تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني15%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135111 / تحميل: 11810
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

المقصد الثاني

وهو يشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الرَّكْب الحسيني أرض الشام

ويكون على فصلين:

الفصل الأول

الركب الحسينيّ في الكوفة

٨١

٨٢

الفصل الأول

« الرَّكْب الحسينيّ في الكوفة »

الرأس المقدّس يسبق الركْب إلى الكوفة:

مرّ بنا أنّ الطبري من المؤرّخين الذين رووا أنّ عمر بن سعد أرسل برأس الإمامعليه‌السلام - بعد قتله مباشرة - مع خولّي بن يزيد، وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله ابن زياد، لكنّه حينما يواصل روايته(١) . يقول: (فأقبل به خولّي، فأراد القصر فوجد باب القصر مُغلقاً، فأتى منزله(٢) ، فوضعه تحت أُجانه في منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد، والأُخرى من الحضرميين، يُقال لها: النوّار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثني أبي، عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين فوضعه تحت أُجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت:

____________________

(١) تُلاحَظ هنا ثغرة تأريخية؛ إذ لا نعلم كيف انفرد خولّي بالرأس، وكيف اختفى حميد بن مسلم الأزدي عن مسرح قصّة حمْل الرأس إلى ابن زياد!

(٢) وكان منزله على فرسخ من الكوفة. (راجع مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٣٠٤، ورياض الأحزان: ١٦).

٨٣

فقلت: ويلَك! جاء الناس بالذهب والفضّة، وجئت برأس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! لا والله، لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداً!

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلست انظر، فوالله، ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأُجانة! ورأيت طيراً بيضاً تُرفرف حولها!

قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد ...)(١).

أمّا السيّد هاشم البحراني فيقول: (إنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله، بعدما عُرِض عليه رأس الحسينعليه‌السلام ، دعا بخولّي بن يزيد الأصبحي وقال له: خُذْ هذا الرأس حتّى أسألك عنه.

فقال: سمعاً وطاعة.

فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان، إحداهما ثعلبية، والأُخرى مُضَرية، فدخل على المضريّة، فقالت: ما هذا؟!

فقال: هذا رأس الحسين بن عليّ وفيه مُلك الدنيا!

فقالت له: أبشِر! فإنّ خصمك غداً جدّه محمّد المصطفى!

ثم قالت: والله، لا كنت لي ببعْل، ولا أنا لك بأهل! ثمّ أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه!

فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية، فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟

قال: هذا رأس خارجيّ، خرج على عبيد الله بن زياد.

فقالت: وما اسمه؟

فأبى أن يُخبرها ما اسمه، ثمّ تركه على التراب وجعل عليه أُجانة.

قال: فخرجت امرأته في الليل، فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء! فجاءت إلى الأجانة، فسمعت أنيناً وهو يقرأ! إلى طلوع الفجر! وكان آخر ما قرأ:

____________________

(١) تأريخ الطبري: ٣: ٣٣٥.

٨٤

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ، وسمعت حول الرأس دويّاً كدويّ الرعد! فعلمت أنّه تسبيح الملائكة!

فجاءت إلى بعْلها وقالت: رأيت كذا وكذا، فأيّ شيء تحت الأجانة؟!

فقال: رأس خارجي، فقتله الأمير عبيد الله بن زياد، وأُريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية؛ ليُعطيني عليه مالاً كثيراً!

قالت: ومَن هو؟!

قال: الحسين بن عليّ!

فصاحت وخرّت مغشيّة عليها! فلما أفاقت قالت: يا ويلك! يا شرّ المجوس! لقد آذيت محمّداً في عترته! أما خفت من إله الأرض والسماء؛ حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيّدة نساء العالمين؟!

ثمّ خرجت من عنده باكية، فلما قامت رفعت الرأس وقبّلته ووضعته في حِجْرها وجعلت تُقبّله وتقول: لعن الله قاتلك! وخصمه جدّك المصطفى!

فلما جَنّ الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنّ البيت قد انشقّ بنصفين وغشيَه نور! فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حِجْرها وبكَتا!

قالت: فقلت لهما: بالله، مَن أنتما؟

قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد! وهذه ابنتي فاطمة الزهراء! ولقد شكرناك، وشكر الله لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنّة!

قال: فانتبهت من النوم والرأس في حِجرها، فلما أصبح الصبح جاء بعْلُها لأخذ الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك! طلّقني! فوالله، لا جمعني وإيّاك بيت!

فقال: ادفعي لي الرأس وافعلي ما شئت!

فقالت: لا والله، لا أدفعه إليك!

٨٥

فقتلها وأخذ الرأس، فعجّل الله بروحها إلى الجنّة في جوار سيّدة النساء)(١).

منازل الطريق من كربلاء إلى الكوفة (٢) :

لم نجد في المصادر التأريخيّة - في ضوء مُتابعتنا - ذكراً وتفصيلاً لما جرى على الركب الحسيني في الطريق بين كربلاء والكوفة، غير أنّ هناك خبراً كاشفاً، عن أنّ (الحنّانة) كانت أحد هذه المنازل، يقول الشهيد الأوّل (ره): (فإذا نزلتَ الثويّة، وهي الآن تلّ بقُرب الحنّانة، عن يسار الطريق لمن يقصد من الكوفة إلى المشهد، فصلّ عندها ركعتين، كما روي أنّ جماعة من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام دُفنوا هناك، وقُلْ ما تقوله عند رؤية القبّة الشريفة، فإذا بلغت العَلَمَ وهي الحنّانة، فصلّ ركعتين، فقد روى محمّد بن أبي عمير، عن المفضّل قال: جاز الصادقعليه‌السلام بالقائم المائل في طريق الغريّ فصلّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢٤ رقم ١٨٥، وانظر: ص١١٤، وهذه الرواية بهذا النحو رواها المرحوم السيّد البحراني مُرسلة، ولعلّه قد انفرد بها.

(٢) قال البراقي: كانت الكوفة واسعة كبيرة تتّصل قُراها وجباباتها إلى الفرات الأصلي وقُرى العذار، فهي تبلغ ستّة عشر ميلاً وثُلُثي ميل.

وقال البراقي أيضاً: أحد حدودها خندق الكوفة المعروف (بكري سعد)، والحدّ الآخر القاضي الذي هو بقرب القائم إلى أن يصل قريباً من القرية المعروفة اليوم بـ (الشنافيّة)، والحدّ الآخر الفرات، الذي هو مُمتدّ من الديوانية إلى الحسكة إلى القرية المعروفة اليوم بـ (أبو قوارير) وهي منزل الرماحيّة، والحدّ الرابع قرى العذار التي هي من نواحي الحلّة السيفيّة. (راجع: تاريخ الكوفة: ١٣٤).

وقال ياقوت الحموي: ذكر أنّ فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة آلاف دار لليمن. (مُعجم البلدان: ٤: ٤٩٢).

٨٦

فقال:(هذا موضع رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، وضعوه هاهنا لما توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه ...) (١) .

وقال الشيخ محمّد مهدي الحائري: (وقال المرحوم - وحيد عصره - شيخنا النوري نوّر الله مضجعه: إنّه كان قريباً من النجف الأشرف ميل من الجص والآجر، ويقال له: القائم. ويسمّونه: بالعَلَمْ. فلما قُبض أمير المؤمنينعليه‌السلام وجاءوا إلى النجف الأشرف، فلما وصلوا إلى العَلَم والقائم انحنى تعظيماً لأمير المؤمنين كالراكع فسمّوه بالحنّانة، وزيد في شرفه أنّه لما جيء برأس الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة ووصل هناك وقد مضى من الليل شطره، فوضع اللعين الحامل الرأس المبارك في ذلك المقام، وهذا أوّل منزل نزل به رأس الحسينعليه‌السلام في طريق الكوفة، بقي غريباً وحيداً في ذلك المقام، ثمّ بنوا مسجداً في ذلك المكان وسُمِّي بمسجد الحنّانة، ويُستحب فيه الدعاء والزيارة وقيل: سُمّي بالحنانة؛ لأنّه لما وضِع رأس الحسينعليه‌السلام في ذلك الموضع سُمِع من الرأس الشريف حنين وأنين إلى الصباح، والله العالم)(٢) .

بقيّة الركب الحسينيّ:

تفاوتت المصادر التأريخية في عدد الباقين من الركب الحسينيّ، وفي أسماء الأسرى منهم، حينما أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة، فقد قال ابن سعد في طبقاته: (ولم يفلت من أهل بيت الحسين بن عليّ الذين معه إلاّ خمسة نفر: عليّ بن

____________________

(١) المزار: ٦٩، وانظر: جواهر الكلام: ٢٠: ٩٣.

(٢) معالى السبطين: ٢: ٩٦.

٨٧

الحسين الأصغر، وهو أبو بقيّة وِلْد الحسين بن عليّ اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وحسن بن حسن بن عليّ،(١) وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولا بقيّة له، والقاسم بن عبد الله بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإنّ هؤلاء استُضعفوا، فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب، وفاطمة ابنتا عليّ بن أبي طالب، وفاطمة، وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف(٢) الكلبية امرأة الحسين بن علي، وهي أمّ سكينة وعبد الله المقتول ابنَي الحسين بن علي، وأمّ محمّد بنت حسن بن عليّ امرأة عليّ بن حسين، وموالي لهم ومماليك عبيد وإماء، قدم بهم على عبيد الله بن زياد مع رأس الحسين بن علي ورؤوس مَن قُتِل معه رضي الله عنه وعنهم)(٣) .

وقال الطبري: (وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته

____________________

(١) قال السيّد ابن طاووس (ره): (وروى مُصنِّف كتاب المصابيح: أنّ الحسن بن الحسن المثنّى قَتل بين يدي عمّه الحسينعليه‌السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً، وأصابته ثماني عشرة جراحة، فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة، فحمله إلى الكوفة وداواه حتّى برئ وحملَه إلى المدينة) (راجع: اللهوف: ١٩١).

ومفاد ظاهر هذا الخبر، أنّ الحسن المثنّى لم يكن مع الأسرى في الركب الحسينيّ، الذين أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة.

(٢) المشهور أنّ الربابّ بنت امرئ القيس.

(٣) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ومقتله / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي (ره): ص٧٨، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: ٣: ٣٠٣ في نقله عن طبقات ابن سعد. وانظر: تسمية مَن قُتِل مع الحسينعليه‌السلام : ١٥٧.

٨٨

ومَن كان معه من الصبيان وعليّ بن الحسين مريض)(١) .

وفي مقاتل الطالبيين: (وحمل أهله أسرى، وفيهم عمرو، وزيد، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن عليّ قد ارتثّ جريحاً، فحُمل معهم، وعليّ بن الحسين الذي أمّه أمّ ولد، وزينب العقيلة، وأمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين ...)(٢) .

وقال الشيخ عماد الدين الطبري في كامل البهائي: (وكنّ جميعهنّ عشرين نسوة، وكان لزين العابدين في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، ولمحمّد الباقر أربع، وكانا كلاهما في كربلاء وحفظهما الله تعالى)(٣) .

ويُستفاد من (الفائدة الثالثة) التي ذكرها المحقِّق السماوي في كتابه إبصار العين: أنّ زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلمانيرضي‌الله‌عنه كانت في الركب الحسيني أيضاً، وهي أمّ الشهيد عمرو بن جنادةرضي‌الله‌عنه الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه (٤) في هذا الركب، وأمّ الشهيد وهب الذي كان نصرانيّاًرضي‌الله‌عنه (٥) ، وآخرون قد يكشف عنهم التحقيق الدقيق.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٦، ومقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٤، ومُثير الأحزان: ٨٣ وفيه أيضاً في ص ٩٨: (قال علي بن الحسينعليه‌السلام :(أُدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغلَّلون ...) .

(٢) مقاتل الطالبيين: ١١٩، وانظر: اللهوف: ١٩١، وانظر: تاريخ أبي الفداء: ١: ٢٦٦ وفيه: (ثمّ بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء والأطفال إلى يزيد بن معاوية وفيهنّ ابنة عقيل بن أبي طالب ...).

(٣) الكامل البهائي لعماد الدين الطبري: ٢٩٠.

(٤) راجع: إبصار العين: ٢٢٠.

(٥) راجع: أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

٨٩

متى دخل الركب الحسينيّ الكوفة؟

أكثر المصادر التأريخيّة، تذكر أنّ عمر بن سعد كان قد ارتحل من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر بعد الزوال، حاملاً معه بقايا الركب الحسينيّ، وفي ضوء حساب المسافة وسرعة الدوابّ في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر بن سعد ومَن معه يُمسون عند مشارف الكوفة أوّل الليل - أيّ ليلة الثاني عشر - هذا إذا كان قد جدّوا السير إلى الكوفة.

من هنا؛ فإنَّ الأرجح أنَّ الركب الحسينيّ قد بات ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد، في منزل من منازل الطريق القريبة جدّاً من الكوفة أو على مشارفها، والظاهر أنّ عمر بن سعد كان قد دخل الكوفة نهار اليوم الثاني عشر مع عسكره وبقيّة الركب الحسيني أسرى وسبايا، ودخوله الكوفة نهاراً لا ليلاً أمرٌ يقتضيه العامل الإعلامي، وزهو الانتصار، والمباهاة بالظفر، في صدر كلٍّ من ابن زياد وابن سعد وأعوانهما.

وهناك أيضاً إشارات تأريخية، تؤكِّد أنّ دخول عمر بن سعد الكوفة كان في النهار، منها: ما رواه سهل بن حبيب الشهرزوري قال: فدخلتُ الكوفة فوجدت الأسواق مُعطّلة، والدكاكين مُغلّقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حلقاً حلقاً، منهم مَن يبكي سرّاً، ومنهم مَن يضحك جهراً، فتقدّمت إلى شيخ منهم وقلت له: يا شيخ، ما نزل بكم؟! أراكم مُجتمعين كتائب! ألكم عيد لستُ أعرفه للمسلمين؟!

فأخذ بيدي وعدل بي ناحية عن الناس، وقال: يا سيّدي، ما لنا عيد! ثمّ بكى بحرقة ونحيب!

فقلت: أخبرني يرحمك الله؟!

قال: بسبب عسكرين أحدهما منصور، والآخر مهزوم مقهور!

فقلت: لمن هذان العسكران؟!

٩٠

فقال: عسكر ابن زياد، وهو ظافر منصور! وعسكر الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وهو مهزوم مكسور!

ثمّ قال: وا حرقتاه! أن يدخل علينا رأس الحسين!

فما استتمّ إذ سمعت البوقات تُضرب، والرايات تخفق قد أقبلت، فمددت طرْفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة)(١) .

إعلان حالة الطوارئ القصوى في الكوفة!

لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه، بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرُق والشوارع؛ خوفاً من النّاس أن يتحرّكوا حميّة وغيرة على أهل البيتعليهم‌السلام ، إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق؛ حتّى يغلب على الناس الخوف والخشية.(٢)

كما أمر عبيد الله بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح، ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها، واجتمع مئة ألف إنسان للنظر إليه، منهم مَن كان يُهنِّئ، ومنهم مَن كان يُعزّي!(٣).

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ١٢١.

(٢) راجع: معالي السبطين: ٢: ٥٧، وروضة الشهداء: ٢٨٨.

(٣) راجع: كامل البهائي: ٢٩٠ / ولا يخفى على المتتبّع العارف أنّ عدد نفوس أهل الكوفة آنذاك (سنة ٦١ هـ ق) قد يربو على ثلاثمئة ألف نسمة؛ ذلك لأنّ الكوفيين الذين كاتبوا الإمام الحسينعليه‌السلام في سنة ٦٠ هـ بعد موت معاوية، ذكروا له عن وجود مئة ألف مقاتل! فلو أنّ كلّ =

٩١

كيف استقبلت الكوفة بقيّة الركب الحسينيّ؟!

كانت الكوفة قد خرجت عن بكرة أبيها؛ لتشهد احتفال ابن زياد بمقدم جيشه الظافر في الظاهر! ولتشهد بقايا العسكر الذي قاتله جيش عمر بن سعد، ولتتصفّح وجوه السبايا!

ومن أهل الكوفة مَن كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عُظم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أنّ السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الرؤوس المشالات على أطراف الأسنّة هي رؤوس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعُظم الرزيّة!

ومنهم مَن كان أُمويّ الميل والهوى، أو جاهلاً لم يعلم بحقائق الأحداث، مُتوهّماً أنّ والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغْر من ثغور المسلمين! وجيء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويُهنِّئ مَن يلقاه بهذه المناسبة!!

قال صاحب رياض الأحزان: (وقد مُلئت شوارعها - أي الكوفة - وسككها وأزقَّتها من الرجال والنسوان، والشيوخ والشبّان، والصبايا والصبيان، من الموالف

____________________

= واحد من هؤلاء ينتمي إلى عائلة من ثلاثة أفراد (في ضوء حساب المعدّل)، لكان مجموع نفوس الكوفة آنذاك حوالي ثلاثمئة ألف نسمة، ويُساعد على ما ذهبنا إليه، أنّ عمر بن الخطّاب في سنة ٢٢ هـ. ق كان قد صرّح بصدد أهل الكوفة قائلاً: وأيّ شيء أعظم من مئة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟! وأُحيطت الكوفة على مئة ألف مقاتل. (راجع: الكامل في التاريخ: ٣: ٣٢)، وهذا في سنة ٢٢ هـ؛ فلا شكّ أن نفوسهم بعد ٣٨ سنة قد بلغ حوالي ثلاثة أمثال عددهم سنة ٢٢ هـ.

٩٢

والمخالف، وحزب الرحمان، وأولياء الشيطان، منهم باكٍ ومُنتحب، ومنهم ضاحك وطرِب، منهم عارف بالواقعة العظمى، وأنّها جرت على آل النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنهم جاهل غافل عن البلوى)(١) .

وروى الشيخ الطوسي بسنده، عن حذلم بن ستير(٢) ، قال: (قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستّين، مُنصرف عليّ بن الحسينعليهما‌السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يُحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلما أقبل على الجِمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمْن!(٣) ، فسمعت عليّ بن الحسينعليهما‌السلام وهو يقول بصوت ضئيل - وقد نهكته العلّة! وفي عنُقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقه! -:(إنّ هؤلاء النسوة يبكين! فمَن قتلنا؟!) (٤) .

ويقول اليعقوبي في تاريخه: (وحملوهنّ إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين! فقال عليّ بن الحسين:(هؤلاء يبكين! فمَن

____________________

(١) رياض الأحزان: ٤٨ /، ونقل أيضاً عن تذكرة الأئمّة للعلاّمة المجلسي أنهّ (قال بعض النظّار والمتفرّجين لبعض شماتةً بهم: إنّ الله تعالى نِعْمَ ما كافى هؤلاء به عمّا أحدثوه وأبدعوه وفعلوه!

وكان هو في ذلك، إذ طارت من السماء حجارة وأصابت فمه وسقط ميّتاً لعنه الله).

(٢) في رجال الشيخ الطوسي: ١١٣ ورد اسمه (حذيم بن شريك الأسدي)، وروى الطبرسي في كتابه الاحتجاج عنه حديث ورد الإمام السجّادعليه‌السلام الكوفة مع أهل البيت، وخطبة زينب الكبرى في الكوفة. (راجع: الاحتجاج: ٢: ٣٢٠ رقم ٣٢٢)، وفي البحار: ٤٥: ١٠٨ (بشير بن خزيم الأسدي)، وفي مُستدركات علم رجال الحديث: ٢: ٣٧: (بشير بن جزيم الأسدي: لم يذكروه، وهو راوي خطبة مولاتنا زينبعليها‌السلام بالكوفة.).

(٣) التدمتْ المرأة: ضربت صدرها في النياحة، وقيل: ضربت وجهها في المآتم.

(٤) أمالي الطوسي: ٩١، واللهوف: ١٩٢، وأمالي المفيد: ٣٢٠، والفصول المهمّة: ١٩٢، والمنتخب للطريحي: ٣٥٠.

٩٣

قتلَنا؟!) (١) .

ويقول ابن أعثم الكوفي: (وساق القوم حُرَم رسول الله من كربلاء، كما تُساق الأُسارى! حتّى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس إليهم فجعلوا يبكون وينوحون ...)(٢) .

وقال السيد ابن طاووس (ره): (قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيّات فقالت: من أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !!

فنزلت المرأة من سطحها، فجمعت لهنّ مُلاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهنّ فتغطّين)(٣) .

ويصف حاجب عبَيد الله بن زياد حال الناس ذلك اليوم فيقول: (.. ثمّ أمر بعليّ بن الحسينعليه‌السلام فغُلّ، وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملاء رجالاً ونساء يضربون وجوههم ويبكون ...!!)(٤) .

مسلم الجصّاص يصف حال الكوفة يومذاك!

قال العلاّمة المجلسي (ره): (رأيت في بعض الكُتب المعتبرة(٥) ، روى مُرسلاً عن مسلم الجصاص، قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢: ١٧٧.

(٢) الفتوح: ٥: ١٣٩.

(٣) اللهوف: ١٩١.

(٤) أمالي الشيخ الصدوق: ١٤٠ المجلس ٣١ حديث رقم ٣.

(٥) لا يُعرَف السرّ في عدم ذكر العلاّمة المجلسي (ره) اسم هذا الكتاب الذي وصفه من الكُتب المعتبرة.

٩٤

أُجصّص الأبواب، وإذا أنا بالزعقات(١) قد ارتفعت من جنبات الكوفة! فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟!

قال: الساعة أتَوا برأس خارجيّ خرج على يزيد.

فقلت: مَن هذا الخارجي؟!

فقال: الحسين بن علي!

قال: فتركت الخادم حتّى خرج، ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهب!(٢) ، وغسلت يدي من الجصّ، وخرجت من ظَهر القصر وأتيت إلى الكُناس، فبينما أنا واقف والناس يتوقَّعون وصول السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شِقّة(٣) تُحمل على أربعين جَملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمةعليها‌السلام ، وإذا بعليّ بن الحسينعليه‌السلام على بعير بغير وطاء! وأوداجه تشخب دماً! وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أُمّة السوء لا سَقياً لربعكم

يا أُمّة لم تراعِ جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تُسيّرونا على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نُشيِّد فيكم دينا

بني أُميّة ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تُلبُّون داعينا(٤)

تُصفِّقون علينا كفَّكم فرحاً

وأنتم في فجاج الأرض تسْبونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البريّة من سُبل المضلِّينا

____________________

(١) قال ابن منظور: والزعق: الصياح. (لسان العرب: ٦: ٤٦).

(٢) وفي هذا إشارة إلى أنّ مسلماً الجصّاص كان من مُحبيّ أهل البيتعليهم‌السلام .

(٣) والشِّقّة: الشظيّة أو القطعة المشقوقة من لوح أو خشب أو غيره. (لسان العرب: ١٠: ١٨٢).

(٤) يُلاحَظ في هذا البيت وما بعده ضعف وركاكة ظاهرة، ولعلّ هذه الأبيات من نظم آخرين ثمّ ألحقت بالأبيات الثلاثة الأُولى، والله العالم.

٩٥

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزناً

والله يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يُناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمّ كلثوم، وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام!

وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواهم وترمي به إلى الأرض.

قال: كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم!

ثمّ إنّ أمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم:

صهٍ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم؟! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء!

فبينما هي تُخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسينعليه‌السلام (١) ، وهو رأسٌ زهريٌّ قمرىٌّ، أشبه الخلْق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولحيته كسواد السّبج(٢) قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع! والرمح تلعب بها (كذا) يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمُقدّم المحمِل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:

يا هلالاً لما استتمّ كمالا

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مُقدَّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلِّمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

____________________

(١) ظاهر هذا الخبر يُخالف الأخبار التي مضت قبل هذا، والمصرِّحة بأنّ رأس الإمامعليه‌السلام أُخذ من ساعته إلى ابن زياد بيد خولّي وحميد بن مسلم، إلاّ أنّ الرؤوس المقدّسة جيء من القصر بها إلى حيث يمرّ الركب تلك الساعة داخل الكوفة. والله العالم.

(٢) السَّبَج: حجر أسود شديد السواد برّاق.

٩٦

يـا أخـي قـلبك الشفيق علينا

مـا لـه قد قسا وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر

مـع الـيُتْم لا يُـطيق وجوبا

كـلّما أوجـعوه بالضرب نادا

ك بـذلٍّ يـغيض دمعاً سكوبا

يـا أخـي ضُـمَّه إليك وقرِّبه

وسـكِّـن فؤاده الـمرعوبا

مـا أذلّ الـيتيم حـين يُنادي

بـأبيه ولا يراه مُجيبا) (١) .

إشارة:

لا شكّ بأنّ الصدقة الواجبة حرام على أهل البيتعليهم‌السلام وعلى ذراريهم، وهي - كما ورد في الأثر(٢) - أوساخ الناس، وأنّها لا تحلّ على محمّد ولا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، فلماذا منعَتْ السيّدة أمّ كلثوم أو زينبعليها‌السلام الأطفال من أخذ ما كان يُقدِّمه لهم أهل الكوفة من تمر وخبز وجوز؟ ألأنّ ذلك كان صدقة واجبة وهي محرّمة عليهم؟ أمْ كان ذلك احتياطاً، فلرّبما كان بعض ذلك من الصدقة الواجبة؟ أمْ كان ذلك محمولاً على الكراهة أو الحُرمة بتعليل خاص؟

يقول الشيخ الأنصاري (ره) في كتاب الزكاة(٣) ما نصّه: (ثمّ إنّه لا خلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، وبه وردت أخبار كثيرة، إلاّ أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٥: ١١٤ - ١١٥.

(٢) قال ابن عبّاس: (وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيراً ما يقول عن الصدقة: هي أوساخ النّاس، وأنّها لا تحلّ لمحمّد ولا آل محمّد. (كشف الغمّة عن هذه الأمّة للشعراني: ١٥٤). وانظر: وسائل الشيعة: ٦: ١٨٥ باب ٢٩ من أبواب المستحقّين للزكاة.

(٣) كتاب الزكاة: ٣٥٢.

٩٧

على نهي الإمامعليه‌السلام عن ماء المسجد؛ مُعلّلاً بأنّها صدقة، وقد اشتُهر حكاية منع سيدتنا زينب أو أمّ كلثومعليها‌السلام للسبايا عن أخذ صدقات أهل الكوفة؛ مُعلِّلتين بكونها صدقة، ويمكن حملها على الكراهة أو الحرمة، إذا كان الدفع على وجه المهانة كما احتمله في شرح المفاتيح).

وفي طول ذلك، يمكن أن نقول: بأنّ من المحتمل أيضاً، أنّ سيدتناعليها‌السلام أرادت من وراء ردّ عطايا أهل الكوفة ومنع السبايا منها - مع فرض الكراهة - أن تُعرِّف النّاس بأنّ سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين فرض الله مودّتهم واتِّباعهم، وأنّ يزيد بن معاوية وعامله ابن زياد قد عصيا الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بارتكاب ما ارتكبا من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى ينكشف للنّاس من أهل الكوفة عُظم الجريمة والرزيّة، وفظاعة ما اجترحوه من ذنب الانقياد ليزيد وابن زياد وأتباعهما.

خُطبة بطلة كربلاءعليها‌السلام :

ولما رأت العقيلة زينبعليها‌السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة، قد ملأت الشوارع والطرق والسكك، اندفعت إلى الخطابة وإلى التبليغ وإلى تبيان ما جرى على أهل بيت النبوّة، وأخذت تُحمِّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول الله، وتُوخِز ضمائرهم وتُحرق قلوبهم، بتعريفهم عُظم ما اجترحوا من جُرم، وقبح ما ألبسوا أنفسهم من عارٍ لا يُغسَل أبد الدهر!

قال السيّد ابن طاووس (ره): (قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أرَ خَفرةً - والله - أنطق منها! كأنّها تُفرغ من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! وقد أومأت إلى النّاس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس

٩٨

وسكنت الأجراس!! ثمّ قالت:

الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار! أمّا بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مَثَلكم كمَثل الذي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخَلاً بينكم! ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف النَّطف، والصدر الشّنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دِمنة، أو كفضّة (كقصّة خ ل) على ملحودة!؟! ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدره ألسنتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم؟! ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء - وفي بعضها - خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض أو ملاء السماء!

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لا يَحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد!

٩٩

قال الراوي: فوالله، لقد رأيت النّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم! ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي حتّى اخضلّت لحيته! وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي! كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى!)(١) .

____________________

(١) اللهوف: ١٩٢، وانظر: أمالي المفيد: ٣٢١، والفتوح: ٥: ١٣٩، وأمالي الطوسي: ١: ٩٠، ومُثير الأحزان: ٨٦، ومناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١١٥، والبحار: ٤٥: ١٦٢.

وروى المرحوم الطبرسي هذه الخطبة الغرّاء، بتفاوت وفيه زيادة: ثمّ أنشأت تقول:

مـاذا تـقولون إنّ قال النبيّ لكم

مـاذا صـنعتم وأنـتم آخر الأُمم

بـأهل بـيتي وأولادي تـكرمتي

مـنهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

إنّـي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم

مثل العذاب الذي أودى على إرَم

ثمّ ولّت عنهم.

وفيه أيضاً: فقال علي بن الحسينعليه‌السلام :

(يا عمّة اسكتي! ففي الباقي عن الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير مُعلّمة، فهمةٌ غير مُفهَّمة، إنّ البكاء والحنين لا يردّان مَن قد أباده الدهر!) .

فسكتت، ثمّ نزلعليه‌السلام وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، ودخل الفسطاط.

الاحتجاج: ٢: ١٠٩ / ويُلاحظ في إضافة الطبرسي (ره) أنّ قوله: (ثمّ نزل وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط) كاشف عن أنّ ما نقله من قول الإمام السجادعليه‌السلام ، كان قد صدر منه إلى عمّتهعليها‌السلام عند مشارف المدينة المنوّرة حين العودة إليها - على احتمال أقوى - أو في كربلاء، عند عودتهم إليها من الشام.

ذلك؛ لأنّهعليه‌السلام لم يكن له فسطاط في مسير السبي والأسر، ولم يكن له أن يُنزل النساء باختياره حيث يشاء! فتأمّل!

١٠٠

وطنجة، وطلباه، فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانَهُ بسَبتة، فأجابهما إلى ذلك، فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا الخادم الصقلبيُّ إلى سَبتة وطَنجة.

وتلقّب إدريس بالمتأيّد بالله؛ فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وأربعمائة، فسيّر القاضي أبو القاسم بن عبّاد ولدَه إسماعيل في عسكر ليتغلّب على تلك البلاد. فأخذ قرمونة ثم اشبونة واستجة، فأرسل صاحبها إلى إدريس وإلى باديس بن حبّوس صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه. وأمدّه إِدريس بعسكر يقوده ابن بقيّة مدبّر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عبّاد، فعادوا عنه. فسار إسماعيل مجدّاً ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة. فأرسلت صنهاجة من ردّهم، فعادوا وقاتلوا إسماعيل بن عبّاد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه، فقُتل وحُمل رأسه إلى إدريس. وكان إِدريس قد أيقن بالهلاك، وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض. فلمّا أتاه الرأس عاش بعده يومين ومات. وترك من الولد: يحيى ومحمداً وحسناً.

وكان يحيى بن عليّ المقتول قد حبس ابنَيْ عمّه محمّداً والحسن ابني القاسم بن حمّود بالجزيرة. فلما مات إِدريس أخرجهما الموكَّل بهما، ودعا الناس إِليهما، فبايعهما السودان خاصّة قبل الناس لميل أبيهما إليهم.

فملك محمد الجزيرة ولم يتسمّ بالخلافة. وأما الحسن بن القاسم فإنَّه تنسَّك وترك الدنيا وحجّ، وكان ابن بقيّة قد أقام يحيى بن إِدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبيُّ بن سبتة هو والحسن بن يحيى، فهرب ابن بقيّة ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقيّة حتى حضر فقتله الحسن وقتل ابنَ عمّه يحيى بن إدريس.

وبايعه الناس بالخلافة، ولُقّب بالمستنصر بالله. ورجع نجا إلى سبتة، وترك مع الحسن المستنصر نائباً له يُعرف بالشطيفيّ. فبقي حسن كذلك نحواً من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فقيل: إن زوجته ابنة عمّه إدريس سمّته أسفاً على أخيها يحيى.

فلمّا مات المستنصر اعتقل الشطيفيُّ إدريسَ بن يحيى بن إِدريس.

١٠١

وسار نجا من سبتة إلى مالقة، وعزم على محو أمر العلويّين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك، فعظم عندهم، فقتلوه، وقتلوا الشطيفيَّ، وأخرجوا إِدريس بن يحيى وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، وكان له سلوك غير مستحسن مع قلة حزم وتفريط في الملك، ومن ذلك أنَّ كلَّ من طلب من أعوانه الذين هم من الرذل حصناً أعطاه، وطلبوا وزيره ومدبّر أمره صاحب أبيه موسى بن عفّان ليقتلوه فسلمه إليهم فقتلوه.

وكان قد أعتقل ابنَيْ عمّه محمداً والحسن ابنَيْ إدريس بن عليّ في حصن إيرش. فلمّا رأى ثقته بإيرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمّه محمد بن إدريس بن عليّ، وثار بإدريس بن يحيى من عنده من السودان. وطلبوا محمداً فجاء إليهم، فسلّم إليه إدريس الأمر وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد وتلقّب بالمهدي، وولّى أخاه الحسن عهده ولقبه السامي. وظهرت من المهديّ شجاعة وجرأة فهابه البربر وخافوه فراسلوا الموكّل بإدريس بن يحيى، فأجابهم إلى إخراجه وأخرجه وبايع له، وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة. وبقي إلى أن تُوفِّي سنة ست وأربعين (وأربعمائة).

ثم إنّ المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره، فنفاه عنه، فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة، وأهلها ينقادون للعلويّين ويعظّمونهم، فبايعوه.

ثم إن البربر خاطبوا محمّد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة وتسمّى بالمهديّ أيضاً، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلّهم يسمّى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً. فرجعت البربر عنه وعاد إلى الجزيرة، فمات بعد أيّام، فوليَ الجزيرة ابنه القاسم ولم يتّسمّ بالخلافة.

وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين (وأربعمائة).

وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بِتَاكَرنا، فلما تُوفِّي محمّد بن إدريس بن عليّ قصد إِدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقل إلى صنهاجة.

ولمّا قطعت دعوة يحيى بن عليّ العلويّ من قرطبة سنة سبع عشرة

١٠٢

وأربعمائة، أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر، وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أميّة، فاتّفقوا وبايعوا أبا بكر هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرحمان الناصر الأمويّ في ربيع الأوّل سنة ثماني عشرة (وأربعمائة).

وتلقّب بالمعتدّ بالله، وبعد نهوضه إلى الثغر وتردُّده فيها وحدوث فتن واضطراب شديد من الرؤساء اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك. فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجَّة سنة عشرين (وأربعمائة). وبقي بها حتى خُلع ثاني ذي الحجَّة سنة اثنتين وعشرين (وأربعمائة) لعدّة أسباب)(١) .

وبعد خلعه قام أميّة بن عبد الرحمان بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر وتسوّر القصر مع جماعة من الأحداث، ودعا إلى نفسه، فبايعه من سَواد الناس كثير، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تُقتل في هذه الفتنة فإِنّ السعادة قد ولّت عنكم. فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غداً.

فأنفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتدّ بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة. فودّع المعتدّ أهله وخرج إلى حصن محمّد بن الشور بجبل قرطبة، فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد بن الشور فقتلوه، وأخرجوا المعتدّ إلى حصن آخر حبسوه فيه، فاحتال في الخروج منه ليلاً وسار إلى سليمان بن هود الجذامي فأكرمه وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين (وأربعمائة) ودفن بناحية لارِدة. وهو آخر ملوك بني أميّة بالأندلس.

وأمّا أميّة فإنَّه اختفى بقرطبة، فنادى أهلها بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أميّة بها، ولا يتركهم عنده أحد. فخرج أميّة فيمن خرج، وانقطع خبره مدّة. ثم أراد العود إليها فعاد طمعاً في أن يسكنها، فأرسل إليه شيوخها من منعه عنها، وقيل: قُتل وغُيب، وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين (وأربعمائة).

ثم انحلّ عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد)(٢) .

____________________

(١) الكامل لابن الأثير: م٩ من ص٢٧٩ إلى ص٢٨٣.

(٢) الكامل: م٩ ص٢٨٣ - ٢٨٤.

١٠٣

قال ابن الأثير في كامله الذي لخّصنا عنه هذه الحوادث المرتبطة بالأدارسة ودولتهم في المغرب والأندلس:

(ثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء، فتغلّب كلّ إنسان على شيء منه، فصاروا مثل ملوك الطوائف. وكان ذلك أضرّ شيء على المسلمين، فطمع بسببه العدوّ، ولم يكن لهم اجتماع إلى أن ملكه عليُّ بن يوسف بن تاشفين)(١) .

وبعد ذكره من وُلّي الأطراف المغربية والأندلسية، وقضاء الملَثَّمين على دولهم، وآخر دولة منهم دولة بني باديس في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، قال:

(وانقرضت دول جميعهم وصارت الأندلس جميعها للملثّمين، وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس.

____________________

(١) نفسه: م٩ ص٢٨٤.

١٠٤

ملخص ما ذكره المقري عن بني حمّود بقايا

الأدارسة في الجزء الأول من نفح الطيب

(دخل المستعين وهو (سليما بن الحكم) الأموي قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة، وقتل هشاماً سراً.

وجرى أمور من البربر أدت انتقاض حكمه. وقال: (إن من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنه قال هذه الأبيات إلى خواصه:

حلفت بمن صلّى وصام وكبّر لأغـمدها فيمن طغى وتجبّرا

وأبصر دين الله تحيا رسومه فـبدّل ما قد كان منه وغيّرا

فـوا عجبا من عبشميّ مملّك برغم العوالي والمعالي تبربرا

فـلو أن أمري بالخيار نبذتهم وحاكمتهم للسيف حكماً فحررا

فـإما حـياة تـستلذ بـفقدهم وإما حمام لا نرى فيه مأزرا

وكان علي بن حمّود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس، فدعوا لأنفسهم، واعصوصب عليهم البربر، فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة، وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية. واتصل ذلك في خلف منهم سبع سنين.

ثم رجع الملك إلى بني أمية. وكان المستعين المذكور أديباً بليغاً).

وولي الأمر بعد ابن حمّود الحسين وتلقّب بالناصر، وخرج عليه

١٠٥

العبيد وبعض المغاربة وبايعوا المرتضى أخا المهدي. ثم اغتيل المرتضى واستقام الملك لعلي بن حمّود نحو عامين إلى أن قتلته صقالبته بالحمّام سنة ثمان وأربعمائة. فولي مكانه أخوه القاسم، وتلقب بالمأمون. ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه وكان على سبتة، فأجاز إلى الأندلس سنة عشر وأربعمائة، واحتل بمالقة، وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعثه إلى سبتة، ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وتلقّب بالمعتلي. وفرَّ عمه المأمون إلى اشبيلية، وبايع له القاضي ابن عباد، واستجاش بعض البرابرة، ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وملكها. ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة وتغلّب على الجزيرة الخضراء، وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر. وكان المأمون يعتدها حصناً لنفسه وفيها ذخائره، فلما بلغه الخبر اضطرب. وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته، وخرج فحاصرهم فدافعوه، ولحق بإشبيلية فمنعوه. وكان بها ابنه فأخرجوه إليه، وضبطوا بلدهم، واستبدّ ابن عباد بملكها. ولحق المأمون بشريش. ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه، فبايعوه سنة خمس عشرة وأربعمائة. وزحف إلى عمه المأمون فتغلّب عليه، ولم يزل عنده أسيراً وعند أخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقيل: إنه خنق.

واستقل المعتلي بالأمر واعتقل بني عمه القاسم، وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدة عندما أخرج أهلها العلوية. ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة وأربعمائة، وصاروا إلى طاعة المعتلي. واستعمل عليهم ابن عطاف من قبله، ثم نقضوا سنة سبع عشرة وأربعمائة وصرفوا عاملهم، وبايعوا المعتلي الأموي أخا المرتضى. وبقي المعتلي يردد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له، فعلا سلطانه واشتد أمره، إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عباد الثائر بإشبيلية.

فاستدعى أصحابه أخاه إدريس بن علي من سبتة، وملكوه ولقبوه المتأيد. وبايعته رندة وأعمالها والمرية والجزيرة الخضراء.

وبعث عساكره لحرب أبي القاسم بن عباد والد المعتضد بن عباد.

١٠٦

فجاؤوه برأسه بعد حروب، وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وبويع ابنه يحيى ولم يتمّ له أمر.

وبويع حسن المستنصر بن المعتلي. وفرَّ يحيى إلى قمارش فهلك بها سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، ويقال: إنه قتله نجاء.

وهلك حسن مسموماً بيد ابنة عمه إدريس ثأرت منه بأخيها. وكان إدرس بن يحيى المعتلي معتقلاً بمالقة، فأُخرج بعد خطوب وبويع بها، فأطاعته غرناطة وقرمونة، ولُقّب بالعالي.

وقد مدحه أبو زيد عبد الرحمان بن مقانا الفنداقي الاشبوني من شعراء الذخيرة بالقصيدة المشهورة بالمغرب التي يقول من بعضها في المخلص:

وكـأن الـشمس لـما أشرقت فـانثنت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن علي بـن حـمّود أمـير المؤمنين

قيل: إنه أنشده إياها من وراء حجاب اقتفاء لطريقة خلفاء بني العباس. فلما بلغ إلى قوله:

أنظرونا نقتبس من نوركم إنه من نور رب العالمين

أمر حاجبه أن يرفع الحجاب، وقابل وجهه وجه الشاعر دون حجاب، وأمر له بحسَّان جزيل، فكان هذا من أنبل ما يُحكى عنه.

وخُلع العالي سنة ثمانٍ وثلاثين، وولي ابن عمه محمد بن إدريس بن علي وتلقّب بالمهدي، وتُوفِّي سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

وبويع إدريس بن يحيى بن إدريس، ولُقب بالموفّق، ولم يخطب له بالخلافة. وزحف العالي إدريس المخلوع بالقصيدة التي ذكرنا سابقاً بعض أبيات منها، وكان بقمارش، فدخل عليه مالقة وأطلق أيدي عبيده عليها بحقده عليهم. ففرَّ كثير منهم، وتُوفِّي العالي سنة ست وأربعين وأربعمائة.

وبويع محمد بن إدريس، ولُقب بالمستعلي. ثم سار إليه باديس بن حبّوس سنة تسع وأربعين وأربعمائة، فتغلّب على مالقة، وسار محمد إلى المرية مخلوعاً.

ثم استدعاه أهل المغرب إلى بليلة، وبايعوه سنة ست وخمسين

١٠٧

وأربعمائة؛ وتُوفِّي سنة ستين وأربعمائة.

وكان محمد بن القاسم بن حمود - لما اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة - فرَّ من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء، وملكها وتلقّب بالمعتصم إلى أن هلك سنة أربعين وأربعمائة.

ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق، إلى أن هلك سنة خمسين وأربعمائة؛ وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد، ومالقة لابن حبّوس مزاحماً لابن عباد.

وانقرضت دولة الأشراف الحموديين من الأندلس بعد أن كانوا يدّعون الخلافة.

وأما قرطبة فإن أهلها لما قطعوا دعوة الحموديين بعد سبع سنين من ملكهم وزحف إليهم القاسم بن حمّود في البربر فهزموه.

ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر لبني أمية، واختاروا لذلك عبد الرحمان بن هشام، وانتهى أمره إلى ما سبق آنفاً.

١٠٨

ما جاء من أخبارهم في تاريخ الأندلس المسمى

بـ (المعجب في تلخيص أخبار المغرب)

للشيخ محيي الدين بن علي التميمي المراكشي.

قال في ولاية سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمان الناصر الملقّب بالمستعين الذي قام بالأمر سنة ٣٩٩ ودخل قرطبة سنة ٤٠٠، فتلقّب حينئذ بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين بالله. ثم خرج عنها في شوال من السنة بعينها، فلم يزل يجول بعساكر البربر معه في بلاد الأندلس يُفسد وينهب ويقفر المدائن والقرى بالسيف والغارة لا يبقي البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة ٤٠٣.

وكان من جملة جنده رجلان من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب يسميان القاسم وعلياً ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فجعلهما قائدين على المغاربة. ثم ولى أحدهما سبتة وطنجة وهو علي الأصغر منهما، وولّى القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق، وسعة البحر هنالك اثنا عشر ميلاً.

وافترق العبيد؛ إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدناً عظيمة وتحصّنوا فيها. فراسلهم علي بن حمّود المذكور، وقد حدث له طمع في ولاية الأندلس، فكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم -؛ إذ كان محاصراً بقرطبة - كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه. فزحف من سبتة إلى مالقة وفيها عامر بن فتح الفائقي مولى فائق مولى الحكم

١٠٩

المستنصر، فاستجاب له وأدخله مالقة. فتملكها علي بن حمّود وأخرج منها عامر بن فتوح؛ ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد بن سليمان.

ودخل علي بن حمّود قرطبة، وقتل سليمان بن الحكم، ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة ٤٠٧.

وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضاً في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة.

وانقطعت دولة بني أمية في هذا الوقت.

ولاية علي بن حمّود:

ثم ولي علي بن حمّود على ما تقدم، وتسمى بالخلافة وتلقّب بالناصر. ثم خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه، وقدموا عبد الرحمان بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمان الناصر، ولقبوه بالمرتضى، وزحفوا به إلى غرناطة وهي من البلاد التي تغلّب عليها البربر.

ثم ندموا على تقديمه لما رأوا من صرامته وحدة نفسه، وخافوا من عواقب تمكّنه وقدرته فانهزموا عنه ودسوا عليه من قتله غيلة، وخفي أمره.

وبقي علي بن حمّود بقرطبة مستمر الأمر عامين إلا شهرين، إلى أن قتله صقالبته في الحمّام سنة ٤٠٨. وكان له من الوُلد يحيى وإدريس.

ولاية القاسم بن حمود المأمون:

ثم ولي بعده أخوه القاسم بن حمّود، وكان أسن منه بعشرة أعوام، وكان وادعاً أمن الناس معه. وكان يذكر أنه تشيّع ولكنه لم يظهر ذلك، ولا غيّر على الناس عادة ولا مذهباً. وكذلك سائر من ولي منهم بالأندلس.

فبقي القاسم كذلك إلى شهر ربيع الأول سنة ٤١٢، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمّود بمالقة، فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال وصار بأشبيلية.

وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر ودخل قرطبة بلا قتال.

١١٠

وتسمّى بالخلافة وتلقّب بالمعتلي. فبقي كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره واستمال البربر وزحف بهم إلى قرطبة سنة ٤١٣. وهرب يحيى بن علي إلى مالقة.

فبقي القاسم بقرطبة شهوراً، واضطرب أمره، وغلب ابن أخيه على المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء وهي كانت معقل القاسم، وبها كانت امرأته وذخائره.

وغلب ابن أخيه الثاني إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة، وهي كانت عدّة القاسم يلجأ إليها إن رأى ما يخافه بالأندلس.

وقام عليه جماعة أهل قرطبة بالمدينة، وأغلقوا أبوابها دونه. وحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً، وأقام الجمعة في مسجد خارج قرطبة يعرف بمسجد ابن أبي عثمان أثره باقٍ إلى اليوم.

ثم إن أهل قرطبة زحفوا إلى البربر، فانهزم البربر عن القاسم، وخرجوا من الأرباض كلها في شعبان سنة ٤١٤.

ولحقت كل طائفة من البربر ببلد غلبت عليه. وقصد القاسم إشبيلية وبها كان ابناه محمد والحسن. فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم طردوا ابنيه ومن كان معهما من البربر، وضبطوا البلد وقدموا على أنفسهم ثلاثة من أكابر البلد هم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الألهاني، ومحمد بن الحسن الزبيدي.

ومكثوا كذلك أياماً مشتركين في سياسة البلد وتدبيره. ثم استبد القاضي أبو القاسم محمد بن اسماعيل بن عباد بالأمر والتدبير. وصار الآخران من جملة الناس.

ولحق القاسم بشريش، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، فزحفوا إلى القاسم فحصروه حتى صار في قبضة ابن أخيه.

وانفرد ابن أخيه يحيى بولاية البربر، وبقي القاسم أسيراً عنده وعند أخيه إدريس بعده إلى أن مات إدريس، فقُتل القاسم خنقاً سنة ٤٣١ وحُمل إلى ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة، فدفنه هناك. فكانت ولاية القاسم منذ

١١١

تسمى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسره ابن أخيه ستة أعوام. ثم كان مقبوضاً عليه ست عشرة سنة عند ابني أخيه يحيى وإدريس، إلى أن قتل كما ذكرنا في أول سنة ٤٣١. ومات وله ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن أمهما أميرة بنت الحسن بن قنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

ولاية يحيى بن علي المعتلي:

(اختُلف في كنيته فقيل: أبو القاسم، وقيل: أبو محمد. وأمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن القاسم المعروف بكنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكان الحسن بن كنون من كبار ملوك الحسنيين وشجعانهم ومردتهم وطغاتهم المشهورين).

فتسمَّى يحيى بالخلافة بقرطبة سنة ٤١٣ كما ذكرنا، ثم هرب عنها إلى مالقة سنة ٤١٤ كما وصفنا. ثم سعى قوم من المفسدين في رد دعوته إلى قرطبة فبقي سنة ٤١٦ فتم لهم الأمل، إلا أنه تأخر عن دخولها باختياره، فاستخلف عليها عبد الرحمان بن عطاف اليفرني. فبقي الأمر كذلك إلى سنة ٤١٧، ثم قطعت طاعته البربر وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن وعظم أمره بقرمونة، فصار محاصراً لاشبيلية طامعاً في أخذها، فخرج يوماً وهو سكران إلى خيل ظهرت من اشبيلية بقرب قرمونة فلقيها، وقد كمنوا له فلم يكن بأسرع من أن قتلوه وذلك يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة ٤٢٧، وكان له من الولد الحسن وإدريس لأُمَّيْ ولد).

ثم قال:

(بعد رجوع الأمر إلى الأمويين بمقتل يحيى المعتلي الحسني - وبعد ما ذكر من ولي منهم وخروج الأمر من يدهم سنة ٤٤٣. وأما أحوال الحسنيين فإنه لما قتل يحيى بن علي كما ذكرنا لسبع خلون من المحرم سنة ٤٢٧ رجع أبو جعفر أحمد بن موسى المعروف بابن بقنة، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة الحسنيين.

١١٢

فأتيا مالقة وهي دار مملكتهم فخاطبا أخاه إدريس بن علي وكان بسبتة، وكان يملك معها طنجة. واستدعياه فأتى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة.

ولم يبايعا واحداً من ابني يحيى وهما إدريس وحسن لصغرهما. فأجابهما إلى ذلك ونهض نجا مع حسن هذا إلى سبتة وطنجة، وكان حسن أصغر ابني يحيى ولكنه أسدّهما رأياً.

وتلقَّب إدريس بالمتأيد، فبقي كذلك إلى سنة ٤٣٠ أو ٤٣١. فتحركت فتنة وحدث للقاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد من أجابه من قبائل البربر؛ ونهض إلى قرمونة فحاصرها ثم نهض إلى حصن يدعى (أشونة) وحصن آخر يدعى (استجة) فأخذهما، وكانا بيد محمد بن عبد الله رجل من قواد البربر من بني (برزال).

فاستصرخ محمد بن عبد الله إدريس بن علي الحسني وقبائل صنهاجة، فأمده صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقنة أحمد بن موسى مدبّر دولته. فاجتمعوا مع محمد بن عبد الله ثم غلبت عليهم هيبة إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن عباد قائد عسكر أبيه القاضي أبي القاسم، فافترقوا وانصرف كل واحد منهم إلى بلده.

فبلغ ذلك إسماعيل بن محمد، فقوي أمره ونهض بعسكره قاصداً طريق صاحب صنهاجة وقدر صاحب صنهاجة أنه سيلحقه. فوجه إلى ابن بقنة يسترجعه - وإنما كان فارقه قبل ذلك بساعة - فرجع إليه والتقت العساكر. فما كان إلا أن تراءى الجمعان، فولّى عسكر ابن عباد منهزماً. وأسلموا إسماعيل، فكان أول مقتول؛ وحمل رأسه إلى إدريس بن علي الحسني. وقد كان إدريس استشعر بالهلاك فنزل عن مالقة إلى جبل بـ (باشتر) وهو الذي قام فيه ابن حفصون، فتحصن به وهو مريض مدنف فلم يعش إلاّ يومين، ومات وترك من الولد يحيى قُتل بعده، ومحمداً الملقّب بالمهدي، وحسناً المتلقّب بالسامي. وكان له ابن وهو أكبر بنيه اسمه علي مات في حياة أبيه، وترك ابناً اسمه عبد الله أخرجه عمه ونفاه لما وُلّي.

وقد كان يحيى بن علي المذكور قبل قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمّود الجزيرة، وكان الموكَّل بهما رجلاً من

١١٣

المغاربة يعرف بأبي الحجاج، فحين وصل إليه خبر قتل يحيى جمع من كان في الجزيرة من المغاربة والسودان وأخرج محمداً والحسن وقال: هذان سيداكم، فسارع أجمعهم إلى الطاعة لهما لشدة ميل أبيهما إلى السودان قديماً وإيثاره لهم.

وانفرد محمد بالأمر دون الحسن وملك الجزيرة، إلا أنه لم يتسمّ بالخلافة. وبقي معه أخوه الحسن مدة إلى أن حدث له رأي في التنسّك فلبس الصوف وتبرأ عن الدنيا وخرج إلى الحج مع أخته فاطمة بنت القاسم زوجة يحيى بن علي المعتلي.

فلما مات إدريس كما تقدم رام ابن بقنة أحمد بن موسى ضبط الأمر لولده يحيى بن إدريس المعروف بِـ (حيين)، ثم لم يجسر على ذلك وتحيّر وتردُّد.

ولما وصل خبر قتل إسماعيل بن عباد وموت إدريس بن علي إلى نجا الخادم الصقلبي وكان بسبتة استخلف عليها من وثق به من الصقالبة، وركب البحر هو وحسن بن يحيى إلى مالقة ليرتب الأمر له. فلما وصلا إلى مرسى مالقة خارت قوى ابن بقنة وهرب إلى حصن كمارش أو (قمارش) على ثمانية عشر ميلاً من مالقة.

ودخل حسن مالقة، واجتمع إليهما من بها من البربر فبايعوا حسن بن يحيى بالخلافة وتسمّى المستعلي.

ثم خاطب ابن بقنة وآمنه، فلما رجع إليه قبض عليه وقتله، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس.

ورجع نجا إلى سبتة وطنجة وترك مع الحسن رجلاً كان من التجّار يعرف بِـ (السطيفي) كان نجا كثير الثقة به. فبقي الأمر كذلك نحو عامين.

وكان الحسن بن يحيى متزوجاً بابنة عمه إدريس، فقيل: إنها سمّته أسفاً على أخيها، فلما مات احتاط السطيفي على الأمر، واعتقل إدريس بن يحيى، وكتب إلى نجا بالخبر، وكان حسن بن يحيى عند نجا، فقيل: إنه اغتاله أيضاً فقتله والله أعلم.

ولم يعقب حسن بن يحيى، فاستخلف نجا على سبتة وطنجة من وثق

١١٤

به من الصقالبة عند وصول الخبر إليه. وركب البحر إلى مالقة، فلما وصل إليها زاد في الاحتياط على إدريس بن يحيى وأكد اعتقاله، وعزم على أمر الحسنيين جملة، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه، فدعا البربر الذين كانوا جند البلد وكشف الأمر إليهم علانية ووعدهم بالحسَّان، فلم يجدوا لمساعدته بُدّاً فوافقوه بالظاهر وعظم ذلك في أنفسهم باطناً.

ثم جمع عسكره ونهض إلى الجزيرة ليستأصل محمد بن القاسم، فحاربه أياماً، ثم أحسَّ بفتور نيات الذين معه فرأى أن يرجع إلى مالقة، فإذا حصل فيها، نفى من يخاف غائلته منهم، واستصلح سائرهم، واستدعى الصقالبة من حيث ما أمكنه ليقوى بهم على غيرهم.

وأحسّ البربر بهذا منه فاغتالوه في الطريق من قبل أن يصل إلى مالقة، فقتل وهو على دابته في مضيق صار فيه، وقد تقدمه إليه الذي أراد الفتك به.

وفرَّ من كان معه من الصقالبة بأنفسهم، ثم تقدم فارسان من الذين غدروا به يركضان حتى وردا مالقة فدخلا وهما يقولان: البشرى!.. البشرى!.. فلما وصلا إلى السطيفي وضعا سيفيهما عليه فقتلاه.

ثم وافى العسكر فأخرجوا إدريس بن يحيى من محبسه، فقدموه وبايعوه بالخلافة، وتسمّى بالعالي.

وقد ظهرت منه أمور متناقضة، منها أنه كان أرحم الناس قلباً، كثير الصدقات يتصدّق كل يوم بخمسمائة، وردَّ كل مطرود عن وطنه إليه وردَّ عليهم ضياعهم وأملاكهم، ولم يسمح ببغي في أحد من الرعية.

وكان أديب اللقاء حسن المجلس يقول من الشعر الأبيات الحسَّان. ومع هذا فكان لا يصحب ولا يؤثر إلاّ كل ساقط رذل، ولا يحجب حرمه عنهم. وكل من طلب منه حصناً من حصون بلاده ممن يجاوره من صنهاجة أو من بني (يفرن) أعطاه إياه.

وكتب إليه أمير صنهاجة أن يسلّم إليه وزيره ومدبِّر أمره وصاحب أبيه وجدّه موسى بن عفّان السبتي. فلما أخبره بأن الصنهاجي كتب إليه يطلبه منه، وأنه لابد من تسليمه إليه قال له موسى بن عفّان: إفعل ما تؤمر

١١٥

ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فبعث به إلى الصنهاجي فقتله.

وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً وحسناً ابني إدريس بن علي في حصن (إيرش)، فلما رأى ثقته الذي في الحصن اضطراب آرائه خالف عليه وقدم ابن عمه محمد بن إدريس. فلما بلغ ذلك السودان المرتبين في قصبة مالقة نادوا بدعوة ابن عمه محمد بن إدريس وراسلوه بالمجيء إليهم، وامتنعوا بالقصبة.

واجتمعت العامة إلى إدريس بن يحيى واستأذنوه في حرب القصبة والدفاع عنه، ولو أذن لهم ما ثبت السودان (فواق ناقة). فأتى فقال لهم: الزموا منازلكم ودعوني...، فتفرقوا عنه.

وجاء ابن عمه فسلم عليه، بويع بالخلافة وتسمّى بالمهدي، وولى أخاه عهده وسماه السامي. واعتقل ابن عمه إدريس بن يحيى في الحصن الذي كان هو معتقلاً فيه.

وظهرت من محمد بن إدريس هذا شهامة وجرأة شديدة هابه بها جميع البربر وأشفقوا منه، وراسلوا المرتب في الحصن الذي فيه إدريس بن يحيى هذا واستمالوه فأجابهم، وقام بدعوة إدريس، وقد كان إدريس أول ولايته بعد قتل نجا كما تقدم قد ولّى سبتة وطنجة رجلين من (برغواطة) قبيلة من قبائل البربر من عبيد أبيه، اسم أحدهما رزق الله والآخر سكات. فلما خلع إدريس كما تقدم بقيا حافظين لمكانيهما، فلما قام كما ذكرنا بدعوته صاحب حصن إيرش لم يظهر محمد مبالاة بذلك، بل ثبت ثباتاً شديداً وكانت والدته تشجِّعه وتقوّي متنه وتُشرف على الحرب بنفسها، فتُحسن إلى من أبلى. فلما رأى البربر شدة عزمه وثباته فتَّ ذلك في أعضادهم وتخلوا عن إدريس بن يحيى، ورأوا أن يبعثوا به إلى سبتة وطنجة إلى البرغواطِيَّيْن اللذيَنِ ذكرنا. وقد كان إدريس جعل ابنه عندهما في حضانتهما، فلما وصل إليهما أظهرا تعظيمه ومخاطبته بالخلافة، إلا أنهما حجباه حجاباً شديداً، ولم يدعا أحداً من الناس يصل إليه.

فتلطّف قوم من أكابر البربر حتى وصلوا إليه وقالوا له: إن هذين العبدين قد غلبا عليك وحالا بينك وبين أمرك، فأْذن لنا نكفيكهما. فأبى ثم أخبرهما بذلك، فنفيا أولئك القوم، وأخرجا إدريس بن يحيى وبعثا به إلى الأندلس

١١٦

وتمسّك بولده لصغره، إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة.

ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقّب بالسامي أمراً فنفاه إلى العدوة، فصار في جبال غمارة وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين، وأهلها يعظمونهم تعظيماً مفرطاً.

ثم إن البرابرة خاطبوا محمد بن القاسم الكائن بالجزيرة الخضراء، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر، فاستفزّه الطمع وخرج إليهم فبايعوه بالخلافة، وتسمّى بالمهدي، وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً في مثلها. فأقاموا معه أياماً ثم افترقوا عنه إلى بلادهم.

ورجع محمد خاسئاً إلى الجزيرة ومات لأيام، وقيل: إنه مات غماً؛ وترك نحواً من ثمانية ذكور. فتولى أمر الجزيرة بعده ابنه القاسم بن محمد بن القاسم، إلا أنه لم يتسمّ بالخلافة. وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة ٤٤٥.

وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرونة، فلما تُوفِّي محمد بن إدريس بن يحيى ردت العامة إدريس العالي إلى مالقة، واستولى عليها وهو آخر من ملكها من الحسنيين. فلما مات أجمع البربر رأيهم على نفي الحسنيين عن الأندلس إلى العدوة، والاستبداد بضبط ما كانوا يملكونه من البلاد.

ففعلوا ذلك وتم لهم ما أرادوا منه، فكانت الجزيرة الخضراء وما والاها من القرى إلى تاكرونة، ومالقة وما والاها أيضاً إلى حصن منكب، وغرناطة وأعمالها في ملك البربر.

وملكوا مع ذلك بعض أعمال اشبيلية كحصن اشونة وقرمونة وشلبر. ولم يزالوا كذلك إلى أن خرج من أيديهم ما كانوا يملكونه من أعمال اشبيلية المعتضد بالله أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ثم أتم ابنه أبو القاسم المعتمد على الله ما ابتدأه أبوه من ذلك).

وجاء في تاريخ محمد بن جرير الطبري عن سبب خروج الحسين بن علي ما هذا ملخصه:

١١٧

(كان إسحاق بن عيسى بن علي على المدينة، فلما مات المهدي واستخلف موسى شخص إسحاق وافداً إلى العراق إلى موسى واستخلف على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وإن سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن كان أن عمر بن عبد العزيز لما تولّى المدينة - كما ذكر الحسين بن محمد عن أبي جعفر السلمي - أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جُندُب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فُضربوا جميعاً، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطِيف بهم في المدينة فكُلَّم فيهم، وصار إليه الحسين بن علي فكلَّمه وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم؛ لأن أهل العراق لا يرون به بأساً، فلِمَ تطوف بهم؟...

فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط، فردَّهم وأمر بهم إلى الحبس فحُبسوا يوماً وليلة. ثم كُلّم فيهم فأطلقهم جميعاً وكانوا يعرضون، ففقد الحسن بن محمد وكان الحسين بن علي كفيله.

قال محمد بن صالح: وحدثني عبد الله بن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض، فكان الحسين بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيلين بالحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، وكان قد تزوّج مولاة لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بن الحسن، فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة. وعرضهم خليفته العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله، فسألهما عن الحسن بن محمد فغلَّظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم وقال له: أصلحك الله، الحسن بن محمد غائب منذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى، فذهب ودعاهما. فلما دخلا عليه قال لهما: أين الحسن بن محمد؟... قالا: والله ما ندري... إنما غاب عنا يوم الأربعاء ثم كان الخميس فبلغنا أنه اعتلّ، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض. فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره حتى يعلم أنه قد جاءه به. فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسناً؟ حلفت له بشيء لا تقدر عليه.

١١٨

قال: إنما حلفت على حسن. قال: سبحان الله فعلى أي شيء حلفت؟.. قال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف قال: فقال نكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة. قال: قد كان الذي كان فلابد منه. وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم فيما ذكروا، وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم وممن كان بايع الحسين متكمِّنين في دار، فانطلقوا فعملوا بذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بن عمر فلم يجده أيضاً فيها. وتوارى منهم، فجاؤوا حتى اقتحموا المسجد، حتى إذا أذنوا بالصبح فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء وجعل الناس يأتون المسجد، فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون. فلما صلى الغداة(١) جعل الناس يأتونه ويبايعونه على كتاب الله وسنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للمرتضى من آل محمد.

وأقبل خالد البربري وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه وجاء العمري ووزير ابن إسحاق الأزرقي ومحمد بن واقد الشروي ومعهم كثير من كثير فيهم الحسين بن جعفر بن الحسين بن الحسين على حمار. واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين وبيده السيف وعمود في منطقته مصلتاً سيفه وهو يصيح بحسين: أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك. وحمل عليهم حتى دنا منهم، فقام إليه ابنا عبد الله بن حسن يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك وجعل يذب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه. وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه وانتزعوا سيفه وعموده فجاؤوا به، ثم أمروا به فُجر إلى البلاط. وحملوا على أصحابه فانهزموا.

قال عبد الله بن محمد: هذا كله بعيني. وذكر عبد الله بن محمد أن خالداً ضرب يحيى بن عبد الله وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل

____________________

(١) الغداة: البكرة أو ما بين الفجر وطلوع الشمس.

١١٩

أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه فضربه على رجليه واعتوروه بأسيافهم فقتلوه.

قال عبد الله بن محمد: ودخل عليهم المسوّدة المسجد حين دخل الحسين بن جعفر على حماره، وشدّت المبيضّة فأخرجوهم. وصاح بهم الحسين: أرفقوا بالشيخ يعني الحسين بن جعفر، وانتهب بيت المال فأُصيب فيه بضعة عشر ألف دينار فَضَلَت عن العطاء، وقيل: إن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بن مالك يفرض بها من خزاعة.

قال: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم. فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء. وجعل المسوّدة يحملون على المبيضّة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل. وتحمّل المبيضّة عليهم حتى يبلغوا بهم الزوراء.

وفشت الجراحات بين الفريقين جميعاً فاقتتلوا إلى الظهر ثم افترقوا. فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد جاء الخبر بأن مباركاً التُّركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع إليه انتصاف النهار، ثم تفرّقوا، وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التُّركي إلى دار عمر بن عبد العزيز بالثنية يُقيل(١) فيها. وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه جلس على رواحله فانطلق. وراح الناس فلم يجدوه. ثم تفرّقوا، وأقام حسين وأصحابه أياماً يتجهزون وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوماً. ثم خرج يوم أربعة وعشرين لستّ بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا، وعاد الناس إلى المسجد فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم: فعل الله بهم وفعل.

قال محمد بن صالح: فحدثني نصير بن عبد الله بن إبراهيم الجمحي أن حسيناً لما انتهى إلى السوق متوجهاً إلى مكة التفت إلى أهل المدينة

____________________

(١) يَقيلُ: قال يَقيلُ قَيْلاً وقيلولةً وقائلة ومقالاً ومقيلاً: نام في القائلة أي في منتصف النهار.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391