هذه الفرضية. فالحسّ والتجربة يؤكّد وقوع هذه الفرضية في عالم الطبيعة، أما لِمَ وعلى أيِّ أساس تكون هذه الفرضية حتمية، ويستحيل نقيضها ؟! فهو أمر خارج عن حدود الحس والتجربة، ولا بد من التوسّل بنوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الفلسفية.

والواقع أنَّ جميع العلوم وخصوصاً العلوم الطبيعية تطرح قضاياها استنادا إلى مصادرة، هذه المصادرة هي عبارة عن ( ضرورة نظام الوجود ). وهذه المصادرة تتّخذ في العلوم بمثابة أصل موضوعي، وهي جزء أساسي من قضايا الفلسفة. وهذه هي إحدى الجهات التي تحتاج فيها العلوم إلى الفلسفة، حيث أشرنا إليها في المقالة الأُولى إجمالاً. فإذا لم نستطع في البحث العقلي أن نثبت ضرورة نظام الوجود، وأن نحدد منبع هذه الضرورة، فسوف لا يمكننا أن نعتبر قضايا العلوم قضايا ضرورية ويقينية، بل لا يمكننا أن نعتبرها قانوناً علمياً ؛ لأنَّ القانون العلمي يكتسب طابع القانون حينما يتلقاه الذهن بشكل يقيني وحتمي، وإلاّ فليس هناك أي فرق بين القانون العلمي والفرض الاحتمالي. إذن ينحصر تحديد منشأ الضرورة والوجوب وتفسير هذه المقولة بالمنهج العقلي الفلسفي.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

علي (عليه‌السلام ) إلى اليمن مرتين:

وبالنسبة لذهاب علي (عليه‌السلام ) إلى اليمن نقول:

لعل الصحيح هو: أنه (عليه‌السلام ) ذهب إلى اليمن أولاً، فأسلمت همدان كلها على يديه في ساعة واحدة، وانتشر الإسلام في تلك البلاد.

ثم شعر أهلها بحاجتهم إلى من يفقههم في الدين، فوفدوا إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وطلبوا منه ذلك، فأرسل إليهم علياً (عليه‌السلام ) مرة ثانية.

فقد روي: أنه أتى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ناس من اليمن، فقالوا: ابعث فينا من يفقهنا في الدين، ويعلمنا السنن، ويحكم فينا بكتاب الله.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): انطلق يا علي إلى أهل اليمن، ففقههم في الدين وعلمهم السنن، واحكم فيهم بكتاب الله.

فقلت: إن أهل اليمن قوم طغام، يأتوني من القضاء بما لا علم لي به.

فضرب (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على صدري، ثم قال: اذهب، فإن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك. فما شككت في قضاء بين اثنين حتى الساعة(1) .

____________

1- منتخب كنز العمال (مطبوع مـع مسند أحمـد) ج5 ص36 وكنز العـمال ج13 = = ص113 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص35 و 40 و 45 وج21 ص634 وج22 ص511 وج23 ص667 وراجع: أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان ج1 ص86 و تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص637.

٢٢١

وقال الطبرسي: بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) إلى اليمن، ليدعوهم إلى الإسلام، وليخمس ركازهم، ويعلمهم الأحكام، ويبين لهم الحلال والحرام، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم(1) .

هل أرسل علياً (عليه‌السلام ) إلى اليمن قاضياً؟!:

إننا لا ننكر أن يكون علي (عليه‌السلام ) قد قضى وحكم بين الناس في اليمن، كما أنه علمهم، وفقههم في دينهم، وسعى إلى تزكية نفوسهم، وبث مكارم الأخلاق فيهم..

ولكن بعض الروايات تزعم: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أرسل علياً (عليه‌السلام ) إلى اليمن قاضياً، وحسب بعض الروايات: أنه قال للنبي:

تبعثني إلى قوم وأنا حدث السن، ولا علم لي بالقضاء (أو بكثير من القضاء)؟!

____________

1- بحار الأنوار ج21 ص360 ومكاتيب الرسول ج1 ص210 وإعلام الورى (ط1) ص79 و 80 و (ط2) ص137 و (ط مؤسسة آل البيت) ج1 ص257.

٢٢٢

فوضع يده على صدره وقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك.

يا علي، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر الخ..(1) .

ولذلك اعتبر السكتواري: أن علياً (عليه‌السلام ) أول قاض بعثه رسول

____________

1- مسند أحمد ج1 ص83 و 88 و 149 و (ط دار صادر) ج1 ص111 والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار المعارف بمصر) ج2 ص337 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص140 وذخائر المواريث ج3 ص14 وتيسير الوصول (ط نول كشور) ج2 ص216 وقضاة الأندلس ص23 وخصائص الإمام علي ( عليه‌السلام ) للنسائي (ط التقدم بمصر) ص12 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص85 وفرائد السمطين، ونظم درر السمطين ص127 والشذورات الذهبية ص119 وطبقات الفقهاء ص16 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص236 ومناقب علي ( عليه‌السلام ) لابن المغازلي ص248 والرصف ص313 وجمع الفوائد من جامع الأصول، ومجمع الزوائد ج1 ص259 وفتح المنعم (مطبوع مع زاد المسلم) ج4 ص217 وبحار الأنوار ج21 ص360 و 361 وفي هامشه عن: إعلام الورى (ط 1) ص80 و (ط2) ص137. وراجع: العمدة لابن البطريق ص256 وفتح الباري ج8 ص52 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص117 وكنز العمال ج13 ص125 والبداية والنهاية ج5 ص124 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص208 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليه‌السلام ) ج1 ص205 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص65 وج20 ص565 و 571 وج22 ص176 وج31 ص387.

٢٢٣

الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى اليمن(1) .

ونقول:

قد يقال: إن علياً كان باب مدينة علم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعنده علم الكتاب بنص القرآن الكريم، فما معنى قوله (عليه‌السلام ): أنا حدث السن، ولا علم لي بالقضاء؟!.

ويمكن أن يجاب:

بأنه (عليه‌السلام ) إنما تكلم بلسان غيره، وعبر عما قد يدور بِخَلَدِ بعضهم، لا سيما وأن القضاء من أي كان لا يرضي من يُقْضى عليهم.. فيبادرون إلى إدعاء المظلومية، أو ادعاء حصول خطأ في الحكم، نتيجة التقصير أو القصور لدى الحاكم، أو لغير ذلك من أسباب، قد يجدون من يصدقهم، أو من يقع في الشبهة نتيجة لذلك.. فأراد (عليه‌السلام ) أن يتلافى ذلك بهذا السؤال، وبذاك الجواب..

ويشهد لذلك:

أن الجواب الذي سمعه من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يتضمن تعليماً لأحكام القضاء، بل هو مجرد دعاء له (عليه‌السلام ) بالهداية والثبات، ثم أخبره بأن الله تعالى هو الذي يتولى هداية قلبه (عليه‌السلام )، وذلك ليدلنا على عظيم منزلته (عليه‌السلام ) عند الله، لأن هداية القلب لا تكون على سبيل الجبر والقهر لأي كان من الناس، بل هي منحة إلهية لمن

____________

1- محاضرة الأوائل ص62 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص47 عنه.

٢٢٤

جاهد في الله حق جهاده على قاعدة:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (1) و( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً ) (2) و( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) (3) .

مفردات من قضائه (عليه‌السلام ) في اليمن:

وقد ذكروا العديد من مفردات الأقضية التي صدرت عن علي (عليه‌السلام ) في اليمن، ومنها:

1 ـ إن قوماً احتفروا بئراً باليمن، فأصبحوا وقد سقط فيها أسد، فنظروا إليه، فسقط إنسان بالبئر، فتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى كانوا في البئر أربعة، فقتلهم الأسد، فأهوى إليه رجل برمح فقتله.

فتحاكموا إلى علي (عليه‌السلام ).

فقال: ربع دية، وثلث دية، ونصف دية، ودية تامة: للأسفل ربع دية، من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث دية، لأنه هلك فوقه إثنان، وللثالث نصف دية، من أجل أنه هلك فوقه واحد، وللأعلى الدية كاملة.

فإن رضيتم فهو بينكم قضاء، وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى تأتوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيقضي بينكم.

فلما أتوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قصوا عليه خبرهم، فقال: (أنا

____________

1- الآية 69 من سورة العنكبوت.

2- الآية 17 من سورة محمد.

3- الآية 11 من سورة التغابن.

٢٢٥

أقضي بينكم إن شاء الله تعالى).

فقال بعضهم: يا رسول الله، إن علياً قد قضى بيننا.

قال: (فيم قضى)؟!

فأخبروه، فقال: (هو كما قضى به)(1) .

2 ـ كان علي (عليه‌السلام ) باليمن، فأُتي بامرأة وطأها ثلاثة نفر في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟!

____________

1- راجع: مسند الطيالسي ص18 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص95 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص111 وذخائر العقبى ص84 وتذكرة الخواص ص49 والقياس في الشرع الإسلامي ص45 وأعلام الموقعين ج2 ص39 ومجمع بحار الأنوار ج2 ص57 وينابيع المودة ص75 وأرجح المطالب ص120 والطرق الحكمية لابن القيم ص262 عن أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم في صحيحه، وإرشاد الفحول ص257 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص239 ومسند أحمد ج1 ص77 و 152 ومشكل الآثار ج3 ص58 وكتاب الديات للشيباني ص65 وتفريع الأحباب ص321 ووسيلة النجاة للسهالوي ص152 ومرآة المؤمنين ص70 وكنز العمال (ط الهند) ج15 ص103 عن الطيالسي، وابن أبي شيبة، وأحمد، وابن منيع، وابن جرير وصححه، وقرة العينين في تفضيل الشيخين ص158 وبذل القوة ص285 وتلخيص التحبير ج4 ص30 عن أحمد، والبزار، والبيهقي، وإحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص493 ـ 497 وج8 ص67 ـ 70 عما تقدم وعن مصادر أخرى.

٢٢٦

فلم يقرَّا.

ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟!

فلم يقرَّا.

ثم سأل اثنين، حتى فرغ، يسأل اثنين اثنين غير واحد، فلم يقرُّوا.

ثم أقرع بينهم، فألزم الولد، الذي خرجت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية.

فرفُع ذلك للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فضحك حتى بدت نواجذه

زاد في نص آخر: وقال: (القضاء ما قضى).

أو قال: (لا أعلم فيها إلا ما قضى علي).

أو قال: (حكمتَ فيه بحكم الله).

أو قال: (لقد رضي الله عز وجل حكمك فيهم)(1) .

____________

1- راجع: مسند أحمد ج4 ص373 وسنن النسائي (ط الميمنة بمصر) ج2 ص107 وأخبار القضاة ج1 ص90 و 91 و 93 و 94 ومستدرك الحاكم ج2 ص207 وج3 ص135 وج4 ص96 وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع مع المستدرك) ج4 ص96 وذخائر العقبى ص85 والقياس في الشرع الإسلامي ص48 وزاد المعاد لابن القيم (ط الأزهرية بمصر) ج7 ص380 والبداية والنهاية ج5 ص107 عن أحمد، وأبي داود، والنسائي، وينابيع المودة ص211 و 75 وتيسير الوصول ج2 ص281 وأرجح المطالب ص121 والمعجم الكبير = = ج5 ص193 و 194 وفيه: أن علياً ( عليه‌السلام ) كتب إلى رسول الله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يخبره بذلك. ومسند ابن أبي شيبة ج2 ص345 وأخبار الموفقيات ص363 عن مسند الحميدي، ومرآة المؤمنين ص71.

٢٢٧

3 ـ عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام )، قال: بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) إلى اليمن، فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن، فنفح رجلاً برجله فقتله، وأخذه أولياء المقتول، فرفعوه إلى علي (عليه‌السلام )، فأقام صاحب الفرس البيّنة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله، فأبطل علي (عليه‌السلام ) دم الرجل.

فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يشكون علياً (عليه‌السلام ) فيما حكم عليهم، فقالوا: إن علياً ظلمنا، وأبطل دم صاحبنا.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن علياً ليس بظلام، ولم يخلق علي للظلم، وإن الولاية من بعدي لعلي، والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن.

فلما سمع اليمانيون قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في علي (عليه‌السلام ) قالوا: يا رسول الله، رضينا بقول علي وحكمه.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): هو توبتكم مما قلتم(1) .

____________

1- بحار الأنوار ج21 ص362 وج38 ص102 وج40 ص316 وج101 ص390= = والأمالي للشيخ الصدوق ص428 ومستدرك الوسائل ج18 ص322 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص343 وعجائب أحكام أمير المؤمنين ( عليه‌السلام ) للسيد محسن الأمين ص42 وقضاء أمير المؤمنين علي ( عليه‌السلام ) ص192 عن الكليني، والشيخ، وعن الصدوق في أماليه. والكافي ج7 ص353.

٢٢٨

ونقول:

يحسن لفت النظر إلى أمور تضمنتها النصوص الآنفة الذكر، نذكر منها ما يلي:

أولاً: ذكرت الروايات الثلاث الأولى المتقدمة أن الذين قضى عليهم أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لم يرضوا بقضائه..

ولا نرى أن سبب ذلك هو كراهتهم لشخص علي (عليه‌السلام ).. بل لأن التخاصم عادة يكون بسبب شبهة عرضت لأحد المتخاصمين، أو كليهما، أوهمته أن الحق له، ودفعته إلى السعي لتحصيل حقه ولو بالترافع إلى القاضي، فإذا قضى عليه القاضي توهم أنه قصر في تحري الحق، أو جهل الحكم، أو مال مع الهوى..

وبما أن الناس كانوا في اليمن لا يعرفون الكثير عن علي (عليه‌السلام )، وعلمه وتقواه، وتضحياته وعدله، والآيات النازلة في حقه، وبيان فضله، فلا يلامون إذا ظنوا أنه لم يدقق بما يكفي لإحقاق الحق، أو لم يكن يعرف الكثير من أسرار القضاء، فأرادوا الإستيثاق من صحة قضائه.

فجاء الرد الحاسم من قبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبين لهم:

٢٢٩

أولاً: موقع علي فيهم، وحقيقة علي (عليه‌السلام ) ومنزلته، وأن له فيهم مقام الولاية، وهو الذي لا يرد حكمه، ولا يشك في قوله..

ثانياً: لقد قرر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنه (عليه‌السلام ) ليس بظلام، ليكون هذا القول هو الضابطة لمن تكون له الولاية على الناس، لأن من يظلم واحداً منهم، فلا يؤمن أن ينال ظلمه الجميع، إذ لا خصوصية للفرد من هذه الجهة، ولذلك قال: (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (إن علياً ليس بظلام)، فجاء بصيغة المبالغة لتدل على نفي الظلم عن كل فرد، والمطلوب من الولي الإنصاف والعدل، وإيصال الخير للناس، والظلاّم لا يؤمن أن ينال ظلمه هذا الفرد أو ذاك، فلا يصلح للولاية لأنها نقض للغرض.

ثالثاً: قوله: إن علياً (عليه‌السلام ) لم يخلق للظلم، أي أن علياً (عليه‌السلام ) هو صاحب الفطرة السليمة والصافية، والمعافاة من كل سوء، فهي لم تتعرض لأي تشويه، أو عدوان. وفطرة كهذه لا يصدر منها الظلم، لأن الظلم لا يلائمها، بل هي تتنافر معه وترفضه..

الذين وقعوا في زبية الأسد:

بالنسبة للذين قتلهم الأسد في البئر نقول:

اختلفت الرواية في الحكم الذي صدر عنه (عليه‌السلام )، فواحدة منها تقول: إن للأول ربع الدية، وللثاني ثلثها، وللثالث نصفها، وللرابع الدية كاملة، وقد جعلها (عليه‌السلام ) على قبائل الذين ازدحموا..

قال التستري: للأول الربع، لاحتمال استناد موته إلى أربعة أشياء:

أحدها: تضييق المزدحمين، وباقيها إسقاطه لثلاثة رجال فوق نفسه.

٢٣٠

وللثاني الثلث، لإحتمال استناده إلى ثلاثة أمور:

أحدها: إسقاط الأول له.

وللثالث النصف، حيث يحتمل استناده إلى أمرين:

أحدهما: إسقاط الثاني له.

وللرابع التمام حيث إن قتله كله مستند إلى الثالث، وجعل الدية على قبائل المزدحمين لأن الساقطين أيضاً كانوا منهم(1) .

وجاء في نص آخر أنه (عليه‌السلام ) قال: الأول فريسة الأسد، وغرّم أهله ثلث الدية لأهل الثاني، وغرّم الثاني لأهل الثالث ثلثي الدية.. وغرّم الثالث لأهل الرابع الدية كاملة(2) .

وذكر التستري: أن الوجه في ذلك: أن هلاك الأول لم يكن مستنداً إلى أحد..

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي ( عليه‌السلام ) ص36.

2- راجع: وسائل الشيعة (ط دار الإسلامية) ج9 ص176 وقضاء أمير المؤمنين علي ( عليه‌السلام ) للتستري ص35 عن الإرشاد، وعن المشايخ الثلاثة، والمناقب، ومسند أحمد، وأمالي أحمد بن منيع. وراجع: دعائم الإسلام ج2 ص418 ومستدرك الوسائل ج18 ص313 وشرح الأخبار ج2 ص331 والإرشاد للمفيد ج1 ص196 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص198 وبحار الأنوار ج40 ص245 وج101 ص393 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص338 و 339 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص280.

٢٣١

والثاني كان هلاكه مستنداً إلى ثلاثة أمور: جذب الأول، وسقوط الثالث والرابع فوقه، وكان هو السبب في سقوطهما، فيكون ثلث قتله مستنداً إلى الأول فله الثلث.

والثالث كان ثلث قتله مستنداً إلى نفسه بجذب الرابع، فيكون له الثلثان فقط على الثاني.

والرابع كان جميع قتله مستنداً إلى الثالث، فكان عليه تمام ديته(1) .

ويحتمل أن هذه الحادثة قد تكررت مرتين، كان سقوط الأشخاص فوق بعضهم البعض في إحداهما، وكان السقوط للأفراد في مواقع أخرى في الحادثة الثانية.

من وصايا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ):

1 ـ روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) قال: قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ): بعثني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى اليمن وقال لي: يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي(2) .

____________

1- قضاء أمير المؤمنين علي ( عليه‌السلام ) ص35 و 36.

2- بحار الأنوار ج21 ص361 وج97 ص34 والكافي ج5 ص28 ومختلف الشيعة ج4 ص393 وكشف اللثام (ط ج) ج9 ص341 و (ط ق) ج2 ص276 وجـواهـر = = الكلام ج21 ص52 وتهذيب الأحكام ج6 ص141 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص43 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص30 والنوادر للراوندي ص140 ومستدرك الوسائل ج11 ص30 وجامع أحاديث الشيعة ج3 ص143 وموسوعة أحاديث أهل البيت ج12 ص23 وأعيان الشيعة ج1 ص418.

٢٣٢

قال المجلسي (رحمه‌الله ): قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ولك ولاؤه، أي لك ميراثه إن لم يكن له وارث، وعليك خطاؤه(1) .

2 ـ روى جماعة عن أبي المفضل، عن عبد الرزاق بن سليمان، عن الفضل بن الفضل الأشعري، عن الرضا، عن آبائه (عليهم‌السلام ): أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعث علياً (عليه‌السلام ) إلى اليمن، فقال له وهو يوصيه:

يا علي، أوصيك بالدعاء، فإن معه الإجابة، وبالشكر، فإن معه المزيد، وإياك عن أن تخفر عهداً وتعين عليه، وأنهاك عن المكر، فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وأنهاك عن البغي، فإنه من بغي عليه لينصرنه الله(2) .

____________

1- بحار الأنوار ج21 ص361.

2- بحار الأنوار ج21 ص361 وج74 ص69 عن المجالس والأخبار ص28 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج7 ص29 و (ط دار الإسلامية) ج4 ص1088 والأمالي للطوسي ص597 وجامع أحاديث الشيعة ج15 ص192 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص345 وموسوعة أحاديث أهل البيت ( عليهم‌السلام ) ج2 ص62 وج10 ص414.

٢٣٣

ونقول:

أولاً: تقدم: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أوصى علياً (عليه‌السلام ) بأن لا يقاتل أحداً حتى يدعوه، ثم قال: (وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت علي الشمس وغربت..).

والكلام إنما هو بالنسبة لأولئك الذين يعلنون العداء للإسلام وأهله، أو بالنسبة لأولئك الذين يريدون منع الناس من ممارسة حريتهم في الإعتقاد، أو في الدعوة..

وهذا يدل على أن الهدف الأول والأخير هو هداية الناس، ونشر الإسلام، والقتال إنما هو لدفع الأعداء، أو للحصول على حرية الإعتقاد والدعوة..

فما يذكرونه في أكثر السرايا والبعوث من أنها كانت تبادر إلى الغارة، واغتنام الأموال، وسبي النساء والأطفال، وأسر واستعباد الرجال، إما غير صحيح، أو أنه إن كان قد حصل منه شيء فهو على سبيل التمرد على صريح الأوامر النبوية، طمعاً بالدنيا، وجريا على عادات أهل الجاهلية، واستجابة لدواعي الهوى العصبية.

ثانياً: إن مجرد إسلام شخصٍ على يد آخر ليس من أسباب اختصاصه بإرثه، إلا في موردين.

أحدهما: أن يكون مولى له، وما نحن فيه ليس كذلك، إذا المفروض: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمر علياً أن يدعوهم إلى الإسلام قبل حربهم، فمن أسلم منهم كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم..

٢٣٤

الثاني: أن يكون ولاؤه له من حيث أنه إمام مفترض الطاعة، لأن الإمام وارث من لا وارث له.. ومعنى هذا أن يصبح هذا الحديث من دلائل إمامة علي (عليه‌السلام ) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثالثاً: إن الوصايا المتقدمة، التي رويت عن الإمام الرضا (عليه‌السلام )، عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليس فقط لا تشير إلى أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أصدر أي أمر بقتال، وإنما هي في سياق إثارة أجواء ومشاعر سليمة وطبيعية، والتوجيه نحو تنظيم العلاقة مع أهل اليمن، على أساس التوافق، وإبرام العهود، ولزوم الوفاء بها. ولزوم الوضوح والصدق في التعامل، والإبتعاد عن المكر والخداع، وعن البغي والتجني، والتزام جادة الإنصاف، والرفق..

وقد مهد لذلك كله بالتوجيه نحو الله تعالى بالدعاء، والطلب منه دون سواه، ثم بالشكر له، الذي يجلب معه المزيد من العطاءات الإلهية، والألطاف والرحمات والبركات الربانية..

هدايا علي (عليه‌السلام ) من اليمن إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

روى الكليني عن العدة، عن سهل وأحمد بن محمد جميعاً، عن بكر بن صالح، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن (عليه‌السلام ) قال: سمعته يقول: أهدى أمير المؤمنين إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أربعة أفراس من اليمن، فقال: سمها لي.

فقال: هي ألوان مختلفة.

فقال: ففيها وضح؟!

٢٣٥

قال: نعم، فيها أشقر به وضح.

قال: فأمسكه عليّ.

قال: وفيها كميتان أوضحان.

فقال: أعطهما ابنيك.

قال: والرابع أدهم بهيم.

قال: بعه، واستخلف به نفقة لعيالك، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح(1) .

ونقول:

1 ـ في هذه الهدية إلماح إلى استمرار المسيرة الجهادية، التي تحتاج إلى إعداد القوة التي ترهب العدو.. على قاعدة:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (2) .

وقد جاءت هذه الهدية في وقت ظهر فيه أن بعض قاصري النظر من

____________

1- بحار الأنوار ج21 ص361 وج61 ص169 عن الكافي، والمحاسن للبرقي ج2 ص631 والكافي ج6 ص536 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص285 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص475 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص347 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص855 ومسند الإمام الرضا ( عليه‌السلام ) للعطاردي ج2 ص377 وموسوعة أحاديث أهل البيت ( عليهم‌السلام ) ج12 ص339.

2- الآية 60 من سورة الأنفال.

٢٣٦

المسلمين اعتبر أن زمن الجهاد قد انتهى، ولا حاجة بعد للسلاح، فباعوا أسلحتهم، كما صرحت به الروايات(1) .

2 ـ تضمن هذا النص إشارة إلى أن للألوان والأشكال دورها في الإختيار، وإن لقضية اليُمْنِ أيضاً تأثير في ذلك، فلا معنى لإسقاطها من الحساب..

ذهبية أخرى من اليمن:

وعن أبي سعيد الخدري: أن علياً كرم الله وجهه (بعث إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصَّل من ترابها، فقسمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر،

____________

1- راجع: السنن الكبرى للنسائي ج3 ص35 وج5 ص218 ومسند أحمد ج4 ص104 وسنن النسائي ج6 ص214 والآحاد والمثاني ج4 ص411 وج5 ص84 و 259 وصحيح ابن حبان ج16 ص297 والمعجم الكبير للطبراني ج7 ص52 ومسند الشاميين ج3 ص387 والأربعين في الجهاد لأبي الفرج المقرئ ص44 وموارد الظمآن ج5 ص205 وكنز العمال ج4 ص450 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص187 والطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص427 والتاريخ الكبير للبخاري ج4 ص70 وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص115 و 116 و 117 وتهذيب الكمال ج11 ص324 والدر المنثور ج6 ص47 وتفسير الآلوسي ج26 ص42.

٢٣٧

وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، وعلقمة بن غيلان (علاثة) (1) .

وهؤلاء من المؤلفة قلوبهم، الذين يهتمون لهذه الأمور.

مع ملاحظة: أن هذا الذهب لم يكن من الأموال العامة التي لا بد من تقسيمها بين أهلها ومستحقيها من المسلمين، وإنما هي مال خاص برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). وقد أراد أن يجعلها في خدمة هذا الدين، وكف الأذى عن أهله، وتوفير المنافع لهم بهذه الطريقة.

علي (عليه‌السلام ) في اليمن مرة أخرى:

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) قال: دعاني رسول

____________

1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص358 وراجع: الإصابة ج1 ص572 والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج5 ص158 والدر المنثور ج3 ص251 عن البخاري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والمحلى لابن حزم ج6 ص110 وج11 ص220 وعمدة القاري ج18 ص7 والبداية والنهاية ج5 ص123 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص206 ودعائم الإسلام ج1 ص260.

وراجع ايضاً: مستدرك الوسائل ج7 ص116 وبحار الأنوار ج93 ص70 وجامع أحاديث الشيعة ج8 ص235 و مسند أحمد ج3 ص4 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج5 ص110 وصحيح مسلم (ط دارالفكر) ج3 ص110 وشرح مسلم للنووي ج7 ص162 وفتح الباري ج8 ص53 وصفات الرب جل وعلا للواسطي ص13 وأحكام القرآن للجصاص ج3 ص160.

٢٣٨

الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم، فقلت له: يا رسول الله، إنهم قوم كثير، وأنا شاب حدث!

فقال لي: يا علي، إذا صرت بأعلى عقبة (أفيق) فناد بأعلى صوتك: يا شجر، يا مدر، يا ثرى، محمدٌ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقرؤكم السلام.

قال: فذهبت، فلما صرت بأعلى عقبة أفيق أشرفت على اليمن، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي، مشرعون أسنتهم، متنكبون قسيهم، شاهرون سلاحهم، فناديت بأعلى صوتي: يا شجر، يا مدر، يا ثرى، محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقرؤكم السلام.

قال: فلم يبق شجرة، ولا مدرة، ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد: وعلى محمد رسول الله وعليك السلام.

فاضطربت قوائم القوم، وارتعدت ركبهم، ووقع السلاح من أيديهم، وأقبلوا مسرعين، فأصلحت بينهم، وانصرفت(1) .

____________

1- بحار الأنوار ج17 ص371 وج21 ص362 وج41 ص252 وبصائر الدرجات ص145 و 146 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص521 و 523 والأمالي للصدوق ص293 وروضة الواعظين ص116 ومختصر بصائر الدرجات (ط المطبعة الحيدرية) ص14 والثاقب في المناقب ص69 والخرائج والجرائح ج2 ص492 ومدينة المعاجز ج1 ص416 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص299 وقصص الأنبياء للراوندي ص285 وغاية المرام ج5 ص255 وراجع: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج7 ص62 وتاريخ جرجان للسهمي ص387.

٢٣٩

ونقول:

هناك شكوك تراودنا حول هذه الرواية، فلاحظ ما يلي:

أولاً: إن عقبة أفيق كانت بين حوران وغور الأردن، فغور الأردن في أول العقبة التي تنزل منها إلى الغور، وهي عقبة طولها نحو ميلين(1) فهي شمالي المدينة..

أما اليمن فهي إلى الجنوب من المدينة، فكيف تقول الرواية: إن علياً (عليه‌السلام ) لما صار بأعلى عقبة أفيق أشرف على اليمن، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوهم؟!

ثانياً: هل يمكن أن يأتي أهل اليمن بأسرهم لاستقبال علي (عليه‌السلام ) بالسلاح ليحاربوه؟!

وهل هم مجتمعون عند عقبة أفيق؟!

وهل اليمن بمثابة قرية أو مدينة، يمكن أن تخرج على بكرة أبيها لمواجهة قادم؟!

ثالثاً: لم يكن هناك أية مشكلة بينهم وبين علي (عليه‌السلام ) ومن معه، بل هم قد اختلفوا فيما بينهم، وقد جاء علي (عليه‌السلام ) ليصلح بينهم، فدفع الله شرهم عنه بطريقة الكرامة والإعجاز..

فما معنى أن يتفق الفريقان المتنازعان على حرب من جاء ليصلح

____________

1- معجم البلدان ج1 ص233 وراجع: ج4 ص286 وبحار الأنوار ج21 ص363 وراجع: تاج العروس ج13 ص7 و413.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303