أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92560
تحميل: 8416

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92560 / تحميل: 8416
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من هنا ينبغي أن نستنتج أنَّ تحقّق العدم في الخارج أمر نسبي، أي جراء نسبة وجود متحقّق في ظرف معيّن إلى ظرف آخر يتحقّق العدم. مثلاً لا يمكننا القول: " إنَّ (س) الموجود بالأمس غير موجود أمس "، ولكن يمكننا القول: " إنَّ (س) الموجود بالأمس غير موجود غداً " أو " إنّ (س) الموجود في هذه الغرفة غير موجود في الغرفة الأخرى ".

عالم الذهن، وليس أي منهما جزءاً أو عيناً للآخر، متّحدين في عالم الخارج، وأحدهما عين الآخر ؟

وفي الإجابة على هذا الاستفهام طرح بحث انتزاعية الوجود، وأنَّ الوجود من المعقولات الثانية، وطرحت الأدلّة على أنَّ الوجود مفهوم انتزاعي، وأنَّ المفاهيم الانتزاعية ليس لها ما بإزاء خارجي غير منشأ انتزاعها، وفي هذه المرحلة طرحت قضية انتزاعية الوجود واعتباريته. لقد أقام شيخ الإشراق في حكمة الإشراق أدلة كثيرة على أنَّ الوجود مفهوم اعتباري وانتزاعي. على أنَّ شيخ الإشراق ـ كما تقدّم ـ طرح هذا البحث تحت عنوان زيادة الوجود على الماهية في عالم الخارج، وليس تحت عنوان أصالة الوجود وأصالة الماهية. فالبحث في هذه المرحلة لا يزال دائراً حول أنَّ الوجود في عالم الخارج ليس أمراً مضافاً إلى الماهية ؛ لأنَّه أمر اعتباري.

وكان التصوّر السائد آنذاك هو أنَّ القول بعدم اعتبارية وانتزاعية الوجود يستلزم زيادة الوجود على الماهية في عالم الخارج، أي أنَّ هذه المسألة لم تطرح ولم تفهم آنذاك على أساس دوران الأمر بين أصالة الماهية وأصالة الوجود.

ثمّ اتخذ البحث في مرحلة لاحقة طابعاً أكثر دقّة، وهي مرحلة محمّد

٨١

إيضاح:

للعالِم الشهير لافوازييه فرضية تقول: " الموجود لا يعدم والمعدوم لا يوجد ". وهذه الفرضية تختلف مفهوماً عن النظرية التي تقدمت ؛ إذ أفاد لافوازييه فرضيته من الأبحاث المادية، وهو يمارس بحثه في العلوم

باقر الداماد المتوفّى عام ١٠٤٠ هـ.

طرحت الملازمة ـ في مرحلة الداماد ـ بشكل آخر: إذا كان الوجود أمراً حقيقياً وليس اعتبارياً لا يلزم منه زيادة الوجود على الماهية في الخارج، بل يلزم منه أن تكون الماهية أمراً ذهنياً اعتبارياً. وفي هذه المرحلة طرحت إشكالية أصالة الوجود أو الماهية بشكل فنّي، كما هو قائم اليوم. وتبنّى المحقّق الداماد ذاته نظريّته أصالة الماهية، ودافع عن أصالة الماهية في عالم التحقّق والجعل ـ كما يسمّيه ـ. ثمّ جاءت مرحلة تلميذه صدر المتألهين، فتبنّى في مطلع حياته الفكرية نظرية أُستاذه، لكنّه آمن في مرحلة لاحقةٍ بعدم إمكانية قبول نظرية أصالة الماهية. وانتهى إلى أنَّ أصالة الوجود هي النظرية التي يمكن الدفاع عنها وإقامة البراهين عليها، مضافاً إلى معالجة المشكلات الفلسفية الكبرى على أساسها.

أقام صدر المتألهين براهينَ كثيرة على نظرية أصالة الوجود. ثمّ أضحت هذه النظرية مسلّمة يقينية لا تقبل الشك، ولعبت دوراً كبيراً في تغيير مصير الفلسفة، بحكم ما لها من أهمية.

اتّضح ـ إذن ـ أنَّ بحث الاشتراك المعنوي للوجود هو البحث الوحيد الذي طرحه أرسطو في " ما بعد الطبيعة "، ثمّ طرح في القرن الثالث والرابع الهجري مقابل مذاهب المتكلّمين بحث (زيادة الوجود على الماهية )، ثمّ طرح

٨٢

المادية، والمادة موضوع هذه العلوم. ومن ثمّ اعتبر المادة مساوية للوجود. واتّجه لتفسير جميع الاختلافات الخارجية صوب تحليل وتجزئة الأجسام من الزاوية المادية، وبحكم الوحدة النوعية للمادة أشارت تحليلاته العلمية بالضرورة إلى وحدة المادة في جميع موارد الاختلاف. ومن هنا

بعد ذلك البحث حول أنَّ الوجود الذاتي ليس بماهية، أي ليس جزءاً للماهية ( وقد بحث هذا الموضوع ابن سينا ). ثمّ انصبت الأنظار على موضوع عينية ومغايرة الوجود للماهية في عالم الخارج ( وتستفاد هذه الظاهرة عبر كلمات ابن سينا أيضاً ). ثمّ طرح البحث في اعتبارية وانتزاعية الوجود، دون الإلتفات إلى الملازمة بين اعتبارية الوجود وأصالة الماهية، وبين اعتبارية الماهية وأصالة الوجود ( كما يستفاد ذلك من بحوث شيخ الإشراق ). ثمّ طرح بشكلٍ فنّي في مرحلة المحقق الداماد البحث عن أصالة الوجود وأصالة الماهية، وأضحت نظرية أصالة الوجود نظرية يقينية مسلمة بواسطة صدر المتألهين.

لقد اندهش صدر المتألهين اندهاشاً شديداً ممّا طرحه شيخ الإشراق، فهو يذهب إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود من جهة، ومن جهة أُخرى يطرح أفكاراً تحت عنوان "النور " لا علاقة لها مع أصالة الماهية، ولا تنسجم معها. بل ما طرحه حول حقيقة النور من أفكار هي عين ما يمكن لفيلسوف مؤمنٍ بأصالة الوجود أن يطرحه بشأن حقيقة الوجود.

لكنّ الإنصاف هو: أنّ قراءة التحوّلات التي طرأت على البحث في مسائل الوجود، وكيفية تكاملها، يرفع بشكل طبيعي هذه الدهشة والتعجّب، إذ المفهوم الذي قصده شيخ الإشراق من انتزاعية الوجود يختلف عمّا يقصد من

٨٣

أرجع جميع الاختلافات إلى اختلاف تركيبات المادة، فوجد نوعاً واحداً في جميع الموارد " وحدة المادة "، وعلى هذا الأساس أقام فرضيته، إذن ؛ فمفهوم فرضيته سيكون: كلّ مادة أتت بصورة معينة بحكم تركيب خاص سوف تبقى بعد انحلال التركيب.

فإذا قلنا: هذه شجرة الصفصاف الموجودة اليوم لا تعدم. سوف يكون مفهوم هذه المقولة ـ في ضوء فرضية لافوازييه ـ ما يلي: إنَّ مادة معينة

أصالة الماهية، كما أنَّ الأفكار التي طرحها شيخ الإشراق، تبعاً لأسلافه، بشأن حقيقة النور تختلف عما يقصده الفيلسوف المؤمن بأصالة الوجود، وأنَّ الماهيات اعتبارات ذهنية.

على كلٍّ حالٍ فمن المسلّم أنَّ مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، بالشكل القائم اليوم لم تكن مطروحة لدى الحكماء المتقدّمين. فلو أغمضنا النظر عمّا ينسبه المتأخّرون، وحملناه على عدم الالتفات إلى تاريخ تطوّر المعرفة، وراجعنا بأنفسنا متون كتب الحكماء، وقارنا بين دراساتهم عبر مراحلها المختلفة فسوف تّتضح الحقيقة المتقدّمة بجلاء.

ينسب متأخّرو الحكماء بشكلٍ قطعي نظرية أصالة الوجود إلى المشّائين ؛ ولو كان المشاءون قائلين منذ القدم بمثل هذه النظرية فكان على ابن سينا الملقّب برئيس المشّائين أن يصرّح بهذه النظرية، أو ينقلها على الأقل، بينا ينسب كلّ باحثٍ لابن سينا نظريةً في هذا المجال. يقول صاحب المواقف في مسألة زيادة الوجود على الماهية، حيث يطرح فكرة انتزاعية الوجود: " فصرّح ابن سينا في الشفاء أنَّه من المعقولات الثانية، فليس له ما بإزاء في الخارج إلاّ منشأ انتزاعه وهي الماهيات، وهي معقولات أولية ".

٨٤

في ظل شروط معينة اتخذت صورة شجرة الصفصاف، إذن ؛ فبعد انحلال تركيب الشجرة تبقى المادة ولا تعدم. لكن الفيلسوف يفهم هذا المثال كالتالي: " إنّ شجرة الصفصاف بوجودها في ظل شروط معينة احتلت موقعاً من الزمان ( اليوم )، وبعدم الشروط سوف لا تحتل هذا الموقع ".

وهناك نظرية علمية أُخرى تكمل هذه الفرضية، حيث تقرر: " كلّ حادثة تقع في عالم الوجود لا تفنى إطلاقا ". وفي ضوء البيان المتقدّم يصبح مفهوم هذه النظرية هو: حيث إنَّ لكلّ فعل ردّ فعل، ورد الفعل ذاته

ويقول في بحث بداهة الوجود: " والحقّ عند الحكماء اتّصاف الوجود ونقيضه بالعدم وأنّه من المعقولات الثانية، التي لا وجود لها في الخارج، وما لا وجود له فهو معدوم، إذ لا واسطة ".

ولو كان المشاءون قائلين بأصالة الوجود، وقد طرحوا نظريّتهم بشكلٍ فنّي، فلا يمكن أن يستنبط صاحب المواقف أنَّ جميع الحكماء يذهبون إلى انتزاعية الوجود، بل صدر المتألهين نفسه يقول في الأسفار:

" وإني قد كنت شديد الذبّ في اعتبارية الوجود وتأصّل الماهيات حتى أنّ هداني ربّي وانكشف لي انكشافاً بيناً أنّ الأمر بعكس ذلك، وهو أنَّ الوجودات هي الحقائق المتأصّلة الواقعة في العين "

وقد تابع صدر المتألهين بعد ذهابه إلى نظرية أصالة الوجود منهجه السابق في الدفاع بشدّة عن القدماء. وذهب إلى أنّهم جميعاً مؤمنون بأصالة الوجود، ويستشهد ببعض كلماتهم التي يشمّ منها القول بأصالة الوجود. وهذا بذاته دليل واضح على ما قلناه ؛ إذ لو كانت مسألة أصالة الوجود نظير بعض المسائل الأُخرى، التي طرحت لدى القدماء لم يتمكّن صدر المتألهين، وهو

٨٥

فعل، وله رد فعل آخر، وهكذا... فعبر التحويل العكسي يمكن الوصول إلى الحادثة الأولى، أي الحادثة المشابه للحادثة المنصرمة ( لا عينها )، وإلاّ فالشروط الزمانية والمكانية لكلّ حادثة يجب أن تلغى، وفي هذه الحالة يلغى ناموس العلية، وينتهي نظام الخارج والذهن. هذا هو الإيضاح الذي يمكن للفلسفة أن تطرحه فحسب.

يبنى نظريتين متضادتين، من العثور في زمانيين على نظريّتين متضادتين، وينسبهما إلى الحكماء.

على أيّ حال فمن المقطوع به أنَّ مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، ومسألة الوحدة والكثرة، لم تطرحا كمسألتين واضحتين في حدودهما ومقدّماتهما ونتائجهما لدى القدماء. إنَّما هناك بعض عبارات الحكماء، التي يمكن وضع اليد عليها، ككلمات ابن سينا ونصير الدين الطوسي توحي بفكرة أصالة الوجود. لكن ملاحظة سائر نظريّاتهم في المسائل الأُخرى توضح بجلاء أنَّ هؤلاء لم يلتفتوا لجميع المقدّمات والنتائج المترتبة على القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية.

تنبغي الإشارة هنا إلى أنَّ العرفاء على طول تاريخ البحث في الوجود سلكوا طريقاً آخر في بحثهم عن الوجود. فالعرفاء لا ينظرون إلى الوجود كمفهوم اعتباري انتزاعي، بل الوجود هو الحقيقة الوحيدة لديهم. على أنَّ كلام العرفاء يقوم على أُسسٍ أُخرى تنطلق من الكشف والشهود، أي أنَّ العرفاء لم يكن لديهم بحث عقلي تحت عنوان أصالة الوجود أو الماهية، بل كانت لهم كلمات تنسجم مع نظرية أصالة الوجود. إنّما استلهم صدر الدين الشيرازي ( الذاهب إلى نظرية أصالة الوجود، والذي أقام عليها البراهين

٨٦

ولكن اذا كان هناك من يقول إنَّ مادة أي مركب من المادة والصورة تبقى حتى بعد انحلال المركب، وإنّ كل حادثة حصلت تحت ظل شروط مكانية وزمانية معينة تبقى موجودة حتى بعد تغير الشروط، فمثل هذا الشخص عليه أن يقرَّ بأنّ كلّ شيء هو كلّ شيء، وليس للفلسفة كلام مع هذا الطراز من المفكرين، بل تعده أوطأ من السوفسطائي الحقيقي، إذ السوفسطائي يميز بين الأفكار على الأقل، بينا لا يتمتّع هذا الشخص حتى بهذه الصفة. فإذا طلب مثل هذا الشخص ماءً فجوابه ركوب الفرس، وإذا طلب خبزاً فجوابه الهرولة ؛ لأنَّ كل شيء مساوٍ لكل شيء.

الفلسفية والعقلية ) نظريات العرفاء ؛ فهو الذي عثر على أساس عقلي وفلسفي لنظرية العرفاء. كما أسس أُسساً عقلية وفلسفية في كثيرٍ من المواضيعِ تؤيد نظريّات العرفاء.

من هنا فلا يمكن اعتبار صدر المتألهين مبتكر نظرية أصالة الوجود، إنّما هو الشخص الأَوّل الذي أعطى لهذه النظرية طابعاً يقينياً فلسفياً، وعثر على مبادئها، وأفاد من نتائجها في حدود كبيرة.

اتّضح في ضوء مجموع ما تقدّم: أنَّ مسائل الوجود، وخصوصاً المسألتين الأساسيتين " مسألة أصالة الوجود، وتشكيك الوجود " تتكئ على نظرية العرفاء من جهة، ومن جهة أُخرى تتكئ على مقارعة نظريات المتكلّمين، أكثر من اعتمادها على نظريات الفلسفة اليونانية القديمة.

انتهينا حتى الآن من قراءة تأريخية مختصرة لتطوّر أبحاث الوجود. وإذا أردنا لهذه القراءة أن تكون دقيقة وموثقة بأقوال الفلاسفة على مرّ العصور فسوف يكون البحث طويلاً جداً. وأنا عازم على إنجاز دراسة تحت

٨٧

رابعاً ـ في ضوء النتيجة الثالثة يصبح مطلق واقع الوجود ـ على أي فرض ـ لا يقبل العدم، أي أنَّ حقيقة الوجود ضرورية الوجود. على أنَّ التأمل في هذه النظرية يطرح الاستفهام التالي:

هل الضرورة خصوصية ذاتية للوجود أم تأتيه من محل آخر ؟ وللحصول على الإجابة التفصيلية على هذا الاستفهام ينبغي انتظار المقالة القادمة.

النظريات التي ثبتت عبر هذه المقالة:

١ ـ نثبت واقعية الوجود لكلّ الأشياء بمعنى واحد.

عنوان " تطوّر المنطق والفلسفة في الإسلام " لأتُابع فيها أبحاث الفلسفة والمنطق كلاً على انفراد، واحدد ما هو ميراث يوناني، وما جاء إضافة عليه. ضمن تقويم فلسفي للنظريات. وقد أنجزت مقدمات هذا المشروع إلى حدٍ كبير، وانتهيت من تدوين معلومات مفيدة في هذا المجال. وما تقدّم عرضه باختصار حول تطور مسائل الوجود نموذج لما أنوي إنجازه. وأنا على يقين بأنَّ دراسة هذا الموضوع الجديد تكشف عن حقائق كثيرة.

ونشير أخيراً إلى بعض الأفكار المرتبطة بهذا الموضوع، والتي لا مجال لتفصيل البحث حولها هنا. كموضوع نسبة نظرية تشكيك الوجود إلى حكماء إيران القدامى " الفهلويين ". وكنسبة هذه النظرية إلى الأفلاطونية المحدثة، وعلى وجه التحديد إلى إفلوطين بالذات. وكدراسة وتحليل بحث جديد طرح في أُوربا تحت اسم " الوجودية "، حيث يوسم بأصالة الوجود. آملاًّ التوفيق لدراسة هذه المواضيع في مجالٍ آخر.

٨٨

٢ ـ مفهوم الواقع مغاير لمفهوم كل واحد من الموجودات الواقعية.

٣ ـ ننتزع من الواقعيات الخارجية مفهومين مختلفين: الوجود، والماهية.

٤ ـ الأصالة في عالم الخارج حظ الوجود، والماهية اعتبارية ذهنية.

٥ ـ لا نستطيع إدراك حقيقة الوجود، أي بالواسطة.

٦ ـ واقعية الوجود معلومة بالذات.

٧ ـ الوجود حقيقة تشكيكية.

٨ ـ الخواص الذهنية للماهيات لا تصدق على الوجود.

٩ ـ الخواص الخارجية للماهيات ترتد إلى الوجود، لكنها تظهر في عالمه بنحو آخر.

١٠ ـ الموجود لا يعدم على أي حال.

١١ ـ تحقّق العدم في الخارج أمر نسبي.

١٢ ـ مطلق الوجود لا يقبل الزوال والعدم.

٨٩

٩٠

المقالة الثامنة:

الضرورة والإمكان

٩١

٩٢

المقدّمة

يطرحُ الفلاسفة على طول تاريخ الحكمة هذه الإشكالية: هل نظام العالم نظام ضروري ووجوبي ؟ أي: هل ما يوجد في هذا العالم من موجودات يوجد بحكم الضرورة ولا يمكن أن لا يوجد، أم أنَّ ما يوجد في مرتبة وظرف خاص لا مانع من أن لا يوجد، وليست هناك أيُ ضرورة ووجوب في البين ؟ وإذا كان نظام العالم نظاماً وجوبياً وضرورياً فمن أين تنشأ هذه الضرورة ؟

إنَّ البحث في طبيعة نظام الوجود، وهل هو نظام ضروري أو لا ؟ أنتج بحثاً خاصا في الفلسفة يتفرّعُ إلى مجموعة أبحاث تحت عنوان " البحث في المواد العقلية الثلاث " حيث يتناول البحث في أطراف الوجوب والإمكان والامتناع. وقد تناول البحثُ هذه المواد العقلية الثلاث من زوايا مختلفة، وطُرِحتْ في هذا المجال بحوث كثيرة. لكنَّ هناك بحوثاً مفيدة ومهمة لم تطرح في هذا المجال. وسوف نعكف على بيان بعض هذه البحوث المرتبطة بشكل مباشر مع موضوع هذه المقالة، ونغمضُ النظر عمّا سواها.

تناولَ متن هذه المقالة البحثَ في الضرورة والإمكان بطريقة خاصة به، وهذه الطريقة رغم اعتمادها على مسلَّمات تمّ بحثها في المقالة السابعة، وهي موضوع اتفاق كافة أتباع الحكمة المتعالية، لكن نهج هذه المقالة في استنباط أحكام الضرورة والإمكان في ضوء أبحاث الوجود، وخصوصا بحث أصالة الوجود، نهج غير مألوف وتختص به هذه المقالة. مضافاً إلى أنَّ

٩٣

الأفكار المطروحة في هذه المقالة مختزلة جداً ؛ ومن هنا يمكن أن يكون نهج وطريقة البحث في قضايا الضرورة والإمكان في هذه المقالة غريباً، وغير مفهوم حتى لدى المطّلعين على هذه البحوث.

من هنا سوف نتناول في هذه المقدمة مجموعة القضايا والأفكار، التي اتخذتها المقالة مسلّمات، وأشارت إليها باختصار في المتن، مضافاً إلى تناول بعض الأفكار الضرورية الأخرى، وسنشفع ذلك بإيضاحات مختصرة في هوامش المقالة ذاتها، وبهذا سوف تتّضح بجلاء الأفكار المطروحة في متن هذه المقالة.

تشتمل هذه المقدّمة على الفقرات التالية:

١ ـ مفهوم الضرورة والإمكان.

٢ ـ الضرورة والإمكان مفهومان عقليان وليسا حسّيين.

٣ ـ هل ينتمي بحث ضرورة نظام الوجود أو عدم ضرورته إلى حقل الأبحاث العلمية، أم ينتمي إلى حقل الأبحاث الفلسفية ؟

٤ ـ منشأ الضرورة والإمكان.

٥ ـ قانون العلية والمعلولية.

٦ ـ العلّة تعطي المعلول الضرورة " الجبر العلّي ".

٧ ـ حاجة المعلول إلى العلة في البقاء.

٨ ـ الضرورة بالذات وبالغير.

٩ ـ الضرورة الذاتية المنطقية والضرورة الذاتية الفلسفية.

١٠ ـ تفسير نظام الوجود.

١١ ـ أصالة الوجود الضرورة والإمكان.

١٢ ـ الموجود لا يعدم.

٩٤

مفهوم الضرورة والإمكان:

الضرورة والإمكان من المفاهيم التي لا تحتاج إلى تعريف وإيضاح. إذا كان هناك مفهوم مبهم ومجمل علينا أن نتوسل بُغية إيضاحه بتعريفه، أما إذا كان غير مبهم وغير مجمل سوف يكون مستغنياً عن التعريف والإيضاح. إنَّ التعريف يعني التوفّر على معرفة ذات الشيء، ويتمّ ذلك بتحليل مفهوم الشيء إلى عناصره الأولية الذهنية، كما أنّ معرفة أجزاء وعناصر المركبات الخارجية تتم بالتجزئة العلمية والموضوعية. أي أنَّ التعريف هو تحليل وتجزئة مفهوم الشيء عقلانياً ؛ ومن هنا يصدق التعريف في مورد المفاهيم المركبة، أمّا المفاهيم البسيطة التي تشكّل العناصر الأولية للتصوّرات الذهنية فهي لا تقبل التعريف، ومن المحتم أنَّ هذه العناصر بديهية التصور ومتستغنية عن التعريف ؛ لأنَّ الإبهام في المفاهيم الذهنية البسيطة لا معنى له.

إيضاح ذلك: كما تقدّم في المقالة الرابعة والخامسة فإنَّ كلّ صورة ذهنية تتطابق بالذات مع واقعية من الواقعيات تسمى علماً، وتلك الواقعية الخارجية تسمّى معلوماً. والعلم هو انكشاف المعلوم للعالم، ولا طريقَ للإبهام والإجمال في العلم من حيث هو علم. الأمر المطروح هنا هو إذا كان المفهوم والصورة الذهنية مركباً فيجب ـ وفق قواعد المنطق ـ أن يكون مركباً من جزء أعم ( وهو ما به الاشتراك مع أشياء عديدة أخرى ) ومن جزء آخر مساوٍ للمفهوم ومختص به.

يتم تشخيص وتمييز الشيء عن غيره بواسطة الجزء المختص، ويصطلح على هذا التمييز ( المعرفة )، ويطلق أحيانا على العلم الأولي والانطباع الأولي للصورة الذي هو معلول لتعامل الذهن مع الواقع مصطلح

٩٥

( المعرفة الإجمالية ). أمّا تمييز وتشخيص الشيء، الذي يتمّ عبر التحليل الذهني لأجزائه وتشخيص ما به الاشتراك عما به الامتياز، فيصطلح عليه ( المعرفة التفصيلية ). وعلى أيّ حال فالمعرفة هي التعريف والتمييز، على أنَّ المفهوم والصورة الذهنية يتطلّب التعريف حينما يكون له وجه اشتراك مع الأشياء الأخرى، فيكون التوفّر على وجه الاختصاص والامتياز محصّلاً للمعرفة. أمّا إذا كان المفهوم بسيطاً بالذات، يختلف عن سائر المفاهيم الأخرى، ويتميّز بالذات عنها، فالمعرفة به تحصل بالذات حتماً.

من هنا فالعناصر الذهنية البسيطة أمّا أن لا تعرض على الذهن، وليس للذهن أي معرفة بها، وأمّا أَن تعرّض على الذهن، وهي واضحة بديهية عارية عن كلّ إبهام وإجمال.

الضرورة والإمكان وسائر المفاهيم الفلسفية العامة، نظير مفهوم الوجود والعدم والوحدة والكثرة والعلية والمعلولية، مفاهيم بسيطة. ولو كانت مركبة وجب أن تتألّف من جزء أعم ( الجنس ) وجزء مساوٍ ( الفصل )، ومن الواضح أنَّ فرض وجود جزء أعم في هذه المفاهيم يتنافى مع عموميتها. من هنا فمفهوم الضرورة والإمكان لا يقبل التعريف ومستغنٍ عنه بحكم البرهان.

لسنا بحاجة إلى إقامة برهان على إثبات استغناء مفهومي الضرورة والإمكان عن التعريف. فحينما يراجع كل فرد وجدانه يجد صورة واضحة جليلة لهذين المفهومين. لكلّ واحد منا أحكام قطعية ويقينية، فكلّ واحد منّا مثلاً يعرف أنَّ حاصل ضرب العدد خمسة في أربعة يساوي عشرين، فنحن على يقين من هذه النتيجة، ونعتقد أنَّ خلافها محال وممتنع ؛ إذن فنحن نرى أنَّ حاصل ضرب الأربعة في خمسة يساوي عشرين بالضرورة، وما لم يكن

٩٦

الذهن متوفرا على مفهوم وتصور واضح للضرورة لا يمكنه أن يُصدر في هذا المثال حكماً.

إنَّ المفاهيم الفلسفية العامة بديهية التصور جميعا، وهذه المفاهيم تمثل الأدوات الأساسية للفكر البشري. فما لم يكن للبشر تصوّر عن الوجود والعدم والوجوب والإمكان والامتناع والوحدة والكثرة والعلّة والمعلول، لا يمكنه أن يفكّر بطريقة عقلية منطقية في أي موضوع من المواضيع. ولا يمكنه أن يقيم الدليل عليها. إنَّ الأمر خلافا لما يقوله عموم الفلاسفة في أنَّ ( الناطقية ) التي هي ميزة الإنسان عن سائر الحيوانات تنحصر في قوّة التجريد والتعميم الذهنية، بل تشمل التوفّر على هذه المفاهيم الفلسفية العامة التي هي معقولات ثانية ونتاج لنوع خاص من الفعالية الذهنية. على كلّ حال فنحن لا نحتاج إلى التعريف في مقام بيان مفهوم الضرورة والإمكان، ونكتفي في هذه الموارد بتنبيه الذهن وإرجاعه إلى المرتكزات والوجدان.

الضرورة والإمكان مفهومان عقليان وليسا حسّيين:

من أيّ طريق ترد مفاهيم الضرورة والإمكان والامتناع إلى الذهن، وما هي القوة الذهنية المدركة لهذه المفاهيم، وعلى أي نسق ندركها، وكيف نحصل عليها، فهل يمكن تفسير هذه الظواهر على أساس حسّي كما زعم الحسّيون ؟ وما هو الدليل على أنَّ هذه المفاهيم يجب أن تعد مفاهيم فلسفية عامة ومعقولات ثانية ؟ وهل هناك دليل على أنَّ جميع الأذهان تدرك هذه المفاهيم بالضرورة أم لا ؟ الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تطرح في هذه المقالة. لكن نظرة بسيطة تكفينا لنفهم أنَّ أيّاً من هذه المفاهيم ليست حسّية، وإنّما هي معقولة.

٩٧

من البديهي أنَّ الضرورة التي تحكم جميع الموجودات ليست ظاهرة خاصة في عرض الظواهر الكونية الأخرى التي يمكن لمسها والإحساس بها. ونحن نتصوّر مفهوم الضرورة بشكل واضح دون أن نراه، ومن هنا فالعقل يدرك هذه الحقائق بأسلوب آخر. أثبتنا في المقالة الخامسة أنَّ العلية والمعلولية لا يمكن الإحساس بها، وأثبتنا أيضا أنَّ مفهوم الوجود لم يتوفّر الذهن عليه عن طريق الحس، إذن كيف يمكن أن تكون الضرورة التي هي من شؤون العلية، ومن شؤون الوجود بلحاظ آخر محسوسة لنا ؟! إنَّ تحديد هوية الضرورة والإمكان والامتناع، وهل هي حسية أم عقلية، سنفيد منه حينما نعكف على بيان أقسام الضرورة والإمكان، حيث سنوضح هناك أقساما أخرى للضرورة غير الضرورة العلية ؛ وحينما نواجَهُ بالاعتراض القائل بأنّنا لا نحس إلاّ بالضرورة العلية فسوف نجيب على هذا الاعتراض بأنَّنا لا نحس حتى بالضرورة العلية، وأنَّ جميع الضرورات والحتميات نعرفها عن طريق لون من التحليل العقلي.

هل هذا البحث بحث علمي أم فلسفي ؟

من الممكن أن يتوهّم أُولئك الذين لا يعرفون حدود الحس والعقل والعلم والفلسفة أنَّ هذا الموضوع يمكن معالجته عن طريق العلوم، ويطرحون لدعم هذا التوهم الحجة التالية: إنَّ كلّ علم يسير وفق مجموعة قضايا ضرورية وقوانين قطعية، فإذا أخذنا الكيمياء مثلاً فهي تقول لنا إنَّ التركيب " س " ينتج من المعادلة " ص "، فهذا يعني أنَّ هذه النتيجة ضرورية وحتمية. وإذا كشفت الفيزياء لنا عن خواص المادة والقوة وقوانين الحركة فهي توضح ذلك على نحو الضرورة والحتمية، والهندسة كذلك حينما توضح

٩٨

لنا خواص الأشكال، فهي تثبت هذه الخواص إثباتاً ضروريا يستحيل تخلّفهُ، من هنا يمكننا القول وفق معطيات العلوم إنَّ هناك مجموعة قواعد ضرورية ونواميس حتمية يسير عليها كل علم من العلوم، أو يمكننا القول على الأقل إنَّ العلوم تشير إلى وجود مجموعة أنظمة يقينية ونواميس حتمية تحكم الكون.

والجواب على الحجّة:

١ ـ إنَّ القارئ المحترم ـ في ضوء الإلتفات إلى ما طُرِحَ في المقالة الأُولى من التفرقة بين ميدان العلم والفلسفة ـ يعرف أنَّ طبيعة البحث العلمي تفترض دائماً موضوعاً، ثم تعكف على البحث في خواص هذا الموضوع. أما البحث عن وجود الموضوع وعدمه، وتحديد هوية وجوده على فرض وجوده فهو بحث تتعهّد به الفلسفة. ولا يستطيع العلم تناول هذا الموضوع بالبحث، ولو تناوله فسوف تتغير وسائله ونسق أًصوله الموضوعية ومنهجه، وبهذا يتحوّل إلى فنّ آخر وهو ما نسمّيه الفلسفة.

من هنا فنحن مضطرّون إلى استخدام المنهج الفلسفي في دراسة موضوع الضرورة والإمكان، وعلينا اتّخاذ الأُصول الموضوعية والمسلّمات الفلسفية أساساً في هذا البحث.

٢ ـ لو فرضنا أنَّ منهج العلوم الخاص يمكنه الوقوف على ضرورة ووجوب جزء من نظام الوجود سوف يكون محدوداً بحدود دائرة العلوم، التي تحدّد خواص شيءٍ أو أشياء معيّنة، وسوف ينحصر بحثنا في موضوعات محدودة، وهي الموضوعات التي تصل إلى يد العلم. أما دائرة التحقيق الفلسفي فبحكم كونها كلّية وعامة وشاملة فهي تشمل كلّ نظام الوجود، والقدر المتيقن هو أنَّ هذه المسألة إذا أمكن البحث فيها فهو منحصر في المنهج

٩٩

الفلسفي وإن لم يمكن البحث فيها فليس هناك طريق آخر.

٣ ـ صحيح أنَّ كل علم يطرح قواعده بطريقة حتمية وضرورية، لكنّه عاجز عن بيان تفسير هذه الضرورة والحتمية وتحديد منشئها ومنبعها. وهذا العجز واضح في العلوم التجريبية ؛ لأنَّ أقصى ما يمكن أن يقال بشأن الفرضية والنظرية العلمية هو أنَّ الحس والتجربة المكررة تؤيّد هذه الفرضية. فالحسّ والتجربة يؤكّد وقوع هذه الفرضية في عالم الطبيعة، أما لِمَ وعلى أيِّ أساس تكون هذه الفرضية حتمية، ويستحيل نقيضها ؟! فهو أمر خارج عن حدود الحس والتجربة، ولا بد من التوسّل بنوع آخر من الأدلة، وهي الأدلة الفلسفية.

والواقع أنَّ جميع العلوم وخصوصاً العلوم الطبيعية تطرح قضاياها استنادا إلى مصادرة، هذه المصادرة هي عبارة عن ( ضرورة نظام الوجود ). وهذه المصادرة تتّخذ في العلوم بمثابة أصل موضوعي، وهي جزء أساسي من قضايا الفلسفة. وهذه هي إحدى الجهات التي تحتاج فيها العلوم إلى الفلسفة، حيث أشرنا إليها في المقالة الأُولى إجمالاً. فإذا لم نستطع في البحث العقلي أن نثبت ضرورة نظام الوجود، وأن نحدد منبع هذه الضرورة، فسوف لا يمكننا أن نعتبر قضايا العلوم قضايا ضرورية ويقينية، بل لا يمكننا أن نعتبرها قانوناً علمياً ؛ لأنَّ القانون العلمي يكتسب طابع القانون حينما يتلقاه الذهن بشكل يقيني وحتمي، وإلاّ فليس هناك أي فرق بين القانون العلمي والفرض الاحتمالي. إذن ينحصر تحديد منشأ الضرورة والوجوب وتفسير هذه المقولة بالمنهج العقلي الفلسفي.

١٠٠